إهداء الكتاب
كلمة للمؤلف
مقدمة
1 - في المقارنة بين نظام العالم ونظام الأمم
2 - سؤال عن حال الإنسان
3 - أخلاق الإنسان
4 - فضائل الإنسان
5 - في استعداد الإنسان
6 - في أنواع الحكومات والفلاسفة
7 - لم نقرأ إلا سطرين سطرا من المادة وسطرا من العقل
8 - أين الحكمة في المادة والعقل
9 - الفلسفة العتيقة والفلسفة الجديدة وكيف كان توزيع العقول على أفراد الإنسان والمنافع على الأرض وكيف جهلها الإنسان
10 - المنطق والأخلاق والسياسة
11 - حكم في فترة اللقاء كتبتها في كناشتي
12 - في الصعود إلى كوكب جديد فوق نبتون
13 - في المذكرات
14 - الجمع المحتشد وعالم الأرض والمريخ وتحليل المدنية العصرية
15 - في الوحدات الإنسانية من اللغة والدين والوطن والجنس والمعاهدات والمصاهرات والملك الجامع والأب الأكبر والاجتماع في اللون وغير ذلك
16 - إيضاح مسألة الأقوى والأضعف وإننا نفعل فعل الحيوان
17 - على أي قاعدة تبنى سياسة الأمم
18 - في درس تعليم الأطفال الحب العام
19 - مجلس الحكماء وضرب الأمثال الحسية للأمور العقلية
20 - وهو خلاصة الكتاب
نغمة من موسيقى الكتاب
إهداء الكتاب
كلمة للمؤلف
مقدمة
1 - في المقارنة بين نظام العالم ونظام الأمم
2 - سؤال عن حال الإنسان
3 - أخلاق الإنسان
4 - فضائل الإنسان
5 - في استعداد الإنسان
6 - في أنواع الحكومات والفلاسفة
7 - لم نقرأ إلا سطرين سطرا من المادة وسطرا من العقل
8 - أين الحكمة في المادة والعقل
9 - الفلسفة العتيقة والفلسفة الجديدة وكيف كان توزيع العقول على أفراد الإنسان والمنافع على الأرض وكيف جهلها الإنسان
10 - المنطق والأخلاق والسياسة
11 - حكم في فترة اللقاء كتبتها في كناشتي
12 - في الصعود إلى كوكب جديد فوق نبتون
13 - في المذكرات
14 - الجمع المحتشد وعالم الأرض والمريخ وتحليل المدنية العصرية
15 - في الوحدات الإنسانية من اللغة والدين والوطن والجنس والمعاهدات والمصاهرات والملك الجامع والأب الأكبر والاجتماع في اللون وغير ذلك
16 - إيضاح مسألة الأقوى والأضعف وإننا نفعل فعل الحيوان
17 - على أي قاعدة تبنى سياسة الأمم
18 - في درس تعليم الأطفال الحب العام
19 - مجلس الحكماء وضرب الأمثال الحسية للأمور العقلية
20 - وهو خلاصة الكتاب
نغمة من موسيقى الكتاب
أين الإنسان
أين الإنسان
تأليف
طنطاوي جوهري
إهداء الكتاب
إلى عطوفة الوزير الجليل ناظر المعارف العمومية
إن قبول أمتي المصرية المحبوبة لعملي كان خير معوان لي على المزيد؛ فصنفت هذا الكتاب ذكرى لأولي الألباب، وبدأت بعرض خلاصته على اللجنة التنفيذية لمؤتمر الأجناس العام بإنجلترا، والأستاذ أغناطيوس غويدي برومية الكبرى، وحضرة صديقنا الدكتور محمود بك لبيب محرم بألمانيا.
فما كان جواب اللجنة التنفيذية إلا الموافقة عليه، وقفى على آثارها الأستاذ غويدي أغناطيوس، وهكذا الفاضل محمود بك لبيب محرم، وقد طلب الأخيران التعجيل بطبعه باللغة العربية قبل أن يظهر بلغات الغربيين، فلم يكن إذ ذاك بد من نشره ببلادنا الشريفة المصرية بعد استشارة ذوي العلم والمكانة بالبلاد.
ولما كان زمام الحركة العلمية والنهضة الأدبية بيد وزيرها الجليل الهمام أحمد باشا حشمت ناظر المعارف العمومية دخلت البيت من بابه، وعرضت الكتاب على جنابه، فحاز القبول لديه، ووافق على طبعه لتعميم نشره، فالتمست أن أقدمه إليه لينشر باسمه في العالمين؛ اعترافا بفضله ولما أبداه من التعضيد والتأييد، فقبل الهدية أفلا أكون له من الشاكرين.
كلمة للمؤلف
وذكر ما دار بينه وبين علماء أوروبا من المراسلات بشأن الكتاب
هذا كتاب كتبته للناس، خاطبت به حكماء الخافقين، وعلماء المشرقين، وفلاسفة المغربين، تبصرة وذكرى للعادلين، من كل نبيه ونبيل، وعالم جليل، وملك عظيم، ووزير خطير، ونائب عن أمته كبير، ذكرى للأمم، وعبرة للدول، وسعادة للناشئين من البنين، عسى أن يعدل الناس عن ظلمهم، ولا يتبعوا خطوات غيهم، ويسيروا على الصراط المستقيم.
إني ضممت جوهرة الإنسان، إلى فلذة الحيوان في النظام، وقرنت نظام الكواكب الدري، بما رآه بسمرك وسلبري، وسويت ما بين نواميس الأحجار في سقوطها، وقوانين الكواكب في هبوطها، وبين نظام الأمم الأرضية، وأحوالها السياسية.
ولست أدعي النهاية في تحقيقه، والإجادة في تنميقه، فما أكثر العوائق من الأعمال الدراسية، وما أبعدها عن هذه المرامي النائية، والمطالب السامية.
وما هذا الكتاب إلا خطرات خاطرات، ولمحات سانحات، وبوارق لامعات، في ليالي الحوادث المدلهمات.
وهو وإن كان قطرة من بحر السلام العام، فسوف تتبعها المزن الممطرات، ولسوف يقوم بهذا الأمر علماء محققون من رجال الشرق والغرب، وليعلمن نبؤه بعد حين.
الدنيا بحر ملح أجاج، متلاطم الأمواج، يغشاه موج الحياة المدلهمة، من فوقه المظالم المطلخمة، من فوقه سحائب الحروب الشيطانية البشرية، بحيث إذا أخرج المرء فيها يده لم يكد يراها، وضل في موجه العظيم، هذا مثل حال الإنسان، الضائع في ثنايا الزمان.
لذلك ألفت هذا الكتاب؛ ليبحث العقلاء عنه في ذلك العباب، وأسميته «أين الإنسان».
وأعطيته باليمين للحكماء، ممن تحت السماء، وباليسار للسواس العظماء، على سطح الغبراء.
ولما كانت الأشكال أولى بأشكالها، والفضائل أقرب إلى أهلها، والعيون أعلق بأهدابها، وكان كتابي موجها لطائفتين من العالمين، ومهدى إلى نوعين من العقلاء العاملين، رجل عليم، وسائس عظيم، بدأت بإرساله إلى مؤتمر الأجناس العام؛ لأنه جمع بين الحسنيين ونال المنقبتين، لولا علو المنار ما عم نوره المسافرين، ولولا ضوءه ما هدى السفائن في ظلمات الغياهب ولا الضالين.
إن لتأليف الكتاب أسبابا يطول شرحها، وقد أرجأتها لتذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ولما تم ترتيبه وانتظم عقده، أيقنت أن أفئدة تهوي إليه إذا سمعته، وعقولا تصبو إليه إذا قرأته، من عقلاء الأمم جمعاء، ولعمرك لقد كنت أرجو انتشاره، وأود إظهاره، ولكن ما كنت أدري كيف السبيل، حتى قرأت في الجريدة خبرا عن مؤتمر الأجناس العام الذي سيقوم بالبلاد الإنجليزية، وقد شرح أمره المستر ستيد صاحب مجلة المجلات فقال ما ملخصه:
إن الأمم الشرقية والغربية أسودها وأبيضها وأحمرها، ستصطدم اصطداما حين ترتقي إلى غاياتها، وتنتهي إلى نهاياتها، وسيكون يوم عصيب مشئوم أمام العالمين، وهذا المؤتمر أول خطوة في تعارف الأمم والأجناس وسائر الملل والنحل، وفيه 25 رئيسا من رؤساء المجالس البرلمانية في خمسين بلدا من بلدان الدنيا، ومعظم أعضاء مجلس التحكيم في لاهاي، و12 من حكام المستعمرات، و8 من رؤساء النظار في البلاد التابعة لإنجلترا، ومائة وثلاثون أستاذا من أساتذة القانون الدولي، ومندوبو الصحافة وغيرهم، إلخ.
فلما وقفت على ذلك عجبت كل العجب من توافق ما بسطته الجريدة لفصول الكتاب، ولما قرأت أن الأستاذ مرغليوت هو الذي يتلقى ما يرد له من مكاتبات المصريين وكنت أعرفه من قبل ، أرسلت له نبذة من الكتاب، وفذلكته الدالة على ما فيه بخطاب، وذكرت أني أخاطبه كما أخاطب حكماء الأمم وملوكها تحت أعلام الحكمة التي نشرت على العالمين، وشملت الناس أجمعين، وطلبت أن ينظر هو ومن معه من رجال اللجنة في أمر كتابي، فإن استحق العرض على المؤتمر أسرعت إلى إخواني المصريين فترجموه بالإنجليزية فجاءني منه خطابان أولهما بنصه:
حضرة الجليل القدر طنطاوي جوهري
سيدي، بعد التحيات، فقد ورد كتابكم المؤرخ في ال 25 من تشرين الأول مع ترجمة إنجليزية وبقجة تحتوي على أوراق فيها جزء من مصنفكم الجديد المعنون «أين الإنسان» الذي تؤثرون عرضه على مؤتمر الأجناس العام المقصود اجتماعه في الصيف الآتي، واللجنة المدبرة لأمور المؤتمر سينعقد إن شاء الله مجلسها في منتصف الجاري.
فحينئذ سأعرض على أصحابي مشروعكم الدال على علو همتكم حتى إذا انحل المجلس أخبرتكم بالنتيجة، والسلام.
المخلص
د. مو. مرغليوت
في ال 6 من تشرين الثاني سنة 1910
وجاء خطاب آخر بتاريخ الخامس من كانون الأول وهو ديسمبر سنة 1910:
حضرة الفاضل طنطاوي جوهري أدام الله بقاءه
بعد التحيات، فقد عرض مضمون كتابكم الكريم على لجنة مؤتمر الأجناس العام، فليس عندهم ما يمنع، وأما أن تتكلفوا ترجمة مؤلفكم النفيس إلى لغة أجنبية فالغالب على رأينا أن ذلك يذهب برونقه؛ فإن انتقال الكتاب من لغة إلى لغة هو كانتقال النفس من بدن إلى بدن، لا يؤمن استيحاشها منه، والسلام.
د. مرغليوت
فأرسلت الكتاب منسوخا بخط اليد في السابع عشر من شهر مارس سنة 1911 وطلبت منه ترجمة الكتاب إذا شاء.
ولقد كنت كاتبت الأستاذ أغناطيوس غويدي بإيطاليا وحضرة العالم الشهير الدكتور محمود بك لبيب محرم بألمانيا، فجاء من الثاني خطاب بتاريخ 2 يناير سنة 1911 يحض على الإسراع في طبع الكتاب باللغة العربية إذ قال: ألح عليك في النصح بطبع الكتاب أولا في مصر، وأظن أن طبعه لا يستدعي صعوبة أو عوائق، ثم قال:
وإني بعون الله مستعد لترجمة الكتاب إلى الألمانية، فأرسل لي منه صورة لكي أزاول ترجمتها من الآن؛ حتى أتمكن من نشرها عقب طبع الأصل العربي مباشرة أو في زمن قريب منه.
المخلص
محمود لبيب
وأما الأستاذ العلامة أغناطيوس غويدي فكتب لي ما نصه:
من أغناطيوس غويدي برومية الكبرى إلى المعلم العلامة طنطاوي جوهري بالقاهرة
يا سيدي الأستاذ الأكرم، أما بعد تقديم التبجيل والتحية، فقد وصلتني رسالتك الكريمة وفهرس كتابك الجديد وفصل منه شرفتني بإرساله إلي، وقد أضمرت في نفسي أن أحير الجواب بلا تأجيل، بيد أنه عاقتني عوائق وبطأت بي أشغال لا تحصى، وأرجو من فضلك أن تقبل عذري وتغضي عن تأخيري جفنك، وقد تعجبت من علمك ومن تعرضك لمسائل ينزعج غيرك من معضلات غوامضها، ولعل كتابك الجديد يطبع الآن، وإن أرسلت إلي نسخة منه نبهت عليه في بعض جرائد بلدنا، وأخبرت عن موضوعه وفصوله ومذهب مؤلفه، فيكون ذلك زيادة للتعارف بين البلدين، والمأمول منكم معاشر علماء مصر أن تساعدونا في إنشاء المدرسة الإيطالية في القاهرة المحروسة بما يضاهي صدق مودتكم لنا.
هذا وقد خبرتني الست دي لبدف أن حليلتك المحترمة عوجلت إلى رحمة ربها، وأحزنني ذلك وأمضني جدا، «هي الدنيا يا حبيبي»، وعليها يصح قول الشاعر لا على النساء:
فما تدوم على حال تكون بها
غير أنك فيلسوف العرب وكندي عصرنا، ولا بد أن يستصوب مثلك بيت الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت
ولا تسلي كالرضى بحكم الله؛ إذ إليه مرجعنا، وإلى رحمته تعالى مآبنا، ونعم المرجع وحبذا المآب، والسلام.
وهذا ملخص مقاصد الكتاب
في بيان استخراج السلام العام في الأمم من النواميس الطبيعية، والنظامات الفلكية، والفطر الإنسانية، وبنيان السياسة على أساس الطبيعة، وأن مدنية اليوم حيوانية، ودعوة الناس للإنسانية الحقيقية، وبيان أن الإنسان لم يفهم إنسانيته، ولم يستخرج قوته، وخطاب موجه لفلاسفة الأمم، ونوابها وملوكها، ودعوة الأولين لبحث هذا الموضوع، والآخرين للتعاون على العمل. وهو عبارة عن رواية ومحاورة بيني وبين روح من الأرواح القاطنة بمذنب هالي لما اقترب من الأرض وسأل عن السلام العام، وعن أخلاق نوع الإنسان، وهو عشرون فصلا.
الفصل الأول:
مقدمة الكتاب في أحوال مذنب هالي وعجائبه وسيره ودورته واقترابه من الأرض، وفي سكان السماوات وهل الكواكب العظيمة الكثيرة تبقى بلا سكان.
الفصل الثاني:
سؤال عن حال الإنسان وقول كنت الألماني: «الإنسان لم يتعلم العلم عن أعلى منه ولو تعلم لكان أرقى.»
الفصل الثالث:
أخلاق الإنسان وكيف كانت طبقاته العليا في رذائلها كطبقاته السفلى في جهلها ودناءتها.
الفصل الرابع:
فضائل الإنسان وعلومه ومعارفه.
الفصل الخامس:
استعداد الإنسان للعلوم والأخلاق وأنه كالهواء وكالمادة في ترقيهما حالا بعد حال إلى أبعد غاية وأعظم شرف.
الفصل السادس:
في أنواع الحكومات والفلاسفة وكيف كانت حكومات الناس أسدية سبعية خالية من كمال الأدب العقلي إلا قليلا.
الفصل السابع:
لم نقرأ من العالم إلا سطرين، سطرا من المادة وسطرا من العقل.
الفصل الثامن:
أين الحكمة في المادة والعقل؟
الفصل التاسع:
الفلسفة العتيقة والفلسفة الجديدة، وكيف كان توزيع العقول على أفراد الإنسان والمنافع على الأرض، وكيف جهلها الإنسان.
الفصل العاشر:
المنطق والأخلاق والسياسة، وفيه الحقيقة المرة في مقارنة السياسة بالقضاء والتعليم.
الفصل الحادي عشر:
في حكم وعجائب تبلغ خمس عشرة حكمة.
الفصل الثاني عشر:
الصعود إلى كوكب جديد فوق نبتون وفيه وقفة لمشاهدة الجمال البهيج، والعدل والنظام في السماوات، ومقارنة ظلم هذا الإنسان بالعدل في عالم السماوات، وكيف عدل في نظام السماوات وظلم عالمنا، وفيه أيضا ذكر أربعة آلاف أمة متحدة في ذلك الكوكب.
الفصل الثالث عشر:
في مذكرات وهي سبع عشرة مذكرة، وفيه شرح حال الأمم عند نظر حجر من جبل الرصاص.
الفصل الرابع عشر:
في الجمع المحتشد وعالم الأرض والمريخ وتحليل المدنية العصرية.
الفصل الخامس عشر:
في الوحدات الإنسانية من اللغة والدين والوطن والجنس والمعاهدات والمصاهرات والملك الجامع والأب الأكبر والاجتماع في اللون وغير ذلك.
الفصل السادس عشر:
مسألة الأقوى والأضعف وأننا نفعل فعل الحيوان.
الفصل السابع عشر:
على أي قاعدة تبنى سياسة الأمم؟
الفصل الثامن عشر:
في درس تعليم الأطفال الحب العام، ويتبعه ضرب مثلين؛ الأول تمثيل الإنسان وسائر أصناف الحيوان في الرسم بحال بناديل الساعة وأوسطها يمثل الحيوان ويمثل غيره الإنسان، الثاني تمثيل الإنسان في حاله اليوم بالماء في النهر وفي مستقبله بالماء في مرتفع مشرف على الأرض.
الفصل التاسع عشر:
مجلس الحكماء وضرب الأمثال الحسية للأمور العقلية، وفيه بيان ما وصلت له الأمم من المساعدة العامة القليلة وشرح الحكمة المقدسة والحكمة العالية والحكمة الذهبية والحكمة الزاهرة والحكمة الجميلة والحقيقة المحزنة ومقارنة الإنسان بحشرة أبي دقيق.
الفصل المتمم عشرين:
في الخطبة التي خطبها السيد جامون العالم الكوكبي، وأمرني أن أبلغها للناس في الأرض شرقا وغربا؛ ليريهم كيف السبيل للوحدة العامة في سائر الأمم والممالك والدول. وقد جمعت الخطبة مجمل الكتاب وشرحت السياسة ومناسبتها لانتظام أمر الذكور والإناث في العدد على سطح الأرض. انتهى.
مقدمة
أين الإنسان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد، فإن الحوادث الكبرى في هذا العالم موقظات للعقول، مثيرات للآراء، منتجات تغيرا وتطورا في النفوس البشرية.
ومن أهمها الحوادث السماوية، كالمذنبات اللاتي تقترب من الأرض، فتحدث في هلعا، وفي العقول جزعا، فيضطرب النوع البشري الإنساني، ويغدون ويروحون، في المراسم والمناهج، ويموج بعضهم في بعض، وتختلف أقاويلهم، وتعدد مذاهبهم، وتكثر أوهامهم.
ففي سنة 1328 هجرية وهي سنة 1910 ميلادية، في شهر مايو، في العشرة الثانية منه، أنذر علماء الفلك الناس في أنحاء الكرة الأرضية، باقتراب المذنب المسمى بمذنب هالي، ليلة الثامن عشر منه، وأنذروا الناس بدهياء داهمة، وقالوا: إن ذنبه طويل، ولعله يلامس الأرض فتحرق ويخلو وجهها من ساكنيه، وتحشر إلى العالم الآخر، فأخذت الأمم تؤولها بحسب ما يتاح لها، فمن أهل أوروبا من باع ثروته ليتمتع بها أياما قبل انقضاء حياته، وفوات الفرص للذاته، ومنهم من عمد إلى قتل أحبائه من الزوج والأولاد قبل أن تقع الواقعة، التي ليس لوقعتها في عقله كاذبة، وكأنه يقول ما قالت الزباء: «بيدي لا بيد عمرو.» ومن أهل الشرق من أخذ يقتل أعداءه قربى إلى الله وزلفى عنده، حتى تقدم في دفتر حسناته قبل هلاكه بالمذنب، ومنهم ومنهم.
ومن العجب إنا نسمع ذلك الاختباط عن الخاصة ، كما نسمعه عن العامة، وعن العقلاء كما نسمعه من الجهلاء، أما أنا فكنت مغرما أن أراه في أنحاء القبة الزرقاء، فرصدته ليلة السابع عشر من شهر مايو قبيل الفجر إذ أخلفه عمود من النور الضعيف الممتد من الشرق إلى الغرب الجنوبي المستطيل نحو 50 درجة فلكية، فكرت في أمره وأخذت أجيل النظر في هذه العوالم العجيبة، أن هذا المذنب الكبير أحد مذنبات هائلة كثيرة العدد تعد بالملايين، تطوف حول الشمس كما تطوف السيارات المعروفة، وهذا المذنب يدور في دائرته 75 سنة وهو في الثانية الواحدة يجري نحو 50 كيلو مترا، مسرع لا يمل، ولا يفتر، ولا يقف لحظة، فهو في الخمس والسبعين سنة سائر على هذا النمط، وتعجبت من هذا الكوكب ثم اعتبرت بضوئه المستطيل خلفه، وقد أرانا ضوءه وأطال ذنبه، ولم يعبأ بأقوال الفلكيين، ولا نظر الناظرين، ولا تخرص المتخرصين، إنه ألقى شعاعه في السماء، وخالف سنة الكواكب بذنبه، واتبع طريقه، ليفتح للناس باب الفكر، هكذا علماء الأمم والحكماء والأنبياء يوقظون الناس من غفلاتهم بما يلقون عليهم من الحكم البديعة التي لم يألفوها، والآيات العجيبة التي جهلوها، فيجمعون بين الإيضاح والإغراب، والشجاعة والإعراب، والإقدام والآداب، إن في هذا الكوكب معتبرا للمذكرين، ويا ليت شعري ماذا حال الأمم إذا رجع كرة أخرى بعد 75 سنة، وكيف يكون حال الممالك والدول، وهل يتغير وجه الأرض وتزول المظالم والقسوة والوحشية من هذا الإنسان، أم تزداد المظالم وتكثر المغارم، أخذت أجول في عالم الفكر وأسيح في بحار الخيال، وتأملت في تلك العوالم العجيبة المنظمة السير البديعة النظام، إن هذا المذنب يقطع فلكه الذي هو عبارة عن قطع ناقص، ويجري بسرعة مدهشة وسير منتظم لا يخطئ في سيره ولا يتوانى في جريه، وكم في كواكب السماء من سريع الجري حسن النظام باهر الضوء عجيب الإتقان مثله.
لا يزال علماء الفلك كل يوم يتبينون مذنبا جديدا يرصدونه بالمراصد، ويثبتونه في الدفاتر، وهي كلها منظمة السير، دائرة أبدا أمدا حتى يفنى هذا النظام العام، ومثلها في النظام السيارات المعلومة وكثير منها غير معلوم، وهكذا الكواكب الثابتة التي تعد بالملايين كل في فلك يسبحون بنظام وإتقان، هذا المذنب من قبل ظهرت حركاته منظمة، ودوراته مرتبة عرفها التاريخ، وقد شاهده الناس عام 12 قبل المسيح عليه السلام، ثم في يناير سنة 66 بعده، ومارس سنة 141، ومارس سنة 218، ومارس سنة، 295 ومارس سنة 373، ويوليو سنة 451، ويوليو سنة 530، ويوليو سنة 608، وأكتوبر سنة 684/الموافق ربيع الأول سنة 65 هجرية، ويوليو سنة 760/ربيع الأول سنة 143ه، ويوليو سنة 837/رجب سنة 222ه، ويونيو سنة 912/ذو القعدة سنة 294ه، وسبتمبر سنة 989/جمادى الثانية سنة 389ه، ومايو سنة 1066/رجب سنة 458ه، وسبتمبر سنة 1152/جمادى الثانية سنة 547ه، وسبتمبر سنة 1223 رمضان سنة 620ه وديسمبر سنة 1301/ربيع ثان سنة 701ه، ونوفمبر سنة 1378/شعبان سنة 780ه، ويونيو سنة 1456/رجب سنة 860ه، وأغسطس سنة 1531/المحرم سنة 938ه، وأكتوبر سنة 1607/رجب سنة 1016ه وسبتمبر سنة 1683/رمضان سنة 1093ه، ومارس سنة 1759/رجب سنة 1172ه، ونوفمبر سنة 1835/رجب سنة 1251ه ثم في مايو سنة 1910/جمادى الأولى سنة 1328ه. فهذه 25 دورة في 20 جيلا، فهو يدور في كل ثلاثة أرباع القرن دورة واحدة، فتأمل وتعجب، لهذا المذنب عجائب في ظهوره ولطائف في مروره، كم رصده الراصدون وحسب له الفلكيون، وأحجم عن الحرب وأقلع المحاربون، وكم شجع ظهوره قوما وكم ذعر منه أقوام، ألا ترى قصة المعتصم وحربه عمورية وأقوال الفلكيين وكيف غلب وانتصر ومدحه أبو تمام بالقصيدة التي أولها:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في
متونهن جلاء الشك والريب
وفيها يقول:
وخوفوا الناس من دهياء داهمة
إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
فهو مذنب هالي؛ لأن ذلك في سنة 222 في شهر رجب الموافق يونيو سنة 837، ولقد ذكر رجب في القصيدة؛ يقول: ... ... ... ... ... ...
ما كان من صفر الأصفار أو رجب
هكذا سماه الفلكيون سنة 1066 بمذنب الفتح إذ غلب غليوم الفاتح دوق نورمانديا في أيام ظهوره على البلاد الإنجليزية، فأنت تراه منظم الحركات، بديع الخطرات، لا يخطئ في تقديره، ولا يبطئ في مسيره، إلا لعوارض وطوارئ نادرة، دعاني ذلك إلى النظر في أمره، والتفكر في سيره، والبحث في عجائبه، وغرائبه ، فراقبته مع الناظرين، ورصدته مع الراصدين، ورأيته كرتين، كرة في الشرق قبل الفجر، وبعده، وآونة بعد الغروب، وقد سار في طريقه، وجرى في شوطه، واستبق يعدو في هذه العوالم الشاسعة، والفيافي القاصية، والدنيا الواسعة، إنه لن يعود إلا ونحن تحت أطباق الثرى، جسدا هامدا، وصعيدا جرزا، حرصت أن أراه، لئلا أحرم من عبرته، والحكمة فرصة سانحة، فإذا ما غفل عنها المرء باء بالحسرة، وعاش كئيبا لها وهو مع النادمين، وها هو غاب عن الأبصار، وفارق الديار، وسار يعدو في ذلك العالم الواسع العظيم.
الفصل الأول
في المقارنة بين نظام العالم ونظام الأمم
سنحت لي هذه السوانح، وفكرت في تلك العوالم المدهشة العجيبة، وأخذت أقارن ما بين نظام العالم الجميل، ونظام الأمم الضئيل، فرأيت بونا بعيدا، وبعدا كبيرا؛ ذلك متقن منظم، لا ظلم فيه، ولا خلاف ولا فتور، وهذا سياجه الظلم، وأسه الخداع، وبنيانه المكر والنفاق، وطلاؤه الكذب، أرى حركات الكواكب في نظام عجيب، وحركات الأمم في ظلم وشقاق بعيد، فرفعت طرفي إلى السماء وقلت: يا الله، كواكبك منظمة باهرة، وها هو حسابها محكم، لا خلل فيه، ولا تقديم ولا تأخير، فالشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان، بنظام، وكل كوكب ونجم وأرض وقمر ومذنب، كل في فلك يسبحون، بحساب دقيق، لا يعتوره الخلل، ولا يقفه الملل، فأما الأمم الإنسانية، والدول الأرضية، فإنهم عن الصراط لناكبون، وعن سبيل الحق حائدون، اللهم أنت مالك الممالك، ملكت القلوب، كما ملكت النجوم، وسيرت الأجسام الإنسانية، كما أدرت الكواكب الفلكية، فما بالنا نرى الفرق بين الحركتين، والبون شاسعا بين النظامين، ويا ليت شعري، أفي تلك العوالم الشاسعة، والفيافي السحيقة الواسعة، في الأقطار السماوية، أحياء مثلنا ذوو نفوس عالية، وعقول سامية، وسياسات راقية، ونظامات باهية، وهل فيهم أمم وجماعات، وآباء وأمهات، وملوك وملكات، وحكمة وحكماء، ومستضعفون وعظماء، وهل عندهم الدهاء والنفاق، والمكر والخداع، أم هم أجل مقاما، وأصدق كلاما وأحكم نظاما وأعلى في العلم كعبا، لا يخشون في الحق رهبا، ولا يرجون رغبا.
وإذا كنت أرى البحار الواسعة، والأقطار الشاسعة، والهواء الجوي، مسكونة بالحيوانات، معمورة بالمخلوقات، بحيث لم يخل منها الماء الملح الأجاج لملوحته، ولا المر في أعماق البحار لمرارته، ولا السرجين لقذارته، بل الحياة لم تذر مكانا ظاهرا إلا ولجته، ولا باطنا إلا دخلته، فهي في باطن البحار، وفوق الجبال، وداخل الصخور، وفي الظلمة والنور، فكيف مع هذا تخلو تلك العوالم الكبيرة من السكان، وهل خلق جمالها عبثا، أم أحكم صنعها، وهندس شكلها، وزوق نقشها، وزين فرشها، وعرشها، باطلا، وهل خصت أرضنا بالعناية، وهي أقل الكواكب جسما، وأصغرها جرما، ذلك ما لا يقبله الوجدان، ولا يرضاه عقل الإنسان، وهل خلق ذلك الجمال للعميان، وشع النور وتلألأ لمن لا ينظرون، كلا، إن في جمالها ونظامها، لدلالة على أحياء بها عالمين، وعقلاء لهيئتها فاهمين، ثم إن ذنب هذا الكوكب الجاري في السماء، يمثل حال الجبال والأرض والنجوم، إذا جاء أجلها، وحطمت أجزاؤها وقامت قيامة أهلها، فإنها تكون كالعهن (الصوف المندوف) المنفوش.
الفصل الثاني
سؤال عن حال الإنسان
وبينما أنا أجيل هذه السانحات في نفسي، وأنظر في هذا العالم بقلبي، قلت: يا ليت شعري، لو أن امرأ ركب متن هذا الكوكب، وساح العوالم العظيمة، وباحاتها الشاسعة، وساحاتها الواسعة، فدرس نظامها، وقرأ علومها، ثم رجع فروى لنا أخبار الأمم العظيمة، وشرح لنا السياسات الكبيرة، لأفاد الإنسان، وعلمه البيان، فقد قال العلامة «كنت» الألماني في كتاب التربية المترجم إلى اللغة الإنجليزية بقلم الكاتبة أنتي شارتون
Annettee Churton : إن الإنسان لم يتسن له تلقي العلم إلا عن بشر مثله، ولو أنه أتيح له عالم آخر، فأتاه علما، وأهداه فهما، لكان ذلك أقرب لسعادته، وأدعى لراحته، وأسرع لارتقائه، في مدنيته، والمعلم إذا لم يكن أوسع دائرة، وأحد بصرا، وأقوى بصيرة، وأرقى عقلا، وأسمى نظرا من التلميذ، لم يتسن له انتشاله من وهدته، وإسماؤه إلى أعلى درجته.
كل هذه الخواطر السانحات جالت بخاطري، وقد أخذتني سنة فنوم، في ليلة التاسع والعشرين من شهر مايو، وبينما أنا نائم إذا شخص دخل غرفتي، وهي موصدة الأبواب، مقفلة الشبابيك ، محبوكة الستائر، فوكزني برجله، وسمعت وأنا مغمض الأجفان، غائب عن عالم العيان، قائلا يقول: قم أيها الإنسان، فلم أفتح عيني لمقالته، بل ظننته من أضغاث الأحلام، وخطرات المنام، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم، فعاد الوكز، وعاودت الاستعاذة.
فلما كانت الثالثة فتحت عيني، إذا نور مشرق في ظلام الحجرة الحالك فدهشت من هجمته، بل ذعرت من هيبته، وأخذتني هزة الرعدة، لا هزة الطرب، ثم استجمعت قواي، وشددت فؤادي، وقلت: ما هذا، أنا في يقظة أم في منام، إن هذا إلا أضغاث أحلام.
ثم أغمضت عيني، إذا صوت أسمعه من ذلك النور الساطع، والضوء اللامع، يقول بلسان فصيح عربي مبين، لا تخف إني صديقك، وعاشق للحكمة مثلك، اتحدت روحي وروحك، قم لأحل لك معضلات المسائل، وأهم الوسائل، وأضع لكم يا أهل الأرض قانونا مسنونا، وصراطا مستقيما، ولكنني قبل ذلك أسألك: أين الإنسان؟ ففتحت عيني، إذا شخص لم أر مثله في هذا العالم المشاهد، كأنه شاب في سن العشرين، لم أتبين شكله لمكان الظلام المحيط بنوره، متوسط القامة، عليه حلل مرصعة بالماس، منظومة بالذهب، محلاة بأنواع من الجواهر والأحجار الثمينة، لا أعرف لها في الأرض نظيرا، ولا أكاد أميزها للدهشة وظلام الليل، فأعاد السؤال كرة أخرى وقال: أين الإنسان؟ فقلت: نحن بني آدم نوع الإنسان. فقال: أوهذا منتهى ما تصل له يد استطاعتكم في الكمال والأدب، والنظام والمدنية والفضل؟ وهل تجاريبك العلمية، ومباحثك العقلية، أرشداك إلى أن هذا هو الكمال في الإنسان؟
فقلت له: خبرني أيها السيد، من أين أقبلت؟ ومن أنت؟ فقال لي: إنني لي اسمان، الحقيقة والوجدان، وقد أقبلت من مذنب هالي، وأنا روح من الأرواح السائحة في العالم، وإني أحبك حبا جما لحبك لنوع الإنسان، واهتمامك بنظامه العام.
ولما اقتربت من الأرض نظرت إليك نظر المحب الشفيق، والوامق الصديق، فجئت لأسامرك الليلة، وأجاذبك أطراف الصداقة والخلة، ثم ارجع من حيث أقبلت.
إني سألتك: أين الإنسان؟ فتلكأت في الجواب، وأوجبت بما لا يزيل اللبس، فأجب بالحقائق المعروفة لديك، واختصر اختصارا، وليكن قولك إيجازا، وإذا لم تفد الحقيقة فضع بدلها مجازا.
الفصل الثالث
أخلاق الإنسان
أفدني كيف حال نوع الإنسان، وكيف أخلاق الطبقات المختلفة؟ قل لي ألست أنت الذي حكمت على الإنسان بأن فيه خيرا وشرا، وكمالا ونقصا، وجهلا وعلما، وقوة وضعفا، وإنك خالطت سائر طبقاتهم، ودرست جميع أخلاق وأحوالهم، تارة بالمجالسة، وأخرى بالمكاتبة، وآونة بالنظر في الأخبار والجرائد وكتب الآفاق؟ عشت مع الفلاحين، وزرعت مع الزارعين، وتخللت صفوفهم، وخالطتهم في حقولهم، فرأيت نفوسا خاملة، وعقولا قابلة، ومنهم البررة المتقون، ومنهم الطالحون، ومنهم من يمكرون كالثعالب، ومنهم من يختانون كالذئاب، والمعظم فيما بينهم ذو الجاه والمال، ومن كان أكثر مكرا، وأقدر على النميمة، وأتم في الحيل، وهم يحبون العلماء، ويودون الأولياء، ووجدت طبقة الفقهاء فريقين، فريقا سبح وصلى بكرة وعشيا، فكان قوله صدقا، وحكمه عدلا، والآخرون جعلوا العلوم حيلة محتال، وشبكة صائد وبهتان دجال، فأكسبهم قوة بها على الجهال يصولون، وأعطاهم قدرة على المكر والدهاء فهم لا يرحمون، فخالطت أهل الآداب والفضائل، ومن اتسموا بالعلم وسار ذكرهم في الآفاق، فعاشرتهم وخالطتهم، فرأيت صفات العامة كامنة في أخلاقهم، وغرائز الجهلاء باقية في أوصافهم، ولكنهم يمتازون بالقول الخالب، والمكر السيئ، فلما رأيت الخبيث والطيب، والجيد والرديء فيما حولك، رجعت البصر إلى العوالم المتمدينة، العالية الرأس، السامية الذرى، فألفيت فيما بينهم سياسات العامة، وعلوم الخاصة، إنك قلت أن النوع الإنساني ما زاده العلم إلا زيادة القوة الحيوية، بالعلوم الرياضية، ودرس المسائل الطبيعية، والمهارة الصناعية، هذه هي العلوم الحقة الصادقة.
أما في الأخلاق والإخلاص والصدق وحب نوع الإنسان، فذلك قليل في الأمم، ولم يقم بهذه الخصلة الشريفة، والخلة الحميدة، إلا أناس نبغوا في كل أمة يتخللون ثنايا الزمان، كالنجوم الزواهر، في أكناف السماء. فقلت له: أيها السيد النبيل، نبل قدرك، وجزل رأيك، ونطقت بالحق، وخبرت بالصدق، لقد عبرت عن بعض ما يختلج قلبي من المعاني، وإني لأزيدك إيضاحا ؛ إن الطبقة المتنورة في سائر الأمم والممالك، تخضع لزخرف القول، وتستنيم للأكاذيب، ويغرها البهتان، ويسحرها الكلام الخالب، فحال الناس في سياساتهم ومعاشراتهم كحال المحامين أمام القضاء، والشعراء المادحين، يعمدون إلى طلاء القول وما يؤثر في الوجدان والضمائر، وما يستفز النخوة ويبعث النجدة، كما ترى في جرائدهم وأخبارهم، فشأن أكثر الناس إلا قليلا أن ينخدعوا بالطلاء الكاذب، والزخرف الباطل، وما مثل المخادعين والمزخرفين إلا كمثل من رمى شبكته ليصطاد، فهو يرتقب صيدا لا محالة، ولقد شهدت أهل الرأي في مجالسهم يخدعون وينخدعون، ويقتطع زيد من كلام عمرو جملة بتراء، لينفذ فيها سهم نقده، ويقدح فيها زناد فكره، ويتجاوبون بالباطل، ويفعلون فعل العامة. ولقد نجحت بعض الأمم في تهذيب الشعب كما يروى عن أهل سويسرا، ولكن التهذيب والتأديب في سائر الأمم والممالك قاصر على الفضل فيما بينهم، واقتسام الرحمة عندهم، وهم حرب على من سواهم، من الأمم والممالك، لا سيما أئمة السياسة، وأكابر الأمم، فأولئك بأممهم وحدها مغرمون، وعلى حياتهم وحياتها يحرصون.
الفصل الرابع
فضائل الإنسان
وهنا أخذتني الغيرة، وذهبت سكرة الحق، وجاءت فكرة التعصب للجنس والنخوة والحمية. فقلت في نفسي: يا للعار ويا للشنار! روح من الأرواح تجلت لك ساعة من الزمان، فتشرح لها حال الإنسان، فيذمنا عند العوالم الأخرى، ويا عار الأمم الأرضية، إذا رجع صديقي الوجدان إلى كوكب المريخ أو المشتري، أو ركب متن مذنب هالي وساح في النظامات الفلكية العالية، وربما قابل علماء أورانوس ونبتون، وربما ركب كوكبا آخر، فصعد إلى المجرة التي فيها ما لا يتناهي من الملايين النجمية، فيخبرهم بأخلاق الأمم الحاضرة، وما فيها من زور وبهتان، وجهل فاضح، أوأكون أنا السبب في نشر هذه الأخبار في عوالم السماء عن أرضنا! فوالله لأذكرن محاسن الإنسان، كما ذكرت مساويه، وأنشر فضائله، كما أذعت نقائصه، ولأذيعن الخير كما أذعت الشر. كل هذا خطر لي وأنا ساكت.
فدنوت إليه فوجدته يتبسم. فقلت له: أيها الملك الطاهر، والصديق الخالص، إن الإنسان وإن أساء فقد أحسن، وإن ضل فقد هدي، ألا ترى أن منا الأنبياء والمرسلين، والحكماء والعلماء والصالحين والأولياء، وفينا صفة الرحمة! فمن منا لا يجزع لمصيبة حلت بأخيه الإنسان! ومن من المصريين والشرقيين لم يجزع لحوادث زلازل الطليان، وقد اختلف القومان، وبعد المكان، وتباين الدينان، ولقد آنست قوما من فقراء الروم يطلبون الإحسان، والمعونة، أمام كنيسة رومية في شارع الحمزاوي بالقاهرة، فبكيت ورحمت، وآنست مرة غلاما روميا يبكي، وقد ضل الطريق، فسألته فكلمني بلغته فلم أفهم، فجزعت ولم يسكن ألمي إلا بعد أن أسلمته لرجل من بني جنسه فعرفه، وأنه ضال طريق المدرسة، وإنا ليسرنا شعر شعرائهم، وعلم كبرائهم، كما يفرحهم علمنا ورقينا، ويسوءهم جهلنا وضعفنا، وإن غطت الشهوات على العقول، وزاحم الطمع الرحمة، والشدة اللين، والشر الخير، فالإنسان مركب من الخير والشر، والصالح والطالح، والطيب والرديء، هكذا كان وهكذا سيكون. فلما انقضى الحديث، ودعني ذلك الصديق الحميم، وانصرف ومعه الفؤاد، وقال: إن شاء الله يكون الاجتماع في الليلة القادمة، فأغمضت عيني، واستيقظت في الصباح وأنا جذل فرح بما وعيت، فقيدته في ورقة وأنا لا أدري، أذلك حقيقة أم خيال، وعجبت كما سيعجب القارئون.
الفصل الخامس
في استعداد الإنسان
فلما كانت الليلة الثانية، ونمت وأنا في حيرة من أمري، إذا قائل يقول: قم أيها النائم، فعلمت أنه صديقي ليلة أمس، فرأيته بشكل بهيج، ومنظر عجيب، ومن عجب أن صوته في الحديث موسيقي، لم أسمع مثله في عالمنا، كأنه مطرب يعلم ومعلم مطرب، فتمنيت لو يتاح لنوع الإنسان أن يحسن نغماته، ويتقن حركات أصواته، ويطرب سامعيه برناته، فأخذ يسمعني من بدائع العالم ما سرني وبهرني، ومن قوله أتظنون أيها الناس أنكم وصلتم الغاية المطلوبة، والدرجة المرغوبة، كلا، إنكم في أول طريقكم سائرون، وعن الصراط السوي ناكبون. ثم قال: لقد ذكرت الخير والشر وامتزاجهما في نفوسكم وقرره حكماؤكم، وذلك دأبكم، تحكمون على الأشياء بمظاهرها، ولا تدرسون ماهيتها وحقائقها، إن ما ذكره حكماؤكم في الإنسان قطرة من بحر، وذرة من جبل، ألا أعرفك حقيقة الإنسان واستعداده. فقلت: ذلك غاية مقصدي، ونهاية مطلبي ، وأنت مشكور، وبالفضل مذكور، فقال: على شريطة أن تنشر الكتاب في أنحاء الكرة الأرضية، والعوالم البشرية. فقلت: ذلك عهد بيني وبينك.
