فقالوا: صف لنا المتمدينين. فقلت: هم الذين نظموا مدنهم، وأقاموا العدل بينهم، وترقت صنائعهم وأحوالهم، وأصبحت بلادهم كجسم إنسان واحد فيه شرايين السكك الحديدية وأعصاب الرسائل البريدية، وعمموا التعليم، ونظموا المدارس، وأحكموا فن السياسة، إذ تقوم طائفة منهم بنشر لغتها وتجارتها ونفوذها، ويقولون: ننصر الإنسانية، ونقوم بحق البشر ونعدل في الرعية، ثم يسطون على الأمم الجاهلة فيمنعونها أن تنشر نور العلم بين ربوعها، فيتخذون طريقين متناقضين، وسبيلين مختلفين؛ يقولون: نحن نريد نفعكم، ولكنهم يخفون ما في أنفسهم، إذ يريدون أن يتخذوهم مسخرين مذللين لهم، كما يذللون الأنعام، وقليل من الأمم من صدقت نيته، ووضحت حجته، وبانت طريقته.
إذ ذاك رأيتهم جميعا مبهوتين، وظهرت على وجوههم سيماء الإنكار، ثم قالوا: أفليس لأولئك المقهورين قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، أو عيون يبصرون بها، كأولئك الغالبين الكاذبين الحيوانيين؟ قلت: نعم، ولكنهم يسطون عليهم بالسلاح والحديد والبارود والمدافع فيميتونهم. فقالوا: أرنا أظافرك، فأريتهموها. فقالوا: يا هذا، إن عقلك منع ظفرك أن يطول. فما فهمت قولهم، ولا عرفت رمزهم. فقالوا: أتعرف السباع والنمور والضباع والآساد؟ قلت: نعم. قالوا: هذه لها مخالب وأظفار وأنياب تنشبها في فريستها وتنفذها في قنيصتها؟ قلت: نعم. قالوا: فأما أنتم فقد قصرت أظافركم، وطالت عقولكم؟ فقلت: نعم، وبهذه العقول صنعنا الأسلحة، وصرنا أشد بأسا من الحيوان، وأقوى فتكا من السباع، فإذا كان لها ظفر طبيعي، فإن لنا أظفارا صناعية أقوى منها أضعافا مضاعفة.
فعند ذلك تبسموا ضاحكين، وسخروا مني هازئين، وقالوا: يا هذا أنت تقول أنك إنسان؟ قلت: نعم. قالوا : فكيف انقلبت أسدا؟ ألا إنك أشد منه فتكا وأظلم منه نفسا، فهل الإنسانية هي الأسدية؟!
إنا نظن أنكم ما قرأتم الحكمة ولا الفلسفة، ولا تعلمون أن المراتب ثلاث، الشهوة البهيمية، وقد غلبت في آكلات الحشائش والطيور التي لا تأكل اللحوم. والقوة الغضبية، وقد وضحت في الآساد والسباع، والقوة العقلية، وقد ظهرت في أعلى الحيوان وهو الإنسان. وأنت تزعم أنك منهم، ولكنك وصفتهم أسوأ وصف، إنما أنتم أكبر الآساد، ولستم من نوع الإنسان.
فقلت: ولم خلق لنا العقل؟ فاستهزءوا بالقول، وقالوا: اسكت أيها الأسد. فقلت: أنا لست من الأمم الظالمة. فقالوا: ألست من الإنسان بزعمك؟ قلت: نعم. قالوا: وما جاز على أحد المثلين جاز على الآخر، فكلكم آساد، وأنتم في الشره والطمع أنداد، ثم أعرضوا عني واستكبروا، وولوا وأدبروا، ولووا عني كشحا، وأخذوا يتشاورون، وأنا من الخزي في عذاب أليم، فشاهدت من آيات العدل وحسن النظام، والصدق في القول ما لا يحلم به أهل الأرض، ولكني كنت واجما كئيبا لما أخجلوني، ولقد فطن لذلك صديقي الوجدان، فلما كانوا في فترتهم أخذ يخاطبهم، قائلا: لا تسفهوا رأي هذا الإنسي، ولتعلموا أن لديهم شرائع وسننا، وأحكاما وحكماء، وعلماء وأنبياء هدوهم إلى الصدق، وأرشدوهم إلى الحق، فانبرى إلي أحدهم سائلا، ما فعلته فلاسفتكم؟ وما الذي به يأمر أنبياؤكم؟ فما أتم كلمته حتى استيقظت، ووعيت ما دار من الحديث فكتبته في مذكرتي.
كان ذلك ولا علم لأحد من الناس بما وعاه قلبي، أعاشر الإخوان، وأمازح الأصدقاء، وأسايرهم، وأكتم ما يهجس بخاطري من هذه المعاني، ثم أخلو بنفسي في اليقظة سائلا: كيف السبيل إلى السلام العام؟ وماذا يساعد عليه؟ لله أولئك الذين يقابلونني ليلا يقصون علي حديث مدنياتهم الزاهرة، ويقولون: إننا نطيق أن نفعل كما فعلوا، فهل من سبيل إلى ذلك؟
الفصل الثالث عشر
في المذكرات
المذكرة الأولى
بينما أنا سائر يوما بساحة عابدين بالقاهرة إذ لمحت شجرة نخل ذكر، فأخذت أجيل النظر في أحوال الذكران والنسوان، وتأملت تلك القضية في النبات والحيوان، وقلت: إن الناس فيما مضى لم يميزوا بين الذكر والأنثى إلا في الحيوان والإنسان، ولم يدركوا التفرقة بين الصنفين إلا في النخل خاصة، ولقد أصبحوا اليوم يعلمون الذكران والإناث في سائر أنواع النبات، فما من نبات إلا وقد جمع ما بين الذكور والإناث، تارة في نبات واحد كالذرة والقمح، وتارة في مكانين، كالنخل وهذا أمر مشهور معلوم.
صفحة غير معروفة