لا يقال أن كلامه في هذا الفصل الأخير يقتضي وجوب الهجرة ، وهي منسوخة بعد الفتح ، لأنا نقول إنما نسخت الهجرة بعد الفتح ، لما قوي الإسلام ، وأمن المسلمون من الفتنة في دينهم ، وتظاهر الناس بالإسلام ، وتمسكوا بعروته ، وتعززوا بمنعته ، وتمكنوا من دعوته ، وكانت الهجرة فبل ذلك واجبة ، حيث كان المسلم يفتتن في دينه بين ظهراني الكفار ، وهو لا يستطيع دفاعا ، ولا يملك امتناعا إلا أن يعطيهم ذلك بلسانه ، وقلبه مطمئن بالإيمان فشرع الله لهم في ذلك الحال التقية ، لطفا منه ورحمة ، وأوجب الهلاك على من شرح بالكفر صدرا ، فالتقية سبيل المستضعفين ، والهجرة سبيل المستطيعين ، فإذا نزلت على بعض المسلمين حالة مثل حالة من كان قبل الفتح من المسلمين ن وجب أن يعطوا حكم ذلك لأن الفرار بالدين واجب في كل زمان ، فالطمأنينة ، في أمكنة الكفار ، إنما جوز عند سلامة الدين ، ولا تجوز عند فساده ، ومن اطمأن فيها مع فساد دينه كان قد آثر الدنيا على الدين ، ودجل تحت الوعيد المذكور ، ومن ها هنا قال أبو يعقوب رحمه الله تعالى : لا يجوز اتخاذ الأوطان في البلدان التي يمتلكها النصارى ، وتغلبوا على أهلها ، وجرت فيها أحكامهم وذلك كله إنما يريد به الفرار بالدين ، فهو تحذير لهم من الإقامة بها ، لا كما توهمه بعض الجهلة - أن له أن يطمئن ولكن يصلي فيها قصرا فقط ، والله المستعان وبيده كل الخير ، والعلم عند الله ، والسلام .
صفحة ١٩