فقال: إن حقيقة النوع الإنساني واستعداده لا تنجلي بتعاريفكم الفلسفية، ولا تعرف بآرائكم العلمية، وإنما أقربها لك بمثالين اثنين؛ المادة العامة الكونية، والهواء المحيط بالكرة الأرضية، ألا إنما مثل الإنسان كمثل الهواء، وكمثل المادة، فإذا درستهما وعرفتهما آن لك أن تعرف استعداد الإنسان وقواه وملكاته. فقلت: إن هذا القول غامض، فأرجو إيضاحه، وأطلب تبيانه. فقال: إن المادة غامضة عليكم، مجهولة حقيقتها لديكم، وليس للبشر أن يقفوا على كنهها، ويطلعوا على سرها، وإنما تعرفونها بأوصافها الظاهرة، وأعراضها القاصرة. تعلم أن المادة تكون ضوءا وحرارة وكهرباء، وهو آخر الآراء عندكم يا أهل الأرض. فقلت له: نعم. فقال: وتكون أثيرا وهواء وماء ومعادن أرضية، كالذهب والفضة والبلاتين والنحاس والقصدير، ونباتا، كالفواكه والحبوب والملابس كالقطن والكتان، وتكون حيوانا في الماء كالأسماك، وفي التراب كالحيات، وعلى وجه الأرض كالبهائم، وفي الجو كالطيور، وتكون كواكب وأفلاكا، وسماوات وأرضين؟ قلت: نعم. قال: المادة واحدة تطورت وتغيرت وتشكلت، فإذا رأينا نحن علماء السماوات حجرا في جبل، نظرنا ببصر غير بصركم، وسمعنا بأذن غير آذانكم، وعقلنا بقلب غير قلوبكم أنه نبات وأسماك وحيوان، فهو فاكهة وروح وريحان، وذهب وفضة ونحاس وقصدير، وجنة ونار، وأرض وسماء، وحيوان وإنسان، فتراه عالما متبحرا، وشجرا مثمرا، وذئبا عاويا، وغزالا أغن، وأسدا رابضا، وإنسانا كاملا، وجاهلا مرذولا، وعالما مقبولا؛ ذلك لأنه يصلح لسائر ما وصفنا، ويتشكل بكل ما ذكرنا من الأشكال.
إن المادة واحدة صالحة للجميع، فإذا فنيت السماوات وحطمت الأرضون، وطاح الحيوان، وذهب النبات، وهلك الإنسان، وذبل الجمال، وراح البهاء، فذلك كله كامن في المادة، مستقر في الهيولي، فليس بمعدوم أثره ولا زائل عنصره، وما المادة إلا كحب الحنطة، وبذرة شجر القطن، متى أنزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت الأغصان، وأبرزت الأزهار، وأطلعت الأوراق، وألبست القطن، وأهدت القمح، فهكذا المادة تصلح لكل شيء، فإذا أفرغ الله عليها حكمته، ونفحها قدرته، تنوعت أصنافها ، وتشكلت أوصافها، بما تراه، فأنت من هذا عرفت استعداد المادة وتنوعها وتشكلها بما لا يتناهى، فهكذا الإنسان، إن أرواحكم كالمادة، قادرة على الخير والشر، والرفعة والضعة، وإذا ما نظرنا إلى زنجي دميم، أو ملك عظيم، أو عالم حكيم، لم نفرق بين الأبيض الجميل، والصعلوك الوضيع، والجاهل البليد؛ لأننا نعلم الاستعداد الإنساني، وقبوله الرقي، كما قبلت المادة الصورة الحجرية. وتشكلت بالصورة الإنسانية، فلا يشكل المادة إلا العلم والقدرة، ولا يخرج الإنسان من جهله وخموله وبساطته إلا التعليم، وكما تكون المادة بالتشكيل ضارة، كالعقارب والحيات، فهكذا قد يكون الإنسان بالتعليم شرا وبيلا، وشررا مستطيرا، كعلماء اللصوص، وبعض رجال سياساتكم في الأرض. فقلت: وهل سيكون في الأرض سياسات ممدوحة؟ قال: نعم، بعد نشر هذا القول في الكرة الأرضية، سيكون له أثر محمود، وفضل مشهود. فقلت له: فأوضح لي المثل الآخر وهو الهواء. فقال: أنت تعرف الهواء؟ قلت: نعم. قال: إن الإنسان يقبل رقيا عاليا، ومجدا غاليا، لا يحصيهما عد، وليس لهما حد، والفرق ما بين نقصه وكماله، وقبحه وجماله، كالفرق ما بين الهواء في حجرتك الحائم حول دواتك، المحيط بقلم كتابتك، والهواء الخارج من القصبة الهوائية، المغذي للأجسام الإنسانية، الممتزج بالكرات الدموية، المولد للحروف الهجائية بنغماته، المفهم لسامعيه عجائب الحكمة بآياته، ودرر المعاني وغرر العلوم برناته.
فقلت: أوضح لي المثل. فقال: إن الهواء الجوي يغدو ويروح في الجو، وله فوائد معلومة، ونعم محدودة مشهودة، يحمل السحاب، ويرفع قطرات الماء، ويقبل الأصوات، وهو الأمين على اللغات، حافظ أنواع المسموعات، بحيث يميز ما بين صوت وصوت، ولغة ولغة، ورائحة ورائحة.
هذه وأمثالها فوائد الهواء الذي يغمركم بكرته الجوية، ويحيط بكم وهو في حالته الفطرية، فإذا ما تطور بأطوار أخرى، فإنه يأتي بفوائد كثيرة، ألا ترى أنه يغذي النبات فيمتزج بمائه، ويتخلل عصاراته، وهو نفسه وغذاؤه، فهذا مدرسة أولى للهواء، يمتزج بالعناصر الأرضية، ويحدث منها الأغصان، ويخرج الأزهار، ويمازج الأشجار، فهذه الأشجار الخضرة، والأزهار النضرة، والثمار البهية، يدخل في تركيبها الهواء، كما مازجها الماء والتراب، والأضواء ، فالنبات يتنفس ولكنه لا صوت لنفسه، ولا حروف ونغمات ولا علوم ولا آداب، ثم الحيوان يستنشق الهواء فيمتزج بتركيبه، ويدخل في بنيانه كما دخل في النبات، وكون الأوراق والأزهار، لكنه في الحيوان أعظم قدرا وأوفر عملا وأجل فائدة، ألا ترى الطيور بأصواتها الشجية المبهجة، ونغماتها البديعة البهية، أليس هذا من العجب؟ مصلحة الهواء الامتزاج بالدم، وتكوين اللحم والشحم والعظم والعروق والحواس، فما باله زاد في الحيوان جمالا وإبداعا، فصار دلالة بين الأم وولدها، والذكر وأنثاه، والحمامة وأفراخها، والنعجة وحملها، واللبوة وأشبالها، وذلك لم يكن بين الغصن وأزهاره، ولا بين الساق وفرعه، ولا بين الفروع وأثمارها، فإذا تخطينا إلى الإنسان وهو المدرسة الكلية العالية للهواء، رأينا أمرا عجبا، فإنه يفعل كما فعل في النبات من التغذية، وفي الحيوان من النغمات والفهم والإفهام، وزاد عليهما باللغات، والعلوم الناشئات من الحروف الهجائية، المركوزة في الطباع البشرية، ألا تتأمل، ألا تتعجب من الهواء كيف كان في الجو قليل الفوائد، فلما أن دخل المدرسة الأولى النباتية أفاد المواد الغذائية، فلما أن دخل المدرسة الثانية الحيوانية أفاد الدلالة والإفهام، فلما أن وصل المدرسة العليا الإنسانية كانت النغمات المشجية، والحروف الهجائية، والعلوم الكونية، فصار معبرا عن سائر الكائنات، وبجميع اللغات، فكم لغة كونت ودونت! ويقال: إن في الأرض أربعة آلاف لغة تحصر ما في العالم العلوي والسفلي من العلوم، فهل تجد تلك العجائب في هواء دارك، الساكن في غرفتك، أم الصنعة التي أدخلت عليه جعلته في أعلى مكانة وأسماها، لعمرك إنه لا فارق بين هواء غرفتك، ونغمات الموسيقى، ومطربات الموسيقار، وكلمات الحكم والأخبار إلا بالصنعة والإتقان، فالهواء هواء اعترته العوارض ودخلته الصنعة فارتقت به إلى أبدع الأحوال وأسماها، وأعز المقامات وأغلاها، فهل تقصر الروح الإنسانية، عن النسمات الهوائية، إن نفوسكم أرق وأرقى، وأعز وأغلى، فإذا دخلتها الصنعة غلت قيمتها، وعلت رتبتها، وزادت كرامتها، ولئن تدرج الهواء في الصنعة من البساطة في الجو إلى نغمات مشجية مطربة، وحكم عالية، وعلوم باقية، وآداب غالية، أفلا يصل الإنسان من مقامه الوحشي بين الأنعام، إلى رتبة السادة الأخيار المصطفين الأحرار.
ثم قال: يا أيها الناس إن نفوسكم لشريفة عالية ، وأرواحكم طاهرة باهرة، وعقولكم سامية فاضلة. وقدرتكم تزيل الجبال، وترفع الحصون، وتذلل الصعاب، أرواحكم مطلقة فقيدتموها، ومقدرتكم واسعة فضيقتموها، ولئن وسعت المادة سائر الأشكال، من الظلمات والنور، والظل والحرور، والإنسان والجماد، والبحر والبر، فإن نفوسكم أعظم اتساعا وأوفر اقتدارا، وأعلى منارا، وإذا كان الهواء يرتقي إلى أن يحمل الحكمة بسائر أنواعها في حروف هجائية، فالأرواح الإنسانية أجل منه مقاما، وألطف بهاء، وأوسع جاها، وأبهى جمالا، وأبهر حسنا وكمالا. ما لي أرى أخلاقكم نازلة، وسياساتكم عاطلة، وحكوماتكم ناقصة، مشوهة! إنني لما اقتربت من الأرض وشاهدتكم في محن العذاب مسخرين، وفي عذاب جهنم الذل خالدين، أيقنت أنكم مسجونون في هذه الكرة، لا تفارقونها إلا بالموت، كتب عليكم أن تسجنوا في الأجسام، وأن لا تفروا من الأرض، فزدتم القيد قيودا، ذلك أنكم حبستم أنفسكم في سجن الجهالات، وفاسد الحكومات، جهلتم قدر أنفسكم فحبستموها، وبهذا السجن عذبتموها، وكم لكم من قدرة تركتموها، ومن حكمة دفنتموها! كل هذا وأنا مصغ لقوله، سامع لوعظه وزجره، ودعني وولى مدبرا، فنمت، فلما انفلق عمود الصباح كتبت ما قره وسطرت ما حققه.
الفصل السادس
في أنواع الحكومات والفلاسفة
فلما أن كانت الليلة الثالثة دخل الحجرة وأيقظني وأجلسني فآنست وجها يخجل القمر، وقد لبس ثيابا بيضاء مصفرة ومعه ساعة من الذهب، فرجع إلى الكلام على حال الإنسان وقال: ما الذي عملتم بفطركم وعقولكم؟ فقلت: نظمنا الحكومات، وقرأنا الديانات، وأوسعنا العلوم واللغات، واخترقنا الجبال، وعبرنا الأنهار، وسخرنا الهواء، والحجر والماء، فنحن لذلك كله مسخرون. فتبسم وقال: سأريك قيمة ما وصفت، وأعرفك أنه ليس شيئا مذكورا في إنسانيتكم، أجبني: «أين الإنسان؟» أنتم متحاربون متقاتلون متعادون، أنتم ذئاب على أجسادكم ثياب، إنني إذ سحت العوالم السماوية، ونظرت نظاماتها السياسية، وقارنت سياستكم بسياستها، ودولكم بدولها، ما شككت أنكم يا أهل الأرض معذبون غافلون، إني عجبت لكم، إن لكل امرئ منكم قلبين متضادين، ونفسين متناقضتين، ووجهين متشاكسين . فقلت: كلا، بل قلب واحد، ونفس وعقل ووجه. فقال: ألستم تقابلون بعضكم بما تعلنون، وهو مخالف لما تضمرون ؟ ألستم تفشون، وتكذبون وتنافقون، وأنتم متظاهرون بالصلاح، وكثير منكم فاسقون؟ أوهذه حياة الإنسانية؟! إن هي إلا حياة شيطانية.
ثم قال: خبرني، أليست حكوماتكم هي التي أكل عليها الدهر وشرب، ما هذه الحكومات، يا عجبا للإنسان! يا ويل الإنسان! أطلق له السراح كما أطلق للمادة، فتدلى عن الحيوانية، وانحط أسفل من البهيمية؛ ألستم تخضعون للأوهام والدجالين والكذابين؟ ألستم تحسون بضعف أنفسكم أمام وارثي الملك فتملكونهم عليكم، والطبيعة والفطرة تناديكم، أين عقولكم؟ أين أحلامكم؟ «أين الإنسان؟» إن الفطرة قد تكفلت لكم بكل حكمة وسياسة، إن الحكمة العالية الإلهية سنت لكم القوانين، ونظمت لكم كل شيء وأنت غافلون. قلت له: فأفدني. فقال: سيريك الشيخ الوقور من بعد «جامون السماوي». (وسيكون له القول الفصل في آخر الكتاب.)
فقلت له: من أين استمد الإنسان أكثر الحكومات الحاضرة؟ فقال: إن الإنسان عاش مع الحيوان أمدا طويلا يتصارعان ويتجاولان، وقد ركبت فيكم صفات الشهوة لتعيشوا كالبهائم، وصفات الغضب لتدافعوا كالأسود، وصفات العلم والحكمة لترقوا وتسعدوا كالملائكة، ولكنكم يا معاشر الإنسان، لا تزالون مع الأنعام، ولا تقدسون إلا صفات الآساد.
فقلت له: إن فينا الأنبياء والحكماء والعلماء. فقال: أما أنبياؤكم فقد خالفتموهم، وأولتم كلامهم، وأما حكماؤكم فإن أكثرهم ساروا مع العامة، وعللوا ما وجدوه بلا بحث ولا تنقيب، كما فعل علماء اليونان في الأفلاك، وما قاله أرسطاطاليس في المذنبات، وداروين في السياسات، وسبنسر في المطعومات، وعامة علماء أوروبا في الصين واليابان. فدهشت إذ سمعت هذا القول، وعجبت كيف عرف أسماء الحكماء في الحديث والقديم. فقلت: أيها الصديق الفاضل، رعاك الله، أوضح لي ما ذكرت. فقال: أما علماء اليونان فإنهم لما رأوا قبة زرقاء، منظورة دائمة الوجود، قالوا: أنها لا تقبل الخرق ولا الالتئام، ولا الفساد ولا الفناء، وهي دائمة أبدا وأمدا. وهذا القول كذبته العلوم، وذهبت دولته، وانهارت سياسته، فأنت ترى أنهم عللوا الكرة السماوية كما يلتمس علماء البيان حكمة الاستعارة المكنية، وكقولهم إن الكواكب السبعة البهية توسطتها الشمس كما تتوسط شمس القلادة قلادتها، وهي أثمن جوهرة العقد في جيد الحسناء، إذ تكون في وسط الخرزات البهجات، أفليس ذلك عيبا في الحكمة وجهلا بالنظام؟ أما أرسطاطاليس فإنه علل النيازك والكواكب ذوات الذنب بأنها أبخرة أرضية، صعدت في جو السماء وصادفت الكرة النارية فاشتعلت فحدث الضوء المنير، وأنت تعلم سقوط هذا الرأي في العلوم العصرية، والحكم الكونية، والاكتشافات الحكمية.
وأما داروين فإنه لما نظر جمال الدنيا وبهجتها وزخرفها وحكمها ونظامها ووقف على غلبة الأسود للظباء، والعنكبوت للذباب، والذئب للدجاج، والقوي للضعيف، ورأى الأمم القوية تفتك بالضعيفة وتبيدها من الوجود، جارى ما يشاهده من الناس، فحكم بألا فلاح إلا بالغلبة والقوة والسلاح والكراع، فأخذت الأمم تجد في السلاح والمدافع والرصاص، وهو حق أريد به باطل، وصدق أريد به كذب، وستفهم فيما بعد أنه أخذ القضية من أحد وجهيها، ولم يحقق مقالته ولم يحكم حكمته، ولعل أنصاره هم الضالون، وإلا فكيف عاش الفيل تحت الشجرة، والعصفور فوقها والنمل أمامها، والصعو (الميكروب) في جسمها، والذباب يطن على أذنيها، والجميع في جو واحد، منعتهم من التزاحم حواجز طبيعية، أفلا تحجز الناس حواجز حكمية، ليطابق العقل الإنساني حكمة الكون العليا، ودرجته القصوى. ولم يكن هذا مذهب داروين وحده، بل سبقه به أبيقور اليوناني وهو يحدث عن العالم بطريق الحدس والتخمين، وهكذا ذكر هذه الغلبة العرب، ولكنهم لم يريدوا أن يجعلوها أساسا للسياسات.
أما بعض علماء أوروبا فإنهم حكموا على الصين واليابان قبل الآن، أنهم لا يرتقون إلا لدرجتهم الحالية «إذ ذاك»، وعللوا ذلك بزوايا الوجوه، وأوضاع الأنوف، وربما جعلوا للألوان أثرا في السياسة، فخاب ظنهم، وضل سعيهم، وكذبهم ما فعلته اليابان مع الروس، وما قام به الصين من العلوم العصرية، وهي الآن آخذة في الارتقاء ساعية جهدها إلى العلاء، وأما سبنسر فإنه لما أحس أن كثيرا من الناس قرم للحم، مغرم بأنواع الطعام، فضل أدنى الخصلتين، وذم النباتيين، وقال: إن أكل اللحم صفة الآساد والنمور، وهي أمتن قوة، وأعظم سلطانا، والأمم التي تأكل اللحم تقهر النباتيين، فكذبه أن قامت اليابان، وكذبته بأوضح برهان، فإنهم بالأرز مغرمون، وعن إكثار اللحم معرضون، وقوى حجة استكثار أنواع الطعام على المائدة، ليسهل هضمها ويعظم نفعها، ولعمرك إن هذا عكس ما قرره الأطباء، وبرهن عليه الحكماء. وإنما قرر ذلك مجاراة للزمان، ومسايرة للشهوات الهائجة، في البلاد الشرقية والغربية.
فالعادة كثيرا ما تضطر حكماءكم إلى أقوال غير صادقة، وتحملهم على قضايا لا يألفها المنطق، ولا تصدقها العقول العالية، والنفوس الشريفة الراقية. هذه قضايا حكمائكم، وآراء فلاسفتكم، يخضعون للعادات، وينقادون للشهوات، ومن منهم إلا حرض قومه على إهلاك غيرهم، وإبادتهم وتسخيرهم، وجعلهم سلما لسعادتهم، كأنهم خلقوا واسطة لغيرهم، وطريقا لحياتهم، وإن هم إلا بشر مثلهم، إلا أنهم هم الظالمون.
فقلت: أوضح لي نظرية سياسات الأمم اليوم إيضاحا شافيا، وأبن لي نظيرها في الموجودات المشاهدة، والمخلوقات الطبيعية الحية، وما برهان نقصها، وما سبب اختيارها وتفضيلها. فقال: لقد شاهد آباؤكم الأقدمون، وحكماؤكم السابقون أنواع النمور والأسود والصقور تعيش عيشة هنيئة، بتمزيق اللحوم، وتهشيم العظام، واقتناص الغزلان، وصغار الحيوان، فعمدوا إلى تقليدها، والسير على منهاجها، وقالوا: ما أهنأ عيش الأسود والنمور والذئاب، إن النمر يعتمد على قوته، والذئب والثعلب على خدعته، فتأكل اللحوم سهلة هينة سائغة للقانصين، وقلدوها في سياستها، وزاحموها في وحشيتها، واستمدوا قوة من سلطتها، فاتخذوا الكراع والسلاح والقنا والسيف، وأكلوا ثمرات غيرهم، واستطابوا عيشة النهب والسلب، وهذه هي القوة السبعية الكامنة في الإنسان، قام بها أسوأ قيام، أخضع لها العقل الملكي، فأخذ يدبر ليكون وحشا كاسرا، وقاهرا فاجرا. فقلت له: أيها السيد، بارك الله فيك، إن هذا ليس ظلما، إن السباع محددة الأنياب، شاكية الأظفار، والشواهين والصقور ملتوية المناقير، قد حكم عليها أن تعيش على لحوم الغزلان والأرانب وأمثالها. فتبسم، ثم قال: وهل هذه براهينكم؟ الأسد لا يأكل الأسد، وإنما يأكل البقر والمعز والضأن، وقد أعدها الخالق الحكيم طعاما للآساد، وما أقل الآساد! وما أكثر الأنعام والضأن والمعز! فأما أنتم يا معشر الإنس ، فإنكم تسخرون أبناء جنسكم بلا ضرورة تلجئكم، ولا حاجة تحرجكم، فأنتم مختارون غير مضطرين، والآساد مضطرة. على أن أكل الآساد وسائر السباع لحكمة بالغة، ونظام عجيب؛ ذلك أن تلك الحيوانات إذا بقيت رممها وجللت وجه الأرض تعفن الجو بأنواع الحيوانات الصغيرة المسماة بالميكروب فيعم الوباء، ويكون البلاء بفساد الجو، ففتك السباع حكمة منظمة مدبرة، على أنها لا تبيد هذه الأنواع، فهي باقية أبدا ما دامت الأرض والسماء، فقولكم: إن الأقوى يقهر الأضعف، كلمة حق أردتم بها باطلا، وصدق أردتم به كذبا، ونظام أردتم به خللا، وعلم أردتم به جهلا، إنكم يا معشر الإنسان ظالمون جاهلون.
أخبرني أي أمة من البقر حاربت أختها فأفنتها، ثم سخرت عجولها لأعمالها؟! وأي أسد اتخذ معه آسادا، ونظم جيشا فحارب آسادا أخرى وسخرهم لمعيشته؟! وأي كلاب جمعت جموعها فأرهقت الكلاب، وأيتمت الأجراء، وأرملت الكلبات؟! فقل لي أيها الإنسي، «أين الإنسان؟» فقلت له: إن النمل لتحارب وتأسر وتسخر نملا آخر في أعمالها. فقال: ويحكم يا معشر الإنس! وهل النمل أستاذكم؟ أتحققتم أن النمل الغالبة من جنس المغلوبة؟ ولعل الفرق بين الغالبة والمغلوبة، والبعد ما بين القاهرة والمقهورة في الشكل والإدراك، كما بين الإنسان والقرد، فيكون الغالب من غير نوع المقهور. ولعل هناك حكما لا تدركونها، وأسرارا لا تعلمونها، كالتي فهمتها الآن في نظرية الأسود والغزلان. يا أيها الإنسان، «أين الإنسان؟» ولئن ظننتم أن النمل القاهر والمقهور إخوان، فما بالكم تقلدون الحيوان في الضلال! فكيف تدعون أنكم أعلى مقاما، وأرفع منارا، وأهدى من القطا، وأرقى العالمين! وإذا كنتم تؤيدون نظرياتكم بأعمال الحيوان، وتدعون الصالح، وتصطفون الطالح، فخبرني، رعاك الله، كيف تدعون بأنكم أرقى الحيوان! «أين الإنسان؟» فقلت له: كيف تنكر سيادتنا ورفعتنا، ونحن الألى رفعنا منار العلم، وأقمنا بينات الهدى، وبنينا الدور، وشيدنا القصور؟ فقال: أي دور وأي قصور؟ إن الخطاطيف تبني، والعصفور وسائر الطيور، فحاصل ما تصنعون يشبه ما يفعله سائر الطير في الأشجار، والوحش في الفلا والقفار، ولقد عثر الباحثون عندكم على عنكبوت مائية، اتخذت لها بيتا تحت الماء لتعيش فيه، بحيث يوضع مقلوبا وتملأ قمته بالهواء، وهذه لم يتسن لكم إلى الآن الاهتداء إليها.
وهل أتاك نبأ كلاب البحر في أستراليا، فإنها تضع حواجز للنهر كذلك الذي تسمونه العرم والنجف، يخزن الماء ليكون حصنا على أبواب بيوتها الغاطسة فيه، ولكل بيت من بيوتها دوران أعلى وأسفل، فالأعلى للجلوس، والأسفل لخزن الطعام، على أنكم برعتم في الأبنية، وإنما ذلك لوقاية الأجسام من العطب والعاديات، وليس ذلك فضيلة فيكم، ولا فخر لكم، فأنتم فيه والحيوان سواء، فبم امتزتم عليه، يا أيها الإنسان.
لعلكم تفخرون بسكة الحديد، ورسائل البرق والبريد، وتسخير الحيوان، وعبور البحار بالسفن الكبار، واتخاذكم الأثير بالبريد البرقي المسمى تلغراف ماركوني، وإنكم أخذتم تصعدون الجو في السفن الهوائية المسماة بالبالون والمنطاد. ولعلكم تفرحون بتشييد الحصون، وتحديد السلاح، وتدريب الجند على الكفاح، وأن الأمم الغالبة تنزع السلاح من المقهورة، وتتخذها خولا وعبيدا، وترفع منها العلم، وتذيع الجهل، ليكون الأولون آسادا، والآخرون غزلانا وأرانب وخرفانا، فقل أين الإنسان؟ أوهذه عقولكم؟ أنا ما سمعت في كوكب من الكواكب السماوية التي سحت فيها سكانا شرا منكم، فأين الإنسان؟ أين الإنسان؟ أتدري كل ما به تفخرون وما أنتم عليه عاكفون، ذلك كله أعمال حيوانية، بل ألعاب صبيانية؛ فما سكة الحديد والقطار، إلا أنكم أوتيتم أرجلا سريعة أسرع من كل حيوان، وأن فرق ما بينكم في سرعة النقل وبين الإبل السريعة العدو لأقل مما بين عدو الأرانب والنمل؛ فأسرع قطار ليس أسرع من جري الجمال البختية مرتين. والأرنب أسرع من النمل آلافا مؤلفة. فقل لي: هل سرعة السير فضيلة جديدة؟ إذن كانت الأرانب إنسانا. بل إنكم قبل ركوب القطار منذ ثلاثمائة عام مثلا كنتم أبطأ من أكثر الحيوان جريا، فالأسود والنمور والبقر والغنم كانت أسرع منكم، فإذن هي الأرقى والأعز الأعلى، وأنتم تدعون الفضل عليها بالعقل لا بالسرعة والبطء، فلا ينبغي لكم اليوم أن تتبجحوا بقولكم القطار والبخار. ولئن سلكتم هذا السبيل، وسرنا معكم فيما تدعون، وقلنا: أنتم فضلتم الحيوان في هذه. فأي فضل لكم في شيء ليس يجلب إلا الطعام والشراب؟! فأنتم لا ترحلون ولا تحلون إلا لمواد حياتكم من الطعام والزراعة والتجارة والسياسة، وكلها لغذاء الأجسام وكسوة الجلود ودفع الأعداء، فلم تفضلوا بها الحيوان شيئا مذكورا، وما قلناه في القطار نذكره في البريد والرسائل البرقية، وإن هي إلا رسائل لمادة الحياة كما تعيش سائر الحيوان.
لندع التطويل ونرجئ إتمام البحث إلى مقال السيد جامون، فأنتم يا معشر الإنس اتخذتم الظلم عادة وفخرتم على سواكم جهلا وزورا، وقلدتم أسوأ الحيوان حالا، وأقله فضيلة، وإني ما رأيت شرا منكم في تدمير جنسه، وتسخير قومه وخدعه في قوله ونفاقه في عمله. فدعوا الدعوى والعظمة، واعلموا إنكم غير ما تظنون. فقلت له: ما لك رفعت ووضعت، ومدحت وذممت، قد أثبت أن نفوسنا تشابه الهواء في قبوله للرقي وحسن الصنعة، وتضارع المادة في تشكلها وترقيها، وها أنت تسومنا السوء وتضعنا في أسفل سافلين؟ فقال: نعم، يقول الله:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين
فعقولكم قابلة للسعادة، وأنتم حكمتم عليها بالذل والحرمان والهوان، إذ اتخذ قدماؤكم نظام حياتهم على قاعدة أن الإنسان أنواع، فقوم نصبوا أنفسهم للسيادة واتخذوا غيرهم عبيدا، فالأولون سباع والآخرون غزلان، ثم وجه الطرفان تعاليمهما على هذا المنوال، وتوارثوها جيلا عن جيل، ثم تحدث أمور تختلف فيها الوجهة ويقهر المغلوبون ويذل الغالبون.
الفصل السابع
لم نقرأ إلا سطرين سطرا من المادة وسطرا من العقل
ثم قال: ألا إن مثل عقولكم كمثل المادة كما أسلفنا، وإن المادة فيها سبعون ألف سطر من حكم عجيبة، وما قرأتم منها في السياسة إلا سطرا واحدا، ثم لم تفهموا إلا جملة من السطر، وهي: «يغلب الأقوى الأضعف»، ألم تر إلى ما أودع فيها من الحيوان والنبات والمعادن، وأنتم كل يوم تخترعون وتكتشفون، وكم من نبات لا تعلمون، إن الحشائش والأشجار المحيطة بمنازلكم النابتة في حقولكم كافلة لشفائكم، ولكنكم لا تعلمونها، ولو علمتم منافعها لكنتم أنعم بالا وأسعد حالا، وكم في خفايا الأرض وبطون الأودية وعلى رءوس الجبال من المنافع، والناس عنها غافلون، ولم يقرأ الناس إلا سطرا واحدا، وحفظوا منه في السياسة الجملة المشئومة المذكورة.
وأما عقولكم فإنها عنكم مستورة مغمورة بالقوة الغضبية، والشهوة الحيوانية، ولم تستطيعوا أن تتخلصوا منها، ولم يتضح لكم من عقولكم إلا سطر واحد، مكتوب من جملة سبعين ألف سطر في الحكمة والعلم لا تزالون عنها غافلين، فالمادة والعقل صنوان في الإبداع، وفرسا رهان في الاتساع، والسطر الذي قرأتموه من عقولكم تلك العلوم العقلية والآراء الحكمية، ومنه أنكم أخذتم تحلون معضلة السياسة وأنتم لا تشعرون. فقلت: وكيف ذلك؟ فقال: إنكم في سالف الزمان، سخرتم الأنعام، فأكلتم لحومها، ولبستم أصوافها وجلودها، وظننتم أن هذا غاية السعادة ومنتهى الرقي والمدنية، فلما كثرتم أيقنتم أن الأصواف لا تكسو عشر الإنسان وسائر دواب الحمل لا تقوم بحاجاتكم ولا تفي بمطلوبكم، فاخترعتم البخار والبريد البخاري والبرقي والأثيري «مركوني»، فذلك بلا ريب جملة فهمتموها من سطر من سبعين ألف سطر من حكم عقولكم، وستعين على حل مسائلكم السياسية بعد حين، كما أنكم زرعتم القطن فألبس سبعة أعشار الناس أثوابا وكساهم أردية، ولا جرم أن هذا الحل نهاية ما عرفه الإنسان، وأبرزه العرفان، وجربه الزمان. إنكم ما اتخذتم إخوانكم خولا وخدما، وأذللتموهم، إلا ليتمموا ما نقصه الحيوان من المنافع، ثم سلطتم أشعة عقولكم على المادة والنبات فألبستكم لباسا حسنا قطنيا، وأعطتكم بخارا وقطارا، فكفتكم بإرادة مبدعها، إنها لتكفل لكم الخير والنجاح، والعز والفلاح، إذا اتجه سائر نوع الإنسان إلى الطبيعة فذللها، وترك ذلك الجهل وذهب الكسل والخمول، والجور وظلم العالمين.
الفصل الثامن
أين الحكمة في المادة والعقل
فقلت: ما الحكمة في فوائد المادة إذا لم نعقلها؟ وما الفائدة في عجائب العقول البشرية إذا جهلوها؟ فقال: إن هذه المادة كلوح منقوش سطورا، فالحيوان يقرأ جزءا، وأنتم تقرءون سطرا، وسائر السطور يقرؤها آخرون في عالم آخر، أما عقول النوع البشري فإنها مستمدة من العقل العام المحيط بالعالم الفائض من علم الله عز وجل، وهذا العقل يحيط علما بالمادة وعجائبها، والعقول البشرية تطلع قليلا قليلا على ما أودع فيه من الحكم، ولئن ذبل نبات أو مات حيوان بلا فائدة ترونها، فهناك فوائد تجهلونها، ومتى تحلل إلى عناصره، وكر راجعا إلى مادته، لم يعدم خواصه، وإنما هي كامنة، فلا معدوم في هذا الوجود، وأنه لا عدم البتة، ليس يعدم إلا المظاهر.
فأما الحقائق فإنها كامنة راسخة، فالمادة فيها كل نبات وحيوان وإنسان، هكذا عقول نوع الإنسان، إنها تحفظ عناصر السعادة، وإنما يعوزها الاستخراج والإنماء، فمن نظر إلى زنجي وإفرنجي قال لأول وهلة: إن الأول من التراب، والآخر من معدن الذهب، وضل عن هذا الزاعم أن البذرة متحدة، واختلفت المظاهر بالتعهد والتربية، وما الإفرنجي إلا من أولئك البرابرة التتريين، قوم جاءوا من آسيا وأحاطوا دولة الرومان، ثم غلبتهم، وورثتهم علومهم ولغاتهم وقوانينهم، والمتوحشون أسرع قبولا للمدنية وأقوى أجساما، وترى الأرض التي بقيت بورا أمدا طويلا أنضر زرعا وأغزر شجرا من الأرض التي أنهكها الزرع والحصاد، فكيف يهرف فريق من العلماء بقولهم متوحشون ومتمدينون، ويحكمون جهلا على فريق أنهم لا يرتقون، وهم كانوا مثلهم في غابر الأزمان، فعقولكم البشرية لا تزال خاوية من الحكمة، واقفة في أول الطريق ولكنها على باب الهداية، إذ بدأتم تكشفون أسرار الخليقة، وستعتقون العقول من الرق، وتستخرجون كنوز الأرض النباتية والناموسية، فهي الكافلة بنجاحكم، والكافية لإسعادكم وإزالة العوائق المخترعة، ولتعلموا أنكم نوع واحد، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
الفصل التاسع
الفلسفة العتيقة والفلسفة الجديدة وكيف كان توزيع العقول على أفراد الإنسان والمنافع على
الأرض وكيف جهلها الإنسان
واعلم أن القضية العتيقة القائلة بأن الأقوى يغلب الأضعف وأن الضعيف أسير القوي، لا تنطبق على العصر الحاضر، فأبيقور المخترع لها، وداروين المقرر كانا في زمن، وأنتم أحوج إلى قضية جديدة، ولقد أبنا تفنيدها وشرحنا نقضها، والقضية الجديدة «العقل فوق القوة» وهو أضمن للسلامة، وأقدر على الكفاية، يغني الناس عن الحرب والكفاح، والمدفع والسلاح، إن الإنسان نوع واحد، وعقله أولى بكفايته، والمادة تكفيه شئونه، فليرح أخاه وليتحد معه على استخراج ما في الوجود من الحكمة، فمقال أبيقور وداروين مما يتلاشى مع الزمان، ويتغير بتغير الأجيال، ومثل هذا لا يناسب الأعصر الحالية كما سنوضحه بأعلى من هذا فيما بعد.
الإنسان ترقى في العلم، وانحط في الأخلاق، وسفل في الأعمال، لله در علماء الطبيعة والفلك، لله در الرياضيين، لله در علماء الحقائق، وما أجهل العقل السياسي في العالم، أمركم عجيب، استخرجتم المنطق فصدقت قضاياكم في أكثر ما استخرجتموه من الطبيعة، كمسألة أرشميدس وإضرابها كسائر القضايا الهندسية والحسابية، فنلتم كثيرا من العلوم. فقلت له: إن لدى أممنا نوادي علمية، وآثارا حكمية، وما من دولة أوروبية أو أمة شرقية إلا وضربت في العلم بسهم وأخذت من الحكمة بنصيب، وما منهم إلا له مقام معلوم، يحضون على الارتقاء والمحبة العامة والسعادة الإنسانية.
فسكت مليا وأشار إلى خادم حاضر، فما كان أسرع أن أحضر له خريطة زرقاء بهية، فنظر وتبسم ضاحكا. فقلت في نفسي: مم يضحك! لعله نظر في أحوال الأمم الوحشية، وهلا قرأ علوم الأكاديميات الأوروبية، ولو أنه استطلع حكمة الفرنسيين، وعلم الألمانيين، لخر على الذقن ساجدا، ولسلم لي، وأعظم قدري واحترم جنسي، فبينما هذه الآراء تخالج قلبي إذ رأيته أنفذ إلي سهام نظراته، ووجه شطري بواتر إشاراته، وقوارس عباراته فقال: أي الأمم الإنسانية أعرق في المدنية؟ وأيهن فتحت لكم أبواب السياسة، ومنحتكم أعطيات الحرية؟ فقلت: الأمة الفرنسية، فقهقه ضاحكا، فقال: لعلك راقك الأكاديمية! فقلت: نعم، وقلت في نفسي: ماذا عسى أن يقول؟ ووالله لقد نصرني الله عليه بأعظم حجة وأجل برهان.
فقال: لعله دهشك أنهم يعطون كل عام ما يقرب من ثلاثمائة ألف فرنك ثوابا وعطايا على الأعمال العلمية والاكتشافات الأخر، وإن هذا المقدار موزع على 78 قسما يتسلمها علماء الفنون المختلفة، وأساطين العلوم النافعة، أو تظن أن ذلك سعادة الإنسانية، وارتقاء الأمم الأرضية، ولعلك تقول أن ذلك المقدار من المال الذي لا هو في أي سنة مقطوع، ولا عن أي مجيد في العلوم ممنوع، دعا الناس للعمل وحثهم على التسابق والتنافس، وتقول لمثل هذا فليعمل العاملون، ولو أنك تبصرت في جلية الأمر، وتحققت خفي السر، لعلمت أن أكثر ذلك خدمة شخصية للأمة الفرنسية، فإن أكثرها راجع لتاريخها وآدابها ولغاتها وعظمتها وإسعادها، وليس للخدمة العامة من نصيب إلا قليلا كالتي وضعها «جوست» و«بلويه» و«زيجوا» وهي نحو ستة آلاف أفرنك، فللإنسانية العامة اثنان في المائة من أعمال أعظم أكاديمي في الدنيا، وقد أسسه السيد ريشليو وصي هنري الثالث لارتقاء اللغة الفرنسية، نعم هو الواضع وهو المقرر، فلم يتسن لخلفائه أن ينظروا في المنفعة العامة إلا قليلا، فليس لديكم ريشليو لنوع الإنسان، كما كان لفرنسا قبل نحو أربع قرون.
الأمم غافلة والناس جاهلة.
اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ، ما أجهل الناس، ما أبعدهم عن الحقائق، ما أقربهم إلى الوحشية، وأبعدهم عن الإنسانية، إنهم في غفلة معرضون.
فإذا كانت هذه فرنسا التي بها افتخرت وبعظمتها وفضلها احتججت، فكيف بالأمم التي عنها سكت، لا جرم أنهن أشباهها في الفضيلة، وأخواتها فى الأعمال العامة، فهلا جعلت أكثر الجوائز، وقدمت العطايا والنوافل، لأعظم القربات، وأرفع الدرجات، وهي المنافع العمومية، والسعادة الكلية، للأمم البشرية، ولو أنهم فعلوا ذلك لتقدمت الأمم الأرضية، وقامت الجمعيات الإنسانية، وكيف ينكصون على أعقابهم، ويرتدون عن أشرف أعمالهم العامة، وهم لو وجهوا هممهم إلى المنافع العامة لكملت سعادتهم.
لم لم يوجهوا عزائمهم لإقامة أمرين اثنين وإصلاح فاسدين: الأرض الزراعية، والعقول الإنسانية، كم في الأرض من قطع متجاورات، تصلح للإنبات، وهم يتحاربون، وأذكياؤهم عنها غافلون. ألم تر أن أكثر السودان لا زرع فيه وهو صالح للزراعة، والعراق والأناضول، وكثير من أرض الإسبان، وأراض كثيرة من البلاد الإنجليزية. أولا يعلم حكماؤكم أن كل قطعة من الأرض في أمة بارت ولم تزرع خسارة كبرى على سائر نوع الإنسان. أنا لا أقول قسموا الأرض الآن بالسوية، ولا أدخل معك في نظرية المال والعمل وما تفرع عنهما من الآراء والمذاهب الاشتراكية، فلذلك وقت آخر، وإنما أقول: كيف غفل علماؤكم عن الأرض؟ كيف تركوها؟ أويظن علماء الأمم جهلا أنهم لا يعنيهم شأن دولة أخرى وهي إذا بارت أرضها خسرت ثمرتها؟
ومن عجب أنهم يقدمون الحجج، وينفذون الأساطيل في اللجج، لحماية مجرم في السياسة، أو شاب أزهقته الحماسة، أولا يحمون الأرض من أن تبور، كما يحمون الرجل الحماسي من القتل، ألا إن الأرض أولى بالحماية، وأحق بالرعاية، فإنها يعيش بريعها الإنسان والحيوان. وهلا تحتج تلك الأمم القوية على من يدعون أبناءهم جاهلين، يتخبطون في دياجير الظلام، أوليس الجاهل ميتا؟ ألا إن ذنب الإهمال أشبه بجرم الإهلاك، ومن أهمل العقول الإنسانية أحق باللوم والتعنيف ممن أزاح الرءوس عن أبدانها، وفصل الأرواح من أجسامها. ألا إن من أهمل عقلا أو تعمد جهله، فقد حشر جما غفيرا إلى الحيوان، وأنزلهم عن مراتب الإنسان، وأماتهم موتة العار، وجعلهم من الفجرة الأشرار. ألا إن ذلك شر ممن أذاق النفوس كأس الحمام، وأوردها مناهل الإعدام، فالأولون يضلون، والآخرون مهلكون. ألا إن الهلاك الروحي والفساد الاجتماعي، شر مقاما من خسارة ألوف من نوع الإنسان. ألا إن الفساد العقلي ينمو بالاختلاط ويزداد بالاجتماع، وجريمة العدم قاصرة على محلها لا تتعدى جرمها، وجرمان أكثر من جرم، وويل أهون من ويلين، وعذاب واحد أهون من عذابين اثنين، فتبا للأمم الغافلة والعقول النائمة.
هلا علم عقلاء أهل الأرض أن خسارة عقل واحد في الشرق دمار على الغرب، وشقاء في الشرق يئول إلى خراب في الغرب، وكيف يسكت علماؤكم عن البحث في سائر العقول البشرية، أولا يعلمون أن المعارف الإنسانية موزعة عليهم بقسطاس مستقيم، إن الحديد والنحاس والقصدير وسائر المعادن، وضعت في الجبال وطبقات الأرض على درجات شتى كثرة وقلة، حسب الحاجة الداعية إليها بقسطاس مستقيم، فترى الذهب قليلا؛ لأنه ملك المعادن وأس القضاء في المعاملات والتجارات، وتليه الفضة القاضية في البيوع الجزئية، قل الذهب، ووليته الفضة، ولو كثرا في جبالكم ووفرا في معادنكم وفرة زائدة عن حاجاتكم ما صلحا للمبادلة، ولا أجزآ في المعاملة، وكثر الحديد والنحاس وغيرها لتقوم بأعمالكم، حكمة بالغة ونواميس صادقة، فهل جهلتم يا بني آدم فظننتم أن عقولكم وزعت على أجسامكم توزيعا مهملا وقسمت قسمة ضيزى، كلا ظن خادع ورأي سخيف، وكما أن الذهب غائر في طبقات جبال كثيرة، وتوزع في أقطار عديدة، وكذا الحديد والنحاس والقصدير، فهكذا العقول والذكاء والفطنة الداعية لاستثمار الأرض واستخراج منافع المادة من الهواء والماء والكهرباء.
