فأرضكم على هذا القياس كرة حقيرة جدا، ليست شيئا مذكورا، وقد جعلتم خلفاء الله على ما عليها من الحيوان؛ لأنكم أنتم الأعلون الراشدون، وما منعكم أن تكونوا صادقين إلا أنكم إلى اليوم لم تكتشفوا عقولكم، ولا تزالون على أخلاق الحيوان.
إن الله وضع نظاما لكم جميلا يضارع نظام السماوات، يشاكل القسط والعدل في هذه العوالم، لا خلل ولا فساد، ولكنكم لا تزالون صبيانا وأطفالا، وإني أخاف إذا شرحت حالكم يشغلك عن النظر في جمال هذا العالم، وإني سائر بك إلى كوكب من الكواكب السائرة حول الشمس كأرضكم، لم يعلمه علماؤكم، ولم يكتشفه علماء فلككم، لنرى نظامهم وحكوماتهم، وسياساتهم، وتسمع دروسهم، وتلقيها على إخوانك الشرقيين والغربيين.
اعلم أن أهل الكواكب الأخرى ينظرون إلى نظامكم نظر الاعتبار، ويقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، إذ أنقذنا من الجهل الذي وقع فيه هؤلاء الغافلون، وتراهم يعلمون صبيانهم في مدراسهم العدل بمشاهدة وقائعكم الحربية المصورة في مدارسهم، ويمثلون أحوالكم وأخلاقكم أمامهم ليعلموا ما هم عليه من النعم والحبور، والسعادة والهناء، وينهجون نهج العدل كالنظام السماوي.
فقلت له: إنا نحن أفضل العالمين. فقال: نعم، لكن بفطرتكم وعقولكم التي سيزول عنها الغشاء، ويزاح الغطاء، وتكونون أحسن حالا وأنعم بالا، كل ذلك ونحن نخترق العوالم ونشاهد بدائع الجمال، ومحاسن النجوم، حتى أقبلنا على كوكب بهيج جميل فألقينا به عصى التسيار، ووقف السحاب على سطحه واستقر.
أربعة آلاف أمة صادقة السياسة
فوق سيار جديد وأسئلة سياسية عجيبة ورأي اجتماعي جديد
هنالك نزلنا فوق سطح ذلك السيار الجديد الذي فلكه فوق فلك نبتون، وقد قال لي صاحبي: إن علماءكم لم يكتشفوه للآن، فنظرت إذا أرضه كأنها فضة نقية محلاة بأشجار باهرة بيض، وأخرى خضر وزرق مختلف ألوانها، وصفر وحمر باهرة، وهناك من الأزهار والأشجار ما يبهر الألباب، ولم أر شجرة تشبه أشجارنا، ولا ثمرة تضارع أثمارنا، وكل شجر فيها عطر أريج عجيب بهي، والأنهار تجري بما يشبه الماء وكأن حصباءها الدر والياقوت والمرجان، وكأنما جمالها جبال.
وقد كنت أظن ألا أحد من العقلاء هناك، إذا صديقي يقول: هل لك أن تشاهد «نادي الأمم»، فأدهشني هذا القول، فقلت: وهل هنا أمم؟ فقال: نعم، إن على هذا السيار أربعة آلاف أمة، كل أمة تبلغ مقدار الأمم التي على سطح أرضكم. فقلت: بخ بخ، وكيف يكون لهم مجلس واحد؟ فقال: نعم، إنهم عقلاء راشدون، فلا تتعجب، وسترى، فسرنا وقد هبت الرياح، وتغنت الأشجار، وغردت الأطيار، فكنت في حال أشبه بالسكر لما رأيت وسمعت هناك في أصوات الأطيار من المغاني ما لا أذن سمعت، بل إن حفيف الأشجار له نغمات لا يعادلها على وجه الأرض رنات المثاني.
وإذن تذكرت إخواني الآدميين، أنى لهم أن يسمعوا وينظروا ويفرحوا ويروا من آيات الله الخافية في نفوسهم، فأخذ بيدي وسرنا حتى انتهينا إلى قصر عظيم يبلغ اتساعه مقدار مساحة ألمانيا، إذا رجال عظام الجثث جالسون على كراسي من الذهب والفضة والزمرد والياقوت والمرجان والجواهر والبلاتين والماس وغيرها مما لا أعلمه في الأرض من كل جميل الصنع بديع الإتقان، والقصر مبني بآجر الجواهر والماس، وقد رصع بالياقوت والمرجان، وهو مزين بالبساتين البهجة البديعة الشائقة العطرة الحالية بالثمر، وهذه الجواهر الموصوفة ليس منها ما يشبه ما عندنا، وإنما دعوتها بهذه الأسماء لضيق نطاق اللغة أن تحيط بما هنالك، وإنما راعيت الأشكال والأمثال وقرب الدال من المدلول، فلما أن دنوت من النادي رأيت قامتي لا تصل ركبة أحدهم، فأعظمت أمرهم، وانزويت في ركن، وخجلت من ضعفي وأنا أشاهدهم.
ولقد عجبت كيف يحيط مرأى بصري بجمعهم المحتشد، وهم على كراسيهم جالسون، مع أنهم مئات الألوف، وكيف يسمعون صوت الخطيب جميعا، فأيقنت أن هواءهم وضياءهم على غير نظامنا مخالفان لما في جونا، فلما رأوني نظروا إلي متعجبين، ورنوا بلحظاتهم لي رامقين، وكأنهم لم يروا في أرضهم حيا على شاكلتي، ولا مخلوقا مثلي في صغر الجثة والأوصاف، فلذلك هم متعجبون ، فأخذوا يكلمون صديقي، وأخذ يترجم. فقالوا: من أي الكواكب أنت؟ فقلت: من الأرض. فقالوا: أي حيوان أنت؟ فقلت : الإنسان. فقالوا: صف لنا أحوالكم الاجتماعية. فقلت: إننا أمم منا المتوحشون ومنا المتمدينون الأعلون. فقالوا: صفهم. فقلت: المتوحشون قوم ليسوا في رغد العيش، ولا يحسنون الصنائع ولا الزراعة ولا التجارة ولا السياسة، بل هم في ذلك قليلو البضاعة، وليس عندهم قطار البخار والحديد ولا الكهرباء، ولا يحسنون من السياسة إلا قليلا.
صفحة غير معروفة