ليس في الشرق ولا في الغرب من عقل إلا وهو موضوع لحكمة، ومجبول على فضيلة كعناصر الشجرة المخبوءة في البذرة. «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة»، فخيارهم في فطرهم المهملة خيارهم في عقولهم المتعلمة، لنعلم الأمم العالمة الجاهلة، لتقم مقام الأب الوصي لا مقام الجاني والسيد الظالم، لا تدعوا شبرا من أرض في كرتكم الأرضية بلا زرع، المجامع العلمية غافلة عن الحض على المنافع العامة إلا قليلا، وكيف يجهلون خسارة العقول البشرية، إنها لكم مخلوقة، إن عقلين أفضل من عقل، وأمتين فاضلتين أفضل وأنفع لهما من أمة عاقلة وأخرى خاملة، وأمم عاقلة وكرة أرضية أو كوكبية فاضلة عاقلة تكون أسعد سبعين مرة من أهل أرض أو كوكب جمعوا بين جهل وعلم وكمال ونقص، فهلا كان من الأمم حولكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض بترك زراعتها، وعن خراب العقول بتعمد إهمالها إلا قليلا منهم، وكثير منهم فاسقون.
يا أيها الناس اعقلوا، يا أيها الناس افهموا، لقد أفهمناك أيها الإنسي حال نواديكم العلمية في أعظم أممكم الغربية، وها هو أكاديمي فرنسا وأنتم جميعا عن الإصلاح العام في الأرض والعقول غافلون، إذا كان هذا شأن أكابر علمائكم فكيف بأغرار أممكم وجهال دولكم من عامتكم السفهاء وغوغائكم الضعفاء، إذ يتبعون آراء التخريب والتدمير والعداء والإيذاء، ألم يكفكم أن غادرتم العقول جاهلة، والنفوس خاملة، والأرض بائرة، بل تجاوزتم ذلك إلى ما هو أشد إنكالا وأفظع جرما وأدعى للعجب، فقد سعيتم ضد الفطرة على خط مستقيم، أوتجهلون ما أوصى به غلادستون الإنجليزي، وما نصح به غمبتا الفرنسي من ضرب، وما تلقاه الألمانيون عن وليم الملك وبسمرك الوزير من تدمير، وما أشار به غلادستون وبطرس الأكبر في الروس من تدمير، ليسود السلام.
إن أكثر الناس جاهلون، إن أكثر الناس يتبعون داعي الشر ونذير السوء، أنتم لا تزالون على الوحشية، ربوا أبناءكم جميعا على المحبة العمومية بحيث يكون ذلك في سائر الأمم الأرضية، تعاهدوا جميعا صفقة واحدة على زرع سائر الأراضي، فإن أعوزكم الزراعون فأنفذوا إلى الأمم ترسل من رعاياهم من يرغبون ويحتاجون، ثم ليتخذوا الأرض الجديدة لهم وطنا وليكونوا من الأمة الجديدة كما فعلت الممالك المتحدة الأمريكية، وليتجنسوا بجنسيتهم، وليدخلوا في جامعتهم، هذا يكون مبدأ السلام العام في الكرة الأرضية، لا تكونوا مع الجهال، لا تكونوا من الجهلة الأغرار الذين يكرهون نوع الإنسان.
أين عقول علمائكم، كيف يذرون النعم الأرضية، ويتحاربون حروبا سبعية. أضرب لك مثلا عن إهمال النوع الإنساني لعقله ولأرضه ولمائه، هذه مصر وسودانها، إن مصر لا تنال من النيل إلا نحو عشر مائه، وأكثر مائه ذاهب في الغابات السودانية، والأراضي الإفريقية، وفي مصر والسودان أجود الأطيان، تكفي أناسا عدد دولة الألمان والنمسا والطليان، فلو أن القطرين أوتيا حكمة وعلما وجعلوا لهم نظاما مسنونا، وقانونا معلوما، ودعوا من الأمم من يدخل تحت رايتهم، ويستظل بظل وطنهم، ويدخل في جماعتهم، ثم ينظمون الماء ويزرعون الأرض، ثم فعل مثل ذلك في كل أمة ودولة في مشارق الأرض ومغاربها لأصبح الإنسان في سعادة.
هذه أول سعادة الإنسان، ووراءها سعادة أخرى عالية ستنالها الأمم في أزمانها المقبلة، كم عند لوردات الإنجليز وأهل أمريكا من أرض جردت من الزرع ولا خير فيها إلا اصطياد الظباء في الخلوات، فلم لا يزرعون. قتل الإنسان إنه كان ظلوما كفارا، مسكين الإنسان وأي مسكين! ضلت أممكم، وجهلت دولكم، وطاحت العقول، وذهبت الرسوم، فلا سعادة لكم ولا هناء، فارجعوا عن غيكم، وثوبوا إلى عقولكم، وكونوا متحابين، وللعقول والأرض مصلحين.
ثم قال: انظر، فنظرت. فقال: ألا ترى إلى هذه الشجرة؟ (هي شجرة لبخ ذي منظر بهيج لا يشبه ما في أرضنا)، وقد وزع العصارة المجتذبة من الأرض على أوراقه وأثماره وحبوبه، ومنح كل ورقة قسطها، وأعطى كل أنبوبة حقها، وأهدى كل حبة أو ثمرة ما تحتاجه في الحياة، ألا لا يسعد الإنسان على سطح الكرة ما لم يصل إلى تقسيم أعماله على حسب الاستعداد والقوى والملكات، الشجرة ساق وفروع صغيرة وأخرى كبيرة وأزهار وأثمار وألياف وصمغ وشوك وورق، وكل ذلك له حد محدود من الأغذية والعصارات، فتوزع على كل منها ما يحتاجه.
أفليس الإنسان شجرة تفرعت، وأصلا نما، وجنسا انفلق إلى فصائل، والفصائل إلى أفخاذ كثيرة وأفراد متباينة، وكل له استعداد لعمل وصنعة، فلم لا يشغل كل فيما خلق له؟ خصصت الثمرات بغذائها الصافي والأوراق بعصارتها، والألياف بقوامها وقوتها، ألا فلتقم كل أمة من أمم العالم بما حدد لها من القوى والملكات، ألا لتوزع الحكومات على الأفراد الأعمال الإنسانية على سنة طبيعتها، أفلا ينظرون إلى الألوان كيف اختلفت، وإلى الأصوات كيف تباينت، وإلى العقول لم تشتبه، وإلى الأحوال المتقاربة المتباعدة، فليضعوا كل أمة فيما خصصت له، وكل فرد فيما يناسبه ويلائمه ويواتيه
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
الفصل العاشر
المنطق والأخلاق والسياسة
من عجيب أمركم أن السياسة لا حظ لها من المنطق، أين عقولكم، أين أحلامكم، إن الله منحكم عقلا واسعا، فلم ضاق نطاقه، ولا أشبهكم إلا بطفل أعطاه أبوه سلاحا فضرب به نفسه لجهله باستعماله. فقلت: وكيف ذلك؟
فقال: ألم تر أنكم أبيح لكم الزواج فأثقلتموه بالمهور، إما من جهة الزوج وإما من جهة المرأة، ألم تر أنه بحكم الاضطرار أبيحت لكم الملابس وحرمتم مما تمتعت به الطيور في أوكارها، والأنعام في مرابضها من الملابس الطبيعية، فذهلتم عن القصد الأول من اللباس ونظرتم للزخارف والزينة، وكم وشمتم الجلود، لتبحثوا عن جمال غير ما سنته النواميس الإلهية. فطرتم مختلفين عقلا وقوة، وقد أودع فيكم نظام العقول الكبيرة التي وضعها الله لتدبر شئونكم فتجاوزتموها، وعمدتم إلى وارثي الملك ولو كانوا جهلاء.
قضاياكم الاجتماعية وهمية، كثر الدجالون والخادعون فصدقتم وانقدتم، أليس العقل فوق القوة، فلم خضعتم لمن كثر ماله ولو كان جاهلا؟ وما لكم اتخذتم رجال الدين في بعض الأمم مقدسين! فما جاء الدين إلا للمساواة، ولا ضربت الدراهم إلا لتكون حكما بين الناس، ولا وضع الحكام إلا ليحكموا بالعدل، فدأبكم أن تحيدوا عن الصراط السوي وتنكبوا عن الجادة، إني أعلم أنكم خاضعون لقضايا وهمية، قد أشربت بها عقولكم، وألفتها نفوسكم، علموا سائر الطبقات من جميع الأمم، أن فيها من العقول ما يكفي حاجاتكم.
إنكم سجنتم في الأرض وحرم عليكم الفرار منها والابتعاد عنها، فلم يبح لكم أن تنفذوا في أقطار السماوات إذا ضاقت عليكم الأرض بما رحبت وضاقت عليكم أنفسكم، فالكرة الأرضية مقركم ومأواكم ومستودكم، ولو أن امرأ منكم فر هاربا من دولته لتلقفته الأخرى ولرمت به إلى دولته، وحرم عليكم البحر الملح أن تسكنوه، أو تجولوا في أقطاره، أو تصلوا إلى قراره، أو تقفوا على أسراره، مع أننا لا نرى أرضكم كلها إلا بحرا ملحا، وكرة من الماء الأجاج تفيض نورا على عالم القمر أضعاف ما يفيض هو عليها 14 ضعفا نوريا، وليس في الأرض مكان لسكنكم، أو مستقر لحياتكم إلا جزائر مختلفة القدر صغرا وكبرا لا تبلغ إلا ثلاثة أعشار كرتكم.
ثم هذه اليابسة منها الجبال والأنهار والأودية، يسكنها ملايين الآلاف من الطير والهوام والوحش والسباع، وأنتم أقل الحيوان عدوا وأضعفه بطشا، فأكثر الكرة مجهول لكم وهو البحار وبعض الأقطار، وأنتم وما معكم من الحيوان تقتتلون وتخادعون وما تخدعون إلا أنفسكم وما تشعرون.
عميت عليكم السبل، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، وضاقت عليكم أنفسكم، فلا ملجأ لكم ولا قوة إلا بأن تتحابوا وتتوادوا وتقوموا معا لتشتركوا فتفتحوا خزائن النواميس الطبيعية الأرضية والجوية والبحرية، فكيف تدعون أنكم أفضل الحيوان، وأنتم أقل منها إدارة ودستورا ونظاما، أفلا تكونون أفضلها عملا، وأعلاها سياسة، وأرقاها نظاما، ولن تنالوا هذه المنقبة إلا أن تتحابوا وتتحدوا، وليكن الإنسان أخا الإنسان، وكيف تحاربكم النواميس وأنتم متحاربون؟ وكيف تخادعكم الحوادث وأنتم فيما بينكم تتخادعون؟ وكيف تجعلون أنفسكم أجناسا وأنتم نوع واحد؟ أفلا تعقلون؟
الحقيقة المرة في مقارنة السياسة بالقضاء والتعليم
ثم قال: ألا أنبئكم بالحقيقة المرة. فقلت: وما الحقيقة المرة؟ قال: جهل الأمم بمثار المظالم ومناط الدمار والخراب. فقلت : أوضح المقال، ودع الإجمال. فقال: ما حال القضاء، وهل أنتم سائرون للعدل في العالمين؟ قلت: أن القضاء أخذ في الارتقاء منذ القرن الثامن عشر إلى الآن، فلعمرك ما حدثت الثورة الفرنسية الكبرى حتى ثارت الأفكار من مكامنها، واستيقظت العقول من نومتها، وهبت العقلاء لحكمتها.
ولقد كان القضاء في بعض الأمم موكولا لذمة القضاة، فعدل عن هذه الطريقة العتيقة وأصبح في القرن التاسع عشر مراعى فيه أحوال الجناة، معتبرين أنهم مرضى والقضاة أطباؤهم، والسجون مستشفياتهم، وكما أن الأطباء يداوون الداء بالعقاقير الطبية، والأعمال الجراحية، فهكذا أصبح من المقرر في الأمم الحية تشخيص داء الجانين، واعتبارهم مرضى أو معتوهين، وعلى ذلك وقف المذهب الطلياني، وزاد عليه المذهب الاجتماعي، فاعتبر الذنوب أمراضا اجتماعية، كالأمراض الوبائية، فمتى صلح المجتمع صلح العصاة، ومتى اختل أمره اعتل سيرهم، وضل سعيهم.
فالمذهب الاجتماعي في القضاء يرى أن الذنوب الجنائية ثمر ما زرعته يد الجمعية.
وكما أن الأشجار والأزهار والأثمار نتيجة البذور المبذورة والحبوب المطمورة، فإن كانت حنظلا أثمرت حنظلات، أو قمحا فسنبلات، أو نوى تمر فنخلات، فهكذا المجتمع إذا صلحت أحواله أو فسدت، وإن حسنت أو قبحت، فما الناس إلا أشجار بذوره، وأزهار شجره، وأثمار نخله وحنظله، ذلك مذهب أهل الاجتماع، وعلى ذلك يعاقب المجرم عقابا يشفع في تخفيفه الأحوال التي ألجأت الجناة، والضرورات المحيطة بالجنايات، ولقد أصبح السجن مدرسة المذنبين، ومستشفى الجانين، مما ألم بعقولهم، وأحاط بقلوبهم من الجهل والغواية، وروعيت صحة أجسامهم، ونظافة ثيابهم، ورقي عقولهم، وتشغيل أبدانهم، فالبطالة منبت الجرائم، وجرثومة الذنوب والعيوب والقذارة.
فقال: إذن أممكم الراقية اليوم تسعى للعدالة، وتهوى ارتقاء الناس للفضيلة؟ قلت: نعم، قال: ما شاء الله، وهز رأسه وضحك، ثم قال: لكنكم هدمتم ما شيدتموه، فخر عليكم سقف العدالة من فوقكم، وأتاكم عذاب الظلم من حيث لا تشعرون.
إذا صلحت المعدة صلح الجسم، وإذا اعتدل الدماغ اعتدل الإنسان، قادة الأمم ثلاثة ، حاكم عادل، وقاض فاضل، ومعلم كامل، فلئن صلح القاضي في محكمته، والمعلم في مدرسته، ولم يصلح الحاكم في عمله ضاع الإصلاح، وظهر الفساد، ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذوقوا بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.
الحكومة من الأمة كالرأس من الجسد، فإذا عدل القضاة، وصلح المعلمون، وظلت الحكومات عاكفة على ظلمها سائرة في غيها فالعالمون خاسرون.
قلت: على رسلك، أن القضاة يحكمون على الملوك والأمراء. فقال: فإذا طغى مجلس الأمة في دار الندوة على أمة إنسانية، أو ساقت الملوك جيوشها لظلم غيرها فهل يقاصهم القضاة، وتحاكمهم الشعوب التي اصطفتهم، أو تعاقبهم الأمم التي ولتهم؟ قلت: أما في هذا فلا، بل الشعوب ترضى عنهم، وتستمرئ مرعى ظلمهم، فإن الخير راجع لهم، والغنيمة مردودة عليهم. فقال: ما أجهل الإنسان! ما أجهل الإنسان! ما دامت أمة تستبيح قهر أمة ظلما وعدوانا فقد قتلت نفسها بالسكين، وضربت رأسها بمديتها، وجردت سيفها لقتل نفسها، فإنك تعلم أن الخلق ملكة راسخة، والناس أبناء عاداتهم، وصرعى سوء أخلاقهم.
وكما أن اعتياد الناس ذبح الحيوان أنساهم الرأفة على الإنسان فظلموه، هكذا إذا سفكوا دماء الأمم الأخرى، وظلموا من عداهم، فإن ملكة الظلم ترسخ في عقول نواب الأمم، وعظماء الممالك، ويتوارثونها جيلا عن جيل، وقرنا عن قرن، فيظلمون نفس أممهم، ويسقونها بكأسهم، ومن أعان ظالما سلط عليه، ومن سل سيف البغي قتل به؛ قال شاعركم المتنبي:
ومن يجعل الضرغام للصيد بازه
تصيده الضرغام فيما تصيدا
فويل للأمم من كبرائها إذا أغروهم على ظلم العباد، وهل أتاك نبأ أمة عظيمة، سلمت مقاليد سيادتها، ومفاتيح سياستها لطائفة من رجالها عرفوا بالمال والثروة، والعظمة والجبروت، وأمسكوا بسياسة العالم، وأصبحت الكرة الأرضية في أيديهم لعبة صبيانية، وقد فتح ذلك الشعب عينه فرأى أنه مقهور مغلوب، كما رأى آدم في الأحقاب الغابرة أنه وزوجه عاريان من اللباس.
ولقد علمت أن ذلك الشعب يحاول التملص من قبضة أولئك السراة، والتخلص من قفص أولئك السادة الولاة، إذا هو في شبكة من حديد، فقل لذلك الشعب: ذلك بما كسبت يداك؛ أغريت أولئك السادة على الفتك بالأمم الضعيفة، فاستمرأ لحمك مع اللحوم، وجعلك صيدا لطعامه، وفريسة لنهمه.
الحاكم من الأمة بمنزلة الأستاذ من التلميذ، وكيف يجوز في شرعة المنطق أن تجمعوا بين الضدين، وتعملوا بالنقيضين؛ تعدلون في القضاء وتحللون ظلم الأمم، والأمم الذين هم تلاميذ الحكومات يشهدون ويعلمون، وهل تصلح الأمم وسواسها فاسقون، ألا إن لصوص الأمم أكبر جرما من لصوص الأفراد، ومن ذا الذي يرضى لولده أن يقرأ الآداب والأخلاق على لص معروف، ألا إن الأمم اليوم رضيت أن تكون تلاميذ اللصوص السارقين.
قد نص علماء الأخلاق أنه لا يهتدي من جهل فظن الغي رشدا، وتفاخر بالجرائم وتباهى بالسخائم، فذلك لا يرجى برؤه عند علماء الأخلاق، والأمم اليوم فاخرة بظلمها، معتقدة حل نهبها، فلتعلموا الحكومات تصلح الرعايا، إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، إنما يصلح التعامي عن ذلك للأمم في أيام جهالتها، والعقول في نومتها، أما وقد انتشرت العلوم وكثرت الفنون فالعيون مفتوحة، وعيوب الحكومات عند الشعوب معروفة مشهورة، فلا صلاح للأمم ما لم تصلح الحكومات، فعلموا نواب الأمم وملوكها حسن السلوك مع الشعوب الأجنبية الأخرى تقلدها رعاياها فيما لديها من الأعمال، وما أوتيت من السلطان. هنالك آذنني بالانصراف، وحياني تحية الوداع، وقال: عسى الموعد أن يكون قريبا. فحييته بابتسام، ومضى بسلام، ونمت إلى أن انفلق عمود الصباح، فكتبت ما وعيت، وحفظت ما كتبت.
الفصل الحادي عشر
حكم في فترة اللقاء كتبتها في كناشتي
ظللت مضطرب الفؤاد مشغول القلب بقية شهر مايو ويونيو وبعض شهر يوليو سنة 1910 أتربص صديقي فلا يلقاني، واشتاق رؤيته فلا يراني، وكم ليلة أرقت وسهرت، وكم من ساعة خلوت وفكرت، ودعوت فلا سميع ولا مجيب، ثم أرجع فأقول، يا ليت شعري، ماذا أقول إذا أشعت الحديث بين الناس وأذعت هذا السر المكتوم، وما أدري أهذا يقظة أم منام، إن هذا الأمر لعجيب، ثم اشتعلت في قلبي جذوة نار الفكر والنظر، وكان كل شيء أراه أو أسمعه أو أذكره في هذه الدنيا يناديني: السلام السلام العام يا بني الإنسان، إنكم جاهلون، وصبيان غافلون، وكأنما الشمس بهذا تناجيني، والقمر يخاطبني، والزهر يحدثني، والنهر يناجيني، والطير به يغني، وكل جميل وعجيب يذكرني، فكتبت في مذكرتي تلك المدة ما أعرف من الحكم.
الحكمة الأولى
ذهبت إلى مدينة حلوان لأروح النفس وأفرج الهم بالهواء النقي، فلما أن جن الليل وأرخى سدوله نظرت السماء صافية زرقاء بهية، تبسمت فيها النجوم، وضحكت الكواكب، وأشرقت أكنافها، وكأن الكواكب تتناجى بالسلام ويسار بعضها بعضا بالكلام، منظر عجيب. فقلت: يا ليت شعري هذه النجوم في السماء آمنة مطمئنة متحابة متجاذبة، كل في فلك يسبحون، وفي منظرها الجميل عبرة وحكمة لعقلاء الأمم أن يتصافوا ويتحدوا ويكون بعضهم لبعض ظهيرا. الحيوان يعجز أن يدرك سر هذا الجمال وأدركه الإنسان، فأين المحبة وأين السلام، وأين رحمة الإنسان، وأين جمال العقول كما جملت هذه النجوم.
الحكمة الثانية
نمت في تلك الليلة وأنا في طرب من حسن سماء المدينة وجمال هوائها، فلما استيقظت صباحا وأشرقت الغزالة تغشى وجه الأرض بخالص ذهبها وأنا جالس في منزل جميل فيه روضة غناء ذات دومات تتغنى على أغصانها الأطيار، والرياح تهب على الأشجار، وتلعب بأغصانها، وتقبل أوراقها، وتضاحك أزهارها، فكنت أسمع لها غويرا وصفيرا وغناء مختلف النغمات، فخامرني الطرب، ولن أشبهها إلا بأجمل موسيقى، تنوعت نغماتها، وتداخلت أصواتها، واختلفت فنونها، وهي إلى الطبيعة أقرب، وكأن الموسيقيين في العالم نسخوا صورة من صور نغمات الأشجار عند هبوب الرياح، ثم قلت: لم أطربتني هذه النغمات، إن ذلك لتلاؤمها، وتحابها، وتوافقها، مع اختلافها قوة وضعفا، وارتفاعا وانخفاضا، ثم قلت: أفليس الإنسان موسيقى الإنسان، الإنسان أحق بهذا الاتحاد، لا عقل عند الهواء، ولا فكر عند الأشجار، والإنسان عاقل، فكيف حرم الموسيقى في السياسة، ونالتها تلك المخلوقات التي سخرت له إن هذا لعجب عجاب.
الحكمة الثالثة
جاءني خطاب من صديق لي في اليابان، فأجبته بخطاب وأودعته صندوق البريد، ثم هجس بخاطري، وخطر بروعي أن سائر الأمم والممالك تخدم خطابي وتوصله إلى اليابان.
إن الدول الأوروبية والممالك الشرقية وسفنها التجارية حافظة لخطابك، لولا السفن البريدية والطرق البحرية والعلوم الفلكية والسوق التجارية والمعاهدات الدولية ما وصل كتابي لليابان، أنا أضع الكتاب بفلوس قليلة، وأمم الشرق والغرب تحمله، الإنسان كنفس واحدة، اختلفت صورها، إن هذه الفكرة تدعو لتحاب الأمم واتحادها، ما السبيل وما العمل!
الحكمة الرابعة
دخلت زقاقا من أزقة القاهرة خاليا من المشاة والركبان فأحسست بوحشة وقلت: سرور الإنسان بالإنسان، فالحرب جهل، إنها تضاد المحبة العامة، ألا ساء مثلا المحاربون.
الحكمة الخامسة: ركوب الحمار
سريت ليلا إلى إحدى القرى، وأنا راكب حمارا، ومعي خادم، وقد أنزل القمر من لدنه فضة ذائبة ملأ بها الجو، وغشي بها وجه الأرض، وزين بها وجوه الأشجار والبحار والأنهار والمزارع والسبل، أخذ الحمار يعدو فوق جسر ممدود بجانب نهر جار، حتى إذا ركبت وتوسطت الطريق نزلت للسلام على صاحب سلم علي، فما أن أردت الركوب كرة أخرى تعسر علي ولم يكن لبرذعة الحمار من ركاب، وآنست هنالك منحدرا سهلا تنزل من الطريق إلى الأرض التي بجانبه، فأخذ الخادم بخطامه، وأنزله إلى المنحدر، وبقيت في أعلى الجسر، وركبت، فلما استويت على ظهره اعترتني دهشة، وقامت بنفسي فكرة، إني أيقنت أن في هذه سرا مكتوما مخزونا، إن ركوب الحمار على هذا المنوال يعرفه العامة والأطفال ليس أمرا ذا بال، ولكني أيقنت أن فيه سرا عجيبا وحكما وغرائب.
إن في ذلك لمثلين؛ مثلا أدنى، ومثلا أعلى.
أما الأدنى فأنك ترى الأمم العاقلة الرشيدة تنتهز فرصة نوم الأمم الجاهلة الضعيفة، فترسل لها شرذمة من قومها يسومونهم سوء العذاب، فيذللونهم ويحكمونهم ويتخذونهم خدما وحشما خاضعين، فالحمار مثل الأمم الجاهلة، والخادم مثل رجال حكومات الأمم القوية، وأنا مثال نفس تلك الأمم، ونزول الحمار للمنحدر مثل لخضوع الأمم الجاهلة.
أما المثل الأعلى فإن الإنسان له شهوة كالبهائم، وغضب كالسباع، وعقل كالملائكة، فالشهوة البهيمية ألجأته إلى الأكل واللباس، والشهوة الغضبية تظهر بالقتال والسلاح والقهر كما تفعل السباع والوحوش، والعقل به عقل النظام والحكمة والفضيلة، فإذا عقل الإنسان جعل الشهوة والغضب مثل الحمار، والعلماء والحكماء يقودون تينك الشهوتين، وإذن يركب العقل كما ركبت، ويجري في الطريق السوي كما جريت بحماري على الجسر قريبا من بوبسطيس «تل بسطه»، وإذن يضيء سنا قمر العدل على وجه البسيطة كما أضاء القمر السماوي تلك الليلة وأنا في فرح وسرور.
كم في العالم من علم ظاهر والناس عنه غافلون، هذه مسألة بسيطة سهلة، إنها مثال لما في العالم من الحكم، إن عقولنا فيها خزائن مفتحة الأبواب، وفي العالم من الجمال والبهاء ما لا يستطاع وصفه، إنه لحاضر وما منعنا أن نفقهه إلا الشهوات. السلام سهل وليس يعوزه إلا إرادة الإنسان، وما أقربه من الإنسان إذا أراد أن يعقله، ولو عقل لعمل، والسلام.
الحكمة السادسة: طير الكناري «عصفور»
جلست في بهو فسيح مزدان بجمال الأشجار ونضرة الأزهار، فسمعت تغريدا عجيبا وصوتا بديعا ما سمعت مثله ذا نغمات مطربة فرفعت طرفي إذا طيران أصفران صغيران يتغنيان، فسألت: ما هذا؟ فقالوا: كناري، فعلمت أنه ليس الخبر كالعيان، وما راء كمن سمع، وإن للسمع والبصر في النفس أثرا ليس للخبر، ولقد قرأت عن هذا الطير في كتب الإفرنج، فما أثر في نفسي تأثير سماعه، ولقد أدهشني أنه صغير الحجم عجيب الصوت، وقلت: يا ليت شعري لو أنا أخذنا حجرا مساويا لهذا الطير في الحجم، وقارناهما لوجدنا بونا بعيدا، وفرقا شاسعا.
الحجر والطير من الأرض وما عليها، كلاهما من المادة، إنه ما أحسن صورة الطير، ولا هندس رسمه، ولا أجمل صوته، وأودع جسمه هذه «الحكم التشريحية والطبيعية والكيماوية ونواميس الضوء والإبصار في عينيه وإدراكه ومخيلته وذاكرته وخزانة إدراك مصورة معانيه في عقله»، ما فعل ذلك كله إلا إتقان الصنعة. الحجر والطير المتساويان حجما كلاهما من المادة، وأبعد المسافة بينهما دقة الصنع والإتقان في أحدهما، وبساطته في الآخر، أفلا يكون هكذا الإنسان، ولعل الفرق ما بين الإنسان اليوم وحاله في مستقبل الأيام كالفرق ما بين الحجر والطير.
الإنسان اليوم يظلم الإنسان، ويغشه، ويكذب، ويثقل عليه، كما يثقل الحجر الساقط من جبل على السائرين.
فلعل الإنسان يصقل عقله بالحكمة، ويتوارى عن هذه المخازي والظلم، فيحلق في جو سماء الحكمة، ويتعامى عن الدنايا ويكون كطير الكناري جمالا في علمه، وكمالا في حكمته، ويطير في جو الجمال، وحكمة الصانع الحكيم.
التعليم يصل بالإنسان إلى نهاية كماله، يجمعه على أخيه بالمحبة، ويعلمه حب أخيه، يستخرج من قلبه نور الحب، ويشرق من وجدانه شمس الشوق والرحمة والعطف على سائر نوع الإنسان.
الإنسان اليوم لم يفهم نفسه، لم يبلغ رشده، لم يعقل جمال نفسه، فليتعلم الحب والرحمة والحكمة والفضيلة والإحسان.
الحكمة السابعة: الياسمين
زرت صديقا فأهداني باقة ياسمين، فآنست بهجة ونظاما، وحسنا وإتقانا، وجمالا بديعا، زهرة الياسمين ذات خمس أوراق بيض ناصعات، تقاربت أسافلها وتباعدت أعاليها، وشكلت أطرافها العليا هيئة شكل خماسي الأضلاع، منظم الأوضاع، بحيث لو قست ما بين رءوسهن للقيتها متساوية المقياس، إن فيها لجمالا، وإن عليها لبهاء، وإن فوقها لبريقا، عطرت الهواء بذكي ريحها، وسرت الجلاس والإخوان بأريج عبيرها، فما شبهتها إلا بالأرواح الإنسانية، لو أن الناس نقبوا عنها لاكتشفوا أسرارها، كما أدركوا أسرار البخار والكهرباء، وعناصر الهواء وأصول الماء.
الروح جميلة صافية مشرقة في أصلها أشبه شيء بزهرات الياسمين، أوراقها الخمسة العفة والشجاعة والعلم والعدل واحتمال الحوادث بثبات، وجمالها حبها سائر الناس، وريحها ينبث منها إلى ما حولها وعلى القريب والبعيد وسائر نوع الإنسان.
الإنسان أحق من الزهر بجماله ونضرته ونظامه، ولا دليل على اتصاف المرء بتلك الصفات إلا حب سائر الأمم والممالك شرقا وغربا وإلا فلا جمال ولا كمال.
الحكمة الثامنة: رجلان إفرنجيان
قابلت في شارع الموسكي بالقاهرة رجلين إفرنجيين، أحدهما أعمى يتكفف الناس، والآخر يحمل ورق القمار ليبيعه، فأثر ذلك المنظر في قلبي، وأشفقت عليهما، وقلت إنني أحس بعطف عليهما، إنهما من نوع الإنسان، من ذا الذي قال: شرقي وغربي وأمة وأمة، هذا العطف مركوز في الجبلة، مفطور عليه الأجنة، إنه كالأثير يغدو فيه الإنسان ويروح، وكالهواء يحيط بالإنسان، وكضوء الكواكب والشمس والقمر يحيط بالقلوب والأجسام.
من ذا الذي صرف الناس عن المحبة والإخلاص، أنا من النوع الإنساني، وذو عطف وشفقة عليهم، أفليست الأمم الرشيدة ذات عطف على أخواتها الجاهلات كما لدي، أوليست الأمة الجاهلة كهذا الإفرنجي الأعمى، أوليس الضلال عن الهدى في العلم كعمى البصر عن ضوء النهار، أفليس للأمم الرشيدة عطف كما عندي على الأمم الجاهلة، إني أراهم يدفنون هذا الوجدان في قبور أجسامهم ويعملون ضد فطرهم، وهم عن الحب معرضون.
الحكمة التاسعة: كان أوقد مصباحه ضحى
آنست حانوتا واسعا أظلم داخله، والشمس طالعة ضحى، والناس غادون ورائحون. فقلت هكذا نوع الإنسان، نظم جسمه، وأحكم تدبيره، ومنح الحواس والعقل، وسخرت له الأرض والنبات، وأطاعه الحيوان، وأبيح له البحر، وأمكنه أن يعيش خالي البال، فأخذ يتغالى في أحوال حياته، ويتمادى في سرفه حتى أظلمت سماء حياته بظلمات الظلم والعداوات والحقد والحسد والمدفع والنار، كما أظلم داخل هذا الدكان بالبناء الذي عجز ضوء الشمس أن يسطع بفنائه، ورد ذهبها الخالص أن يزور رفارفه وساحاته.
فليضئ عقله بضياء الحب والإخلاص لأخيه، كما أضيء داخل الدكان، وليدم على التهذيب والتأديب والتمرين على الحب حتى يساوي نور الحب الساطع في قلبه نور شمس السعادة المشرقة في الخليقة والمضيئة في الطبيعة الشاملة لسائر الكائنات.
الحكمة العاشرة: الفرس والعربة
شاهدت رجلا يسوق فرسا تجر عربة ووراءها ولدها، فخيل لي أن العربة الأمة المغلوبة، والسائق الغالبة، والفرس الآباء وولدها هم الأبناء، وأن الأمة الغالبة تسوم المغلوبة سوء العذاب، وتعطي أبناءها دروس الذلة والمسكنة بإذلالها الآباء، هكذا نوع الإنسان وهكذا كان.
الحكمة الحادية عشرة: الرضى
إن أحوال الناس متباينة، ولكل حال تباين حال الآخر، والمرء ما دام حيا يتطلع لما هو أحسن وأجمل، فليكن المرء راضيا بما هو فيه، ساعيا فيما هو أعلى بحيث لا يشوش الرضا على العمل والسعي، ولا السعي على العمل والرضا.
الحكمة الثانية عشرة: بم امتاز الإنسان
الإنسان يغتذي ويلد ويموت، والنبات غذاؤه الأرض والهواء والشمس والماء، والإنسان غذاؤه خالص نبات وحيوان وهما من الأرض، فلا فرق بين الغذاءين إلا أن هذا سهل بسيط وذاك صعب المطلب غير بسيط، فاللحم واللبن والخبز وأنواع الفاكهة أغذية الإنسان يعوزها الطهي والنضج وغيرها.
إذا افتخر الإنسان بالأغذية والمال والثروة فقد جهل، وكيف يفخر بما سعد به النبات! النبات ليس له أرجل يمشي بها، ولا سكك حديدية، ولا بريد ولا كهرباء ولا لغة التخاطب، هو غني عن هذا كله، إن حياته بما هو حاضر لديه.
الإنسان مهد السبل ونظم البريد لتتيسر له الحياة ويعيش، الشجرة لا تحتاج للشجرة، فلا تنتقل إليها فلم يتيسر لها أسباب النقلة، الإنسان محتاج للإنسان فتيسرت له أسباب النقلة وها هو صنع البريد والكهرباء، فليتحاب الإنسان، فليتقرب من أخيه، فليكونوا أعوانا ليستخرجوا من الأرض كنوزها، إلا أن الحرب تقطعهم، والحقد يؤخرهم، وربما لفظتهم الأرض، وجيء لها بقوم آخرين إذا تركوا مواهبهم وتحاربوا.
ألا إن معادن الأرض وفوائدها مخزونة إلى حين، فليحترس نوع الإنسان، وليقم في الأرض بالقسط، وليكونوا يدا واحدة في مشارق الأرض ومغاربها وإلا حقت عليهم كلمة العذاب وتفجرت الأرض نارا فأصبحوا فيها جاثمين كأن لم يغنوا بالأمس وهم هالكون.
الحكمة الثالثة عشرة: الكهرباء
لمع ضوء برقي تحت عجلة الكهرباء ضحى في حمارة القيظ فأشرق وأضاء سناها الأزرق المحمر بشكل عجيب جميل. فقلت: الحياة أعمال ومشاق والعقول تضيء وتسعد.
الناس اليوم في عداوة وعذاب أليم من الحرب والضرب، فإذا أضاءت عقولهم كما أضاءت هذه الكهرباء أغدقت عليهم النعم، وأصبحوا في سلام آمنين، النور الساطع الساعة من الكهرباء، والكهرباء في سائر الأجسام المادية.
إن الأرواح الإنسانية فيها كهرباء المحبة والمودة والجاذبية الإنسانية، فإذا اكتشفت تلك الكهرباء أضاءت للناس، وأسعدتهم وبدلت العداوة بالمحبة والمشقة بالسهولة، وحملت عنهم مشاق الحروب والأذى والنفقات العظيمة، كما حملت الكهرباء عن الناس أثقالهم، وأدارت آلاتهم، وحملت أمتعتهم، وخاطت ملابسهم وأضاءت منازلهم.
وإذا كانت المادة حاوية لهذه المحبة الكهربائية أفلا تحمل القلوب ما هو أجل وأبهى من أنواع الجمال والعشق والمودة الناجم عنها السعادات.
الحكمة الرابعة عشرة: أزرار صداري
ركبت الترام يوما وأنا لم أزر أزراري فأحسست ببرد فأدركت أني نسيت أن أزر الأزرار، وقلت: أيؤاخذ المرء على النسيان أو يعذب الناس على غفلتهم! إن هذا لعجب عجاب، غفلت عن زر أزراري، فكيف أؤاخذ على ما لم أعلم.
ثم أيقنت أن هناك فرقا ما بين الذنوب المادية، والآثام الروحانية، فالآثام الروحانية تكون على ما تعمدنا من الأعمال، والذنوب الجثمانية لا تذر قاصدا، ولا ساهيا، ولا ترحم جاهلا بها ولا عالما، فلها قانون لا تتخطاه، وحد لا تتعداه، فالأمم الجاهلة تذوق العذاب، وتسام الخسف من الله والناس وإن صلحت نفوسها.
فالتقوى قسمان؛ تقوى الأرواح وهي التي قررها الأنبياء، وتقوى الأجسام وهي التي تتبع النواميس الطبيعية المحدودة.
وأهل الأرض نوعان نوع أحكموا نياتهم وقلوبهم كالبراهمة والبوذيين من أهل المشرق الأقصى، وقوم أصلحوا أجسامهم، واتقوا مصارعها، وساروا على نهج النظامات الطبيعية في الأحوال المادية، ولم يلاحظوا من آداب أرواحهم إلا على مقدار ما لاحظ أهل الشرق الأقصى من أحوال أجسامهم، فاستهزأ الجثمانيون بالروحانيين، وعدوهم من الأنعام، وساموهم سوء العذاب، والطرفان ضالان، ألا إن العدل أن يتوسط الطرفان، ويصير وسطا في الجثمانيات والروحانيات، وإلا قامت قيامتهم وساءت حالهم أجمعين.
الحكمة الخامسة عشرة: الأرواح وتقاطعها وتواصلها
كنت في جماعة من الإخوان، ونحن جالسون في بهو، وهم مجدون في أعمالهم، منصرفون عما عدا أشغالهم. فقلت: إن لكل منهم شأنا يغنيه، ولا يعلم أحد منهم ما في نفس أخيه، ولا يحس بما يحس به، فهم أشتات متفرقون، ثم فكرت من وجه آخر وقلت: أنا أحس بما يؤلمهم، وأجزع لما يدهمهم، إذا أصيب أحدهم بحرق أو غرق أو فقد صديق أو جرح عضو أو خدش عرض، أأنا إذ ذاك لا أشعر بمصيبته ولا أتأثر لنكبته؟ كلا، فالناس جميعا يتراحمون ويتعاطفون ولو كان أحدهم شرقيا والآخر غربيا، ألا إن بين النفوس عطفا ورحمة يبرزها الفرح والترح كما تتقد النار في الأحجار، والكهرباء بالقدح والحركة، فهكذا المحبة العامة والسلام العام سيكونان بقدح زناد الآراء واستخراج شعور النوع الإنساني.
ما أجهل الناس اليوم، وما أجهل الإنسان، كان الإنسان لا يعلم الكهرباء إلا في الكهرمان عند حكه وفركه، فلما أن بحث عنه ألفاه مخزونا في كل معدن وهواء وماء، وهو يرى في قلبه رحمة على عدوه إذا أصابه ضر كما كان يؤانس آثار الكهرباء في الكهرمان عند فركه، وقد اكتشف أن الكهرباء عامة في سائر أنواع المادة، فما باله لا يكشف الستار عن هذه المحبة والعطف العام الذي هو به أولى، بل هو الإنسانية الحقة، بل هو النور الإلهي، والشمس المضيئة.
يا ليت شعري من لي بمن أتلقى هذه الدروس العالية عنه حتى أبلغها لهذا الإنسان، أين عقولنا؟ أين محبتنا؟ أين الجمال؟ أين الفهم؟ أين العشق العام؟ اللهم أنت المعلم، فإذا لم تفض علمك على قلوب عبادك في مشارق الأرض ومغاربها فإنهم في العذاب خالدون.
هذه خمس عشرة مذكرة مما كتبته في مذكرتي في الفترة التي مضت في شهر يونيو وبعض يوليو، وهنا تم الفصل الحادي عشر.
الفصل الثاني عشر
في الصعود إلى كوكب جديد فوق نبتون
في هذه الفترة تاقت نفسي لحل هذا المشكل السياسي في النوع الإنساني، نظرت في كتب الحكماء والعلماء فلم أجد حلا يشفيني، والأمم يقتل بعضها بعضا ويلعن بعضها بعضا، ورأيت علماء الأمم يضرمون نار العداوة والبغضاء إلا قليلا منهم كالعلامة هربت سبنسر الإنجليزي، والفاضل اللورد أفبري، والعلامة مركس الألماني والسيدة المستشرقة المدام لبيديف «جلنار الروسية» وأحزابهم و... الأمريكي وكنت الألماني، فأولئك وأمثالهم يحبون نوع الإنسان، ومن عداهم سائرون على هوى الفكر العام كأهل السياسة الذين لهم قلبان ظاهر وباطن، فتاقت نفسي لكشف هذه الغمة، وتمنيت لو يتاح لي شهود الصديق وهو الوجدان، حتى كانت ليلة الأحد من شهر يوليو سنة 1910.
فبينما أنا نائم في غرفتي إذ أقبلت تلك الروح البهية في نحو الساعة الثانية بعد نصف الليل، فأيقظني، فرأيته ساطع النور عليه ملابس فضية اللون ووجه كالشمس إشراقا، وقد صار أنضر حسنا وأبهج جمالا وأبهى إشراقا، فقال لي: قم لأريك هذا العالم البديع، وأطوف بك أكناف السماء، وأريك ما لم يقف عليه كثير من الحكماء، فقمت معه ولم أدر وما إخال إني سوف أدري أأنا في يقظة أم في منام، فسرنا في الجو لحظات، إذا نحن على سطح البحر الأحمر تحملنا سفينة، فنظرت إذا مركبة في الهواء تقرب منا رويدا رويدا، حتى إذا كانت منا قاب قوسين طلعنا فوقها وعلت بنا في الجو في لمح البصر وأنا أظنها القمر، فلما أن امتطيتها وهو آخذ بيدي آنست فيها أشجارا، وعليها عصافير تغرد بألحان شجية وهي ذات ألوان بديعة، وكأن أرضها قد رويت قريبا وهي مبتلة، أو كأن المطر قد سقتها، وأقلعت قبل أن تطأها أقدامنا، وما رأيت إنسانا، ولا حيوانا إلا تلك الطيور. فقلت في نفسي: إذا رجعت إلى أهل الأرض بشرتهم بأرض مباركة طيبة.
ما أسهل وصولهم إليها سأريهم هذه الأرض الواسعة الخالية من السكان فيعمروها ويقلوا من تناطحهم كما تتناطح الكباش والأعنز، وفرحت بهذه الأرض الجديدة، وقلت: متى يكثر الناس زرع الأشجار لتغرد عليها الطيور فتغتذي بالدود الآكل لشجرة القطن وغيره.
ثم أخذت أسأل صديقي الوجدان وهو أحب إلي من نفسي فلا صديق سواه ولا معين إلا حكمته وعلمه. فقلت: أيها الصديق رعاك الله، قل لي، أنحن الليلة في القمر؟ إن القمر ليس فيه هواء ولا ماء، فمن أين نبتت فيه هذه الأشجار فغردت عليها الأطيار؟ نعم إن في القمر جبالا شامخات وأودية واسعات، ولكنه خال من آيات الحياة وسمات الأحياء، إن القمر له دائرة لا يتعداها ومدار لا يتجاوزه فكيف تنزل من فلكه إلى سفينتنا فركبناه؟
إن ما شاهدته الليلة لا يرضاه العلم ولا تألفه العلوم الرياضية والفلكية. إنا قرأنا العلم والحكمة نحن أهل الأرض وعرفنا الكواكب والشمس والقمر ودرسناها حق دراستها، فلم نجد في القمر أثرا للحياة.
ثم رفعت بصري إذا جمال النجوم باهر واضح ورأيت من الأنوار والعجائب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولقد تجاوزنا مدارات الكواكب السبعة، وشاهدنا النجوم الثوابت بأحجامها.
ما أجهل الإنسان، إنا محجوبون عن رؤيتها في هذه الأرض ، فإذا صعدنا مسافات بعيدة نشاهد حركاتها العجيبة المدهشة.
وقفة لمشاهدة الجمال والعجائب بين سيار زحل وسيار أورانوس
هنالك أوقفت مركبتنا بغتة، وقال صديقي الوجدان، سل ما بدا لك الآن، وانظر عجائب الزمان، إنا في جو عجيب بين أنوار تتلألأ وجمال وبهاء، أرى زحل بحلقاته الثلاثة المحيطات به، أرى المريخ وهو محمر اللون يبهر الناظرين، لقد غشاني ما غشى من آيات الجمال والبهاء والنور البديع الساطع، وأنا أحس بجمال في روحي وبهاء في قلبي حتى خيل لي مشاكلة أرواحنا في جمالها لما يحيط بنا في ذلك العالم الجميل من المحاسن والأنوار، ثم أخذت أعيد الأسئلة على رفيقي. فقلت له: أنحن في القمر؟ وكيف تعدى دائرته؟ وكيف ينبت فيه الشجر، ويغرد الطير؟
نحن الآن في عالم الأثير ولا هواء في جونا ولا ماء، فكيف أحيا بلا هواء؟ إن الهواء لينقطع على بعد أقل من ثمانين كيلو مترا من أرضنا، ومتى جاوزناه متنا، فكيف حييت الآن في هذا المكان، وأنا ما بين زحل وأورانوس؟ قلت ذلك وهو يبتسم وينظر نظرة المحب الودود المتعجب من السؤال. فقال: ما أضيق دائرة علمكم يا بني آدم! أما علمت أن لكل مقام مقالا؟ ألم يقل شاعركم:
البس لكل حالة لبوسها؟ ... ... ... ... ...
قلت: نعم. قال: إنكم يا معشر بني آدم تقيسون العوالم بمقاييسكم الناقصة، إن أرضكم صغيرة منبوذة لا وزن لها بالإضافة إلى ما لا يحصى من العوالم السماوية، وقد خلقتم وصورتم من نسيمها وهوائها ومائها وعناصرها التي لم تعلموا منها إلا ما يقارب الثمانين، وهل تحققتم أنه لن يخلق خلق إلا على شرائطكم الأرضية، وعناصركم الكونية، فلا تتعجب من حال صرت إليها، ولا تقسها بحال كنت فيها.
إن لكم يا معاشر الإنسان أحوالا تصيرون إليها، وستعلمون أن الحياة ليست خاصة بأوضاعكم الأرضية، ولا محصورة في أحوالكم الحيوانية، فأنت الآن بين الأجسام والأرواح تسيح في السماء العلا مع السائحين، وتنظر مع الناظرين، فأما المركبة التي أنت عليها فليست قمرا ولا شمسا ولا سيارات ولا ثوابت، وإنما هي مراكب تعرج عليها الأرواح إلى عالم الجمال والبهاء. ثم قال: انظر ما حولك من الجمال قبل مغادرة هذا المكان، فآنست أرضا تجري جريا حثيثا وهي تتلألأ جمالا وحسنا لما يسطع من نور الشمس وبهائها عليها وحجمها عظيم كبير.
الأرض تجري مسرعة في الفضاء كأنها قلة المدفع، إن قلة المدفع تجري عشرة أميال في الدقيقة، والأرض تجري قدرها مائة مرة حول الشمس لتتم حركتها السنوية، وتجري حول نفسها قدر القلة مرة ونصفا، وهي مع الشمس والسيارات يجرين حول كوكب مجهول بسرعة القلة ثلاثين مرة.
لعمرك لقد هالني ذلك المنظر، منظر حركات الأرض الثلاث تدور حول نفسها كهيئة النحلة في لعبة الأطفال، وهي بنفسها وهيئتها مندفعة تجري حول الشمس أسرع من القلة مائة مرة، حركة عظيمة، وهذا المجموع الشمسي مسخر مسكين كأنه أرض تجري حول كوكب مجهول، يجري قدر القلة ثلاثين مرة. أدهشتني الأنوار، وغشت على عقلي عجائب الحركات، نظرت أسفل إذا زحل يحيط به حلقاته الساطعة الجميلة، وهو يجري حول الشمس كأرضنا، وسنته 29 سنة، والمريخ وهو كبير الحجم، عظيم الجرم، أكبر من أرضنا 1200 مرة، ولقد تعجبت من الأقمار الساطعة، البديعة البهية الدائرة حول المريخ، فهناك قمران جميلان طالعان، وعجيب أمرهما، وبهي نورهما، ولما رأيت أقمار المشتري الأربعة زاد تعجبي، وما كنت أظن أن في العالم أقمارا غير قمرنا، ولو جاز ذلك لكان قمر واحد.
فلما أن اطلعت على أقمار زحل ألفيتها ثمانية، فزاد تعجبي، فما أن نظرت أورانوس وأقماره الأربعة شاهدت ما لم يخطر على بالي، رأيت أقماره تدور على شكل عجيب، تدور من الجنوب إلى الشمال، فقمرنا الأرضي يسير حول الأرض في الاتجاه الذي فيه حركتها من المغرب إلى المشرق، فأما أقمار أورانوس فإنها تدور على زاوية قائمة، فإذا جرى في حركته من الغرب إلى الشرق دارت أقماره من الجنوب إلى الشمال، حينئذ أيقنت أن العوالم السماوية منوعة السير، كما تنوعت أشكال الأجسام الحية على سطح الأرض.
العدل والنظام
والأمر الجوهري النظام والعدل، لم أر كوكبا حاد عن خطته ولا شمسا غادرت فلكها، ولم تختل حركة الأرض اليومية ولا السنوية ولا حركة المجموعة الشمسية.
المشتري يجري حول الشمس مرة كل 12 سنة، وزحل يجري مرة كل 29 سنة، والزهرة تتم دورتها في 23 يوما، والأقمار كلها دائرة دورا منظما.
وهنالك قلت: يا الله، إن نظامك جميل، إنك لعدل، ما أجمل الكواكب! ما أبهى النجوم! وما أبدع حركاتها! لا خطأ فيها، مع شدة سرعتها، إن هذا لعدل، إن هذا لهو الميزان، فلماذا رأيت دول الأرض ظالمين؟ أرواحنا تحب هذا الجمال، إني له لمن العاشقين، فأين العدل؟ أين العدل؟ جملت النجوم، وجرت بقسط ونظام وميزان، وجملت أرواحنا ولكنها سارت على غير هدى، يا رب إن ظاهر النجوم يوافق باطنها، ظاهرها الجمال، وباطنها الحركات المنظمة، ونحن في أرضنا كلنا طلق المحيا باسم مرض أخاه، ولكن الأفئدة مملوءة حقدا ودغلا وغشا، إن الإنسان لظلوم كفار، إنه كان ظلوما جهولا، اللهم إني لا أرضى هذا الزور والبهتان، اللهم لا حياة ولا سعادة إلا بالصدق والفضيلة.
ما لي أرى أكابر الأمم وسواسهم يقولون الإنسانية وهم مجمعون على جشعهم، وكأنهم جهال، بعض أهل التدين يترنمون بما لا يعلمون، أو يعلمون بما لا يعملون، هذه بلية الإنسان، افترى عليه رؤساؤه الدينيون، وكذب رؤساؤه السياسيون.
وهنا قارنت ظاهر الإنسانية وباطنها بظاهر النجوم وباطنها، فحرت في ذلك وقلت: لأسأل صديقي الوجدان، عسى أن يشفيني بالجواب، فلما أن طفقت أسأل صديقي ابتدرني قائلا: انظر، انظر، إذا سحابات مكورة مزرقة مبيضة تجول في أنحاء الجو فأقبلت إحداهن إلينا، فامتطيناها، وقلت: باسم الله مجراها ومرساها، فلما استوينا على ظهرها تأملتها، إذا باطنها ناعم أملس لون ماء نهر النيل، حتى حسبته ماء، ثم تبين لي أنه منطاد لطيف ومركب جميل مرصع الحافات بالجواهر، والأحجار الثمينة من الزمرد والمرجان والدر، وما لا يبلغ الواصفون صفته، وهناك أحجار عجيبة بهجة باهرة للناظرين، فسارت بنا تخترق الآفاق. فقال: انظر، إذا نجم نبتون، وهو يجري بسرعة لا نظير لها حول الشمس، ثم أبصرت سيارات كثيرة ونيازك وذوات أذناب لا أحصي عددها، كلها دائرة حول الشمس.
ثم قال: ارفع رأسك وانظر، إذا هناك نجوم تسمى الثوابت لا تجري حول الشمس. فقال لي رفيقي: كم عدد النجوم التي أدركتموها بآلاتكم المقربة «التلسكوب»؟ قلت: إنها مائة مليون. قال: انظر، فنظرت إذا النجمة اليمانية وهي أضوأ من الشمس خمسين مرة وهي أبعد عنا بما يقاس مليون مرة ببعد الشمس، فالمسافة التي بين أرضنا وبين الشمس المقدرة بنحو 90 مليونا من الأميال تتضاعف مليونا مرة في بعد النجمة اليمانية، فزاد تعجبي، ورأيت نجما آخر أضوأ من الشمس 400 مرة وآخر أضوأ منها 1000 مرة، والأعجب من هذا كله نجمة «أكتروس» فهي أضوأ من الشمس 8000 مرة، وتجري في الثانية 355 ميلا، فحينئذ بهرت وغشي على عقلي، وبقيت في سكون تام لا حراك لي مما اعتراني من الدهشة والحيرة، فأيقظني صديقي الوجدان، وقال: سل ما بدا لك الآن.
يريد بذلك أن تزول حيرتي، وتذهب وحشتي، ويؤانسني. فقلت: أليس النظام واحدا؟ أليس عالم الإنسان تابعا لهذا الجمال البديع؟ فمن أين جاء له الفساد؟ وكيف يقولون ما لا يعلمون، ويبطنون ما لا يظهرون؟ هل يعم النظام والجمال هذه العوالم العالية البديعة، ويذرنا نتخبط، ويقتل بعضنا بعضا، ويطعن بعضنا بعضا، ونحن في الحياة معذبون ظالمون جاهلون، أما أنا فلا أعتد في الحياة إلا بالجمال والنظام والصدق، فأما إذا خالف الظاهر الباطن، والعمل القول، فما أسوأ الحياة! وما أجهل الكاذبين المنافقين!
أين السعادة؟ أين الحياة؟ ما أحقر أخلاق الأمم! ما أضل سياستهم! ما أجهلهم! يا بني آدم تعالوا معي، تأملوا هذه الحكمة، اعجبوا من القسط والعدل. فأجابني الصديق قائلا: إن الله عز وجل نظم هذا العالم وبث فيه خلائق وجعلكم أنتم خلائقه في الأرض، ولقد علمت مما شاهدت الآن أنها ذرة صغيرة من العوالم، بل إن مائة المليون من النجوم التي شاهدتها الليلة وعرفها علماؤكم إنما هي ذرة مما لا يتناهي من العوالم المحيطة بكم، ولا أحد يحيط علما بعددها، وإني قابلت سكان النجمة اليمانية، وسكان القطبية التي لا يصل ضوءها لكم إلا في خمسين سنة، فألفيتهم يعلمون من النجوم أضعافكم بملايين الملايين، وهم يعترفون بأنهم لا يعلمون من العوالم إلا ذرة صغيرة، ويقولون: وما أوتينا من العلم إلا قليلا.
فأرضكم على هذا القياس كرة حقيرة جدا، ليست شيئا مذكورا، وقد جعلتم خلفاء الله على ما عليها من الحيوان؛ لأنكم أنتم الأعلون الراشدون، وما منعكم أن تكونوا صادقين إلا أنكم إلى اليوم لم تكتشفوا عقولكم، ولا تزالون على أخلاق الحيوان.
إن الله وضع نظاما لكم جميلا يضارع نظام السماوات، يشاكل القسط والعدل في هذه العوالم، لا خلل ولا فساد، ولكنكم لا تزالون صبيانا وأطفالا، وإني أخاف إذا شرحت حالكم يشغلك عن النظر في جمال هذا العالم، وإني سائر بك إلى كوكب من الكواكب السائرة حول الشمس كأرضكم، لم يعلمه علماؤكم، ولم يكتشفه علماء فلككم، لنرى نظامهم وحكوماتهم، وسياساتهم، وتسمع دروسهم، وتلقيها على إخوانك الشرقيين والغربيين.
اعلم أن أهل الكواكب الأخرى ينظرون إلى نظامكم نظر الاعتبار، ويقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، إذ أنقذنا من الجهل الذي وقع فيه هؤلاء الغافلون، وتراهم يعلمون صبيانهم في مدراسهم العدل بمشاهدة وقائعكم الحربية المصورة في مدارسهم، ويمثلون أحوالكم وأخلاقكم أمامهم ليعلموا ما هم عليه من النعم والحبور، والسعادة والهناء، وينهجون نهج العدل كالنظام السماوي.
فقلت له: إنا نحن أفضل العالمين. فقال: نعم، لكن بفطرتكم وعقولكم التي سيزول عنها الغشاء، ويزاح الغطاء، وتكونون أحسن حالا وأنعم بالا، كل ذلك ونحن نخترق العوالم ونشاهد بدائع الجمال، ومحاسن النجوم، حتى أقبلنا على كوكب بهيج جميل فألقينا به عصى التسيار، ووقف السحاب على سطحه واستقر.
أربعة آلاف أمة صادقة السياسة
فوق سيار جديد وأسئلة سياسية عجيبة ورأي اجتماعي جديد
هنالك نزلنا فوق سطح ذلك السيار الجديد الذي فلكه فوق فلك نبتون، وقد قال لي صاحبي: إن علماءكم لم يكتشفوه للآن، فنظرت إذا أرضه كأنها فضة نقية محلاة بأشجار باهرة بيض، وأخرى خضر وزرق مختلف ألوانها، وصفر وحمر باهرة، وهناك من الأزهار والأشجار ما يبهر الألباب، ولم أر شجرة تشبه أشجارنا، ولا ثمرة تضارع أثمارنا، وكل شجر فيها عطر أريج عجيب بهي، والأنهار تجري بما يشبه الماء وكأن حصباءها الدر والياقوت والمرجان، وكأنما جمالها جبال.
وقد كنت أظن ألا أحد من العقلاء هناك، إذا صديقي يقول: هل لك أن تشاهد «نادي الأمم»، فأدهشني هذا القول، فقلت: وهل هنا أمم؟ فقال: نعم، إن على هذا السيار أربعة آلاف أمة، كل أمة تبلغ مقدار الأمم التي على سطح أرضكم. فقلت: بخ بخ، وكيف يكون لهم مجلس واحد؟ فقال: نعم، إنهم عقلاء راشدون، فلا تتعجب، وسترى، فسرنا وقد هبت الرياح، وتغنت الأشجار، وغردت الأطيار، فكنت في حال أشبه بالسكر لما رأيت وسمعت هناك في أصوات الأطيار من المغاني ما لا أذن سمعت، بل إن حفيف الأشجار له نغمات لا يعادلها على وجه الأرض رنات المثاني.
وإذن تذكرت إخواني الآدميين، أنى لهم أن يسمعوا وينظروا ويفرحوا ويروا من آيات الله الخافية في نفوسهم، فأخذ بيدي وسرنا حتى انتهينا إلى قصر عظيم يبلغ اتساعه مقدار مساحة ألمانيا، إذا رجال عظام الجثث جالسون على كراسي من الذهب والفضة والزمرد والياقوت والمرجان والجواهر والبلاتين والماس وغيرها مما لا أعلمه في الأرض من كل جميل الصنع بديع الإتقان، والقصر مبني بآجر الجواهر والماس، وقد رصع بالياقوت والمرجان، وهو مزين بالبساتين البهجة البديعة الشائقة العطرة الحالية بالثمر، وهذه الجواهر الموصوفة ليس منها ما يشبه ما عندنا، وإنما دعوتها بهذه الأسماء لضيق نطاق اللغة أن تحيط بما هنالك، وإنما راعيت الأشكال والأمثال وقرب الدال من المدلول، فلما أن دنوت من النادي رأيت قامتي لا تصل ركبة أحدهم، فأعظمت أمرهم، وانزويت في ركن، وخجلت من ضعفي وأنا أشاهدهم.
ولقد عجبت كيف يحيط مرأى بصري بجمعهم المحتشد، وهم على كراسيهم جالسون، مع أنهم مئات الألوف، وكيف يسمعون صوت الخطيب جميعا، فأيقنت أن هواءهم وضياءهم على غير نظامنا مخالفان لما في جونا، فلما رأوني نظروا إلي متعجبين، ورنوا بلحظاتهم لي رامقين، وكأنهم لم يروا في أرضهم حيا على شاكلتي، ولا مخلوقا مثلي في صغر الجثة والأوصاف، فلذلك هم متعجبون ، فأخذوا يكلمون صديقي، وأخذ يترجم. فقالوا: من أي الكواكب أنت؟ فقلت: من الأرض. فقالوا: أي حيوان أنت؟ فقلت : الإنسان. فقالوا: صف لنا أحوالكم الاجتماعية. فقلت: إننا أمم منا المتوحشون ومنا المتمدينون الأعلون. فقالوا: صفهم. فقلت: المتوحشون قوم ليسوا في رغد العيش، ولا يحسنون الصنائع ولا الزراعة ولا التجارة ولا السياسة، بل هم في ذلك قليلو البضاعة، وليس عندهم قطار البخار والحديد ولا الكهرباء، ولا يحسنون من السياسة إلا قليلا.
فقالوا: صف لنا المتمدينين. فقلت: هم الذين نظموا مدنهم، وأقاموا العدل بينهم، وترقت صنائعهم وأحوالهم، وأصبحت بلادهم كجسم إنسان واحد فيه شرايين السكك الحديدية وأعصاب الرسائل البريدية، وعمموا التعليم، ونظموا المدارس، وأحكموا فن السياسة، إذ تقوم طائفة منهم بنشر لغتها وتجارتها ونفوذها، ويقولون: ننصر الإنسانية، ونقوم بحق البشر ونعدل في الرعية، ثم يسطون على الأمم الجاهلة فيمنعونها أن تنشر نور العلم بين ربوعها، فيتخذون طريقين متناقضين، وسبيلين مختلفين؛ يقولون: نحن نريد نفعكم، ولكنهم يخفون ما في أنفسهم، إذ يريدون أن يتخذوهم مسخرين مذللين لهم، كما يذللون الأنعام، وقليل من الأمم من صدقت نيته، ووضحت حجته، وبانت طريقته.
إذ ذاك رأيتهم جميعا مبهوتين، وظهرت على وجوههم سيماء الإنكار، ثم قالوا: أفليس لأولئك المقهورين قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، أو عيون يبصرون بها، كأولئك الغالبين الكاذبين الحيوانيين؟ قلت: نعم، ولكنهم يسطون عليهم بالسلاح والحديد والبارود والمدافع فيميتونهم. فقالوا: أرنا أظافرك، فأريتهموها. فقالوا: يا هذا، إن عقلك منع ظفرك أن يطول. فما فهمت قولهم، ولا عرفت رمزهم. فقالوا: أتعرف السباع والنمور والضباع والآساد؟ قلت: نعم. قالوا: هذه لها مخالب وأظفار وأنياب تنشبها في فريستها وتنفذها في قنيصتها؟ قلت: نعم. قالوا: فأما أنتم فقد قصرت أظافركم، وطالت عقولكم؟ فقلت: نعم، وبهذه العقول صنعنا الأسلحة، وصرنا أشد بأسا من الحيوان، وأقوى فتكا من السباع، فإذا كان لها ظفر طبيعي، فإن لنا أظفارا صناعية أقوى منها أضعافا مضاعفة.
فعند ذلك تبسموا ضاحكين، وسخروا مني هازئين، وقالوا: يا هذا أنت تقول أنك إنسان؟ قلت: نعم. قالوا : فكيف انقلبت أسدا؟ ألا إنك أشد منه فتكا وأظلم منه نفسا، فهل الإنسانية هي الأسدية؟!
إنا نظن أنكم ما قرأتم الحكمة ولا الفلسفة، ولا تعلمون أن المراتب ثلاث، الشهوة البهيمية، وقد غلبت في آكلات الحشائش والطيور التي لا تأكل اللحوم. والقوة الغضبية، وقد وضحت في الآساد والسباع، والقوة العقلية، وقد ظهرت في أعلى الحيوان وهو الإنسان. وأنت تزعم أنك منهم، ولكنك وصفتهم أسوأ وصف، إنما أنتم أكبر الآساد، ولستم من نوع الإنسان.
فقلت: ولم خلق لنا العقل؟ فاستهزءوا بالقول، وقالوا: اسكت أيها الأسد. فقلت: أنا لست من الأمم الظالمة. فقالوا: ألست من الإنسان بزعمك؟ قلت: نعم. قالوا: وما جاز على أحد المثلين جاز على الآخر، فكلكم آساد، وأنتم في الشره والطمع أنداد، ثم أعرضوا عني واستكبروا، وولوا وأدبروا، ولووا عني كشحا، وأخذوا يتشاورون، وأنا من الخزي في عذاب أليم، فشاهدت من آيات العدل وحسن النظام، والصدق في القول ما لا يحلم به أهل الأرض، ولكني كنت واجما كئيبا لما أخجلوني، ولقد فطن لذلك صديقي الوجدان، فلما كانوا في فترتهم أخذ يخاطبهم، قائلا: لا تسفهوا رأي هذا الإنسي، ولتعلموا أن لديهم شرائع وسننا، وأحكاما وحكماء، وعلماء وأنبياء هدوهم إلى الصدق، وأرشدوهم إلى الحق، فانبرى إلي أحدهم سائلا، ما فعلته فلاسفتكم؟ وما الذي به يأمر أنبياؤكم؟ فما أتم كلمته حتى استيقظت، ووعيت ما دار من الحديث فكتبته في مذكرتي.
كان ذلك ولا علم لأحد من الناس بما وعاه قلبي، أعاشر الإخوان، وأمازح الأصدقاء، وأسايرهم، وأكتم ما يهجس بخاطري من هذه المعاني، ثم أخلو بنفسي في اليقظة سائلا: كيف السبيل إلى السلام العام؟ وماذا يساعد عليه؟ لله أولئك الذين يقابلونني ليلا يقصون علي حديث مدنياتهم الزاهرة، ويقولون: إننا نطيق أن نفعل كما فعلوا، فهل من سبيل إلى ذلك؟
الفصل الثالث عشر
في المذكرات
المذكرة الأولى
بينما أنا سائر يوما بساحة عابدين بالقاهرة إذ لمحت شجرة نخل ذكر، فأخذت أجيل النظر في أحوال الذكران والنسوان، وتأملت تلك القضية في النبات والحيوان، وقلت: إن الناس فيما مضى لم يميزوا بين الذكر والأنثى إلا في الحيوان والإنسان، ولم يدركوا التفرقة بين الصنفين إلا في النخل خاصة، ولقد أصبحوا اليوم يعلمون الذكران والإناث في سائر أنواع النبات، فما من نبات إلا وقد جمع ما بين الذكور والإناث، تارة في نبات واحد كالذرة والقمح، وتارة في مكانين، كالنخل وهذا أمر مشهور معلوم.
أولا ينبغي أن تكون هذه نفسها حل مشكلة العالم الإنساني في اجتماعه، ومبدأ نظامه في حياته، إن تعداد الذكران من النوع يضارع تعداد الإناث في كل صقع وإقليم ودولة في الماضي والحال والاستقبال، أليس هذا عجيبا؟ يا الله علمني، فهمني، أنا حائر، أريد الإصلاح العام في النوع الإنساني، لعل مسألة الذكور والإناث مبدأ حلها، يا الله أنت نظمت الكواكب التي شاهدتها بالبرهان الحسابي الفلكي الجبري أولا، وبالحس والعيان كرة أخرى، أولست أنت المنظم لنا، فلماذا يسود النظام هناك ولا يسود هنا؟ الحكمة واحدة والنظام شامل، ثم بدا لي أن هذه تحل المشكلة الإنسانية الاجتماعية بما يأتي.
إن تعداد الذكران والنسوان وتساويهما مبدأ النظام الاجتماعي، فما شاهدنا أمة من الأمم اقترض رجالها نساء أمة أخرى؛ لفقدهم ولادة الإناث. فهذا دليل على أن الحكمة السارية في العالم دخلت في دور السياسة والاجتماع ونظام المدن، الأمم يعوزها الزراعة والتجارة والإمارة والجند والفلاسفة والموسيقيون، أفلم يخلق في كل أمة وقرية وقبيلة أناس هم أصلح لتلك الأعمال، وإن من شيء إلا له مقدار معلوم، وعدد محتوم وسبيل مرسوم، فترى أولي الألباب يقلون ويكثر الصالحون للصناعات اليدوية، ثم تأملت إلى الذين حسنت أصواتهم إذا هم نادرون، وكذلك الذين هم في جمالهم بارعون.
أذكر أني شاهدت شابا حسن الهيئة جميل البزة، فتوسمت فيه عشق الفنون الجميلة والموسيقى، فطرة في وجهه توسمتها، ومنحة في سيماه أدركتها، فسألته عن ذلك إذا هو بالموسيقى مشغول، وبالفنون الجميلة مغرم، ذو صوت جميل، ولعمرك ما كل الناس حسنت أصواتهم كهذا الشاب، ما أقل ذا الصوت الجميل، هكذا الأذكياء؛ لأن الأمم لا يعوزها إلا قليل من الأذكياء لتدبير شأنها ، وتقويم أودها وتنظيم سياستها.
يختلف الناس في أصواتهم وألوانهم وميلهم، ويقل فيهم الأذكياء، إن للاختلاف لحكمة، لم لا تكون آراؤهم وعقولهم مصنوعة موضوعة بمقدار ما يحتاجون له من أعمال الحياة، بحيث لو ربوا في معاهد تنمي عقولهم لاختار كل منهم ما هو أكثر استعدادا له، ولانتظمت أمور الدول والممالك، ولم لا يكون أمر ميل العقل بنظام ثابت على مقدار الحاجة، كما كان ذلك في الذكور والإناث.
أليس من العجب أن ينتظم أمر الذكران والنسوان في العالم كله بلا غلط ولا نسيان، أفلا يكون هكذا جميع شئون الحياة والاجتماع والسياسة، إن في الناس القوي والضعيف، والذكي والبليد، هلا اكتشف العلماء ذلك، هلا نقبوا عنه، يا معشر بني آدم، يا معشر الناس، يا أمم الشرق، يا أمم الغرب، لو أن رجلا جاءكم من قبل ثلاثمائة سنة وقال لكم: إن في كل نبات ذكرا وأنثى لحكمتم عليه بالجهل والهذيان والوسواس، فلما أن علم ذلك الناموس أصبح بديهيا مسلما، إن ذلك الناموس كان واضحا في النخل، ولكن الناس ينكرون ما وراء علمهم، ويكذبون بما لم يحيطوا بعلمه وييأسون ولا يصدقون إلا بعد أن يحاربوا أولي الألباب.
أفلا يكون تساوي الذكور والإناث في نوع الإنسان مبدأ للنظام الاجتماعي، فإذا مهدنا السبيل وبحثنا جهد طاقتنا علمنا ذلك علم اليقين. ألا وإن هربرت الألماني ينكرها. ألا وإن العقل ينصرها. ألا وإنه قد تخبط ولم يتثبت فيما ادعاه وحالت دونه العقبات. أدرك الناس الذكران والإناث في سائر النبات بعد وضوحهما في النخلات، أفلا يكون وضوح تساوي الذكران والنسوان داعيا حثيثا إلى البحث عن القوة الكامنة في النفوس لإصلاح الاجتماع، والإنسان يفهم طبع ما حوله، وهو عن طبعه من الغافلين، الإنسان حوى جواهر السعادة، وعناصر الرقي في جواهر دماغه، فهل يليق أن يهنأ الوجود بالنظام ويخلو منه الإنسان، إني جربت التلاميذ وخبرت الطلاب، فرأيتهم في استعدادهم مختلفين، وكثيرا ما كنت أستدل بالملامح على الاستعداد والقوة والضعف في العقول، فليجد العلماء في بحثهم والتحري عنه، فهذه أهم المسائل وأقرب الوسائل لسعادة الإنسان.
المذكرة الثانية
ورد في إحدى الجرائد أن امرأة أوقدت التنور فشبت النار فيما حولها فالتهمت قريتها بأكملها، إن جهل امرأة أودى بحياة قرية، واختلال نظام بيت خسارة على بيوت الباقين، يا أيها الناس اعقلوا، واعلموا أنه ما دامت أمة على سطح الكرة جاهلة أو مظلومة فإن شررها يستطير منها إلى ما عداها، ولا يسعد الإنسان على سطح الأرض اليوم إلا متضامنا متحدا.
لقد أخبرت بذلك صديقا يحادثني وسميرا يؤانسني، فتبسم ضاحكا، وقال: يا سبحان الله ما أغرب رأيك! وما أعجب قولك! وهل قال بذلك أحد من العالمين؟! قال ذلك وهو يدخن. فقلت له: أشرب الدخان ضار أم نافع؟ فقال: بل ضار. فقلت: فلم تشربه؟ فقال: حكمت العادة، وغلب الطبع، وقضي علي قضاء مبرما بالتدخين، فأين المفر من قضائه؟ وأين المهرب من إيذائه؟ فقلت: أتدري لم وقعت في هذه البلية، وشغلتك هذه القضية؟ ذلك أن في نوع الإنسان أمما جاهلة قلدتها أمم في رذائلها، واتبعتها في سخافتها. فقال: كيف ذلك؟ فقلت: إن الإسبان إذ فتحوا أمريكا ألفوهم يدخنون، فألحوا في منعهم، ولجوا في التدخين وأسروا النجوى بالذنوب، فقلدهم أحقر الطبقات من الإسبان، فتشبه بهم الأغنياء والأعيان، واتبع سبيلهم الأمراء والملوك، فطغى سيل العادة الجارف على أوروبا والشرق، واستطار شرر الدخان، وطغى وعم نوع الإنسان، فأصبحت به من المغلوبين.
كل ذلك لأن أمة جاهلة أعدت العالم، وشرذمة ضعيفة ساقت الأقوين الأكثرين، وأصبحت عادة محكمة في سائر الأمم والممالك، فما أجهل الناس إذا قصرت كل أمة همها على نفسها، ولم تهتم بغيرها من العالمين!
وبمثل ما ذكرنا عن الدخان يجدر أن يقاس الشاي وقهوة البن، فما أشد فتكهن بالإنسان، وما أغراهن بضرر الإنسان، فعدوى التقليد في الجميع سريعة، وقوى الإنسان للجهل سامعة مطيعة، ألا فليتذكر أولو الألباب.
المذكرة الثالثة: غلبة الأمم لغيرها
كثر غلب الأمم لغيرها، فترسل القوية عساكرها لحراسة الضعيفة بعد غلبتها، والله لقد أخذني العجب كل مأخذ، فيا إخواني يا بني الإنسان، أما لكم عقول بها تفهمون، أو آذان بها تسمعون، ما لكم تجهلون الطبيعة، كيف تنتزعون قرن الكبش وتضعون مكانه قرن الثور، هل رأيتم ذلك في الطبيعة.
ما لكم أصبحتم تجهلون علم الحقائق، وتعكفون على هذه القضايا المشئومة، أيها الناس، أنتم تسنون سنة لأبنائكم ليكونوا عالة على الأمم المحكومة، ذلكم أول خراب دولكم، ودمار أممكم، وأكثركم في بلادهم مؤدبون، فإذا حلوا بساحة البلاد المقهورة طاش سهمهم وغلت مراجلهم وبطشوا بالضعفاء بطش الجبارين، ثم يتأصل ذلك في نفوسهم، ويتولد عنه أخلاق وعادات ترجع إلى بلادكم بالدمار والخسارة.
فإذا أحرقت نار المرأة الغافلة قرية بأكملها، وسرت عادة التدخين من متوحشي أمريكا إلى العالم المتمدين، ولم يصدها حصون الدين، ولا تهديد السياسة، ولا وعيد العقوبات في الدنيا بالعذاب، ولا في الآخرة بعذاب يوم الدين، فهلا قستم على ذلك أحوال أبنائكم المرسلين للأمم الأجنبية، إذ يسومونهم سوء العذاب جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن، فيتكون فيهم خلقان توأمان وخلتان متعانقتان، وهما سوء ملكة الظلم والاتكال على الناس في جلب الميرة والطعام.
ألا إن الإنسان مسكين قصير النظر اليوم، وسوف يطول نظره إذا ساعده علماؤه وعلمه حكماؤه الصادقون.
ألا إن روحي يؤلمها آلام نوع الإنسان، ويحزنها ما حل به من الرجس والبهتان، وظلم الظالمين، وجهل الجاهلين، فهلا أحسستم بمثل ما نحس، وهلا ساءكم ما ساءنا، ألا ساء مثلا الجاهلون.
يا أيها الناس، إنك ارتكبتم خطأين، وصنعتم ذنبين؛ منابذة الطبيعة وجهلها، وإحداث ملكات السوء في عقول العالمين، كيف تجترئون على سنة تمقتها العوالم الطبيعية، وكيف تأذنون لأنفسكم العلية أن تقول لأمة: لا تتعلمي ولا تتفكري، ولا يكن منك جيوش ولا قواد! ألا إن للغنم والمعز لقرونا، وللزنابير والنحل لحمى، فهل رأيتم طائفة من الزنابير اقتطعت حمى طائفة أخرى وقالت لها: نحن أولى بحراستك وأقرب للعمل لسعادتك وأدرى منك بالتفكير لك، كذب محض وجهل فاضح يمقته العالمون، عار وأي عار، عار عظيم، أين العقول؟! أين الأحلام؟! أين النفوس المتمدينة؟! العقل، الصدق، النظام، النظام.
أفلا يخجل الإنسان، أين العلوم؟! أين الحكم؟! ما تقولون يا معاشر الفلاسفة ؟ ما حكمكم؟ ما رأيكم؟ خطب جسيم وجهل كبير وطامة كبرى، ألا ساء مثلا الجاهلون الظالمون، ما أجهل الإنسان ! ما أكثر فخره، وأقل علمه، وأشد ظلمه! فلينظر لنفسه، ألا بعدا للقوم الظالمين.
المذكرة الرابعة: الحمام لا يتعصب للون
استيقظت مبكرا فشاهدت الحمام يحلق في الجو غاديا رائحا، يطير تارة على محيط دائرة، وطورا على خط مستقيم، ولا أشبه حركاته وجولاته إلا بالجولات العسكرية التي لا يحسنها الجندي إلا بعد أن يقطع شوطا بعيدا، وأمدا مديدا من حياته في المدارس الحربية، والتعاليم الجندية، وآنست الحمامات السود والحمر مزدوجات، وهن في اللعب متحدات، فلا أثر للتعصب اللوني عند الحمامات، وقد احتدم وطيس العصبية بين السود والبيض في البلاد الأمريكية.
فما أجهل الإنسان! يتعصب للألوان، وما أضله عن نفسه، وأبعده عن إدراك حقيقة جنسه!
المذكرة الخامسة: الفلك والمراصد والعدل
إن رجال الفلك في المراصد يرصدون الكواكب كوكبا كوكبا وهي تمر بين الشعرتين المتقاطعتين في آلة الرصد، فهم بذلك يعدلون ساعاتهم. إن لهم لساعات منظمة «كرونومتر»، ولكنها ليست في درجة نظام سير الكواكب، فتارة تتأخر وتارة تتقدم، ولكن للكواكب مواعيد معلومة، وأوقات مدونة، فإذا مرت بمراصدهم دونوا أوقات مرورها، ثم علموا ما بساعاتهم من التأخير والتقديم.
لم ذلك، ليضبطوا مواعيد الأعمال الإنسانية وسير القطار، وسفن البحار، وأعمال البخار، بحيث لا يخطئون في دقيقة ولا ثانية، وأمامهم في ذلك سير الكواكب المنظم.
أليس عجيبا ذلك، أليس من المدهش أن سير الكواكب لا خلل فيه مقدار ثانية، ولا أقل منها، ثم جعلنا نظام أعمالنا مرتبا عليها بحيث لو اختلت أوقاتنا كان الخلل في أعمالنا، أفلا ينظم أهل السياسة أعمالهم على وفاق نظام العالم، نظام النواميس الطبيعية، نظام العقول الإنسانية، ألا إن أرقى الناموس في الإنسانية أن يستخرج القوى الكامنة في عقول جميع نوع الإنسان، وكما أن نظام المسير في الأرض تابع لنظام الكواكب المرصودة فهكذا فليكن نظام العدل مقيسا بنظام صفوة العقول، فلا ظلم ولا جشع.
ولقد قلت ذلك لأحد أصحابي فقال لي: عجبت لك، وفي أي زمن ارتقى سائر العالم؟! وهل في الناس استعداد لإصلاح شئونهم بحيث لا يظلمون ولا يظلمون؟! فقلت: إن عقل الإنسان ليسع النقص والكمال كما تسعهما المادة، إن كثيرا من قواه العقلية والجسمية تذهب سدى، وهكذا سائر النباتات والحيوان قد تخلق وتذهب بلا فائدة ظاهرة.
إن الإنسان غافل عن أكثر المنافع في نفسه والآفاق، وها هو يستخرج منافع العالم، دائما بالاكتشافات، وقد آن الأوان أن يستخرج مواهبه العقلية فيعيش بسلام.
المذكرة السادسة: الشرق والغرب
الإنسان مسكين كئيب، لا يرى إلا ما أمامه ولا يعرف العواقب، وها هم أهل الشرق الأقصى ظهروا وبهروا، وها هم أهل الغرب راقون، ولكن بعضهم يسيء الأمم القاطنة بينهما، ويزرعون في عقولهم مزارع العداوة والبغضاء، ويا ويحهم، لقد جهلوا أن سنة الترقي ستشملهم، ولن يصدها صاد.
أولا يعلمون أن أبناءهم سيرثون الغل والحقد على أبنائهم الظالمين، ويكونون عونا على من آذى آباءهم، ألا إنهم هم الحصن المنيع بين الشرق والغرب، فليس يسكنه إلا من شاد بناءه، وعلم أبناءه، وباعد ظلمه، وحبب إليه القلوب، فسيتلاقى الغربي مع الشرقي. والقول الفصل سيكون للأمم الآسيوية في الشرق الأدنى، فإنها ستكون مع المحسنين وستسيء للمسيئين، وأغلب السواس لا يعلم إلا ظاهرا من العلم وهم عن الحقائق معرضون.
المذكرة السابعة: الأخلاق في الأمم
لا يجدي نظام كليات العالم ولا مدارسه ما دام السواس يقولون ما لا يفعلون، ويطلعون على ذلك شبانهم، ويقال لهم على سبيل الفخر والإعجاب: هذه سياسة، فتنقلب الحسنات سيئات، ويحور الأخيار أشرارا، والفضلاء منافقين مخادعين، فإذا أجرم الغاصب والمزور قالا في أنفسهما: إنما نحن سواس كأشرافنا، فإذا سرقنا متاعا فقد سرق أشرافنا، وإذا كذبنا فقد كذب أشرافنا، ونافق وخادع ساداتنا.
فالمدارس والكليات تبني والسواس والقواد يهدمون البنيان، فيرفعون الرذيلة، ويشيدونها على أنقاض الفضيلة في أرض العصيان.
المذكرة الثامنة: لا يبقى إلا الأصلح للوجود
هذه القاعدة صادقة، وقد غلط أكثر علماء الأمم في تطبيقها على الحياة العامة، وخلطوا نظام العالم البشري بنظام الرقي.
إن هناك دائرتين؛ دائرة نظام الغذاء، ودائرة الارتقاء ، فأما الأولى فإنك ترى الدود طعمة العصفور، والعصفور غذاء الباشق، والباشق طعام العقاب، والعقاب طعام الدود، وسائر هذه العوالم فريسة أصغر الحيوان، وهو الميكروب. فهذا نظام حق، له ناموس خاص، فأما الدائرة الثانية، فإن في هذه العوالم قوة شهوية، عاشت بها الأرانب والغزلان والطيور وسائر الحيوان والنبات، وفوقها قوة غضبية ظهرت بأجلى المظاهر في الآساد، وقوة عاقلة كان أتم ظهورها في الإنسان، وكل واحدة أرقى مما قبلها وأقل مما بعدها، فنحو الآساد تنال غذاءها من الغزلان، والإنسان ملك الأسد والغزال بقوته العقلية، وحيلته الفكرية، ونفسه العلية.
فالعقل أرقى، وهو أصلح للوجود، وهو لا يزال ناقصا، فإذا أكمل التعليم والتهذيب زالت عنه المفاسد والغل والحقد والحسد، وأصبحوا سعداء أجمعين، فإذا بقي الإنسان على حياته السبعية، وقلد الآساد في افتراسها، والثعالب في مكرها، وعلم القوي الضعيف علوم الجبن، ودروس الذلة فأمات غرائزهم، وأضعف قواهم، وهو في الوقت نفسه يعلم أبناء أمته الاتكال على ما كسبته الأمم الأخرى، بحيث يجعلون كل ما أوتوا من ذكاء، وما أعطوا من علم موجها إلى الأمم الضعيفة، ليحصدوا ما زرعوا، ويأكلوا ما جمعوا، ويفسدوا ما أصلحوا، ويجنوا ما غرسوا، إنهم بذلك تتأصل فيهم ملكة الظلم، وتستولي على عقولهم آفات الكسل، ويكون لهم ظاهر وباطن، فظاهرهم الصدق والإخلاص والفضيلة، وباطنهم النفاق والخداع وعدم المروءة.
لعمري إن الإنسان إذا دام على ذلك أصبح لا يصلح لعمارة هذه الكرة الأرضية، وذاق بعضه بأس بعض، وخلفه قوم آخرون؛ لأنه لا يليق لهذا النظام الدقيق العجيب في السماوات والأرض.
أوليس من العار أن العالم الذي حولنا من الأرض والسماوات معظمه عالم صادق ونحن ظالمون جاهلون كاذبون!
عار عليكم أيها العلماء والفلاسفة، أيها الملوك والعظماء، أف لكم، ما لكم أجهلتم أنفسكم، ما لكم كيف تحكمون، أفلا تذكرون، تقول الأمة وعلماؤها وسواسها: ما لنا ولمنافع الأمم الآخرين، نحن أشرف وأفضل منهم، ولا صلة بيننا وبينهم، إلا بالمادة، تبا لمن لا يعقلون، أما علموا أنه ما دامت أمة واحدة في الأرض جاهلة تسرب الجهل والغفلة إلى غيرها على مدى الأيام، أما علموا أنهم إذا أرادوا تقليل السلاح بعد أن ظلموا أمة ضعيفة فقويت تلك الأمة وصنعت الأسلحة النارية، ولم يكن بينهم وبينها صلات علمية ولا مودات أخلاقية، ولا يدرسون معهم دروس الحب العام فإنهم إذ ذاك حريون أن يتقلدوا السلاح ويقدموا للكفاح، فيرجع الناس كما كانوا آسادا وذؤبانا وجهالا فاسقين.
المذكرة التاسعة: إلى أين يا قرطاس
ازدحمت هذه الآراء بفكري، وتسابقت إلى قلمي، فرسمتها على القرطاس، إلى أين يا قرطاس؟ فأجابني إني سائر إلى الناس، إلى من يا قرطاس؟ فقال: إلى أحبابك، إلى إخوانك، إلى أصدقائك، إلى عشاقك، إلى الذين يعجبون برأيك من أفاضل الأمم وأخيار الممالك، إلى من يا قرطاس؟ إلى أمتي وحدها أم للأمم؟ فقال: الأمم كلها أمتك، والعقول الإنسانية والأرواح البشرية تشاركك في علمك.
إن قلبي لهذه الحكم مشوق، وهو لامتلاء أفئدة إخواني من سائر الأمم أشوق، أنا إن لم أبرز هذه الكلمات للناس فلا سعادة لي، ولئن أوجدت لسائر الناس فأنا بهم فرح، إذ هم المشاركون لي في فكري.
وكلما كثر المشاركون زاد فرحي، وبقلتهم يقل، فعلى قدر انتشارها واتساعها تزداد سعادتي، وكلما رأيت أمثالي من الأمم ازداد فرحي، أليس سائر علماء الأمم يفرحون بأشكالهم وأشباههم في سائر الأقطار، وانظر إلى الطائر، هذه الطيور لا تدون أفكارها، ولا تكتب أخبارها، ولا تعرف تاريخ أمم الطيور قبلها، ولا ترسل بريدا إلى ما عاش معها من جنسها على الأرض، ولا إلى أبنائها الآتين بعد فنائها، إنها لا يهمها إلا حياتها وتربية أولادها إلى حين، وهي مع ذلك تنظم جماعاتها عند الحاجة للنظام كالغربان وكلاب البحر وغيرها، فيا ويح الإنسان.
ما الذي جرى لك أيها الإنسان؟ أعرف أخبار الشرقي والغربي، وسعادتي في أن يشاركوني في فكري، وأقيس المستقبل بالماضي، وأن لي مع السالفين واللاحقين والمعاصرين من سائر الأمم والممالك علاقة عظيمة، فكيف يكون نظامنا أسوأ النظامات، وبيننا العداوات والبغضاء، نظام الغراب والزنبور والنحل وكلب البحر على مقدار حاجاتها، أفلا يكون نظامنا على مقدار حاجاتنا .
ألا إنا لسائر البشر لمحتاجون، إن قلبي وقلوبهم في مستوى واحد وأفق واحد، بيننا علاقة واتصال ومحبة ومودة ، وأعلمهم ويعلمونني، وأحبهم ويحبونني. (قاعدة): وكلما زاد علم الإنسان ازداد حبه للناس، وكلما قل العلم قل الحب، ولذلك ترى الحكماء أشد حبا للناس، والجهال والكذابون والسواس أقل حبا، وأكثر طمعا وجمعا للمال، والرجل الجاهل أقرب للحيوان الأعجم يقل عطفه على النوع الإنساني بمقدار جهله بإخوانه من سائر البشر.
الأمم اليوم أقرب إلى الحيوان، فإذا علمت وربيت ترقت عن الحيوان إلى درجة الإنسان وصار الناس إخوانا.
المذكرة العاشرة: البلاهة خير من الفطانة البتراء
قال الغزالي المتوفى في أوائل القرن السادس: البلاهة خير من الفطانة البتراء، يريد أن العامة والبلداء يصدقون بالدين بلا حجة ولا برهان، فإذا تعلموا تعليما ناقصا صاروا بين بين، لا هم عامة مقلدون، ولا علماء محققون، فيكون الجاهل راضيا بربه قانعا بعيشه، وذلك الناقص العلم يعيش في شك وألم وعذاب أليم.
أما نحن فنقول: الأمم المتمدينة فطانتهم بتراء، فإن أكابرهم وسواسهم وعلماءهم يعلمون الحقائق ويدرسون، وأكثرهم جهال غافلون، فيغلب أهل الشره والطمع وجمع المال وحب الغلب على أولئك السواس، فيأتمرون بأمرهم، ويصبحون ذوي وجهين وقلبين ولسانين؛ قلب عالم بالحقيقة عاطف على الإنسان، وقلب مطيع لأولئك الغافلين الطامعين الظالمين، فينقلب العلم جهلا، وتكون الصناعات والعلوم أول معوان على الفتك والأذى، بحيث لو كانوا أقل علما لكانوا أقل ضررا، وأمنع أذى وأبعد سوء.
ففطانة الأمم داعية لازدياد شرههم وحرصهم وخضوع الفضلاء منهم للظالمين الطاغين، وتكون فطانتهم الناقصة من دواعي شرههم وأذاهم ومكرهم، ومتى ارتقت الأمم وصارت فطانتها كاملة ذهبت الأحقاد والمطامع وعاش الناس سعداء آمنين.
المذكرة الحادية عشرة: التبجح بدعوى المعرفة مفسدة للأخلاق
قلنا: إن فطانة الناس بتراء، وهم يدعون أكاذيب كثيرة، ويفتخرون بأنهم يعلمون، ولكن أكثرهم يجهلون، يتبجح الرجل بقوله: نحن علماء، نعلم أن الشمس أكبر من الأرض مليون مرة ونحو ثلاثمائة ألف مرة، وهو لم يقرأها إلا في كراسة المعلم، وما يدري أحدهم كيف استخرج هذا الفلكيون، وعلى أي القواعد الهندسية بنيت، وما تشابه المثلثات الذي هو أساس هذه القاعدة، وما طريقة العمل، فيكون الرجل مقلدا وهو يظن أنه أول العالمين.
إن لذلك أثرا سيئا في الأخلاق والعادات، بحيث يقف الرجل غير خجل ويقول: أخدم الإنسانية، وهو إنما يخدم نفسه فيسحر الناس بقوله، ويصدقونه، وكثيرا ما يلفق الخبر السيئ فيصدق الناس، فتغلو الأسعار، ويرفع قوم ويخفض آخرون؛ ذلك لنقص الفطنة في مجموع الناس.
المذكرة الثانية عشرة: نواب الأمم
كثرت الرشا في انتخاب نواب الأمم، ولو أن طائفة المديرين المتقاعدين والمأمورين والمحامين والقضاة والأطباء والمهندسين والمزارعين وغيرها كل واحدة منها انتخبت عنها واحدا منها أو أكثر لقلت الرشا في الانتخابات كما هو الناموس الطبيعي في جسم الإنسان، إذ يوصل كل عضو أخباره إلى الدماغ بلا حاجة إلى آخر، فتصل الأعصاب من الأعضاء إلى الدماغ من كل عضو أصالة، بذلك تسير الأمم على نظام أتقن وحكومات أعدل، والسلام.
المذكرة الثالثة عشرة: آن أن يعقل الناس المحبة
الأنبياء علموا الناس أن يتحابوا، ولم يكن في طاقة الأمم أن تفهم بالبرهان، وقد آن أن يفهم الناس بالحجة أن ضرر أمة أو فرد ضار بمجموع الإنسان، فليشمر العلماء عن ساعد الجد، وليعلموا الأمم، وليتعاونوا جميعا على غرس فضيلة المحبة ببراهين كالتي ذكرناها، وحجج كالتي سطرناها، وليعلموا أنما الأمم للأمم حياة، ولا سعادة لأمة إلا بسعادة غيرها، وكلما كانت الأمم أكثر كانت السعادة لهم أوفر، وكلما قلت أعدادهم نقصت سعادتهم.
إذا كانوا في حياة إنسانية وجامعة عقلية يبلغون ما يريدون من المادة والمنافع الجسمانية والعلوم العقلية والأدبية.
المذكرة الرابعة عشرة: حل أزراري فأصابني الزكام
لا عذر للأمم على جهلها، ولا عذر للعالمة منها أن تبخل بالعلم على غيرها، لقد فك أزراري وأنا مستقبل الريح بلا قصد مني فأصبت بالزكام، لم يكن ذلك الزكام عن عمد، إنما كان عن نسيان.
هكذا الأمم الإنسانية إذا جهلت الفضيلة وغفلت عن الحكمة والعلوم ساءت حالها ووردت مناهل الشقاء بلا مشيئة منها، فلا غفران لذنوب الجهل بالنواميس الطبيعية، وقد يغتفر السهو والخطأ في الأعمال الإرادية والذنوب الاختيارية.
المذكرة الخامسة عشرة: الحجر والسياسة
ناولني فتى من الفتيان المتعلمين حجرا أسمر اللون يشوبه حمرة آتيا به من جبل الرصاص تتخلله قطع رصاصية معدنية طبيعية، فلما أن شاهدتها بدا لي أن في الحجر حل مشكل هذا العالم الإنساني، إن عليه سياسة هذا العالم قديما وحديثا، وهي أقسام ثلاثة.
السياسة الأولى:
سياسة العصور الحجرية، والأمم البربرية القديمة العهد، فلقد كان الحجر حل مشكل المعضلات، وفاصل الحكم بين الجماعات، إذا احتدم وطيس الجدال بين قبيلتين، أو غلا الدم في وجوه أعيان القريتين، حددوا أحجارهم كما تحد سكاكين الحديد، وتناضلوا بها واستعانوا بالعصي وما شاكلها، فمن كان أشد رميا وأقوى ضربا كان له فصل الخطاب وأضحى صاحب التاج والصولجان.
السياسة الثانية:
سياسة الأمم الذين بعدهم في الأعصر الحديدية، وهم الذين عثروا على معادن الحديد فسبكوها، وتراموا بالنبال وتضاربوا بالسيوف، فقضى بينهم الحديد، وهم كآبائهم الأولين، فلما أن عثروا على الرصاص في ثنايا الصخور وتحت طباق الجبال صنعوها كرات وقذفوا بها أعداءهم، ولعل فرق ما بين الحجريين والرصاصيين أن الأولين حكموا ظاهر هذا الحجر الذي في يدي، والآخرون انتزعوا رصاصة فكانت أشد فتكا وأسرع مرمى وأنفذ حكما، إن الأولين والآخرين في ضلال مبين، كلاهما في الضلال يعمهون.
السياسة الثالثة:
سياسة العلم والحكمة، سياسة النظام، سياسة الله في نظامه، سياسة الأنبياء، ولعمرك ما حارب الأنبياء الأمم إلا ليصلوا للسلام، ولا أرهقوهم إلا ليغمدوا الحسام بالسلام العام، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
هذا الحجر ذو بريق ولمعان، أراه حسن الشكل يتلألأ نورا وبهجة، إن فيه لحل المشكلة الإنسانية، ونظام الجمعية البشرية، ذلك لأن المعادن من الذهب والفضة والنحاس والرصاص والقصدير وأمثالها وضعت في الأرض والجبال بمقدار.
ألا ترى الذهب كيف قل وجوده، والفضة كيف كانت أضعاف أضعافه، وإلى النحاس كيف كان أكثر منهما وأعم، وكذا الحديد والرصاص، إن في ذلك لعبرة، إن في قلة الرصاص ووفرة الذهب لحكمة، إن في ذلك لآيات للعاقلين، إنه تذكرة للناس ليعلموا أن العقول الإنسانية موزعة على أعمالهم توزيع المعادن على المنافع، فمن عطل عقلا عن الارتقاء، أو وضع نفسا في غير موضعها ، كان كمن استعمل الذهب موضع الحديد، أو حبس أحدهما عن الناس، ألا فلتقم كل أمة وكل فرد بما خلقوا له، وإلا عاشوا في أسوأ حال وبئس ما يصنعون.
المذكرة السادسة عشرة: إيضاح للتي قبلها
ركبت القطار فما أسرع أن سار، فرأيت الأمر فيه واضحا جليا ولكن أكثر الناس لا يعلمون، رأيت الحجرات من خشب مصنوعات، رأيت عوارض من حديد منصوبات، رأيت قضبانا على الأرض مسطوحات، ورأيت الركاب فيه معهم قليل من النقود الذهبية، وكثير من القطع الفضية، وهم عن الحكمة غافلون.
ذلك حل المشكلة الإنسانية ونظام الجمعية البشرية، ذلك أن الحاجة للحديد شديدة، وللخشب أشد، وللفضة قليلة، وللذهب أقل، فكان ترتيبها في الوجود موضوعا حسب الحاجة الداعية إليها، أفلا ينظرون إلى الخشب كيف كثر، وإلى الحديد كيف كان بمقدار الحاجة موفرا، ولم يكن للذهب من الحاجة الداعية ما للحديد.
الحديد جعل عوارض يمسك خشب الحجرات، والذهب يقضي بين المتبايعين في تنازع القيمة المبهمة في المبيعات، والفضة في صغريات الحاجات، الذهب سلطان وقاض كلي، والفضة أمير وقاض جزئي، فكان الأول أقل وجودا والثاني أوفر وأكثر في الكرة الأرضية، وفي الطبقات الصخرية، ولو أن الناس استبدلوا الذهب بالحديد في الماسكات والعوارض في الحجرات القطرية، أو جعلوا الحجرات في القطار من الحديد بدل الخشب لاختلط الأمر ووقفت الحركات، وعطلت البنوك، وحطم القطار، ورجع الناس إلى الهمجية، وارتطموا في الأحوال الوحشية، فكيف يسير القطار إذا كانت العوارض الماسكة لأجزاء الحجرات من خشب والحجرات من حديد؟ أم كيف يتعامل الناس بالحديد ويفصلون قضاياهم بالنحاس، وقد كثر وجودهما فرخص ثمنهما؟
تجلى الحق ووضح ألا نظام إلا بوضع المعادن والأشجار في مواضعها، وأن استبدال أحدهما بالآخر ظلم وسوء إدارة وجهل بالنظام، ألا ساء مثلا الجاهلون الظالمون.
هكذا تكون العقول البشرية، إنها نظمت تنظيما جميلا بحيث نرى أن الأذكياء في سائر الأمم يقلون كما قل الذهب دون سائر المعادن، ونرى الصالحين للإدارة العامة يكثرون كالحديد، وأكثر الناس قادرون على الأعمال الجسمية والصناعات اليدوية كالخشب في حجرات القطار وفي شبابيك النوافذ وأبواب الدار.
وزع الذهب وسائر المعادن على الجبال الأرضية، ولم تخص أرض دون أرض، وهكذا سائر المعادن غالبا، فهكذا العقول البشرية لم تخص أمة دون أمة ولا طائفة دون طائفة.
إن العقول موزعة على النوع الإنساني بمقدار توزيع المعادن والأشجار على الأقطار، فلا حق لأمة أن تدعي أن جنسها أرقى الأجناس، ولا إن قومها أرقى العالمين؛ فذلك جهل فاضح وخور وجنون، كذب العالمون، ما أجهل الإنسان! يا ويحه، ما أجهله بالنظام! ما أضله عن السبيل! جهل فغوى، وكذب وطغى، فعذبه الله العذاب الأوفر، وأنزل عليه صواعق غضبه وسلط عليه نار الغضب، فأحرقت أفئدة الظالمين وسامتهم سوء العذاب بالعداوات والحرب والنضال، لبئس ما يصنعون.
وهنا نتائج أربع:
الأولى:
أن الأشياء وضعت في الدنيا حسب الحاجة إليها كثرة وقلة، كالخشب والحديد والذهب، فكلما اشتدت الحاجة إلى شيء كثر وجوده وكلما قلت قل وجوده.
الثانية:
أنه كلما اشتدت الحاجة للشيء سهل تحصيله كالخشب، وكلما قلت الحاجة له صعب تحصيله كالذهب.
الثالثة:
كلما كثر الشيء رخص، وكلما قل غلا في أكثر الأحوال.
الرابعة:
متى وضع شيء في غير موضعه اختل النظام.
هذه القواعد الأربع سارية في الماديات والمضويات، العقول الإنسانية جارية على هذه القاعدة، فهل يحق لأمة من أمم الأرض أن تدعي أنها مختصة بالعقول الذهبية، فتنطلق أمة أخرى، وتقول: ضعوا خشبي موضع حديدكم وحديدي مكان ذهبكم، واجعلوا حديدكم خشبا وذهبكم حديدا، وكونوا إلي سامعين مطيعين.
أولا تكون هذه الأمة كالرجل الأحمق الذي يصنع حجرات القطار من الحديد، ويدعمها بالخشب، ويأمر الناس بالتعامل بالحديد بدل الذهب والفضة، ألا ساء مثلا الطاغون الجاهلون، أولا يعلم الإنسان أنه إذا عطل بعض العقول الإنسانية، كان كمن حرم الناس من استخراج الذهب من معادنه الجبلية، فيقل الذهب في العالمين، ويكثر الشجار بين المتغاضين. حرص الناس على المعادن وفرطوا في العقول، جهلوا والله، إن الإنسان لظلوم كفار، تواطأ الناس على استخراج المعادن، وتحملوا المشاق ولما يألوا جهدا في تحصيلها، فهل دأبوا في استخراج العقول الإنسانية، كما دأبوا في تحصيل القطع المعدنية، أولا يعلمون أن الغنم بالغرم، وأن أشق الأشياء تحصيلا أنفعها. وهلا علموا أن العقول البشرية أعظم لهم نفعا، وأبقى سعادة، عرف الناس كل شيء إلا عقولهم، وفهموا كل شيء إلا نفوسهم، ألا إن الإنسان لجهول كفور، سيسوس الناس في مستقبل الزمان أممهم بما ساس الله به خلقه، فالله وضع الميزان وأحكم النظام، وقام بالعدل، وجعل هذه الخليقة المنظمة كتابا للسياسة يقرؤه الناس إن كانوا يعقلون، هذا ميزان الخليقة فزنوا به أعمالكم ولا تكونوا ظالمين.
المذكرة السابعة عشرة: جاموسة الناعورة
جلست مع أصدقاء في وسط روضة صغيرة وفيها ناعورة تديرها جاموسة، عيناها في غطاء لا تبصران، ولكن أذناها تسمعان، وما أدراك ما تسمعان، تسمعان صوت الهراوة ترن ضربا على جسمها، تسمعان صليل الجرس ليوهمها أن ضربة ستؤلمها، وبينما هي كذلك إذا غطاء عينيها انكشف قليلا، فأبصرت، فلما أبصرت وقفت، فأخذ السائق يضربها وظلت الجاموسة في موقفها، كبرت نفسا أن تسير، وظلت العصي على جنبها تسيل. فقال صاحب الجاموسة: ما العمل فيما ألم؟ فقلت: يا هذا، لا يصبر على الذل إلا الجاهلون، ولا يرضى بالهوان المبصرون.
الجاموسة كالأمم المغلوبة، وغطاء عينيها أشبه شيء بغطاء ظلام الجهل المسدول على عقول الأمم الضعيفة، والسائق كالأمم الغالبة، فغش عينيها بالغطاء، فإنها تسير بلا تناء، ففعل السائق فدارت.
الإنسان ظن جهلا أنه ليس نوعا واحدا، فقام قوم مقام السادة وقام آخرون مقام العبيد والحيوان، فغشوا أبصارهم وحرموهم من العلم، وقالوا لهم: كونوا عبيدا أذلاء، ألا إن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، ألا ساء ما يفعل الجاهلون.
الفصل الرابع عشر
الجمع المحتشد وعالم الأرض والمريخ وتحليل المدنية العصرية
بينا أنا نائم ليلة العشرين من شهر يوليو إذا صاحبي مقبل إلي في حلل تلوح كأنما لونها ريش الطاووس بهجة وجمالا، فنرى سوادا يتخلله بريق، يغشاه لمعان يعلوه لون ذهبي، يحيط به بياض، منقش في دوائر شمسية بهيجة أشبه بألوان العقيق والمرجان والزمرذ، وعلى رأسه تاج يضيء سناه للناظرين مكلل بكل ما جمل وغلا من الياقوت والمرجان والماس منظم دوائر منظومة من الجوهر داخلها مربعات ومخمسات ياقوتية مرتبة ترتيبا بديعا، فسلم وحيا ودنا وتدلى.
وهنا أخذ لبي بحسن سلامه، وبديع كلامه، وجميل خطابه، وعذب مؤانسته، ومعه آخران واقفان خلفه، خاضعان لأمره، مطرقان إجلالا له، فسرنا والليل عاكف، حتى ركبنا المركب المعهود ووصلنا الكوكب الجديد، فلما أن توسطناه نظرت إذا قرى عالية الذرى، فرأيت المدرسين في مدارسهم، والمهندسين في أعمالهم، والصانعين في مصانعهم، وشاهدت قطارات البخار، وآنست رسل الكلام من المسرة «التلفون» والبرق «التلغراف»، ورأيت الناس يرغبون ولا يرهبون، وهم بالشوق والحب يعملون، وسمعت نغمات الآلات الدائرة وموسيقى العجلات في السكك الحديدية، وكلها ذوات نغمات موسيقية، فلو رأيت ثم رأيت فلاحا يحمل فأسا ونغمات الآلات الرافعة للماء تشنف سمعه، وهو في طرب وفرح وجذل وسعادة وحبور.
فلما أن وصلنا ساحة القوم في ذلك القصر الفسيح الأرجاء البديع البناء، رأيت القوم مجتمعين والجمع محتشدين، وهم ألوف وألوف، صفوف خلفها صفوف، وعلى وجوههم سيمى الحب وفي هيآتهم بهاء الوقار، فسلمنا وسلموا، وأجلسنا على كراسي في ساحة المكان، وبينما نحن جلوس إذ أقبل شيخ عظيم الهامة، طويل القامة، جليل القدر، رفيع الذكر، جلس بيننا وبين القوم وهم جميعا له معظمون ولشيبته وهيبته مبجلون.
فقلت لصاحبي: من هذا؟ فقال: هذا عالم الأرض والمريخ. فقلت: وكيف ذلك؟ فقال: أليس للحشرات فيما بينكم علماء؟ قلت: نعم. قال: فهاهنا لكل شيء في العالم أخصائيون، وهذا أخصائي في علم الأرض والمريخ، يدرس ما أنتم عليه من الأحوال، ليكون عبرة لهم ولمن بعدهم من الأجيال.
ولقد جاءوا به ليحل مشاكلكم السياسية، وعقدكم الاجتماعية، ويزيل المظالم الدولية، وليكون مخبرا أمينا، وصادقا شهيدا، ثم هو من وجه آخر يريد أن يهتدي إلى بعض ما غاب عنه بسؤالك، ويستخرج المجهول بجوابك، فليس كل ما لديكم عنده بحاصل، وما هو بكل دقيق وجليل عندكم بعالم، فأصغ إلى سؤاله واستعد لجوابه، فستستفيد وتفيد، ويسأل وتسأل، ويعلم وتعلم.
وهنا أصغت تلك الجموع، وخشعت القلوب، وخفتت الأصوات، وابتدأ الشيخ يقول: أيها الشخص ، لقد بلغني عنك الليلة ما بلغني، فقيل لي إنك أسد من الآساد. أفحق ما يقولون أم باطل ما يدعون؟ فقلت: كلا ومن فلق الحب والنوى، إن المخلوقات على سطح كرتنا على ثلاثة أقسام، نبات رأسه أسفل في الطين، وحيوان غير إنسان رأسه متجهة للجوانب الأربعة، والإنسان رأسه أعلى، فأنا من نوع الإنسان. فتبسم الشيخ وضحك وضحكوا، وقال: لعلكم كما قال شاعركم:
أما الخيام فإنها كخيامهم
وأرى رجال الحي غير رجاله
فاعترتني الدهشة وعجبت كيف يحفظ شعر شعرائنا، وجاش بخلدي أن هذه النفوس لها صلة بنفوسنا وعلم بآرائنا، وإلا فكيف يعرف ما درسناه ويدرس ما قرأناه.
ثم قال: أيها الفتى، أنت أجبتني بالإنسانية الجسمية، ونحن نريد الإنسانية المعنوية، صورتكم صورة الإنسان، معدة للرقي إلى عوالم العرفان، وهل بعد ارتفاع الرأس من شرف في الجثمانية، ولكني وجهت سؤالي إلى أخلاقكم وأعمالكم وآرائكم ونفوسكم، أأنتم آساد؟ قلت: كلا. فقال: خبرني ماذا فعلتم بالإنسانية؟ وبماذا ارتقيتم عن الحيوان؟ إن مقياس الإنسانية يتجاوز أخلاق الحيوانية، فقل لي: بمذا علوتم على الحيوان؟ فقلت: زرعنا الحقول، وأنضجنا البقول، وحفرنا الترع، وأقمنا الجسور، ونظمنا البلاد، ونفعنا العباد، وأدرنا الآلات، فسقت الحقل، وحصدت الزرع، وخاطت الثوب، وفصلت النعل، ونقلت المتاع، وحملت الإنسان والحيوان، وتكلمنا بعد أميال بالبرق والتلفون، بل إن الإشارة البرقية تطوف الكرة الأرضية في سدس ثانية زمنية.
قلت ذلك وهو يتبسم ويقول: أنا أسألك عن الإنسانية وأنت تشرح لي الحيوانية؛ إن الزرع والحصد والثوب يشارككم فيها الحيوان، فهو يأكل ويلبس ويعيش، وقصارى الأمر أنكم محتاجون لما نقصكم، ساعون لتلحقوا الحيوان، فهو سهل الغذاء، حاضر الملابس، وأنتم بتلكم الآلات والعدد الحديدية والعلوم تريدون إدراك شأوه، فأنتم للحيوانية ساعون مضطرون، وعلى الحياة مجبورون. ولكني سألتك عن الإنسانية، وما سرعة النقل والبريد وقرب التخاطب إلا لتملئوا بطونكم وتكسوا جلودكم، وتعولوا نساءكم وأبناءكم، فأنتم بهذا تسارعون في الحيوانية لا الإنسانية، وما سرعة الخطا ورغد العيش، وكثرة الألوان على المائدة، ولا الذهب والفضة، ولا الخيل المسومة، ولا الأنعام ولا الحرث ولا النسل إلا حطام الطعام، تشارككم فيها الأنعام أكالة الحشيش، كالنعجة والخروف والعنز والتيس والبقرة والجاموسة، ولو كانت سرعة السير إنسانية لكانت الأرانب أعظم منكم، وما سرعة البرق والبريد إلا صوت امتد في الفضاء، كما زاد صوت الجمل على النملة، فلم يوجب له فخارا ولم يدفع عنه عارا، وما الآلات البخارية للإنسان إلا أرجل جديدة يجري عليها، فقصارى أمركم أنكم زدتم حيوانية وبعدتم عن الإنسانية، فإذا كان معنى الإنسانية هي الحيوانية العظيمة، فالفيل إنسان بالنسبة للعنز وهذا لا يقول به العاقلون.
ثم أراني خريطة فيها صورة جيوش حرب السبعين، وحرب الروس مع الترك واليابان وغير ذلك، وقال: كيف قطعتم هذه الرءوس وأزلتم تلك النفوس؟! فقلت: إن لنا مدارس فيها الفنون الحربية، والآلات الدفاعية، وكيفية الكر والفر، والإقبال والإدبار، ولقد وصلنا اليوم إلى أربع درجات في الحرب، السفن الغاطسة المائية، والسفن الجارية فوق البحر، والجيوش المنظمة البرية، والمناطيد الجوية. إن العالم الإنساني اليوم زادت قوته، ووصل إلى أن اكتشف المنطاد ليحارب في الجو.
فعجب الشيخ كل العجب، ثم أشار إلى أحد الواقفين بإشارة فغاب خمس دقائق وجاء ومعه حيوان هائل عظيم الجثة له أرجل يمشي بها، مثبت فيها عجل أسرع من القطار له أجنحة، فمشى أمامي وجرى بالعجلة أسرع من القطار، وطار في الجو بالأجنحة وهو محدب الأنياب والمخالب. فقال: أنتم كهذا الحيوان، إنه يطير ويجري، ويعدو، ويسبح في البحر، ويغطس في الماء، ويأكل، ويعيش، وصوته بعيد المدى يسمعه المشرقان. فقال: إذن لست بإنسان.
حينئذ زويت لي الدنيا كلها، وأصبح لدي الغربي والشرقي وسائر النوع الإنساني في مستوى واحد، فأخذت إذن أفتخر بأعمال العلماء في جميع الملل والنحل، وابتدأت بالأنبياء، وذكرت أعمالهم وعلومهم وهديهم. قال: أنا أعلم بهم منك، ولكن أوصافك لبني جنسك دلتني على أنكم لم تتجاوزوا الحيوانية قيد شبر، ولم تسمعوا كلامهم ولم تعملوا به، ولعلكم اكتفيتم بظواهر الرسوم، وعجزتم عن الصدق والإخلاص وسائر الأعمال الباطنة. فقلت: فينا المخترعون والمكتشفون في سائر الفنون كإسحاق نيوتن في الفلك وداروين في الفلسفة. فقال : هل منهم من أحد حاول انتفاع الإنسان كله؟ قلت: نعم، اسبنسر الإنجليزي وآخرون غائب عني أسماؤهم. فقال: دع عنك ذكر الفلاسفة والحكماء، فليس بحكيم من قصر عقله على أمة.
ألا إنما الحكماء نواب الله عز وجل في أرضه، فإذا رأيت المرء مغرما بسعادة الأمم، دائبا لراحتهم، مكبا على دفع الأذى عنهم فاعلم أنما هو الحكيم النائب عن ربه، ومن عداه من علماء الأمم فإنما هم رجال صناعة كالتجار والزراع والموسيقيين وأحزابهم. فقلت: وعندنا من العلماء العلامة كاميل فلامريون الفرنساوي يجد في اكتشاف طبقات الأرض لنفع الإنسان. قال: عمل شريف ولكنه سعي للحيوانية، هل سعى أحد في تخفيف الحرب؟ قلت: أقوام يقال لهم: الاشتراكيون، وقد قال أديسون الأمريكي: إن الحرب ستبطل بإفلاس الدول، فإنهن إذا أثقلت كواهلهن بالديون، وصفرت جيوب الرعايا من الدراهم، ثارت في وجوه الحكام، وأبطلت الحرب، فأنغض رأسه وقال: كما تتناطح الكباش والأعنز والثيران، فإنها لا تزال في نطاح حتى تضعف إحداها أو يتساقط المتناطحان.
أين الإنسان؟ إن أقوال علمائكم دلتني على خيبة الأمل فيكم، لا عقول، أين العقول؟ لقد وضح الحق واستبان السبيل، إنكم آساد من أقبح الآساد، فإذا كانت نتائج العقل البهيمية والسبعية فإنكم أنعام وآساد، فلا تتعالوا على الحيوان، وقولوا: نحن حيوان معنى إنسان حسا، ألا لا خير في الجسوم، ولا مدار على الصور، إنما الأمر كل الأمر في الأرواح والأعمال والآراء، هنالك طفقت أدافع عن الإنسان بالقضايا المعروفة. فقلت: أليس الأقوى له حق الأشراف على الأضعف، أليس في النمل سادة وعبيد، أليس النبات الأقوى يبيد الأضعف إذا اجتمعا، إن هذه قضايا بحثها علماؤنا، وليست تقبل النقض ولا التأويل. فقال: كم من قوي وضعيف جمعتهما السنن الطبيعية، وأقامتهما النواميس الكونية، ألم تر أن الفيل والنمل تعيش في مكان واحد فوق الشجرة وتحتها وفي ثنايا الأرض. فقلت: إن ذلك بحواجز طبيعية. فقال: وما منعكم أن تجنحوا إلى حواجز بعقولكم وأسوار تحد عاديات بعضكم عن بعض، ولئن رأيتم الباشق أكل العصفور، وأكل العصفور الدود، وأكل الدود جسم الإنسان، وأكل الإنسان العصفور، ثم شاهدتم الأسد يسطو على الغزال والأرنب فيأكلهما، فليس معنى ذلك أن يقتل الإنسان الإنسان أو يقهره بلا حق، وإنما هو نظام واجب، فإن آكلات اللحوم من الطيور والوحوش حكم عليها أن لا تأكل إلا اللحوم، فوظيفتها في العالم الحيواني وظيفة الأطباء في العالم الإنساني.
إن الوحوش الكاسرة والطيور الجارحة تصد عنكم هجمات الميكروبات الضارة بالوباء العام الناجم من جثث الحيوانات الميتة، فلولاها لخلت الأرض من ساكنيها وأصبحت الدار تنعي بانيها، فأما اتخاذ النمل لها عبيدا فما أشبهه إلا باتخاذكم العجول والبقر من جنس الحيوان، فإنها تربيها على نبات وتمتص منها عصاراتها، فأما إذا حاربت نملا مثلها فليس ذلك فضيلة تؤخذ عنها، ولا حكمة تقلد فيها.
ولو أنكم يا معشر الإنسان قلدتم الحيوان في سائر أعماله لوجب عليكم أن تأكلوا الحشائش والحبوب ولا تخبزون ولا تطحنون.
إن شأنكم أن تأتوا بحجة على دعواكم واهية داحضة لتستروا بها عوراتكم وتواروا بها سوآتكم، من أين أتيتم بهذه القضية الفارغة يا بني الإنسان؟ فهل استعبادكم الأمم وقتلكم الأنفس وتيتيمكم الأطفال إزاحة للوباء، كما فعلت كواسر الطير وسباع البر، قضيتكم في الطبيعة غريبة، ما أكثر أوهامكم، وأقل علومكم، وأجهل عقلائكم!
يا معشر الإنسان، الحيوان يمشي على رجلين، ويغني بصوته، وأنتم اتخذتم العجلات للسير والسفر في البحر، وغنيتم بالأعواد، واستعنتم على الطرب بما حولكم من الناميات النباتية والحيوانية، فإذا سألناكم قلتم: اخترعنا وعقلنا ونحن أرقى من الحيوان. فإذا عذب بعضكم بعضا، وغشت ظلمات ليل الجشع وجه نهار الرحمة المضيء في قلوبكم، فظلمتم وقتلتم وانقلبتم آسادا ونمورا قلنا: لماذا جهلتم؟ أحسبتم أن هذه قضية طبيعية كما تفعل الوحوش الكواسر؛ السباع والآساد لحكمة مقدرة، وما حكمتكم أنتم يا أيها الإنسان؟ إن قضية القتل والاستعباد بجهلكم أحدثتموها، وبعقلكم المغرور اخترعتموها، أليس لكل حيوان رأس؟ قلت: نعم. قال: فهل رأيت يوما رأس حمار على جسم ثور، أو رأس معز على جسم أسد؟! قلت: كلا. قال: ولو أنه وضع رأس أحدهما مكان الآخر أفلا يكون الخلط والخبط في هيئة الحركات والسكنات والأمور المعاشية؟ قلت: بلى. قال: ألم يكن للغربان حكومة جمهورية؟ قلت: بلى. قال: ولكثير من الطير؟ قلت: بلى. قال: وهل شاهدت النحل، أليس له حكومة منظمة؟ قلت: بلى. قال: فالزنابير؟ قلت: بلى. قال: فالحيتان في البحر؟ قلت: بلى. قال: فكلاب الماء التي تبني قرى على شواطئ الأنهار مركبات من بيوت ذات طبقتين عليا وسفلى؟ قلت: بلى. قال: فهل رأيت أمة من هذه الأمم غادرت أمكنتها، وطغت على أخواتها من جنسها، فظلمته وقتلته أو سخرته ليجلب قوتها؟ قلت: كلا. قال: أرأيت الزنابير، أليست مؤذية لكم شريرة فاسقة فاجرة؟ قلت: بلى. قال: أغادرت أعشاشها وحاربت أخواتها؟ قلت: لم أر ذلك، ولكنها تحارب النحل، وتشرب عسله. قال: إنه من غير جنسها.
فقلت: لقد قرأت في كتاب داروين أن الأقوى يبيد الأضعف من الجنس الواحد كالخطاطيف. قال: لئن صح هذا فليس حجة لكم؛ فليس الخطاف في حاجة إلى الخطاف، وأنت تعلم أنكم مضطرون إلى الاجتماع والاتحاد في مشارق الأرض ومغاربها، وإبادة أمة أو رجل أو امرأة يحدث نقصا في مجموعكم الإنساني. قال: ألست تشعر بألم لما يصيب الأمم النائية عنك؟ قلت: بلى. قال: ألست تشعر بما يصنعه صانع أجنبي عن بلادك ودينك ولغتك؟ قلت: بلى. قال: ألست تسر لما تسمع من شجاعة الشجاع، وعفة العفيف، وفضيلة الفاضل، وعلم العليم؟ قلت: بلى. قال: ألست تنقبض لجهل الجاهل، وجبن الجبان، وفجور الفاسق، ورذيلة الناقص من أي أمة وبلدة؟ قلت: بلى. قال: إذن يلحقك من نوع الإنسان الفرح والترح والسعادة والشقاء والمنفعة والضر؟ قلت: نعم. قال: ذلك ليس في الحيوان، فلئن أباد الحيوان الحيوان فأنتم في حال أشرف من حاله، واجعل قلبك ميزان سياستكم، وشعورك مقياس عدلكم.
قلت: إذن تريد أن يكون الناس أمة واحدة، فتجمع بين القلوب والأجسام والأرواح، وقد اختلفت لغاتنا ودياناتنا وعقائدنا وممالكنا، وقد كتب علينا أن نكون في حرب ونضال أمد الدهر معذبون؟ قال: أليس الحرب للقوت والمسكن والملبس، فهل غير ذلك؟ قلت: لا. قال: إنكم تحاربون لتساووا أخس الحيوان من الدود والميكروب؛ فإنها تأكل وتعيش. ما لهذا خلقتم، وإنكم عن طريق الحق عدلتم، إنكم بهذا الحرب والضرب والعداء تعلنون الكسل والجهل، أما الكسل فإن امرأ عمل عملا فسطا عليه آخر فانتهبه فهو الكسول، تعلمون أبناءكم أن يكونوا عالة على غيرهم، تهدمون صروح الصناعات في الأمم المغلوبة، وتنيمون الغالب على فراش وثير.
وإني لأضرب لك مثلا، هذه الممالك المتمدينة الأمريكية، أليست مركبة من ممالك كثيرة؟ قلت: بلى. قال: فالمملكة من إيالات؟ قلت: بلى. قال: فالإيالة من قرى؟ قلت: بلى. قال: فالقرى من بيوت؟ قلت: بلى. قال: أليس سكان البراري والقفار يعيشون قبائل قبائل، وكل واحدة ترى سعدها في أن تهضم حق جارتها، وتهلك حرثها ونسلها، ويقول شاعرهم ويغني مفتخرهم بما يقول عمرو بن كلثوم:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا
ويشرب غيرنا كدرا وطينا
إذا بلغ الفطام لنا صبي
تخر له الجبابر ساجدينا
لنا الدنيا ومن أمسى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا
قلت: بلى. قال: فلو جعلنا الممالك المتحدة قبائل كالتي في البادية لبلغت ألف قبيلة أو يزيدون. قال: أوليسوا الآن أسعد حالا، وأنعم بالا، لو كانوا أشذاذا متفرقين، يقتل بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، ومأواهم العذاب وما لهم من ناصرين؟ قلت: بلى. قال: أفلا يفخر اليوم كل رجل منهم بأنه أمريكي؟ قلت: بلى. قال: أفلا تعد الأمم اليوم قبائل متوحشة، كل قبيلة تنازع جارتها، وتناوئ قرينتها، وإنها لو تضامت لأصبحت ممالك متحدة وأسرة واحدة، يعلم عالمها جاهلها، ويرحم قويها ضعيفها، فتكون سعادتهم أوفر، وخيرهم أكثر، وعزهم أوسع، وهم جميعا على سرر متقابلين.
الطبيعة وأسرارها محجوبة عنكم، ولن تنالوها إلا باتحادكم على استخراجها وتمالئكم على إظهارها، ومقامكم في العالم مقام رفيع، ولكنكم جهلتم أنفسكم، وتربصتم للشر، وارتبتم في الخير، وغرتكم الأماني، حتى صرتم في الأرض صاغرين. قلت: ليس الإنسان معذبا للإنسان، إنما هو معلم له ومرشد وهاد، والأمم الراقية ترشد المقهورة . فقال: قد أجبتنا من قبل بما أفاد أنكم ظالمون طاغون، ولقد غلبت عليك صفة أممكم الأرضية، فأجبت بالإجابة اللفظية، وحققت أن لكم قولا يخالف العمل، وظاهرا يخالف الباطن، تقولون كما أخبرتنا ولا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون، ولقد مزجتم صفات الآساد بأخلاق الذئاب، ووضعتم القوة العالية في مصاف الحيوان.
الآساد أشرف منكم نفوسا وأطيب قلوبا؛ فإن ظاهرها باطنها، وباطنها ظاهرها، فأما أنتم فباطنكم الفطري فيه الرحمة، وظاهركم من قبله العذاب، فتلونتم وعذبتم وذقتم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى.
إنكم رحماء طبعا، فلما أن ألفتم الصيد والحرب والفتك والقتل صار عادة، والعادات تلحق بالطبائع، فتصير ألزم من الشرائع، ولا تمتاز عن الخلقة الأولية للعالمين، الناس في حاجة إلى الناس، فاجتمعت القبائل والبلدان، والممالك، فتعاونوا، واختص كل بعمل لينفع الجميع، وتولدت من ذلك المطامع فنشأ الخصام والجدال والقتال، فالحرب فأصبح خلقا فيكم، إنه ليس من طبعكم، إن طبعكم المعاونة، فالحرب عارض يزول.
ما أجهل الإنسان يجتمع مع الإنسان للتعاون، فلما طمع وشره وجهل أخذ يستعد لمكافحة أخيه ليتخذ منزله وغذاءه وأرضه! ليس هذا طبعا، هذه عارضة واهية زائلة، ومن عجب أن يدع الطبيعة وأسرارها، والحكمة وثمارها، ويستثمر ما غرس أخوه، عار عليكم أي عار، وجهل فاضح، وفساد واضح.
الفصل الخامس عشر
في الوحدات الإنسانية من اللغة والدين والوطن والجنس والمعاهدات والمصاهرات والملك
الجامع والأب الأكبر والاجتماع في اللون وغير ذلك
وبينما نحن في الحديث، إذا رجل كأنه خادم قدم ومعه صورتان آدميتان، فناولهما إلى ذلك الشيخ، فأخذهما وقلبهما، وأطلعني عليهما، إذا هما صورتا آدميين أبيض وأسود، ثم قال: إن هاتين الصورتين كانتا تلعبان لعبا مزعجا، في هذه السنة يوم أربعة يوليو سنة 1910، وكان يوما مشهودا، وحولهما جمع عظيم من السود والبيض، فهل عندك علم بهما وبأخبارهما؟ قلت: نعم، إن الأسود يسمى جاك جنسون الأسود، والأبيض يسمى جفريس. فقال: خبرني عن حالهما، وعن حال الجمع المحتشد حولهما، ولا تكتم عني شيئا، فإني موقن أني أفهم حالكم الاجتماعي بهذه الحادثة وأخبارها؛ فإني أعرف الأشياء بسيماها، وأستنتج من صغار الأمور كبارها، ومن أقلها أكثرها، ومن أحقرها أعظمها.
فقلت: إن ألواننا بني آدم مختلفة، فمنا الأبيض والأسود والأصفر والنحاسي، وكل طائفة تسكن أماكن من المعمورة وقد يتجاورون، وهذان الرجلان متجاوران في مملكة اسمها بلغاتنا أمريكا، ولقد تجاولا في الملاكمة؛ لينظر الجمع المحتشد أيهما أقوى جسما، وأطول يدا، وأشد بطشا، فمن غلب فله القدح المعلى، وقصب السبق في المال والشرف، ولقد غلب الأسود الأبيض، فغضب البيض على السود، وأخذوا يؤذونهم بالقول والعمل واليد واللسان.
فقال: أهذه أخلاقكم وآدابكم، أتدري لماذا يتخاصمون، وعلام يتجادلون؟ اعلم أنكم يا بني آدم عند العقلاء صبيان، لا تعرفون إلا العرض، ولا تهتمون بالجوهر، ومن تعصب لمجرد اللون فإنه لا يعلم الحقائق ولا ينظر في أهم الأمور، وإذا كانت هذه أخلاقكم فإنكم لا تعلمون من الإنسانية شيئا، قد اتحدتم في الأرواح والحواس الخمس والأعضاء الظاهرة والباطنة، ثم اختلفت الألوان فأصمت آذانكم وغشت على قلوبكم، فأدركتم الخلاف وجهلتم الوفاق، ولم تعلموا كيف تتحدون.
وأنا أقص لك قصص أحوالكم، أأنتم تعرفون نعمة الهواء، وهل تحسون بفضل ضوء الشمس، وهل تقولون: الحمد لله، فتفرحون بالسماء ونجومها والأرض وبحارها، وكثرة أشجارها وأنهارها وسحابها، وإذا اتجهتم إلى ربكم في خلواتكم فخبرني، أتحسون في أفئدتكم بالشكر على النجوم وجمالها والنار وإيرائها، وهذه العجائب المشتركة بينكم؟ قلت: إننا نشكر على كل ما اختصصنا به من مال وجاه وشرف، وإذا عطشنا حمدنا الله على الماء، فإذا كان موفرا حاضرا لم نحس بشكره ولم نفقه نعمته. قال: فأنتم إذن عبيد منكودون لا تعرفون النعم إلا بمنعها ولا تفقهون الحكم والفضائل والآلاء العامة.
أخبرني إذا منع الهواء فكم زمن تعيش؟ قلت: ثلاث دقائق. قال: فالماء؟ قلت: ثلاثة أيام. قال: فالخبز؟ قلت: أياما كثيرة. قال: فأيها ألزم؟ قلت: الهواء. قال: ثم ماذا؟ قلت: الماء. قال: ثم ماذا؟ قلت: الخبز. قال: ثم ماذا؟ قلت: الفاكهة ونحوها. قال: فعلام تحزنون، وعلام تشكرون؟ قلت: على أقلها طلبا، وأشدنا فيها نصبا، وأكثرنا في حزن على ما لا يحتاجه في يومه وإنما يكون زينة أو ذخيرة لغد أو لولد .
قال: أخلاقكم أخلاق حيوانية، ورب السماوات العلية، لو أنكم بعقولكم ناظرون، وللحقائق مقدرون، لعقلتم العطايا الضرورية، ولم تجزعوا على ما فاتكم من الفضلات، وما هو كنز لما هو آت، فمن يحزن لمال مفقود، أو لرياسة أو لذهب أو فضة، وهو غافل عن هذه السماء وجمالها، والأرض وبهائها، والهواء ونسيمه، بحيث لا يحس بنعمتها، ولا يقنع عقله بقيمتها، وإنما هو غافل إلا عما خص به، جاهل إلا بما كنز، فهو حري أن يتغاضى عن الروح الإنسانية، والاشتراك في الأعضاء الجسمية، والمنافع البشرية، ويتلهى بسواد الجلد وبياضه، أو يتعصب لمن تلون عقله بدين أو عقيدة تخالف مشربه، أو سكن في قارته أو عاش في مملكته، أو تكلم بلغته، أو عاهده على الكر والفر والضر والنفع، أو صاهره للإقدام والإحجام، كل ذلك لجهلكم يا معشر بني الإنسان.
إن اللغة والوطن، والدين والمعاهدة الدولية ومصاهرة الملوك وتلون الجلد، كل ذلك لا يغير الإنسانية ولا يخل بالقضية، هذا فهمته من قضية الأسود والأبيض، وإذن ضاع الحق فيما بينكم، ولا عدل في الأرض. فقلت: لقد بين روسو من علماء فرنسا عقده الاجتماعي، موضحا فيه كيف تنتخب الأمة أعضاءها ونوابها، وكيف يولون الرؤساء والوزراء، وأبان أنهم مسئولون، فيعزلون إذا ضلوا الطريق، وحادوا عن الحق، ومالوا عن الصراط السوي، فقامت قائمة الجمهوريات في الأمم ومنها ممالك ملوكية، وشايعه منتسكيو في رأيه، ثم نازعه في سلطة القضاء، فحكم أن لا يعزل القضاة ما داموا أحياء، على شريطة صدقهم وعلمهم، وجعل أمرهم لنواب الأمة، والتشريع للنواب، وسلطة التنفيذ لمن يولون، والقضاء حرا لا سلطان عليه إلا للأمة، وهذا المنهج سار عليه كثير من الأمم.
فقال: هذه عارضة من عوارض النظام الإنساني، وجزئية من جزئيات علم الاجتماع في الأرض، وما هو إلا أنه مثل حال الصبيان في لعبهم، إذ يتفقون ويتحدون على أكثرهم نشاطا وأفصحهم لسانا، وأحبهم لإخوانه، وأعطفهم على مجموعهم، فيصطفونهم، ويقلدونهم أمور لعبهم، ونظام عملهم، حتى إذا حادوا عن الجادة ولوا غيرهم مكانهم، فما قاله روسو ومنتسكيو تعليم للكبار ما ستر عنهم الجهل والشهوات والمصائب، والتعاليم الباردة الحاجبة للعقول عن فطرتها، والصادة للنفوس عن حكمتها.
فالناس في طفولتهم مطبوعون على النظام والجمهوريات، فيصادفهم في طريقهم ويعارضهم في سيرهم رجل الدين المقلد، وعالم السياسة، والتربية، والعادات، وسوء الملكات، فتنسيه فطرته، وتوقعه في حيرته، فذكره أولئك العلماء بفطرته، وهذا ليس إلا عارضة من عوارض حياتكم الإنسانية، فهل هذه صورتكم عند التعصب للأوطان واللغات وما أشبهها؟
وليس روسو ومنتسكيو وأضرابهم بناظرين للنوع الإنساني ورقيه، إنما دفعوا جزءا عارضا، وأزاحوا ظلما يسيرا، والإنسان لا يزال في ظلمه جاهلا باغيا حاسدا محاربا، وهل هناك قانون يشمل الممالك وسائر الدول؟ فقلت: عندنا الشرائع والقوانين في الممالك. فقال: وهل هناك قانون يشمل الممالك وسائر الدول بحيث لا يظلمون ولا يظلمون؟ وقد علمت ما لديكم من المدافع والبارود والحصون، وبالإجمال إن الذي حرض البيض على السود الإقبال على الأعراض، والجهل بجواهر الأشياء.
إن التعليم في مدارس الكرة الأرضية ناقص مبتور، وإلا فبالله، ما الذي جعل هؤلاء البيض يغضبون على السود، أليس لما يفعله معلموكم، يقولون: جنس أبيض وجنس أسود وأحمر إلخ، والحقيقة أنكم نوع واحد، لا يفرقه لون الجلد ولا العقيدة في القلب، ولا تباعد المكان ولا تعاهد الملوك، ولا اختلاف اللغات، وإن المعلمين لجهلهم يفضلون لونا على لون، وأمة على أمة. عيب وجهل فاضح، يوغرون صدور الصبيان المساكين.
الصبيان يخلقون على الفطرة، وتعليم الأمم في مدارسها مشحون بالنقص والجهل، يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا، فهذا هو السر في حربكم وجهلكم، وأن يقتل بعضكم بعضا وافتخاركم بما أنتم فيه تخوضون، فما حياتكم إلا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد والدول والمدافع والبارود، كل ذلك على القوت واللباس وما يؤدي إليهما من متاع، والحمار والأرنب والنعجة قد كفيت ذلك، فأكلت وشربت، ولبست، وأنتم بما تعملون تظنون أنكم أشرف الحيوان وأعلى طوائفه، وأنتم لا تشعرون.
أولا تخجلون أن تروا النعجتين تلعبان وترتعان وتأكلان، إحداهما بيضاء والأخرى سوداء ولم يعقهما لونهما عن أن تأتلفا، بل إنهما نظرتا لجوهرهما لا لعوارضهما، أولا ترون البقرة السوداء والحمراء ترتعان في روض واحد، أولا تشاهدون الحمام الأسود والأبيض وهو يطير بلا عداء ولا نفور.
قتل الإنسان اليوم ما أكفره! كيف تحجزكم الأوطان أن تتقاربوا وقد أحس أهل الشرق بما أصاب أهل الغرب من الزلزال في إيطاليا، فرحمهم الصديق والعدو، والبعيد والقريب، ولم يصدهم حاجز الدين ولا اللغات، ولا الأوطان، ألا فلتقرءوا فطرتكم، ولتفهموا عقولكم، وكيف تحجزكم اللغات وأنتم ترون الطيور لكل طائفة لغتها في مشارق الأرض ومغاربها، ولكم أنتم لغة واحدة؛ لغة التصوير التي عمت مدارسكم في سائر ممالك الأرض.
ولقد كان التعبير عن صور المحسوسات والمعقولات أول لغاتكم، فلما أن تفننتم في مآكلكم، ومشاربكم ومعارفكم اصطلح كل فريق على مقاطع وضعها للتعبير عن تلك الصور المشاهدة، فتصورتم الحروف الهجائية الدالة على الصور دلالة اصطلاحية على المعاني، فهل الاختلاف في التعبير يدعو للبغض والنفور.
المعاني هي المحسوسات والمعقولات، وأنتم مستعدون جميعا لفهمها، فهل اختلاف لباسها، والعبارة عنها باللغات ينسيكم فطرتكم، ويجعلكم فرقا، وهل تكره ابنك وأخاك إذا ما لبسا غير لباسك أو تزييا بخلاف أزيائك، إن هذا إلا ضلال مبين، إنكم ما أدركتم سر دياناتكم، إن أفاضلكم وأشرافكم، وهم الأنبياء رأوا أن كل فريق منكم يسكن أرضا معلومة يتحدون على غيرهم، ويجعلون المكان عصبية، والقرابة سلاحا، ويتخذون المصاهرة والوطنية سلاحا يحاربون بهما من عداهم، فقام أنبياؤكم ينذرونكم سوء المنقلب، وقالوا: لا تعبدوا إلا الله وأحبوا سائر البشر، فأنتم إخوان لا يحجزكم عن الأخوة مكان، ولا تصدكم قرابة، فاتخذتم تلك الديانات والعقائد أسلحة تحاربون بها من خالفكم في عقيدة أو دين.
ولقد جعل الله عز وجل مصاهرة الأباعد ليتحد الناس، وليعلموا أنهم كبني رجل واحد، وامرأة واحدة، وحرم عليكم أخواتكم وبناتكم وكثيرا من محارمكم؛ لأنكم تحبونهم ويحبونكم بالقرابة، وحلل لكم أن تتزوجوا من الأباعد لتتواصلوا ويتكاثر الأحباب، فالقريب لقرابته والبعيد لمصاهرته، فلما أن فعلتم ذلك جعلتموها سلاحا تشهرونه على من عاداكم، كما اتخذتم اختلاف اللغات والديانات والأماكن، وذلك لما طبع على قلوبكم من الطمع والجشع، وسوء الملكة وتربيتكم في مدارسكم ومنازلكم، وأنتم في عذاب الخزي تعيشون.
الفصل السادس عشر
إيضاح مسألة الأقوى والأضعف وإننا نفعل فعل الحيوان
فلما أن سمعت منه ذلك امتعضت أشد الامتعاض، وقلت: والله لأدافعن، وأقاومن، ولا أدعه يعيرني بجنسي وإخواني، لقد سبنا سبا فاحشا، وسوف ينشر في مجلاتهم وجرائدهم، وأكون أنا سببا في سب هذا النوع الإنساني، واسوءتاه! ويا للعار! ويا للشنار! فقلت: كيف تقول إن الحيوان أرقى منا، ونحن نقرأ الحكمة، ونعرف الفضيلة، ونحكم بالعقل، ونقول الصدق، وفينا أشرف الحكماء، وأفاضل العلماء، والصالحون، والأدباء، والشعراء؟
فقال وهو يتبسم: انظر، فرفعت رأسي، إذا مقمعة من حديد مكسوة حريرا أبيض. فقلت: ما هذا؟ فقال: هذه آدابكم، وأخلاقكم وحسن معاشرتكم، إنكم ظالمون، لكنكم تدهنون، إذ يضرب بعضكم بعضا بمقامع من حديد بمكر وخداع، وكذب وزور، فتناولونهم المر مغلفا بالحلاوة، ويشربون العلقم في صورة العسل، وتسطو الأمة القوية على الضعيفة فتظلمها، وتسومها سوء العذاب، وهي تتظاهر لها بالمحبة والإخلاص، ففعلها مثال المقمعة، وقولها مثال الحرير الكاسي لها، وباطنكم الظلم وظاهركم العدل.
فما أسوأ أخلاقكم، ألا إن الآساد لأشرف منكم، فإن ظاهرها باطنها، وباطنها ظاهرها، دأبها الصدق، ودأبكم النفاق، فأخلاقكم فاسدة دنيئة ثعلبية، فليتكم لم تكونوا، وما أقبح سياستكم، وأشنع ظلمكم، إن الإنسان لظلوم كفار.
ثم قال: فائتني بغير هذا إن كنت من الصادقين. فقلت: إن طبيعتنا لا تتجاوز الناموس الأرضي، وكله إهلاك وتدمير، والأقوى يأكل الأضعف، فإذا سرنا على سننا المعهود فلا جناح علينا، ولا إثم، ولا تثريب، ألا ترى أن العصافير والقنابر والخطاطيف وغيرها تأكل الجراد والنحل والذباب والبق وما شاكله، ثم إن البواشق والشواهين وما شاكلها تصطاد العصافير والقنابر وتأكلها، ثم إن البزاة والصقور والعقبان تصطادها وتأكلها، ثم إذا ماتت أكلها صغارها من النمل والذباب والديدان، وهكذا سيرتنا، فإننا نأكل لحم الجدي والحملان والغنم والبقر والطير وغيرها، ثم إذا متنا أكلنا الدود في قبورنا والنمل والذباب وغيره، فيأكل صغار الحيوان كبارها، ويأكل كبارها صغارها، فعالمنا الذي عشنا فيه مسوق بطبعه إلى التغلب والافتراس، وأن يأكل بعضه بعضا، ويرجع آخره إلى أوله، وأوله إلى آخره.
عند ذلك رأيت حملة الأقلام والكتاب ومكاتبي الجرائد جميعا ينظرون إلي شزرا، وقامت ضجة بالمكان وتكلموا بلغة أجهلها، فسألت صديقي أن يترجمه فأحجم وقال: إنهم لا يعجبهم هذا القول، وقد عدوه رأيا ضعيفا، أساسه الوهم، وعماده الخيال، وسقفه الجشع والطمع وجهل الحكمة. فقال: أظن هذه أكبر حججكم، وأقوى أدلتكم، ولذلك كررتها وأعدتها، فافهمها حتى تعلم حقيقتها، ولا تحتج بها مرة أخرى.
إن ما ذكرته من أكل العصفور الجراد، وأكل الباشق العصفور، وأكل العقاب الباشق، ثم أكل الدود والنمل الباشق، وأكل العصفور الدود إنما ذلك تكوين لدائرة من دوائر وجودكم، فإنك تراه هكذا، دود عصفور باشق عقاب دود، وهكذا يرجع آخرها لأولها، وأولها لآخرها. إن هذا نظام طبيعي، وحكمة عجيبة، وجمال في النظام، كما دارت السنة فصارت ربيعا وصيفا وخريفا وشتاء، وكما تخلقون من ضعف، ثم يكون بعد ضعفكم قوة، ثم يكون بعد قوتكم ضعف، فترجع آخرتكم إلى أولاكم، وكما يتكون النبات من العناصر ويزهر ويثمر، ويعود مفرقا إليها ثانيا، وكما يغتذي النبات بالعناصر، والحيوان بالنبات، والإنسان بالحيوان، ويرجع الحيوان إلى التراب كرة أخرى، وهكذا رأى فلاسفة الأمة الإسلامية.
ولقد استنتج أبيقور اليوناني، وتبعه داروين الإنجليزي أن الأضعف طعمة للأشرف الأكمل، وقاسوا نظام الإنسان على هذا الحيوان، ووضعوا الأمم الضعيفة والصغيرة في مرتبة الدودة، والأمم القوية في مرتبة العصفورة، والتي هي أشد قوة في مرتبة الباشق، ثم في مرتبة الصقور، ونظما على ذلك نظريتهما، فرجعا بالإنسان إلى مرتبة دنيئة، تأباها الفطرة، ويدحضها العقل.
ألا إنكم يا بني آدم نوع واحد لا أنواع، ولكم ناموس وقانون خاص لا تتعدونه، فأنتم كجسم واحد ونفس واحدة، ألا ترى أن شاعر الشرقيين يحبه الغربيون، وعالم الغربيين يحبه الشرقيون، فهل وصل الحيوان هذه المزية من العطف والحب في نوع واحد فضلا عن الأنواع؟ وهل يظن أن نمل الشرق يعلم ما تكنه صدور نمل الغرب؟ أفليس جنسكم أشد عطفا وأغزر حبا ؟ أليس البخار والكهرباء والتلغراف الذي لا سلك له الساري بريده بالأثير أول سلم من التعارف والمحبة؟ أيعقل مثل ذلك الحيوان كالنمل والنحل؟ أفليس الشرقي أضحى يكلم الغربي وكل في داره؟ وسيأتي يوم يسمع الغربي غناء الشرقي، والشرقي غناء الغربي في وقت واحد، فهل تريد برهانا بعد هذا على أنكم أشد قربا، وأكثر عطفا، بفطركم بعضكم لبعض من نوع واحد من الحيوان، فضلا عن الأصناف، فإذا رأيت الحمامة تحب الحمامة، وإن اختلف المكان وتغاير اللون، وهما لا تستطيعان فهما كما تفهمون، ولا عقلا كما تعقلون، أفلستم أنتم أحق بالاقتراب، وأولى بالتحاب، ولا يعوقكم دين ولا لغة ولا وطن؟
أولا تعلمون أنكم كجسم واحد، وكل امرئ منكم كشريان، وكل أمة كعضو من أعضائه؟ فكما أن العين لو نطقت لقالت: إني أحب الرجل، والرجل لو نطقت لقالت: إني أحرص على حياة العين، وكلاهما تقول: إنا خادمان للمعدة والفم واللسان، والحلقوم والكبد والقلب والأمعاء الدقاق والغلاظ، لو نطقت كل واحدة لقالت: إنا خادمات طائعات محبات لمجموع الجسم، وما منا إلا له مقام معلوم، فهكذا فلتكن أممكم وأفرادكم، ولتعلموهم في مدارسكم الحب.
فقلت: وكيف يكون ذلك؟ فقال: سنريكه في مدارسنا الابتدائية، فأما أكل الحيوان بعضه بعضا كما ترى في الدائرة الفائتة التي لم يفلت منها إنسان فذلك نظام طبيعي، ولو أن السباع حرم عليها أن تأكل لحوم آكلات الحشائش، وطرد الدود، فلم يتعاط لحم الإنسان والحيوان في ذلك النظام الجثماني لباد الإنسان والحيوان في يوم أو بعض يوم، لما يداخله من الميكروب العائش في المواد العفنة الجسمية. فأكل تلك الرمم الميتة رحمة ونعمة عليكم، وتلك السباع والديدان جاءت مطهرات، كأنها أطباء أرضكم، بل هي أفضل من الأطباء عملا، وأعظم نفعا.
ألا ترى أن الديدان والذباب والبق والخنافس تقل في دكان البزاز والحداد والنجار، وتكثر في دكان القصاب والسمان واللبان والدباس، أو في السماد والسرقين، فإذا امتصت تلك العفونات واغتذت بها صفا الجو، وطاب الهواء، وسلم من الوباء، ثم تكون تلك الحيوانات أغذية لما هو أكبر منها.
وهكذا تقاس حياة التنين في البحر والسباع والكواسج والتماسيح؛ فسباع البر وتمساح البحر، وعقاب الجو، كل تلك مصلحة الجو والأرض والبحر بما تأكل من الرمم الخامدة، والجثث الهامدة، فأما افتراسها للأحياء مما هو أضعف منها بطشا وأقلها حيلة فذلك ضر قليل محتمل في جانب المنافع الكثيرة، والفوائد الغزيرة.
على أن آكلات الحشائش كثيرة الذرية تملأ الآفاق، وما يؤكل حيا منها قليل جدا، ويعتبر ذلك تقليلا لازدحامها في الصحاري والقفار. فقلت: إن الذئاب تأكل الذئب المريض إذا أيست من حياته، وعلمت بدنو مماته، فما منع الأمة القوية من الأمم البشرية أن تسطو على الضعيفة فتبتلعها، وتدير شأنها إذا أيست من صلاحها كما فعلت الذئاب في أخيهن المريض، وما منع الإنسان القوي أن يقتل الضعيف ليريحه من ألم الحياة، كما فعل الذؤبان؟ فقال: وهلا انتهجتم سبيلا أشرف، ونهجتم نهج النمل في عملها، فإنها إذا مرضت إحداهن أخذن يداوينها بالعقاقير ويعالجنها بما تصل يد استطاعتهن، ويغذينها أحسن الغذاء.
أفتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتستنزلون من ذروة الفضيلة إلى وهدة الرذيلة، وكيف تقلدون الذئاب الظالمة وتدعون النمل الرحيمة، على أنكم أفضل من الحيوانين، وأعلى من النوعين، فلتكونوا أكثر منهما عطفا، وأرق لطفا، وأعلى كعبا، وأجل وأبقى.
فقلت له: إن بقاء الأنفع والأصلح في الدنيا قضية اتفق عليها الشرقي والغربي. قال: فهل الأنفع والأصلح أن تقتل الأمة الكبيرة الصغيرة، ويلتهم القوي الضعيف؟ أهكذا فهم حكماؤكم؟ قلت: نعم. قال: كلا، الأنفع للوجود الإنساني أن تخص كل أمة وطائفة وفرد بما خلق له، ويسير على ما تقتضيه فطرته بإرشاد العقل والحكمة والفضيلة، كما ترى أعضاء الجسد الواحد، وهل ترى افتراس الأسد للإنسان أنفع للوجود، وإهلاك الميكروب القاتل للإنسان خيرا وأبقى من إبقائه حيا؟
أنتم ذوو قوى ثلاث، شهوة غذائية كالنبات، وقوة غضبية كالآساد، وقوة عقلية، وهي كمال الإنسانية، وكل قوة أشرف مما قبلها، وأحط مما بعدها ، فإذا سلطتم قوة العقل على القوتين، وجعلتم إنسانكم سائرا على سنته، وأخضعتم الشهوات والجشع والطمع والغضب وما نتج عنها من الحديد والبارود، والقتال والجنود، فإنكم تكونون قوما فاضلين، وتكون أرضكم كلها فاضلة، فأما أنتم اليوم فإنكم آساد متكبرون، وجهال متكلفون.
هب أن الفضيلة في الإبادة، وأن الأقوى من الإنسان أولى بالوجود من سواه، فما بالكم تصطفون أقوى الرجال للهلاك، من الجنود المدربين، والقواد الماهرين؟ لقد أخطأتم والله المرمى، وكيف تقتلون القواد، وتعزلون الأمراء، من الأمم التي تقاتلونها، وتخلفونهم على أممهم؟ فهلا عشتم بسلام، وراقبتم الحكمة الناموسية، فإنها سترسل على الأرض جنودها، وتستهلك بالوباء والأمراض ما لا يصلح للوجود، فأما أنتم فإن نظامكم قضى بقتل الأقوياء في القتال، وبقاء الضعفاء مع ربات الحجال، فما أجهل الإنسان! ألم تروا الحيوان! أما قرأتم صحيفة الأكوان!
جهلتم والله أقبح جهل، ساء مثلا ما كنتم تفعلون، لكل أمة من أمم النمل وأمم النحل وأمم كلاب البحر وأمم الغربان وغيرها قواد وأمراء من أنفسهن، ولم يدع الناموس العام هذه الأمم بلا رئيس يقوم عليها، وحافظ يتولى شئونها، الوجود محكم، وما ظالم إلا الآدميون.
يدعي الأغبياء منكم أن أمة كذا لا تصلح لحكم نفسها، وقد شاهدوا النحل والزنابير في الخرابات التي خربوها قائمة بنظام جمهوري.
فقلت له: إن الحكمة التي ألهمت النحل والنمل أن تعيش جماعات، هي التي أوحت إلى عقلاء الأمم فساقتهم إلى احتلال بلاد الضعفاء. فقال: أف لكم! وكان الإنسان أكثر شيء جدلا، أنتم عكستم القضية، إن الحياة بين الإنسان خاصة مشتركة فوق سطح الكرة الأرضية، فوجب أن تتحاب الأمم الشرقية والغربية ويكون لهم ناموس عام وقانون واحد وصحبة عامة، ذلك هو الذي أوجبته الحكمة، ولو احتاج نوع من الحيوان لذلك النظام، ما تأخرت جماعاتها عن الاتحاد في مشارق الأرض ومغاربها، ولكنكم اليوم حرمتم نعمة حياة الحيوان، ولم ترتقوا إلى غرفات سعادة الإنسان، فأنتم كالمتدين الذي خرج عن التقليد، وحرم فضيلة الحكمة، فأضحى حائرا، فلا هو من العامة المقلدين، ولا هو من الحكماء المحققين، فهكذا أنتم اليوم، فلا بقيتم مع الحيوان في راحة، ولا ارتقيتم إلى مراتب الإنسان وسعادته، فأنتم اليوم عن المعالي مبعدون، وفي عذاب جهنم الخزي والعداوة جاثمون، صم، بكم، عمي فهم لا يتقدمون ولا يرجعون.
حياة العصفور بجسم الجرادة، وجسم العصفور حياة الباشق، وليس في قتل الإنسان حياتك، أنت تحيا بصناعة وتجارة وعلم وحكمة، وما من أمة من أمم الإنسان إلا وهي متعلمة عما قبلها معلمة لما بعدها، فإذا أكل الحيوان جسم الحيوان، فللإنسان بعد موت أخيه أن يرث علمه وحكمته، ويقرأ قضايا التشريح في داخل جسمه، فللإنسان عن أخيه المائت حكمته وعلمه، وللحيوان جسمه.
وما مثل الأمة الفاتكة بغيرها إلا كمثل رجل يملك ثورا به يحرث الأرض، ويسقي الزرع، فأغراه طمعه، ودفعه جشعه، وأوحى إليه جهله، أن يعجل بالفائدة المرغوبة جزافا دفعة واحدة، فذبحه وأكله هو وأولاده، ففرح يومين، وحزن عامين.
إن أممكم اليوم قصيرو النظر، لا يعلمون العواقب، وإني ما رأيت جنسا في العالم الكوكبي أسوأ سيرة منكم، ولا أقل فضيلة، لا تنظرون للعواقب، ولا تدخرون الأخ للنوائب، وذلك لنقص تعليمكم في المدارس، وتحريفكم كلم النواميس الطبيعية عن مواضعها، ومغادرتكم فطرتكم العالية، وانخفاضكم إلى أسفل الدركات وأدنى الدرجات، ألا ساء مثلا الإنسان الأرضي، ألا إنهم هم الغافلون.
أولا تعلمون أن الإنسان كلما كثرت أفراده زادت ثمراته، على نسبة الأعداد المضاعفة التصاعدية المسماة «المتوالية الهندسية المتصاعدة». فكلما زاد العدد كثر المدد، وبتكاثر الأمم تتكاثر الخيرات، ولو أن أمة أبادت أمة أو أوقفت علمها وأضعفت حركتها فإنها تقطع من جسم الإنسانية العام شريانا نابضا، أو عضوا عاملا، فتبطئ الإنسانية قرونا، حتى تلد لكم بدلها فتعيشون ناقصين، فربما نشأ فيها من العقول والآراء والصناعات ما تعم بركاته الكرة كلها.
ومن عجب أن أممكم لا يدركون بعقولهم أن اهتضام أمة منهم لأمة أخرى نقص لمجموعهم، وقلة في ثمراتهم وسوء في أخلاقهم، وقدوة لشبانهم، وحزن لشيوخهم، وعقلائهم وحكمائهم.
فإذا سطا الحيوان على الحيوان فأكله فقد علمت حكمته ونظامه، ولا ترى حيوانا آخر يساعده، إذ لا حكمة في ذلك، ولا نظام يقتضيه، والإنسان يرى أخاه واقعا في التهلكة، فلا يعينه إلا لشهوة يملؤها أو جوعة يسدها.
من عجب أن الغربان تساعد الغربان، فإذا آذيت خلية نحل قاومك النحل فآذاك، وهكذا الزنابير، وحيوان القيطس يفتك بمن يقتل إحداها.
ولقد علمت أن نوع الإنسان نعمة على بعضه كجسم واحد، فكان الأجدر به أن تحرص كل أمة على أختها ليظهر فضلها، ويعز شرفها، فقد وضح البرهان، وتجلى الحق، وسطع نور الهدى، وقام الدليل على أن بعضهم ظهير لبعض، فهم على سطح الكرة كوارة واحدة وقرية نمل واحدة لشدة حاجة بعضهم إلى بعض، فهلا منعت الأمم بعضها عن بعض بلا نظر إلى دين أو لغة.
ولئن اتحدت طائفة من أممكم على إصلاح جزيرة كريت لما بينهن من صلة لدين، فلماذا لم يتحدوا على إصلاح نوع الإنسان، وكلهم رجل واحد، وما أرضكم إلا جزيرة صغيرة في وسط البحر اللجي الذي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ومن حولكم الحيوانات الكاسرة، والميكروب المميت، وحوادث الأيام، ومزعجات الأنام، وفتكات البراكين، الهادمة لمجدكم، البالعة لمدنكم.
إنكم أمة واحدة، فلم لم تتحد تلك الدول على رقي نوع الإنسان حتى تقاوموا جميعا ما تغشيكم به المياه في طغيانها من أنهارها، والبحار من أمواجها، والبراكين من هدمها وتخريبها، فما أسوأ حال الإنسان! مسكين، وأي مسكين! مسكين ضعيف! كثر وباؤه وأمراضه، وخانه صديقه، ولم يرحمه عدوه.
أما فيكم عقلاء؟ أما فيكم رحماء؟ عند ذلك بكى وبكيت، وضج الجمع المحتشد، ورمى كتاب الجرائد بأقلامهم وبكوا رحمة علينا، وسكن التأديب والتوبيخ والتقريع، ورفعوا طرفهم إلى السماء، وطلبوا من الله رحمة أهل الغبراء، وقالوا: اللهم ارحم هذا الإنسان المسكين.
الفصل السابع عشر
على أي قاعدة تبنى سياسة الأمم
قلت: إني مقتنع أن نظامنا فاسد، وجمعياتنا ناقصة، وسأقص هذا القصص على إخواني في مشارق الأرض ومغاربها، فأسألك بحق ما وهبك الله من العلم والحكمة أن توقفني على الأساس المتين، لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعقلون. فقال لي: ألم تقرأ كتاب «كنت» الألماني على التعليم؟ قلت: أنا لا أعرف اللغة الألمانية وإنما قرأته بالإنجليزية ترجمة السيدة «أنتي تشرتون». قال : ألا تذكر ما قاله في المقدمة العامة على التعليم إذ يقول: لم يعلم الإنسان إلا الإنسان، فهو المعلم والمتعلم، ولو أن عالما أعلى منه ألقى عليه دروس العلم لبرزت كوامن آرائه، وعواطفه وفواضله.
وقال في نفس المقدمة في موضع آخر: مسألتان لم تحلا للآن، ولم يبتدع لهما حل: الحكومات العادلة، والتعليم.
وقال في مقام آخر: إن الفضائل والعلوم كامنة في النفس، كما كمنت الألوان والأزهار والأوراق في البذرة، فاستخرجت بالحرث والسقي والتعهد، ولولا أن في البذرة اللون والثمر ما ظهرا للعيان، ولا ظفر بهما الإنسان.
فهكذا عقل الإنسان، يعوزه التعليم حتى يرتقي إلى سماء فضيلته، ويعلو عن أرض رذيلته، ويرقى إلى سماء الحكمتين، الجسمية والعقلية.
هذا ما قاله في مواضع من مقدمة ذلك الكتاب، وقد ارتأى فيها أن الأمم أصبح عليها أن تجد، وعلى سائر الأفراد أن يجتهدوا، حتى تبدوا كوامن العقول البشرية، والأخلاق والفضائل، ولكن لم يبين كيف السبيل إلى هذه المناهج الشريفة التي بها يسعد الإنسان.
إنا سنشرحها لك شرحا جميلا، إن مسألة الحكومات والتعليم متضامنتان لا تحل إحداهما إلا مع الأخرى، فنشرح لك سياسة الأمم أولا، ثم نتبعها بالتعليم، لتعلم أنهما أختان وصنوان وفرقدان لا يفترقان، وأن إحداهما كالعين المبصرة، والأخرى كالأذن السامعة، فإنهما يجريان في حياة الأمم مجرى الطعام والشراب، فنقول:
يقول «كنت»: إنكم لا تنالون سعادتكم، ولا تستخرجون كنوز علومكم إلا إذا صدر علمكم من عالم أعلى، فالله هو المعلم، وقد وضع لكم كتابا واضحا ظاهرا بينا، وهو هذا العالم الذي به يؤمن أهل الأرض قاطبة، وهو الرق المنشور، فاعقلوه وافهموه لعلكم تهتدون. أحجم علماؤكم وتأخر حكماؤكم الأقدمون والمحدثون عن الجد في ارتقاء الأمم، وحل مشكلة نظام الحكومات والتعليم، لسد الشهوات والمطامع بين عقول الأمم والعدل في القضية.
فأما العلوم التي لا تكلفهم هدى النفس، وإنما تتعلق بما لا يملأ البطن ويسد العوز كالكواكب والأفلاك فإن الأمم تتلقاها وتستقبلها قبولا حسنا، وتفرح بها، كمثل مسألة أبعاد الكواكب ونظامها عند العرب، فقد طبقها أولئك العلماء على فن الموسيقى، وقدروا أبعاد الأرض والهواء والقمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل، وكما فعل العالم «بود» إذ اكتشف قانونا سموه قانون «بود» في سنة 1801 وأتمه «بيزي» إذ أبان أن بعد كل سيار مضاعف لما قبله كالأرض والزهرة والمريخ إلخ، كما هو واضح في كتاب اللورد فبري الإنجليزي في جمال الطبيعة، تقبل العلماء ذلك قبولا حسنا، وفرحوا واستبشروا بما شرح العلماء من العرب والإفرنج.
أما اكتشاف حل للتربية والعدل في الأمم فأنتم عنه محجوبون، وما صدكم إلا الشهوات الحاجبة عن السعادة، فها أنا الآن أضع لكم نظام الحكومات مقتبسا من نظام السماوات لتبلغه لإخوانك أبناء الإنسان.
انظروا إلى العالم الذي حولكم من الكواكب والحيوان وجسم الإنسان، ثم اجعلوا مدنيتكم وتعليمكم على ما تستخرجون وما تستنتجون، وادرسوا فطرتكم الروحية تجدوها مطابقة لها وموافقة لنظامها. قلت: أوضح لي هذا المقام. قال: انظر. فنظرت، إذا نجمة «أركتروس» وهي أكبر من الشمس عشرين مرة، ولا يصل نورها الأرض إلا في مائتي سنة، والضوء يجري في الدقيقة نحو عشرة ملايين من الأميال تقريبا. قلت قد رأيتها. فقال: هذه النجمة أكبر من شمسكم عشرين مرة، وشمسكم أكبر من أرضكم مليونا وثلث مليون، فتكون أكبر من أرضكم سبعا وعشرين مليون مرة. قلت: نعم. قال: انظر كيف ساع النظام السماوي أرضكم مع هذا الكوكب؛ أرضكم صغيرة، بل ذرة، ما أنتم شيء مذكور على ظهرها، ومع ذلك ساد النظام، والتأمت المدارات، وقام كل كوكب فدار في فلكه لا يتعداه، فشمسكم الصغيرة وأنجمها وسياراتها وتوابعها كل له مقام معلوم، لا ظلم اليوم، إن الحساب لسريع، إن النظام لدقيق، ولو أن الأعظم يطغى على الأصغر لهلكت أرضكم، ولقامت قيامتكم ولكن النظام جميل.
قلت: أوضح المقام؛ فإن البون ما بين السياسة والكواكب شاسع والشقة بعيدة. فقال: إن لكل كوكب مدارا ونظاما، فلا يطغى أحدهما على الآخر، ولا يحطمه، وسيرها بنظام وميقات معلوم.
ذلك نظام الله الذي أتقن تلك المدارات وحسبها، فلم يطغ كوكب على كوكب، ولم يحطم الكبير الصغير، ولو أن الأمر كان فوضى لاجتذب الأكبر الأصغر ولأصبحت أرضكم قارة من قارات نجمة «أركتروس» ولكانت أرضكم حجرا من حجارتها وأنتم جميعا لون ذلك الحجر.
إن العناية العالية أرسلت المحبة على الكواكب فجرت ودارت دوران العشق والغرام، والحب ألقى عليها دروس الوله والهيام، فدار بعضها على بعض ولم يبغ أكبرها على أصغرها.
ولو أنكم عرفتم ما في نفوسكم من المحبة والعطف والعشق والشوق وحب بني آدم إخوانكم لألفيتم أن نظام أرواحكم مستمد من ذلك الحب العالي الذي تسمونه جاذبية، فالإنسان محب للإنسان، يحب الإنسان العالم والجميل والشجاع والشريف والكريم، من أي ملة ونحلة وأمة، فذلك عشق كعشق الكواكب، فمن هنا عرفتم أرواحكم وعواطفكم، فسنوا سنن النظام الاجتماعي على مقتضى تلك الكواكب، ولتكن كل أمة منكم كوكبا يحب الأعلى الأدنى، ويتحابون ويتوادون ولا يطغى بعضها على بعض، ولتكن الأمة الكبرى لأخواتها الصغيرات كالشمس للسيارات حولها؛ تلقي عليها أشعة علمها لا تبتغي منها جزاء ولا شكورا، وكما أن الشمس ترسل أشعتها على السيارات وما للسيارات عليها من فضل، هكذا فلتفعل الأمم الكبيرة تجاه الأمم الصغيرة، وكفاها شرفا أنها بناتها تدور حولها، وعار على الأمم الكبرى أن تظلم الصغرى، وعار على الأمم المتعلمة أن تذل الجاهلة.
ولقد علمت مما ورد لي أن الأمم الكبيرة تنزع السلاح من الصغيرة، وتحجب عنها أشعة العلم، وتبقيها فقيرة لتجعلها خدما لها، وأن عندكم أمة لا تبلغ إلا نحو أربعة ملايين أعطيت أمة تبلغ 24 مليونا، ومنعتها العلم والحكمة، وألقت بينها العداوة والبغضاء، وهذا عار وتأخر؛ لأن أولئك الملايين إن استناروا أفادوا المجموع الإنساني أضعافا مضاعفة، فإذا اختصت أمة بقهرهم كالدواب فقد حجبت نورهم عن سائر الأمم، وهو نقص في إنسانيتكم، وشقاء لجامعتكم، أتدري لو أن كوكبا تخطى دائرته ماذا يكون، تتماوج الكواكب، ويضل التوازن، ثم تتحطم، ويكون فساد النظام، كما فسد نظامكم الإنساني بجشع الأمم، وحرصها على المادة الغذائية، ولتعلم أنهم ما داموا لا يراعون إلا المادة، ولا يطيعون وجدانهم وفطرتهم السامية الحقيقة، ويقولون: لا يراعى إلا ما سد الجوع وكسا الجلد فإن نظامكم يبقى فاسدا، حتى تهلكوا، أو تبيدوا، ويؤتى بخلق جديد؛ لأنكم لا وزن لكم ولا قيمة، ولا شرف عند العالم السماوي فإنكم جاهلون ظالمون.
إنكم قتلتم عواطفكم ورحمتكم، وإني أرشدك أن تنشر قولنا في أنحاء العالم، فإن لرجال السياسة عواطف وشرفا وحبا يكتمونها في قلوبهم، ويدعونها جانبا، ثم يقولون: لا نتبع العواطف، بل نجري مع العقل، ولو أزالوا الشهوات، ولم يسيروا على أهواء الجهال من أممهم، وذوي الجشع والطمع من الذين يكنزون الذهب والفضة لوجدوا أن العطف شعبة من شعب العقول والأرواح، ثم انظروا إلى عقولكم وأرواحكم من وجهة أخرى.
إن الكرة الأرضية نبتت فيها الأغذية والفواكه والأدوية والملابس، ووزعت على أقطارها وأرجائها، واختص كل نبات وشجر ببقعة، بحيث لا ينبت إلا فيها، كمثل النخل لا ينبت في أوروبا، وهو ينبت في الشرق، وترى ما احتجتم إليه من الأغذية وافرا حاصلا كثيرا، وما قلت حاجتكم له قل كالأدوية، وما ندرت له الضرورة صار نادرا، كالسم النابت، كما أن الماء كثير، وأقل منه الغذاء، فالأول يقل النصب في تحصيله، ويكثر العناء والطلب والبحث في الثاني، فهل فهمت ما قررناه؟ قلت: نعم.
قال: فهكذا ترى الأخلاق والصناعات موزعة مفرقة على الحيوان، فمنه الناسج كالعنكبوت، ومدخر العسل وصانع الشمع كالنحل، وباني المساكن كالخطاطيف وكلاب البحر، ومغرد كالبلبل وغيره من سائر الطيور المغردة، وهذه مسألة أخرى.
فأما أنتم يا معشر الإنسان، فإن فطركم غرست فيها سائر الغرائز، وأنتم وإن لاصقتم القرد في صورة شكله وتقليده ونفسه فلقد لاصقتم الطاووس في جماله والببغاء في تشكيل صوته وسرعة تقليده، والكروان والكناري والبلبل وسائر الطيور المغردة في حسن أصواتها، والفرس في كره وفره وذكائه، والعنكبوت في هندسته، والنحل في عسله، فإنكم تعصرون القصب لتستخرجوا العسل، فأنتم نوع واحد، أشربت أنفسكم الإنسانية عواطف وأخلاق نفوس الحيوان، ولم يكن ذلك إلا لتصيطروا بنفسكم الإنسانية على غرائزكم الطبيعية العملية، ومتى سلطتم العقل عليها تعلمت وأبرزت مكنونات المخلوقات التي حولها، فتسوسون كالنمل، وتزرعون كزرعها، وتعيشون جماعات كما يعيش حمار الحبشة وأضرابه، وكما تعيش جماعات الطيور زمرا زمرا، ولتمتازوا عنها بهذا العقل الشريف العالي، فتكونوا أمة واحدة، وهذه هي الفضيلة التي بها تمتازون، والشرف الذي به تعلون، فأما الآن فلا شرف للإنسان.
المنافع والفوائد والثمرات مفرقة على سطح الأرض، وعقولكم وزعت عليها الغرائز قلة وكثرة على مقدار الحاجات، ولو أنكم بحثتم وفتشتم ودققتم لوجدتم لكل أمة كما لكل بقعة من الأرض استعدادا، ولكل رجل أو امرأة فكرا وغريزة لعمل، بحيث لو استخرجت تلك الغرائز وسيقت لما خلقت له لسعد الإنسان سعادته الممكنة، ولوجدتم فيكم عقول الحكماء والسواس قليلة والعاملين والزارعين والصانعين كثيرة، كنباتات الأغذية في الأرض، ولألفيتم لكل عمل أناسا يبرعون فيه.
إن الإنسانية العامة كمدرسة تتعلم فيها الغرائز العملية الصناعية، والعقل الإنساني سياج وقانون عام، وحصن يمنع طغيان الغرائز والشهوات والأميال، فهذا معنى الإنسانية، وهذا مستوى فضائلها وشرفها وفضلها.
الإنسان كله جسم واحد تام النظام، فكما أن له عينا وأذنا وأنفا ومعدة وأمعاء وكبدا وطحالا وشريانا ووريدا ورجلا ويدا. فهكذا للمجموع الإنساني غرائز مستعدة للحكمة والعلم والصناعة والأعمال الجثمانية.
ولست أقول: إن الفرد يصلح لعمل لا يصلح لسواه، كلا، فذلك يكذبه العيان، ألا إن كل فرد يصلح أن يعلم كل حرفة وصنعة، هذا لا ريب فيه، وإنما كلامنا كله في أيهم أشد استعدادا وأكثر قابلية، فوضع قولنا في الأفراد والأمم بالقرب والبعد والصعوبة والسهولة والقوة والضعف، وإن أول حل للمسألة الاجتماعية اقتراب عدد الذكور من عدد النسوان في مشارق الأرض ومغاربها بحيث لا تخلو قرية ولا أمة من نسوان وذكران يسدون الحاجة ويقومون بالتناسل.
فانظر وتعجب كيف شبهت أممكم بالشموس والكواكب، وكيف شاكلت عقولكم نظام نبات الأرض على سطحها، ونظام جسمكم، وضارعت غرائزكم غرائز الحيوان، فهل بعد هذا من بيان، أفلا تفهم بعد هذا أن المسألة أصبحت محلولة مفهومة، يقول «كانت» الألماني: ليتعلم الإنسان مما هو أعلى. فهاكم تعلموا من العالم أمامكم، ها هي النواميس الطبيعية، والقوانين النظامية.
إنكم مختلفون ألوانا وغرائز وميولا، متقاربون حبا وعطفا وشغفا، إنكم جسم واحد، فلتجتهدوا في التعلم حتى يحب بعضكم بعضا، ويألف بعضكم بعضا، فما أبعدكم إلا تعليم مدارسكم وكلياتكم البغضاء والكراهة، فاستبدلوا الذي هو خير بالذي هو أدنى.
فقلت: وكيف يتسنى لنا زرع المحبة والمودة في القلوب، بعد أن خامرت الكراهة النفوس، وخالطت العقول، وأحاطت بالغرائز، وصارت صفات بالنفوس قائمة، وطبائع بالأرواح عالقة؟ فقال: قد ضرب لكم مثل محسوس في أكثر الأمم والممالك، أليس أكثر الديانات والعادات يحرم أن تتزوجوا الأم والأخت ونحوهما؟ قلت: بلى. قال: أفليس بعض الديانات يحلل ذلك؟ قلت: بلى. قال: فهل يأنف ملك سيام مثلا أن يتزوج أخته؟ قلت: كلا. فقال: لماذا؟ قلت: لأنه حلال عندهم. قال: وهب أنكم أبيح لكم زواج الأمهات والأخوات، معاشر النصارى واليهود والمسلمين، أفليست العادة تصدكم والأنفة تمنعكم والخجل يردعكم؟ قلت: بلى. قال: أفليس ذلك دليلا على أن الشهوة الإنسانية البهيمية لا تفرق بين القريب والبعيد والمحارم والأجانب، بدليل قوم من نوع الإنسان استباحوا هذا وجوزوه؟ قلت: بلى. قال: خبرني أليس منكم أشرار جهلاء فاسقون، فهل سمعت عن أفسق الفساق فيكم يغشى من حرمت عليه؟ قلت: لا. قال: فكفاك هذا برهانا على أن نوع الإنسان مستعد بالتعليم إلى أشرف غاية، وأعلى منصب وأرقى سعادة، فلو أن الأمم بثت في تعليم مدارسها، وتلقين أبنائها محبة إخوانهم بني الإنسان، وألفوا لهم الروايات وشخصوها في الملاهي، وجعلوها تقبيحا للحرب والضرب، وجعلوا الفخار والشرف لمن حاز قصب السبق في نفع نوع الإنسان، فمن كان أكثر عملا وأقل ضررا فله القدح المعلى في الفضل والشرف والكرم، فعند ذلك يبتدئ الإنسان في درس غريزته ونيل سعادته.
فأما الإنسان الآن فإنه معذب مهان ذليل لا شرف عنده إلا في غريزته، ولا خير إلا في فطرته.
وقصارى القول أن بناء سياسة الإنسان على قاعدة توزيع الأعمال على الفطر الإنسانية في الأفراد والجماعات، وعلى تهذيب النفوس وإصلاحها، وإدخال علم الحب العام في قلوب الناشئين ، وتنفيرهم من الحرب، وإعلامهم بمنافع المحبة العامة، ونواتجها النافعة للمجموع الإنساني.
ألا وإن منزلة هذا العلم من علم الاقتصاد كمنزلة علم الأصول من علم الفقه، وآداب اللغة من النحو، والهيئة من الفلك، فعلمنا باحث عن نظام الأمم وسياستها العامة، وعلم الاقتصاد باحث عن نظام ثروتها ونمو تجارتها وترويج بضاعتها وبيع سلعها، ونسبتها إلى ثروة الأمم الأخرى، واستعداد الدول والأمم في الأعمال العامة.
فليكن لكل أمة قسطها من العمل، وقسطها من الصناعة، وقسطها من الأرض، وليعم التعليم سائر الأمم والممالك، ليكن في جميع الممالك مدارس متشابهة، فيها صور العلوم والصناعات تعرض على الأطفال، فمن برع في فن أو أحبه علمه، وإذن يصبح العالم الإنساني أمة واحدة وجسما واحدا له أعضاء لكل عضو عمله الخاص، هذا ما أردت بيانه في هذا المقام.
الفصل الثامن عشر
في درس تعليم الأطفال الحب العام
هنالك طلبت أن أفهم طريقة الحب العام في مدارسهم. فقلت: لقد وعدتم أن تروني طريقة الحب في مدارسكم؟ قال: نعم، وأشار إلى شاب، كأنه كوكب دري، عليه ثياب بيض، وفي يده كرة بيضاء مضيئة، فذهب أمامي وسار حتى وصلنا إلى مدرسة، فأدخلني قاعة والمعلم راسم على السبورة صورة إنسان، وهو يريهم الأعضاء عضوا عضوا ويشرحها شرحا وافيا لغرض علم التشريح، ثم يكر راجعا ويقول: انظروا، فيريهم أسماء الأمم الكوكبية، مرسومة كل واحدة على عضو منها، وهو يقول هذه الأمة تجلب لنا ملابسنا من الأصواف والأوبار، ثم ينتقل إلى أخرى على عضو آخر ويقول: إن هؤلاء منا بمنزلة المعدة، فإن لديها أغذية وفاكهة، ثم يضع يده على الرجل ويقول: إن هذه الأمة المسماة كذا أبرع جنس في وضع الآلات البخارية.
وبعد أن أتم درسه، وأحكم وصفه وأجاد مدحه. قال: فنحن وهم في الحياة كجسم واحد، لنا روح واحدة، ولو أن أمة من هذه الأمم ضعف أمرها، أو قل علمها، أو نقصت صناعتها لحصل لمجموع جنسنا خلل وألم، ولأصبحنا كجسم نزل به الضر، فيعيش في أسقام وأوجاع وآلام.
واعلموا أيها الأبناء الأحباء أن من الأمم في الكواكب الأخرى من جهلوا مقدار أنفسهم، فأخذوا يتخبطون في النظام، ويظن كل منهم أن يعيش بالقوة والغلبة، فيفعل فعل المجنون يفقأ عينه، ويحيا حياة العميان، ولذلك ترونهم لا يغمدون سيوفهم، ولا ينامون ولا يدعون فرصة للسلاح إلا زادوه وأعدوا العدد للكفاح والسلاح.
ثم أبرز لهم صورة إنسان أعمى وإنسان آخر مقطوع اليد وإنسان مقطوع الرجل، وقال: يا أبنائي، إنهم تارة يكونون كهذا الأعمى لا قائد له، وتارة يكونون كهذا المقطوع اليد، فتقل صناعاتهم، وتارة يكونون كهذا المقطوع الرجل، فلا يجدون من يسهل لهم سبل النقل بين البلدان المتنائية المترامية الأطراف، المتباعدة الأكناف، وتراهم يجهلون فطرهم، ولا يعرفون قيمة ما أعطوا من أرضهم الواسعة، فيكبكبون ويزدحمون في بقعة، فإذا ضاقت بهم الحيل، وضاقت عليهم أنفسهم اقتتلوا بالعصا والسيف، وترى الأمة تحارب الأمة، والأرض واسعة فلا يعمرونها.
ومن عجب أن كثيرا من أراضي الممالك الظالمة قد تترك بلا زرع لتبقى بورا نزهة للمالكين، ومرتعا للوحوش والأنعام ليصطاد المالكون وينعم المترفون، وطورا تدعي الأمة القوية زورا وبهتانا على أخرى غافلة أو ضعيفة دعوى باطلة، فتقاتلها على أرضها جهلا وظلما، ثم تكذب وتقول: إني أرقيهم، إني أعلمهم، وهي لا تخجل من الكذب والزور.
فقال صبي من الصبيان: إذا علموهم فكيف يسيطرون عليهم؟ فقال الأستاذ: يدعون أنهم لا يصلحون لحكومة أنفسهم. فقطب الصبي وجهه وقال: إذن هؤلاء أقل إنسانية وعقلا من الحمير؛ لأنها لها جمعيات تعيش معا، وأقل عقلا وإدراكا من الزنابير، فإذن هؤلاء ليسوا من البشر، ولا من الحشرات، فمن أي العالم هم. فقال الأستاذ: هذه ليست دعوى صادقة، ولو صدقوا لعلموا ولم يسيطروا، ولكنهم كاذبون. فقال الصبي: يا سيدي، فأولئك الظالمون الطاغون ليسوا من نوع الإنسان أيضا؛ لأنهم لا شرف لهم، وهم كاذبون. فقال: إنهم إنسان جاهل.
ثم قال: فاحترسوا يا أبنائي من بغض عشيرتكم وبني جنسكم، ولقد وزعنا أممنا على كرتنا الكوكبية، وخصصنا كل طائفة بعملها، فليس تستغني أمة عن أمة، ولا فرد عن فرد، وإنما ضربت لكم هذا المثل لتعلموا نعمة الله عليكم، وما أوتيتم من نظام وسعادة، ولتعرفوا وتعلموا شرفكم إذا قارنتم نظامكم العالي الفاضل بنظامهم الفاسد الخالي من الخير، ولقد أصبحت أممنا الكوكبية متحابة متعاشقة متوادة، كل يحب أخاه، ويعلم أن سعادته بحياته وشقاءه بفقره، ولقد صرفنا قواتنا في استثمار وعمارة أرضنا، وصرفوا قواهم في إيذاء بعضهم، والاستحواذ على ما ملكوا ظلما وعدوانا وكسلا، وبعدا عن الفضيلة والشرف، وجهلا بحكم هذا الكون.
فقال صبي: أين عقولهم؟ فقال: يا بني، غلبتها الشهوات، وطمستها العداوات، وحجبتها أنواع المطامع، وغشتها ظلمات الهلع وأنواع البدع والضلالات، وأكثرهم لا يكادون يعقلون، صم بكم عمي فهم لا يبصرون، فاستعدوا أيها الأبناء لسعادتكم، واستبشروا بعزكم، واعلموا أن أكرم أمة على كوكبنا أمة كانت أكثر نفعا، وأعز نفسا، وأوفر عملا.
ثم دق الجرس فانصرفوا يبتسمون وهم من أهل الأرض يسخرون، فدلف إلي ذلك الشاب ودلفت معه إلى رحبة المدرسة وفنائها الواسع، فألفيت رياضا بديعة وبهجة وجمالا ونور الشمس يتلألأ في الطرقات، وعلى أوراق الأشجار، وفي ثنايا الأغصان، نور بهيج في خضرة وزرقة واصفرار، ورأيت بدائع الأزهار تتمايل طربا يمينا وشمالا وأماما وخلفا، وكأن الحشرات الطائفات في خلالها ذهب بهي مصنوع من نور الشمس، وبعضها أزرق، كأنه مصنوع من لون الزرقة السماوية وله عيون مستديرات محوطة بلون ذهبي بديع، وهناك ما لا يقدر الواصفون قدره، ولا يتناول العارفون سره، ولا يستطيعون أن يقصوا خبره، ولا يطمعوا في استكناه خبره.
هنالك نظرت نظام حديقة المدرسة فألفيتها خريطة جغرافية، ألفيتها طرقا رملية، ورياضا سندسية زبرجدية، فترى مسافات من الرمل خاليات من الأشجار، تمثل البحار الملحة، وتكاد الصنعة الهندسية في بطاحها تمثل المحيط، ومحيط المحيط وهيئة الأمواج، وزرقة الماء، وابيضاض حواشيه الفضية، وترى الدوحات تمثل الأمم أمة أمة، مقيسة قياس الدرجات العرضية والطولية، فترى الصبيان يلعبون الكرة في تلك الرحبات الرملية، حول تلك الرياض الدولية، والقارات الخضراوية، فترى الشابين يتسابقان ويقول أحدهما للآخر: سر معي شوطا من مملكة «الصين» مثلا إلى مملكة الروس.
ثم وقفوا بغتة وأنشدوا نشيدا لم افهمه، وموسيقاهم تصدح، فطربت طربا وأغشي علي، وغبت عن الشهادة إلى الأحلام، وقلت: هكذا يكون الجمال والسعادة والهناء، العين في مناظر بهجة، ومحاسن بديعة، والأذن في جو من الموسيقى الكوكبية البهية، والقلب في بحر العرفان والأنوار، فهل بعد هذا بهاء وجمال، وهل يبلغ الإنسان هذه السعادة، لمثل هذا فليعمل العاملون.
وبينما أنا غارق في الجمال والبهاء والغناء والموسيقى إذا رجل عظيم الهامة طويل القامة أخذ يوقظني، وقال: قم، فاستيقظت من أحلام إلى أحلام، ومن عالم الخيال إلى عالم الخيال، وقال: قد غشتك الأنوار، وأحاطت بك نغمات الأوتار، وتجلى على عقلك نور الحكمة، وارتديت بالوقار، فغشي على عقلك وأحيط بقلبك، فهل تدري ما معنى الغناء وما الشعر الموزون الذي به غنى المغنون؟ فقلت: لا، وأسعدك الله. فقال: ذلك الشعر الدولي، والحب الإلهي، إنا نربي شبابنا على المحبة العامة بحيث نوقظ فيهم عاطفة أخوية، ومحبة جنسية، لينالوا السعادتين، ويفرحوا باللذتين.
فقلت: وهل هذا الغناء ونغمات الموسيقى داعية لمحبة الدول القاصية، والأمم النائية، وإن حال بينكم وبينهم بعد الشقة، وطول المدة، وفصلهم عن أقطاركم جبال عظيمة، وتخوم شاسعة، وسهول رملية، وضروب حجرية.
فقال: إنما مثل الحب في نوعنا العالي الشريف كمثل الكهرباء لا تثور إلا بالعرك، ولا تظهر إلا بالاحتكاك، فالحب نار في الأشجار إن أوريته ظهر، وإن تركته استتر، الحب الإنساني ساكن في القلوب، ثابت في العقول، قائم بالأرواح، وأكثر الناس لا يعقلون، ولا يعرفون، ها أنتم هؤلاء أبرز لكم الحب العام في سائر الأجسام. فقلت: ماذا تريد بالحب العام؟ فقال: الماء والنار والكهرباء والأثير؛ الماء لا يخلو منه هواء في جميع الأجواء، إنه لبخار طائر، وهو رطوبة غائصة في الطين. والنار جزء من الماء، وهو المسمى أكسوجين، وهي جزء من الأحجار في سائر الأقطار والقرى والأمصار. والكهرباء حب لا يذر عنصرا ولا مركبا ولا ماء ولا نباتا ولا جامدا ولا سائلا. والأثير أصل الكائنات وعنصر المركبات، وهو في كل مكان، وفوق كل زمان، الكهرباء ما ظهرت لكم، ولا أمدتكم بالذخيرة والماء، والدولاب والقطار إلا بقوة بحثكم عنها وتفتيشكم في ثنايا المركبات، حتى عرفتم موجبها وسالبها، ومستقرها ومستودعها، فهل تظنون أن الحب يعمكم بلا بحث ولا تنقيب ولا جد ولا تشمير.
أيقن أيها الإنسان الصغير أنه يوم تقوم قائمة المحبة بينكم، وتثور عاطفة القرب في جنسكم تنالون من السعادة والهناء أضعاف أضعاف ما جنيتم من فوائد الكهرباء، ذلك هو اليوم الذي فيه تعقلون، وفي سعادته تفرحون، وتمرحون، وقد آن أوان سعادتكم، واستخراج الحب من فطرتكم، كما استنبطتم الماء، وأوريتم النار من الأحجار، وأثرتم الكهرباء من الزجاج والماء، وأرسلتم البريد في طريق الأثير بلا سلك تنصبونه ولا قدر تغلونه، ولا فحم توقدونه، فأوقدوا اليوم نار قلوبكم، واستخرجوا نور أرواحكم، وهلموا إلى سعادتكم، وقوموا إلى شرفكم وإنسانيتكم، وتمتعوا بحبكم وشمروا عن ساعد جدكم، وكونوا بالعلم والعقل فرحين، حتى تكونوا من أصحاب اليمين، فهذه المغاني التي سمعت، والمعاني التي بها طربت نقدح بها نار المحبة، ونجتلي بها نور المودة، فهذا تفسير ما أطربك تذكرة لك ولقومك فسوف تعقلون.
وهنالك قضى التلاميذ لعبهم، وأتموا رياضتهم، وسمعت رنات مطربة ونغمات مبهجة، فقفل التلاميذ إلى حجراتهم راجعين، ودلفوا إلى أماكنهم فرحين.
فقلت: يا للعجب! هذه الأجراس المدرسية، ذات نغمات شجية من ذات المثالث والمثاني، لتسر نفوس المتعلمين، وترقى بعقول الناشئين.
ثم سمعت نغمات خفية، ورنات شجية، تتخلل الفصول من آن إلى آن، فأخذتني هزة الطرب، وزاد بي العجب، وقلت: ما هذا الجمال والبهاء والحسن.
وهناك كان التعارف بالشيخ الوقور السيد «جامون» بعد طول شوقي إليه، ثم انطلق معي إلى الحجرات فرأينا الأساتذة، إذا آنسوا في التلاميذ سآمة أو مللا أمروا أن يضرب على الأوتار، فيطربونهم ويفرحون، ولدروسهم ينشطون.
فأذكرني ذلك التدريس شعراء الربابة في البلاد الشرقية، فإنهم يطربون السامعين بشعرهم وموسيقاهم، فعلمت أن في الأرض آثارا جهلها المتأخرون، وأن للعلم سبيلا جميلا، وللتعليم طرقا أجل مما عليه أكثر المعلمين، وبالإجمال إن التعليم وصل في مدارسهم إلى درجات عالية، بحيث تعشقه النفوس، وتألفه العقول، كما تألف الغذاء والغناء .
فهذا ما فهمته فيما رأيته وسمعته، فلما أن خرجنا من المدرسة، والدروس قائمة في أوقات العمل، مشى ومشيت في رحباتها، وباحات بساتينها الباسقة الأشجار، الزهية الأفنان، إذا عامل من عملة البستان أرسله الناطور إلى روضة ليسقيها بالماء، فآنست شجرة ورد زاهرة الزهور، وأغصانها الخضر النضرات، المحلاة بأوراقها الزبرجدية، وأقراطها العقيقية كأنها تتقدم إلي بالزهرات الوردية.
إن في الشجرة مئات منها، ولو رأيت ثم رأيتهن يشبهن أيدي الغانيات، يهدين الباقات الزهرية، لزوار دوحاتها، وقصاد ساحاتها، وشاهدت في يد العامل أنبوبا فضيا بهيا، يتدفق الماء منه ويتقاذف بين ثنايا الأشجار، وفي طبقات الحشائش السندسية.
ومن عجب أن الماء في آن انصبابه على أرض الدوحة ترى فيه ألوان قوس قزح، من أصفر فاقع وأزرق زاهر وأخضر ناضر وأحمر قان وبرتقالي زاهر وبنفسجي بهيج، وكأن الماء بلور في تحليل ألوان الشمس السبعة.
وفوق ذلك شاهدت في ثنايا تلك الألوان الخطوط السود الشمسية، تتقاطع أثناء تلك الألوان البهية، فزاد تعجبي، وعلمت أن تركيب مادتهم على طريقة تكفل إبراز الحقائق العلمية، وإظهار العجائب الحكمية.
فلما رآني السيد «جامون» مطرقا مفكرا قال: لعلك سحرك المنظر، وسرك المشهد؟ قلت: إي والله. قال: ألم تكن لكم يا أهل الأرض عبرة، انظر انظر كيف تقدمت الشجرات لكم بوردها العندمي، تأملوا أخلاق الورد، وجمال الزهر، ما لكم عن الجمال غافلين، وعن الفضيلة عادلين، وعلى الرذيلة عاكفين! ألم تر الماء وهو يتدفق منصبا على الأرض، كيف تراه خطوطا مائية جارية، لا يقهر قويها ضعيفها ولا غليظها دقيقها، ولا يتعدى كبارها على صغارها، وذلك أن الماء رفع في أعلى مكان، كما سيرفع بالتعليم نوع الإنسان، فلذلك أخذ كل خط مائي مكانه ونال طلبه مما استعد له من العمل والسبيل.
إن الإنسان إذا تعلمت جماعاته، وقام كل امرئ وأمة بما جبلت عليه نفوسهم، وما يليق بعقولهم، عمل كل على مكانته، وجروا إلى غاياتهم، جري هذه السائلات الماشية إلى أرضها، فأما إذا بقيت على فطرتها، وتمكنت طبيعتها، بغى بعضها على بعض، كما يجري الماء في الأنهار.
فقلت له: لقد رفعت الشجر علينا، وأكبرت الماء المنصب عنا، ونحن أفضل من الحيوان، وأرقى من الجماد ، وأعلى من النبات.
فقال: لقد فعل النبات ما خلق له، وأنفذ الحيوان ما أعد له، وجرى الجماد لغايته، فأما أنتم فلم تزالوا جاهلين خاملين، أنتم لا تعلمون لم خلقتم، إنكم في ذلك مختلفون، أفرأيتم الشجر الذي من فاكهته تأكلون، إنه لا سمع له ولا بصر ولا شم ولا ذوق ولا عقل ولا رجل بها يمشي ولا يد بها يبطش، وأوتي كل ما اشتهاه من غذاء ودواء وحياة، أفرأيتم الحيوان الذي به تنتفعون، إنه أوتي حواس وأعضاء وآلات بها يسعى، وهو درجات بعضها فوق بعض بمقدار الحاجة وما تقوم به الحياة، فلا تظنوا أنتم والحيوان أن مواهبكم وعقولكم وحواسكم خلقت إلا لإتمام ما نقصكم من مواد الحياة.
فقلت: كأنك تريد أننا لم نرتق عن الجماد إلا بالآلام والتعب، وأن عقل العاقل وسمع السامع وبصر المبصر دلالة على نقص اعتراه، فاتخذ تلك الحواس وسائط ليبلغ شأو النبات، وما هو ببالغه.
قال: بعض ذلك قد كان، ولكن الحكمة الكبرى والفائدة العظمى للنصب الذي عالجتموه، والعمل الذي سلكتموه، والعقول المركوزة، والغرائز الموضوعة، والحواس المضيئة، والأعضاء المعينة أن تتعلموا الاستقلال والحرية، وترفعوا بأنفسكم وترقوا بعقولكم عن الدنايا ولا تعولوا على الطبع والجبلة.
فقلت: وكيف ذلك؟ قال: إن النبات لا حياة ولا حس له إلا على مقدار حاجته، وهو موفى المادة غزير الرزق، والحيوان أقل منه رزقا وأكثر نصبا، أنتم أكثر نصبا وأقل حظا من القسمين.
ذلك لأنكم تتعلمون كيف تعتمدون على أرواحكم وعقولكم ونفوسكم، فإذا فاضت نفوسكم وقبضت أرواحكم إلى عالم غير هذا كانت أقرب إلى الحرية، وأبعد عن الذل بما لها من القوة والملكة الفاضلة، والكبرياء عن المادة، والتدبير والعقل المنير، بمقدار نصبكم وتعبكم، وكثرة حاجاتكم، فما عقولكم وما حياتكم الدنيا إلا مدرسة تنمو فيها العقول، وإلا كانت هذه الحياة لعبة صبيانية، فالعمل والعقل والتفكر والتأمل والتدبير، كل ذلك ترقية لعقولكم، لتكونوا في عالم أرقى، فالنبات وإن كان موفر المادة، حسن الصورة، جميل الهيئة، ليس يحس بعناء ولا نصب، ولا ألم ولا تعب، فإن نفسه ضعيفة ضئيلة ليست حرة.
وهكذا نفوس الحيوان، فهي وإن كانت أعلى مقاما، وأرقى نظاما، من نفوس النبات، فهي لا تزال أدنى من نفس الإنسان على تلك النسبة المفهومة.
فقلت: هذا رأي غريب، ما سمعت به في العالم الأرضي. فقال: إن هذا نص عليه العلامة القطب الشيرازي في كتابه المسمى بالأسفار، وهو أربعة أجزاء، وإني رأيتك تقرأ هذا الكتاب، ولكنك نسيت هذا المقام.
ثم قال: إذا فهمت هذا فلتعلم أن الأمم الأرضية الغاصبة حق غيرها جاهلة ضعيفة الرأي لا يعلمون لم خلقوا، إنهم يعتمدون على ما كسبه غيرهم، فتنحط نفوسهم، وينطفي نور عقولهم، فالحروب والخداع، وزور السياسة، كل ذلك حاط لعقولهم، منزل لها من سموها، جهلت الأمم الغاصبة، والله مساكين، مساكين، إنهم يعلمون أبناءهم الكسل، ويظنون أنهم عاملون، يقولون كونوا كاذبين مرتشين غاصبين في صورة مصلحين.
لأضرب لك مثلا رجلا كان له ابن شرير سرق من ختنه متاعا غاليا، فامتعض الختن وكلم أبا الصبي، فتعصب ذلك الأب الغر لابنه وقال: أومثل ولدي يتهم، وهو ذو عز وشمم؟! فتأصلت ملكة السرقة فيه، فسرق مال أبيه، فأصبح من النادمين.
هكذا تلك الأمم المسكينة الضالة الفاجعة لغيرها، دخلت عليها الحيلة، وداهمتها الغفلة، وغشت على عقولها الضلالات والخرافات، فظنت غلبة غيرها حرية، والظلم مدنية، وهم يهلكون غيرهم، وما يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون، فسيرجع أبناؤهم بعد حين، وقد نمت فيهم الرذيلة والطمع، وحكمت على عقولهم سخيمة الشره، فمزقت أممهم على مدى الزمان كما جرى لدولة الفرس والرومان، فهل الأمم اليوم منتهون.
الإنسان اليوم يظن أنه مسارع للحرية، كلا والله لا حرية لمن يأكل كسب الكاسبين، وينتشل متاع غيره، وقد بينا لك أن دروسكم الدنيوية، وحياتكم الإنسانية، لا فضل فيها إلا للحرية، وهي لكم أعلى مزية.
ثم قال: أيحمد السفر عندكم أم يذم؟ وهل أمر به علماء التربية؟ قلت: إنه حسن مرغوب فيه، وأما قول علماء التربية فإني لا أذكره في هذا الشأن. فقال: تذكر. فقلت: آه نعم، قرأت في كتاب إميل القرن التاسع عشر أن السياحات والسفر من أعلى مقامات التربية الجسمية والعقلية، فإنه داعية للحرية، فإن الرجل الذي لا يرى الأمم القاصية، ولا يعرف أحوالها، ونظاماتها القائمة، يظل خائفا جزعا، وجبانا هلعا، فلا يألف إلا وطنه وكان أشبه بالشاة والشجرة، فيحق عليه ظلم الظالمين، ويطغى عليه كل جبار عنيد.
فقال: فأنتم أيها الناس في سفر سائرون، فالإنسانية في الحقيقة هي السفر الأكبر والشرف الأعظم، فإذا أخلدتم إلى الأرض واثاقلتم فيها باتكالكم على مال غيركم فإنكم بهذا تظلمون أنفسكم، وتهلكون أممكم.
إذا علمت أن حرية الإنسان داعية لسعادته فهل لك أن تعلم أن أحوالكم الإنسانية ونصبها وتعبها داعية إلى أن تكون العقول محررة من الرق والعبودية مما تألفون بالنقلة من حال إلى حال، فإذا فارقت الروح الجسد كانت في روح وراحة، وكلما كانت أكثر عوائق غشتها غواش طبيعية، كما كانت في الحياة الإنسانية الدنيوية، هذا ما تدل عليه المقدمات الطبيعية.
فلما أن أتم حكمته، وأكمل نصيحته رجعت إلى نفسي، وفكرت في سري، وقلت: يا ليت شعري، هذا عجب عجاب، من هؤلاء الذين يذكرونني؟ أنا الآن في المنام، أنا في حلم، لكن الذي أراه حقائق، والذي أسمعه من أدق الدقائق، ومن عجب أن أولئك يقولون ما أعلم، ويعلمون ما أقول، وما أدري لعل هؤلاء القوم الذين أعشقهم، وأهيم بقولهم، وأغرم بصورهم، وأدهش بحكمهم، وأسر لقولهم، هم صور عقلية، وأشخاص مجردون من نفسي، إن أدمغتنا فيها هيئة مدرسة تعليمية وصورة نظامات «نادية» شورية، فما من امرئ إلا أحس في عقله بقوة تحدث الصور، وتحلل المركبات وتركب المحلولات، وتلك القوة المصورة (1).
ويعلم أن هناك قوة ترتب المقدمات، وتنتج النتائج، وتفهم الحساب، وتعرف الهندسة، وتقرأ الطبيعة وهي المسماة بالقوة المفكرة (2).
وكل ذلك في العقل مخزون وفي النفس موجود وهي القوة الحافظة (3).
وقد يتذكر الإنسان بعد ضلته، ويحضر الشيء بعد غيبته، بقوة اسمها المذكرة (4).
وهذه القوى ذات علائق واتحاد وافتراق، والقوة الحاكمة عليها تسمى القوة العاقلة (5).
وهي المدبرة لتلك الجماعات، والقائمة لتدبير تلك السياسات، والمتممة لتلك النظامات.
إن عقلي مملكة واسعة من رئيس ومرءوس، وحاكم ومحكوم، وطائع ومطاع، فالقوة الحاكمة تخضع لها تلك القوى، والإنسان يعلم من نفسه عواطف ومنازع وأوامر ونواهي، وفوق هؤلاء في نفوسنا زاجر واعظ يخفض ويرفع ويعطي ويمنع، فلعل هؤلاء قوى عقلي تشكلت كأنها سائلة مجيبة آمرة مأمورة.
وما أشبه هذه المحاورات بما يحس به المرء في سائر الحالات، أو لعل هؤلاء قوم ناسبوا عقلي وكانوا على مشربي، فاقتربوا من روحي فخالطوها ودنوا من نفسي فخاطبوها، وسواء كان الحق الآخرة أو الأولى فليس يهم الإنسان إلا العظات، فإن كان الخطاب من النفس إلى النفس، أو القول صادرا من غيري إلي فالنتيجة محمودة، والعاقبة مقصودة، والغاية شريفة، وهي السلام العام في نوع الإنسان، وقد ظهرت الشئون الاجتماعية في هذه المحاورات المناسبة، وعلى العقول فهمها، وعلى الأمم نشرها بين الخواص في سائر الأمم والممالك في مشارق الأرض ومغاربها ليسير على منوالها العالمون، ويفقهها المتعلمون.
ثم نظرت فإذا السيد جامون أمامي فقلت: يا ليت قومي يعلمون، ليت إخواني بني آدم يرون ما رأيت ويسمعون ما سمعت، ولو أنهم جاءوا هذه الأرض الفيحاء لتعلموا من علمائها وتفقهوا من حكمائها، ولما حرم أبناء آدم هذا النور والحب والعشق، ويا ليت شعري ماذا أفاد العلم والتعليم، وماذا أحدث الكليات، إنها لم تخرج إلا أعداء، ولم تداو داء.
فقال لي: أعلم أن قلوبكم فيها عنصر الغضب وعنصر الحب، فإنكم عالم من البهائم والملائكة مركبون، ولكم الأمر فيما ترغبون، فإن أردتم الأسدية، والحياة الحيوانية، فلكم ما تشتهون، وإن شئتم المحبة الأخوية فشأنكم وما تعملون، وقد سلكتم السبيل الأدنى وأثرتم ثائرة الغضب والقهر، ولما شاهدتم الأسد في الغابات، والكلاب في الطرقات، والذئاب العاويات، عمدتم إلى فطركم فقدحتم نار الغضب وأوريتم زناد الغلب، وشططتم في سيركم، وبعدتم في غوركم، وزعمتم أنكم صادقون، وإلى المدنية ساعون، كلا والله، قد كان زيد يقاتل عمرا، فضم زيد له آلافا وآلافا ، وكونوا جمعية، واجتمعوا أمة، وصنعوا كرة من نار الغضب، وسهما مسموما من بأس الظلم، وأرسلوها بشواظ من نار إلى آلاف مؤلفة من عمرو وأمم مؤدبة، فأتلفوا أجسامهم، ومزقوا جمعياتهم، ثم أخذوا يسلقونهم بألسنة حداد، ألا إنكم لآساد وأي آساد، وإني لأضرب لكم مثلين اثنين تذكرة لكم وهداية لأممكم، مثلا لحالكم اليوم، ومثلا لكم إذا ارتقيتم وإلى المحبة اهتديتم «المثال الأول».
أ، ب، ج هم الكسالى والظالمون المستبدون بمال أو جاه أو غيرها، د، ه، و، هؤلاء هم المتعلمون الذين تنزلوا بالشهوات أسفل من الحيوان بالمكر والكذب والجبن وغيرها مما لم يجمعه حيوان، ولكن فيهم فضيلة يرقون بها عن الحيوان وإليها الإشارة بحروف ز، ح، ط.
فقال: انظر. فنظرت. فقال: إن تعاليمكم مشوهة ناقصة، مزيج من علم ودين وأخلاق وعصبية وتنازع وتدافع.
فهذه الخطوط الثلاثة المعوجة مثال لبعض القائمين بسياسة الأمم ممن تخرجوا من المدارس الكلية في الشرق والغرب، فإنهم جمعوا بين فضيلة الملائكة بالإحسان والحب العام وبين رذائل أسفل من عالم الحيوان، وأدنى من طبقات البهائم، فبينما ترى الرجل عالما جليلا مغرما بالخير، أرفع من الحيوان، تلقاه ماكرا كاذبا فاتكا، فهو بالأولى أرقى من الحيوان، وبالأخرى أسفل منه في هاوية النقصان، وترى الأسد لا يعلو إلى فضيلته، ولا ينحط إلى رذيلته، فالخط الأوسط رسمناه وحدة تقاس عليها الإنسانية، فما علا فهو إنسان، وما سفل فهو شيطان، وأشرفكم اليوم جمع بين النقيضين، ومزج بين الضدين، فهو من وجه أرقى من الحيوان، ومن آخر أسفل كالشيطان، فذهب شره بخيره، وقبحه بحسنه، ورديئه بجيده، وأسفله بعاليه.
وأما الخطوط الثلاثة المستقيمة خلف الخط الأوسط فإنها تمثل حال الإنسان الذي عاش شريرا، وفرح بما يصيب الناس من أذى، وقر عينا بمساويهم، حتى إذا سمع بنعمة أنعم الله بها على غيره ساءته، أو أصيب بمصيبة سرته، ويأكل بالسرقة، ويعيش بالخيانة، تسبيحه الكذب، وصلاته الغيبة، وزكاته النميمة.
فهل رأيت حيوانا جمع سائر صنوف الشرور والرذائل على مثاله، وهل علمت ضبعا أو كلبا اتصف بخلاله؟ قلت: كلا. قال : أولئك أسفل من الحيوان، وهم أمثال الشيطان، ثم قال: وإذا نظرت إلى نسائكم الجاهلات، وعامتكم السفهاء، وأراذلكم الأدنياء ، وغوغائكم الحمقاء، فإنك تراهم دائما يكيدون، ويمكرون، ويكذبون، فكيف يمدح بهذه الخلال التي عرفها الجاهلون من تعلموا في كلياتكم، فيقولون: سواس ماهرون وقواد قاهرون، اختلفت الأسماء، والمسمى واحد، بل العبيد والأذلاء والجبناء في ذلك المكر أساتذتهم، وهم فيه أئمتهم الأولون.
هذا تاريخ حياتكم ومثال خصالكم، الغضب في جبلتكم وقد أثرتموه حتى أوقد نار الحرب في أرضكم، وجعلكم سلفا ومثلا للآخرين، وأنت تعلم أن في علم الطبائع أعضاء أثرية يحيى بها الحيوان حينا، ثم تصير فيه آثارا ودلائل، بعد أن كانت ذات أعمال نافعة مادية.
فلو أنكم يا معشر الإنسان وجهتم هممكم العلية، ونفوسكم القدسية إلى إثارة ثائرة الحب الإنساني، والتعاشق الودي لأصبحتم في الأرض إخوانا، ولغدا ذلك الغضب الإنساني أشبه بالغدد الأثرية في الأجسام الحيوانية.
فقلت: إني أريد أن أعلم إيضاح هذا المثل كيف رسمته، وعلى أي ناموس طبيعي وضعته. فقال: ذلك مثل رقاص الساعة «البندول» الساقط من أعلى إلى أسفل وفي أطرافه كرات الرصاص متجها نحو الأرض الجاذبة كما تجذب الطبيعة الأرضية ما حولها من الأجسام، فتعاليم كلياتكم ومدارسكم ترفع أخلاقكم إلى الأعلى، ولكنكم لا تزالون في الشهوات منغمسين، وتتنزلون عن درجة الحيوان جاهلين.
ألا ترى كيف رفعت الرءوس الثلاثة عن الخط الحيواني بالتعليم عند ز، ح، ط، وارتطمت من أسافلها في أوحال الظلم وسجين الرذائل عند د، ه، و.
وأما ثلاثة الخطوط المستقيمة شمال الخط الحيواني فذلك مثل ضرب للذين يتعلمون في مدارس اللصوص أو يتبعون خطوات الظالمين، وطعامهم من فضلات موائدهم، ولا خير لهم إلا فيما يسلبون وينهبون، فمثلهم كمثل الضبع والثعلب يغتذيان بما ألقت الآساد، أو كأنهم الحدأ «جمع حدأة» تتبع الرمم غادرتها العقبان، فتأكل فضلاتها، وتطعم عظمها المعروق ولحمها المنبوذ، ذلك إيضاح المثل المسطور فيما رسمناه.
تجلى الحق وظهر لذي عينين، وبرح الخفاء أن في قدرة ابن آدم أن يسامي الكواكب الدرية، ويرقى إلى الفضيلة والأخلاق العلية ، ويسعد مع النفوس القدسية وذلك مثله في هذا الرسم.
لعلك رأيت أنابيب الماء المستمدة من مستودع مرتفع كيف ترى تدفق مائها، ألم تر أنها نضاخة يتدفق الماء منها بلا عوج، وكأنه سبيكة فضة أسطوانية، حولها قطرات تجري على خطوط مستقيمة، لا يعدو عليها ذلك الماء الغزير لضعفها، ولا يسطو عليها لدقتها، بل تراها مندفعة متدفقة سائرة في طريق واحد، جارية لغايتها، واصلة إلى مستوى الحدائق والجنات، تسقيها جميعا كلا بقدره.
فالمستودع مثل المدارس في الأمم المستقبلة حين يرفعون عقولهم إلى مستوى الجمال البديع، منابذين طبائع الأسدية، عارجين إلى أفق الحب الخالص، كما رأوا الكواكب والأفلاك في العوالم العلوية، فيتخرج التلاميذ على المبادئ الحبية، ويعمرون الأرض وهم إخوان متحابون، على سرر المحبة متكئون، لا يمسهم فيها إلا نصب الأعمال العلوية، والحوادث الجوية ونظام الجمعية، والتعاليم المدرسية، ومنابذة الطبائع الجبلية.
وإذا تصير أخلاق المحبة عادة راسخة وطبيعة ثابتة، مثل ما نبذ الناس زواج المحارم في أكثر الأمم والممالك، مع أن النساء متساويات، وهن بالطبع مشتهيات، فأصبح التخلق خلقا، والتطبع طبعا، هكذا في كل شئونكم ستكونون، ولأعدائكم تتوادون.
الماء سائل، وقد رأيتم أن الصنعة رفعته في مستودعه، فنظمت حركاته، وأغدقت على الأرض بركاته، وإذا كان الماء بالصناعة أخرج عن مألوفه الطبيعي، وارتفع عن مركزه الناموسي، وقرأ دروس العلا فأداها، وجرى على الأرض فأرواها، ثم ذهب إلى الأشجار فأنماها، أفأنتم أقل من الماء للرقي قبولا؟ أو أنتم ألزم لفطركم المألوفة، وأحوالكم المعروفة، من الماء لمجراه، ومن البحر لمستودعه في مسراه، ستكونون جميعا عالمين، ويصير الحب العام فيكم جبلة مألوفة، وطريقة معروفة، ويغدو ظلم الأعداء عارا كظلم الأبناء، والغضب والحرب خزيا كالفجور بالمحارم من النساء.
ولعمري إن من تحرج زواج محرمه «وهي وسائر النساء في الشهوة البهيمية سواء» لحري أن يخزى ويخجل من حرب إنسان آخر على ظهر الغبراء، متى لقن ذلك في صغره من الأهل والأصحاب، والمخالطين والأحباب، كما لقن احترام الأم وحب الأخت محبة روحانية خالصة من الشهوات البهيمية.
فالإنسان مستعد للفضيلة والعرفان في قرن واحد من الزمان إذا شمرت الأمم عن ساعد الجد وعممت التعليم، وجعلته من المهد إلى اللحد ، ونطقت بالمحبة العامة الألسن في المحافل والمدارس والمنازل وذكروا بالخزي والعار من ظلم وفتك وأورث الدمار.
هذا مثلكم يا أيها الإنسان، في مستقبل الزمان. فقلت له: إن السيد «ستيد» صاحب مجلة المجلات الإنجليزية يسعى لنشر السلام العام بين الأمم الراقية. فقال: أيبذر في السباخ، أيفرخ حيث لا إفراخ.
إن القلوب إذا تنافر ودها
مثل الزجاجة كسرها لا يجبر
وهل يحصد الناس وهم لم يزرعوا، وهل ينفع الدهان الجمل الأجرب على وبره، أو يحصد الناس الزرع بلا غرسه وبذره، فلتبذروا بذور المحبة في أفئدة الطالبين في مدارس الأرض شرقا وغربا، واغمروها في ماء المحبة العامة قلبا قلبا، وزجوها في نور الود في الصبا، ثم اجنوا بعد ذلك الثمرات، واعقدوا فيما بينكم عقد المودات.
ثم رفعت طرفي إذا حولي أمم لا يعلم إلا الله عددهم جاءوا من كل حدب ينسلون، لينظروا هذا الإنسان الصغير كيف يكون. فقلت: ماذا تريد هذه الدهماء؟ وما تبتغي الجماعة وهذا السواد المقبل؟ فقال: إنهم جاءوا ليروك. فقلت: ماذا يقولون؟ فقال: يقولون: إنكم قرود الإنسانية. فقلت: وما قرود الإنسانية؟ فقال: حيوان نصفه بهيم ونصفه إنسان، وأنتم الآن هكذا يا معشر بني آدم.
ولكن آنست مشهدا جميلا ما رأت عيني مثله، آنست النظام والترتيب، آنست الجمال والنور، آنستهم جميعا على الكراسي صفوفا لا يحصرها العد وهم لي ينظرون، ومن صغر جثتي وقصر قامتي وجهل أبناء جنسي يتعجبون، وعلمت أنهم عرفوا ما دار بيننا من الكلام بالجرائد العلمية، والمجلات الدورية، وقد عرفت في وجوههم نضرة النعيم.
فلما أن دنت الغزالة للغروب، تأهب القوم للوثوب، فلما أن أقبل الليل بجحفله وأسدل الظلام على النور أستاره وناء بكلكله، آنست اللامعات الدراري الحسان تتلألأ في جو السماء، وتبهر الأبصار بنورها الوضاء، شاهدت فيها جمالا لم أره، وحسنا لم أشاهده.
وبينما أنا إليها ناظر ولها مشاهد إذا فتاة تبهر القمر نورا والكواكب حسنا، ظاهرة في الجو ذاهبة جائية في الهواء، فنظرتها إذا عليها ملابس زرق سندسية صافية زهرية، وأخرى بنفسجية، لو رأيت ثم رأيت وجها مشرقا بدريا، طل من طوق حللها الزرق البهية كما يطل البدر الطالع من طوق الحلة الزرقاء السماوية، وهي تتغنى بأبيات وتنشدها بنغمات، كأنها المثالث والمثاني، بأبلغ الألفاظ وأرق المعاني، ما سمعت نظيرها على الكرة الأرضية من الآلات المطربة الشجية، لقد بهرني جمالها، وغشي على لبي غناؤها، فسمعت من نظمها ما ترجمته بالحرف الواحد.
يا أيها الناس اسمعوا مني وعوا، قارنوا سعادتكم ورفاهيتكم ومدنيتكم بما أوتيت حشرة أبي دقيق من الغبطة والسعادة، وما سخر لها من الكواكب بالضياء، والماء بالسقاء، والهواء بالتغذية، والإنسان بالخدمة، والحيوان بالمساعدة.
بم تفتخرون؟ إن أعظم ما أوتيتم من السعادة أن حفرتم الأنهار، وسقيتم الأشجار، وجنيتم الأثمار، وأدرتم الدولاب، فنسج اللباس، وخاط الجلباب، ورفع الماء، وطحن الحب، وخبز العجين، وجمعتم البخار، وأثرتم الكهرباء، فدفعا القطار، وأرسلا البريد في البحار، والقفار، ورويا الأخبار، وحللتم العناصر، وصنعتم منها أجنحة طرتم بها في جو السماء، ثم قهرتم الأعداء بالسلاح.
هذا جل ما أنتم به تفتخرون، وأعظم ما به تستكبرون، هذه ثمرات مدارسكم، وغرس كلياتكم وملخص عقولكم، وجهد فلاسفتكم، وعلم حكمائكم أجمعين، حشرة أبي دقيق دبت على الأرض، وطارت في الجو، وقد كسيت ريشا جميلا مزوقا بهيا للناظرين، ها أنتم ترونها تسكن القصور الخضر من الأوراق النضرات، والأزهار الباهرات، قد سخرت لها الشمس بضيائها، والقمر بنوره، والنجم بهدايته، مرسلات أضواءها إلى الأرض، تنمي النبات، وتجري الماء كما سخرت لكم، فأنتم وهي سواء، تأكلون وتشربون، ثم إنكم مسخرون بآلاتكم وعقولكم وكلياتكم، وما أوتيتم من معامل ومصانع وهندسة وحساب وآلات ميكانيكية «دولابية»، فبذلك تزرعون، وهن آكلات فرحات طربات، مسخر لها طلاب العلم وعلماء الكليات في مشارق الأرض ومغاربها.
قل لقومك يا إنسي إنكم عندنا لم تسبقوا حشرة أبي دقيق البهية الطلعة الحسنة المنظر، فإن زعمتم أنكم أرقى منها بعقولكم ومدارسكم وكلياتكم فخبرونا ما الذي بها صنعتم، وما الذي به عن الحشرة امتزتم، أكلتم وأكلت ، شربتم وشربت، لبستم ولبست، سخرت لكم العلوم والآلات وسخرت لها، خدمكم الناس والدواب طوعا أو كرها وخدمتموها، فما بالكم تفخرون، مشيتم على الأرض وركبتم القطار، وطرتم في الجو، هكذا الحشرة زحفت دودة ثم مشت بأرجل ثم طارت في الجو، فبم أنتم أيها الناس تستكبرون؟ أهذا منتهى مدنيتكم؟ إذا كان هذا رأيكم، فابكوا على عقولكم، وكبروا أربعا لوفاتها، وليكن اليوم آخر عهدنا بكم، أيها الناس الأرضيون.
ألا إنما فخركم الأعلى ومجدكم الأسمى، وسعادتكم العليا، وعزكم الأوفى، أن يتصافح الشرقي والغربي، والجنوبي والشمالي، والأسود والأبيض، ويكونوا إخوانا على سرر متقابلين، وليكونوا لبعضهم أحبابا فيسود السلام، كما أعان الطبيب الياباني العالم الألماني في اكتشاف دواء الزهري في هذه الأيام، فلولا تعلم اليابانيين ما برز منهم ذلك الطبيب الشرقي وساعده أخاه الغربي، إن في ذلك لآية لكم إن كنتم تعقلون، كلما كثر المتعلمون الصادقون اتسع نطاق السعادة.
ألا إن هذا هو الفرق بين الإنسان والحيوان، ولا خير في عقل لا يعلو بالعاقلين، ولا شرف في فطانة تقعد بالفطنين، ولأضرب لك مثلا آخر، إنكم يا بني آدم مع الحيوان أشبه شيء بالبندول إن أرسلته على حاله أشبه الحيوان الأعجم في إرساله، وإن حركته أخذ يهتز حركات إلى يمينه أو شماله، فحال الحيوان كحال البندول عند وقوفه، إن لها غرائز لا تتعداها وطرائق لا تنساها.
فأما أنتم فأطلق سراحكم، فاهتززتم ذات اليمين وذات الشمال، لما لكم من العقل الوافر، والفكر الحاضر، فحركة اليمين تمثل الفضيلة والشرف، وحركات الشمال تشبه الخسائس والرذائل بالترف، فأنتم خلقتم الأكاذيب، وأخلفتم المواعيد، وخنتم العهود، وخضعتم للملوك والأغنياء، وحبستم الأموال، وأغليتم المهور، وصنعتم الفجور، ووشمتم الجلود، وخرقتم الأنوف بالحلي، وفتحتم المنافذ في الآذان للأقراط، وهكذا مما أطال به سبنسر في كتاب التربية بأنواع الزينة الجاهلية، وتغاليتم في المآكل والمشارب والملابس، وأفرطتم في السلاح والكراع والقتال، وعبدتم الصور والتماثيل، وأخذتم العادات المرسومة عمن لا يعقلون من جهال الأمم.
إذا فعلتم هذا كله فإنكم من أهل الشمال، تنزلتم عن الحيوان، وأصبحتم من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وكانت حركات اهتزازكم إلى حال أسفل من حال الحيوان.
بئس ما يصنع الإنسان، إنه كان ظلوما جهولا، قتل الإنسان ما أكفره، إن الإنسان لظلوم كفار، إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإذا كان التحاب والتواد والفضيلة وإغاثة الملهوف وصنع الجميل وإغماد السيوف، ومساعدة الأمم القوية الضعيفة والعالمة الجاهلة، واتحادهم وتضافرهم على استخراج المنافع الأرضية والحكم الكونية، فإنكم بذلك تبلغون مراتب الإنسانية، وتربئون بأنفسكم عن حال الحيوانية، وتكون حركاتكم ذات اليمين.
فبلغ قومك أيها الإنسي ما قلنا، وأفهمهم أن حركة بندولكم الإنسانية هي اليوم شمالية، وقد آن أن ترجع يمينية، فيسود السلام والوئام، لقد هديتم النجدين وخيرتم بين الطريقين، وقد سرتم في شرهما طريقا وأضلهما سبيلا، فقد آن الأوان واستدار الزمان، لتكونوا على صراط مستقيم، كما خلقتم في أحسن تقويم.
ثم أشارت إلى ذلك الشيخ الأعظم السيد «جامون» وقالت إنه سيلقي عليك قولا فاستحضر وبلغه لأهل الأرض لعلهم يعقلون. ثم غابت الحسناء عن الأبصار، وولت والقلوب معها، بعد أن قام الجمع وودعها.
الفصل التاسع عشر
مجلس الحكماء وضرب الأمثال الحسية للأمور العقلية
عند ذلك أشير علي بالرياضة والنزهة في بعض نواحي الأرض الكوكبية مع فتى يرشدني جميل المحيا، حسن الشكل مرصع الحلل بالدرر الحسان، فمشى ومشيت، حتى إذا أشرفنا على معهد علمي، وناد حكمي، يجتمع فيه حكماؤهم ويتناجى فيه شيوخهم، فألفيته مكانا واسع الأرجاء، بديع البناء، مرفوعا على العمد، وهو من جواهر عجيبة، تفوق ما نعرفه في أرضنا.
فمنها ما هو كالياقوت الأحمر، ومنها ما هو كالزبرجد الأخضر الزاهر، تكاد بهجتها تأخذ بالأبصار، ومنها ما هو كالعقيق وكالمرجان، ومنها ما هو الدر المشرق ضياؤه الزاهر إشراقه، وتلك العمد تختلف أطوالها باختلاف أوضاعها، إنها تحمل سقفا مرفوعا كالقبة السماوية، مشرقا بالمصابيح المرتبة أوضاعها المزينة أشكالها، كوضع نجوم السماء وترتيبها وأحجامها المنظورة، وبينهن مصباح أشبه القمر في تربيعه الأول قد استضاء نصف دائرته.
فلو رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا، وتمثلت لك في ذلك السقف الأزرق مصابيح أشباه الثريا، وأخرى تشبه المجرة في استطالتها وبياضها، وترى فيها هيئة الدب الأصغر، وصورة الدب الأكبر، والنجمة القطبية.
فعلوا ذلك حتى لا يحجب عنهم نور العلم وإشراق الحكمة السماوية بسقف كوكبي، وترى تلك الأعمدة دقيقة مرصعة بالأحجار الكريمة، مرسومة بأحجار ثمينة، بهيئة أشكال هندسية، متداخلة، الصور متضارعة في الجمال، وكلما كان العمود أقرب إلى وسط القبة فهو أطول، وكلما تناءى عنها فهو أقصر، ومن رآها علم لأول وهلة أنها زينة للناظرين، وترى الحكماء في ذلك المكان على الكراسي جالسين، وقد أقبلوا إليه من كل حدب ينسلون، عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلل مرصعة بالجواهر واللآلئ والمرجان.
وكان رئيس الحكماء في وسط الجماعة وحوله الأول فالأول، وهم في روضة بهية، فلو رأيت ثم رأيت أشجارا ذات أوراق بيض ناصعة، كأنهن الدر المكنون، يتخللها أوراق حمر قليلات، لم أتبين، أهي أزهار أم أوراق، وتلك الأشجار صفوف منظمة تتبين تحتها فرشا حمرا قانية، وما أدري أذلك نبات متراكم، أم متاع منظم، وذلك في وسط محيط يشاكل القطع الناقص.
فلما نظرت في إحدى البورتين شاهدت أنواعا من النبات حمرا مختلفات الأشكال، وكلما قاربت الوسط آنست ما وصفناه من الأشكال الدرية، ذات الألوان البهية، ولقد سمعت خطب الحكماء، وما أدري ماذا كانوا يقولون، وقد كنت جالسا في زاوية بحيث أراهم ولا يروني، ولكن لم يتسن لي أن أميز وميض النور المشرق من الحلل والجواهر، والدرر المرصعة المجلوة للناظرين، ولبثوا على ذلك ساعات متواليات.
وبينما أنا كذلك إذ قال لي صاحبي: لقد جاءني نبأ من الأستاذ الحكيم أنه سيبعث لك بتلميذه الأول ليلقي عليك العلم والحكمة، ويعلمك ما لم تكن تعلمه بمقدار استعداد قومك في أرضك.
وما أتم كلامه حتى جاء ذلك الرسول عليه ثياب خضر تشبه ثياب أهل الأرض، قليلة البهجة والزينة، فحياني وسلم علي وآنسني، وأخذ يسمعني من صنوف الحكمة عجبا مما يلائم طباعنا ويواتي أمزجتنا، إذ قال: لعلك تبينت الفرق بين زيي وزي هذا الجمع المحتشد؟ فقلت: نعم. فقال: إنهم أحسن بزة وأبهج شكلا ليتشاكل ما أوتيت من قليل الحكمة بما أزدان به من الملابس، ولتعلم أن الفرق بين الحكمتين الأرضية والكوكبية كالفرق ما بين البزتين، وأن ما سمعته من الحكمة يسير بالإضافة إلى حكمتنا، كما أن ما لدينا من الحكمة قليل إذا قسناه بمن هم فوقنا قدرا وعلما.
يقول لك أستاذنا: قل لأولي الألباب من أهل الأرض: إنكم امتزتم عن سائر نوع الإنسان بخاصة الذكاء والفطنة، وجعلتم في الأرض نورا مضيئا لتنقذوهم من الجهل المبين، فما مقامكم إلا أيام قلائل تبثون فيها الحكمة ثم ترحلون، وإنما مثلكم في نوع الإنسان مثل الإنسان في أنواع الحيوان.
أولو الألباب كنجوم تشرق لتضيء على العالمين، وشموس تطلع ثم تغيب عن الناظرين، فلينقذوا نوع الإنسان من تهلكته، إن الإنسان لفي خسر عظيم، أولو الألباب أنزلوا إلى الأرض لقصد الإنعام على أولئك الأنعام الضالين، لا مقام للعقلاء في الأرض إلا ليصنعوا الجميل، ويرحموا الجاهل، والناس كلهم ظلوم جهول، فليرشدهم أولو الألباب للمحبة العامة، ليستخرجوا كنوز أرضهم، ويكونوا أمة واحدة، ولتصبح الكرة الأرضية كلها جنة دانية الجنى.
فالإنسان الحقيقي المستقبل من جمع بين الحس والمعنى، وجنى ثمرات الجنتين، هذا هو الصراط المستقيم.
ثم أخذ بيدي وسرنا حتى أشرفنا على واد فسيح أشبه الأمكنة بأرضنا، فاعترتني الوحشة، وأخذتني الدهشة، واستولت علي الحيرة، وأحسست أني خرجت من النعيم إلى الجحيم، ومن السعادة إلى الشقاء المقيم.
وأول ما صادفني بيت فيه جرار مملوءة عسلا مغطاة ظواهرها بأنواع الذباب المتكاثفة وهي تطن طنينا. فقلت: ما هذا؟ فقال: هذه ضربت مثلا لأحوالكم الاجتماعية، وأخلاقكم الحيوانية، فإن الرجل الفاضل يحيط به المذبذبون الذامون كما يحيط الذباب بجرار العسل، وما هي بضارة الجرار، ولا بناقصات العسل، ففي ذلك عبرة للمفكرين.
ثم انطلقنا إلى روضة خضراء كأنها مرج ابن عامر ببلاد الشام، فأبصرت عقربا صفراء كأنها تل كبير، نائمة في مزارع البرسيم وهي تأكله أكلا لما، وتطارد رجلا من الزارعين، فعجبت لعظمة جسمها، وكيف تأكل البرسيم وهو ليس لها بطعام. فقلت: ما هذا؟ فقال: ذلك الرجل العظيم يبذر في عقول الشبان الحكمة والموعظة الحسنة فيؤذيه أعداؤه الألداء، حسدا على فضيلته، وهو ناج إذا كان من المخلصين.
ثم انطلقنا، فرأيت رجلا معمما واقفا وقد أحاطت به طيور سود من كل حدب تنسل، وهي تتعاوون على انتزاع عمامته بمناقيرها، وهو ممسك بها، فلا هي عن رأسه رفعتها، ولا هو مفرط في حفظها. فقلت له: ما هذا؟ فقال: هذا مثل الرجل العظيم عندكم، يحيط به الأعداء الحاسدون لينتزعوا شرفه، فإذا ثبت على أخلاقه ومبادئه فإنه من الفائزين.
ثم هجم علي النوم. فقال: سأنصرف لشأني ومتى استيقظت حضرت لديك، فلما أن قمت من النوم ألفيتني بين مزارع نضرات، وحقول خضرات، ولا أنيس لي، والليل مرخ سدوله، متمط بصلبه، ناء بكلكله، والنجوم زاهرة، وبينهن نجمة مشرقة، صوب القطب الجنوبي، فاجتمع بنفسي ضدان؛ فرح بالجمال والأنوار، وخوف من وحدتي في الظلام، فما أسرع ما حضر صاحبي إلي، وسلم علي، وقال: إن حالك الساعة أشبه بحال الحكماء في الأمم المقهورة، يفرحون بما آتاهم الله من حكمته، وما شرفهم به من النظر في جماله وخلقته، ويخافون من جهال السواس الذي يبغضون الحكماء حسدا لهم على مرتبتهم، وما كان لهم أن يطفئوا أنوار المصلحين.
فلما أن أشرقت الغزالة، وطلع النهار، ركبنا ذات ألواح ودسر شراعية في بحر لجي، كأنها تسير من أرض المشارق إلى المغارب، وهي على الطراز الشرقي، تحمل قوما ذوي منظر جميل، فاستوقف نظري أن رأيت نملا يحيط بها من سائر جوانبها. فقلت: ما هذا التمثيل؟ قال: أما السفينة فالنجاة بالعلم، وأما الراكبون فهم العلماء، وأما النمل فهم رجال السياسة الصادقون، أولئك هم الذين يؤيدون العلماء المصلحين.
ثم رست بنا السفينة على جزيرة خضرة نضرة، فرأيت رجلا واقفا، وفوق الرءوس في جو السماء، طير أبيض كبير، مقدار جسم الإنسان، وقد نطق باسمه بلسان عربي مبين، فنادى ذلك الرجل عليه، فنزل إليه، فقبل الرجل جناحيه. فقلت: ما هذا؟ فقال: أما الرجل فمثال الحكماء والأنبياء، وأما الطير في جو السماء وما نطق باسم هذا الرجل، فمثال ذكره الحسن بين العالمين، وعموم علمه بين الشرقيين والغربيين ، والله لا يضيع أجر المحسنين، فإن كنت في شك من ذلك فاسأل عن قصص يوسف الصديق النبي، كيف عف عن الخنا، وصبر على السجن والأذى، وعلم الصعاليك المسجونين الأدب، ولم ينسلخ عن آدابه وفضله، وعفا عن إخوته الذين كانوا له حاسدين، فأوتي الملك والحكمة واليقين.
واسأل النبي محمدا
صلى الله عليه وسلم ، كيف صبر على أذى قريش، وكيف صفح عمن آذوه من الأقربين، وكيف أوتي الملك والشرف بين العالمين.
ثم مشينا قليلا فإذا رجل جالس على كرسي، قد كبرت عينه كأنما هي كرة مصور الجغرافيا في المدارس قدرا ورسما وهيئة، وما أدري كيف كان المنظر إذ ذاك، حسنا مقبولا لا مشوها مرذولا، وهو ينظر في السحاب، والشمس قد توارت بالحجاب، وقد صبغته بدمها المطلول، وعندمها المحلول، وكان السحاب قطعا سودا وبيضا وصفرا وحمرا، على نسبة اقترابه من الشمس وابتعاده عنها، والنسمات لاعبات بأغصان النخيل والأعناب، ولها غوير، وصفير، ونفحات مطربات، وترى الأوراق تتصافح، والأغصان تتعانق، فطورا تشب إلى العلا، وطورا تتدلى، وآونة تسكن النسمات، فتسكن الحركات، وتتقطع اللفتات، وسمعت الرجل يقول: «عجبا لجمالك، وواها لصنعك وبهائك، زوقت السحاب، ولونت السماء، فوحق بهائك، وبديع جمالك، لألونن قلوب الناس بالعلوم، أنت نظمت سماواتك، وزخرفت جناتك، ونصبت ميزانك، فلأنظمن العلوم، ولأزينن بها القلوب، ولأنصبن ميزانا عادلا، به يقوم الناس بالقسط والعدل، ولأرفعن به الفضيلة، ولأنزلن الرذيلة إلى سجين.»
وإذ ذاك، ظهر القمر ووضح نوره، والحشرات معنيات، في تلكم الخلوات، فنظر نظرة إليه، وقال: «هذا هو المجد الرفيع، والصنع البديع، ما للإنسان يبني، ويهدم الدهر بناءه، أعمار قصيرة، وأعمال كثيرة، تقضي عليها المهلكات، وتزيلها الموبقات، مجد داثر، وعمل بائر، وشرف فاتر، القمر عمل مجيد، ومجد قديم جديد، أين مجد الإنسان، إنما الجمال في السماوات، لا عز في الحياة الدنيا، إنما العز في البقاء، إنما حياتنا أشبه برسوم يقرؤها الصبيان، فإذا قرءوها أزالوها، إنما الحياة لعب ولهو وزينة، فلأصطفين من العمل ما يبقى نفعه، ويعظم وقعه، إننا نعلم في الأرض تمرينا على الفضيلة، فإذا استحققنا الشرف أوتيناه.
إن النجوم والأقمار والشموس حروف كبيرة، تقرؤها أرواحنا الصغيرة لترتقي يوما ما إليها، وترفع بالفضيلة والعلم فوقها.
ليست الأرض مستقرا لنا، فلننظمها لمن بعدنا، ليكون ذلك لنا مرانة، ولمن بعدنا سعادة، فنرفع إلى عليين، ويقفي أبناؤنا على آثارنا مهرولين.»
فعجبت لمقاله، وقلت لمن معي: من هذا الذي نراه؟ فقال: ذلك الرجل من أهل أرضكم، عقل الحكمة، وفكر في العالم، وقاس نظام الإنسان على نظام العالم، وحقر الدنيا في عينه، فأما عينه الكبيرة وما عليها من هيئة وزينة البلاد والأقاليم والبحار فذلك دلالة على إحاطته بالنوع الإنساني خبرا، ونظره للناس كأنهم أمة واحدة، في بقعة واحدة، يتكلمون بلغة واحدة، وتلم شعثهم حكومة واحدة. فقلت: وهل هؤلاء يكثرون في الأرض؟ فقال: كلا بل يقلون، ألم تر إلى وحدة الشمس والقمر؟ وقد آن أوان أن يتعاقب أمثال هذا في أرضكم، حتى يهذبوا أممكم الجاهلة، ويضعوا لها حكومات عاقلة، صالحة.
فعجبت من مقاله، وقررت عينا لتبيانه، وقلت: لمثل هذا فيلعمل العاملون. •••
ثم انطلقنا، إذا قبة كبيرة، صيغت من الدر الكوكبي، تدور على نفسها، مجعولة نصفين، منقسمين متميزين، أعلى وأسفل، وهما يفترقان تارة ويجتمعان أخرى، ويبتعدان، ويقتربان، ويرتفعان وينخفضان، فلمحت باطنها إذا هو نور باهر، وضوء ساطع، وسمعت رنات الموسيقى، ونغمات الموسيقار، وكأنما النور المشرق فيها، قد مزج بالغناء، أو كان حركات الذرات الضوئية، تولد النغمات الصوتية، والرنات المثنوية والمثلثية مرتبة الداخل، مزينة بأجمال الأثاث وأفخر الرياش، فيها ما لم تره العيون، من طرائف الفرش وبدائع الجمال.
ولمحت فيها قوما أعينهم في غطاء عن النظر للأنوار، وآذانهم في صمم عن استماع النغمات، وبينهم شاب جميل الطلعة، حسن الشكل، جميل المحيا، باسم الثغر، مبتهج القلب، ظاهرة على وجهه نضرة النعيم، وقد ألفيته ينظر إلى من حوله، وهم في كآبتهم وشقاوتهم جاثمون، فيزيل الغطاء عن العيون، وما كان أسرع انسدالها، ويأمرهم بالإصغاء إلى النغمات، وما كان أقرب أن تصم الآذان، وهم في الحزن خاشعون، فسألت صديقي: ما هذا المنظر العجيب؟ فقال: هذه القبة مثال هذا العالم الذي خلقتم فيه، فإنه عند أولي الألباب، مصوغ من الجمال والحكمة والبهاء، وما يعقلها إلا العالمون، فصور للجاهل، وعبر عنه للغافل بالنور والموسيقى وأنتم في الأرض غافلون عن جماله، معرضون عن نظامه، فإن الجمال يحيط بكم، فمن فوقكم نور ونظام، ومن جوانبكم ترتيب وبهاء وجمال، وأما هؤلاء الذين أعينهم في غطاء، فهم أبناء جنسكم الآدميون، فإن هذا نبأ عظيم وبهاء أنتم عنه معرضون، وأما هذا الشاب، فإنه مثال الحكماء الذين أدركوا مزايا الجمال، وفهموا بعقولهم ما حولهم من الحسن والبهاء، فهم في الحياة فرحون، وبربهم واثقون، ولإخوانهم راحمون ومعلمون. فقلت: فصل ما أجملت، وأوضح ما ذكرت. فقال: اسمع الحكمة مني وخذ العلم عني. (1) الزهرة والنحلة
شاهدنا نحلة وقعت على زهرة. فقلت: ماذا تعني؟ فقال: أليس من العجب أن جملت الزهر، المسماة «بالقزالية»، وصغرت النحلة، وألهمت العلم، فاشتارت العسل من تحت الأنابيب! ثم أنشأ يقول:
عجبت لنقش الزهر كيف تنوعت
بدائعه فيما يسمى قزاليه
محكمة الزوجين فيها غرائب
مدورة الصفين بالنظم حاليه
نقوش بديعات تريك دوائرا
بها نضرات بالمحاسن باهيه
دوائر بيضا فوق سود كأنها
نجوم سماء بالعشيات زاهيه
وترنو إلى الشمس المنيرة بالضحى
وتغمض عينا بالأصائل ساهيه
تقول وقد تاهت بفرط جمالها
من الشفق الغربي صيغ جماليه
فما لرجال العلم عني أعرضوا
ومفتاح عقل العالمين ببابيه
وما لكم لا تفقهون محاسني
وقد أدرك الأعلام سر طباعيه
ثغور ابتسام في جمال وبهجة
وإسداء معروف لراجي عطائيه
وكم حشرات طائف طاف وفدها
فكان قراها الشهد في سوح داريه (2) البستان والسماء
ثم قال: ما أجهلكم بالجمال، وما أبعدكم عن الحكمة، وما أقربكم للجاهلين، خبرني رعاك الله، لو أن امرأ منكم خير بين النظر في السماء وجمالها، وبين التمتع بالنظر في البساتين وأزهارها، فأي المنظرين أجمل لديه؟ فقلت: البساتين. فقال: أتدري لماذا استبدلتم الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ قلت: كلا. قال: لأنكم لا تعرفون النعم إلا بامتناعها، ولا تحبون إلا ما كنتم عنه مبعدين، ثم نظر نظرة إلى السماء والنجوم وأنشأ ما ترجمته من الإنجليزية:
أضئ يا أيها النجم الصغير
فشأنك في غرابته كبير
وفوق رءوسنا أبدا تسير
كمثل الماس رصع في السماء
إذا ما الشمس غابت في دجاها
وبل النبت في الدنيا نداها
ترينا الضوء يلمع في رباها
أضئ يا نجم في غسق الدجاء
ظهرت بموكب وسط السماء
وتزجي النور منك على البناء
بناظرك المصوغ من السناء
فلا تخبو بغير سنا ذكاء
تضيء الأرض من أعلى سماها
وتهدي من يسافر في فناها
فماذا أنت يا باهي سناها
أضئ فالله خصك بالضياء (3) الهواء والغذاء
ثم قال: إنكم لا تعقلون نعمة الهواء، وتفهمون نعمة الغذاء، وخيرهما أولهما، وما حمدتم الله على الهواء، وحمدتموه على ما أعطاكم بعد منع من الغذاء، فما أجهل أكثر العالمين! (4) الأطباء والمرضى
وعلى هذا المثال، الأطباء والمرضى، فترى الناس لجهلهم بالطب، وحكم هذا العالم البديع، يحقرون ما لا يعقلون من المنافع العجيبة في العقاقير الطبية التي تحيط بهم عن أيمانهم وشمائلهم وفي دورهم وحقولهم، فاضطر أطباؤكم أن يكتبوها بلغة لا يعقلها المرضى الجاهلون، وزينوا لهم أغشيتها، وزوقوها، ليقبلها أولئك الغافلون. (5) العلماء والجهال
وهكذا الجهال، لا يعقلون الحكم فيما يحيط بهم، وفيما يسمعون من الأحاديث والحكايات في سمرهم. فيضطر العلماء أن يسندوا القول لعظمائهم، ويرووه عن كبرائهم من سائر الملل والنحل، والأمم والأجناس، ثم يصوغونه في مقال جميل. (6) الأمم المغلوبة
وترى بعض المتعلمين من الأمم المغلوبة، يصمون آذانهم عما لم يسمعوه من الغالبين، كأن المدافع والعلم مقترنان، وتراهم يقلدونهم في حركاتهم وسكناتهم، وخمرهم ولهوهم، ولعبهم، يظنون أن غلبتهم لهم نتيجة هذه الشناعات، وعلوهم عليهم من أجل هذه المخزيات، فتبا لقوم لا يعقلون، وأف وتف لمن لا يفهمون. (7) الأصنام
كانت تنصب التماثيل وتقام الصور، رموزا على المعاني، ودلالة على الفضائل، فجهل الناس مقصودها، واتخذوها آلهة فعبدوها، واجتمعوا حولها وقدسوها. (8) الرسل
فجاءت لكم رسل، نكسوا الأصنام، وأزالوا تلك الأعلام، ووجهوكم للتعقل والتفكير، والتعليم والتهذيب ، فطالت عليكم الآماد، وقست القلوب، فعلقتم بالألفاظ فحفظتموها، وظننتم أنها تنجي في الدارين، وأنتم لا تعقلون لها معنى ، ولا تفهمون لها مغزى، وصار أكثركم يدور كما يدور الحمار في رحاه، لا يجد عن المدار به محيصا، وما من أمة إلا تداوت بكلمات كتابها المقدس فظنت مجرد التلاوة بلا تفكير منجية، وتعليق كتابها على الرأس شافية، وغفلتم عن شفاء عقولكم بالمعاني وسعادتكم في الدنيا بالتفكير. (9) الحكومات
ولكم نظمت لكم الحكومات، لتحفظ أمنكم، وترفع شأنكم وترتق فتقكم، فظننتم في الملوك مثل ما كنتم تظنون في الأصنام، وانقدتم انقياد العميان، وخضعتم للظالمين، فأف لهذا الإنسان. •••
جهل الناس عجائب الرموز، وحكمة الظلمة والنور، والظل والحرور، جهلوا مزية الديانات ووقفوا عند ظاهر الكلمات.
ومن جهل هذه الكائنات، وضل عن هذه المخلوقات، فأحر به أن يجهل سر نظام الحكومات، ألا فليعم التعليم والتعقل في أنحاء الكرة الأرضية.
ألا فليعقل الناس ما حولهم، إن حياتكم اليوم عار وألف عار، أزيلوا ما لديكم من النظامات العتيقة الفاسدة، واستبدلوها بخير منها، فالعلم عجيب، والله سميع قريب، ونظام هذا العالم بديع، والعقل الإنساني شريف رفيع. (10) الخمر والخراب
هل قرأت ما سطره الفرنسي هنري في الخمر، وعلاقته بالشرقيين؟ قلت: بلى إنه يقول: إن الخمر أمضى سلاح يحصد به نسل الشرقيين، وأنكى جيش يبيد الوثنيين والمسلمين، إنه ضعف الجسد، وموت العدد، وفقد المدد، وضياع البلد، ورق الولد، وذل الأبد، ثم أخذ بيدي وانطلقنا إذا رجل بيده زجاجتان إحداهما مملوءة بالنار، والأخرى بالماء. فقلت: ما هذا؟ فقال: هذا مثال الحاكم الأجنبي في الأمم الجاهلة، يسقي من زجاجة الماء أبناء بلاده، ومن زجاجة النار أبناء الأمة المحكومة، فيذيع الخمر، ويبيح الميسر لعلهم ينقرضون ويقلون، فما أجهل الرجلين، الغاش والمغشوش، هلا عرف هذا الحاكم الجهول أن الناس إخوان، هلا عرف أن الناس كجسد واحد، فتبا لجهال بني الإنسان، إنهم قوم طاغون، أنتم جهال بالجمال، وأكثر الناس في غفلة وجهل عظيم، صم، بكم، عمي، فهم لا يعقلون، ما أقبح سيرتكم وأضلكم يا بني آدم في العالمين . (11) الحروف الكبيرة والصغيرة
الناس لا يعقلون إلا الحروف الصغيرة، ولا يفقهون الكبيرة، لضعف فطنهم، وقلة فهمهم، وموت نفوسهم ، الشمس والقمر والنجوم، والجبال والشجر والدواب، والبحار والسحاب والأنهار، وما فوقها وما تحتها، هذا لعمرك هو الحروف الكبيرة. لما ضعف تعليمكم، قصرت عقولكم على الحروف الأبجدية، وكلماتها الرسمية، وظننتم أنكم بالكون عالمون، وبما في الأرض والسماء محيطون، ولكن أكثركم عن الحقائق معرضون. (12) الغراب والعود
ثم قال: انظر، فنظرت، إذا غراب يحمل عودا يطير به في الجو إلى عش في شجرة في أعلى أغصانها، حيث الهواء جميل، والنسيم عليل. فقلت: ماذا تعني؟ فقال: هذه الطيور اتخذت من الأعواد والنسالة ودقائق الأشياء التي يحقرها الناس بيتا مزخرفا محصنا بديعا ناعم الباطن، أسكنت فيه أبناءها. فقلت: ماذا تريد بهذا؟ فقال: لو أن الناس عقلوا لبنوا لأنفسهم، وشيدوا لأرواحهم بيوتا من الحكمة والفضيلة، فمرت عليها الحوادث مرور العواصف على عش هذا الطائر وأفراخه، الغراب في حرز حريز. فقلت: لكن المصائب مرة المذاق كالفقر والفراق. (13) الليل والنهار
فقال: ألست ترضى بنظام الليل والنهار، والظل والحرور، والموت والحياة، والحيوان والجماد، والزرع والحصاد، والبر والبحر، والصحو والمطر، والسفر والحضر؟ فقلت: بلى، إني أعرف بعض حكمها. قال: مثل النفوس مثل الآفاق، تجمع الضدين، وتولد النقيضين، كالقبض والبسط، والحزن والفرح، والضيق والشدائد، والآلام واللذات، فارض نظام نفسك كما رضيت بما في الآفاق. (14) السرجين والحدائق
قلت: ما أغمض هذا المقال! وما أبعد هذا المثال! فقال: سر بنا في هذا الصراط المستقيم، فلما سرنا رأيت نخلا يميس في وسط مزارع نضرات، وأشجار خضرات، وأعناب وجنات:
كأن النخيل الباسقات وقد بدت
لناظرها حسنا قباب زبرجد
وقد علقت من حولها زينة لها
قناديل ياقوت بأمراس عسجد
فقال: لعلك أعجبت بهذا الجمال؟ قلت: بلى، ما أجمله! قال: فانظر فيما حول هذه الجنات، فنظرت إذا تلال من السرجين، وآكام من القاذورات، فأحسست بانقباض. فقال: ماذا ترى؟ قلت: منظر عري من الجمال، وتسربل بالوبال. فقال: لقد حكمت حاسة البصر، وعزلت قوة البصيرة، ولو أنك فكرت، لعلمت أن هذه النخلات وأثمارها، والأشجار وجناها، والمزارع وبهاها، ثمرات تلك التلال، بل تلك البلحات الحمر والصفر، والرطب الأسود، والتفاح الملون ، البهي العجيب، هي نفس تلك الآكام المنبوذة، والتلال المركومة، صنعتها اليد الإلهية، وزوقتها الحكمة الربانية، وصاغتها ودورتها ولونتها ومزجتها بالحلاوة، فهذا المكروه هو المحبوب، وهذا المنبوذ هو المطلوب، وفي الأرض أمم عريقة في الجهل والوحشية كما تزعمون، وسيقرءون العلوم كما تقرءون، وترون منهم منظرا جميلا، كهذه التلال صارت بالصنعة والاعتناء ثمرا جنيا.
وهكذا فلتعلموا أن الشر والمصائب في بني الإنسان، أشبه الأشياء بهذه التلال والآكام، فإذا رويتموها بماء العلم، وبذرتم فيها بذور الحكمة أثمرت لكم ثمرا طيبا، وجني دانيا، فمن هذه التلال صنعت الأثمار، وبالعبرة نمت العقول وصحت الأفكار.
ثم انطلقنا حتى أشرفنا على بستان جميل بديع، خلفه سهل منبسط، وراءه نهر تجري فيه المنشئات كالأعلام، ومن ورائه جبل شاهق صعب المرتقى، طامس الأعلام.
فقال: انظر، فنظرت إذا ست مناظر تجلت لعيني بغتة، أشبه شيء بما رآه الحكيم قابس اليوناني في العصور القديمة، والدهور البعيدة، قبل دولة الرومان والعرب والإفرنج المعاصرين.
المنظر الأول:
نساء جميلات كأنهن مومسات.
المنظر الثاني:
نساء قبيحات الوجوه. قالصات الأهدام، عاريات الرءوس، مسكينات، يخمشن وجوههن، ويضربن صدورهن، وينتفن شعورهن.
المنظر الثالث:
نساء أديبات، مجردات عن الزينة، ساكتات ساكنات، وهن مشيرات إلى الجبل.
المنظر الرابع:
ثلاث نساء كاللاتي في المنظر الثالث.
المنظر الخامس:
السفن الجاريات، تغدو وتروح في النهر ولها شرع تزجيها الرياح وآلات دائرات بالبخار، في باطنها منتظمات.
المنظر السادس:
نساء جميلات، بهيات المناظر، حسان الوجوه، محليات بالدرر كأنهن شموس مشرقات فوق الجبل واقفات بأيديهن تيجان بهيات، بالجواهر مرصعات، فلو رأيتهن لقلت: شموس في أيديهن بدور، وهناك أناس يهرولون في ذلك السهل يشير إليهم أولئك النساء بأيديهن.
فعجبت من هذه المناظر، وجهلت مرجع تلك الضمائر.
فقال: أما النساء الجميلات الواقفات في أول الحديقة، فإنهن تصوير لحال الشهوات الإنسانية، إذ يظن الناس أنها سعادات، وما هي بسعادات، فالأغذية والتزوج، وما أشبهها شملت الإنسان والنبات والحيوان، فهي ليست حقيقة السعادة ، وإنما هي أشراك نصبت لقوام الأبدان وولادة الولدان، فمن ظن أنها غاية السعادة وأنهك فيها قواه صار لها عبدا خاضعا، وصارت نفسه كما ترى في المنظر الثاني.
وأما هؤلاء النساء اللاتي يخمشن الوجوه، ويضربن الصدور، وينتفن الشعور، فذلك مثال أولئك الذين ملكتهم الشهوات حتى ظنوها سعادات، فأنفقوا أموالهم، وأصبحت ديارهم قاعا صفصفا، خوالي من الدرهم والدينار، فصاروا لصوصا سارقين، أو مزورين أو لأوطانهم خائنين، أو لأصدقائهم خادعين، أولئك هم الفجار الآثمون.
وأما هؤلاء النسوة اللاتي تراهن خاليات من الزينة وهن يشرن إلى ما فوق الجبل فهن مثال العلوم التي يقرأها الناس في المدارس الشرقية والغربية، كالرياضيات والطبيعيات، والآداب والشعر، والموسيقى والتنجيم، وأكثر الفنون العلمية، يظنها الناس سعادات وما هي بسعادات، إن هي إلا مقدمات والسعادات نتائج.
فقلت: لئن سلمنا لك أن الشهوات بعيدة عن السعادات لأنها تستعبد الجهال، فما بالنا نصدق أن العلوم ليست سعادات؟ فقال: لا تعجل وتربص شرح المنظر الرابع.
فأما ما تراه في السهل المنبطح من تلك النساء الثلاث اللاتي تجردن من الزينة، وهن ساكنات ساكتات، فتلك مثال العفة والصبر، وقوة العزيمة، إنهن لشديدات على الأنفس، بالعفة تصان الشهوات، وبالصبر تنال أعلى الدرجات، فإذا أحكمتم آدابكم، وصنتم شهواتكم، ارتقيتم إلى أوج السعادة.
فأما ما تراه في المنظر الخامس من السفن الجاريات في البحر كالأعلام، وما فيهن من الأدوات التي تتحرك بالكهرباء والبخار، وما عليهن من الشرع المنتفخة بالرياح الهابات، فلتعلم أن المال والجاه والملك والولد وسائر ما تملكونه من أعراض الدنيا وكذا العلوم والمعارف من الحساب والهندسة والطب والآداب والموسيقى والشعر والتصوير وغيرها كالتجارة والزراعة وسائر الصناعات، منزلتها منزلة هذه الشرع المزجية لهذه السفن الجاريات الممثلات لأجسامكم.
إنكم يا أهل الأرض لم ترضوا بالرياح الهابة أن تتحكم في سفنكم بل عمدتم إلى الماء فأسخنتموه وإلى بخاره فأثرتموه، وهكذا مزجتم العناصر واستخرجتم منها الكهرباء فجرت السفائن بأمركم، وسارت بتقديركم.
فما أحراكم ألا تقفوا عند المال، ولا تشغلوا بالعرض عن الجوهر، وأن تعمدوا إلى الفضيلة والحكمة حتى تنفتح أعين بصائركم، وتشرق الحكمة من قلوبكم، حتى إذا عصفت عواصف الحدثان، وتقلب الجديدان، وذهب الأطيبان، وتألبت المؤتفكات، رجعتم إلى قلوبكم، ونلتم سعادتكم، كما سيرتم السفن بأمثال هذه الصنائع.
فقلت: إذن لا قيمة للمال، ولا فضيلة في العلوم، ولا خير في البنين والأصحاب؟ فقال: يا هذا، كل ما ذكرته عون على السعادة عند ذي الفضيلة، فمن حرم الفضيلة كانت كل هذه وبالا عليه، ومن حازها كانت مددا لسعادته، وزيادة في جماله وبهجته؛ فالجاهل قليل الثمرات. والفقير عديم المبرات. املأ القلب والعقل علما، واليد مالا، واستعن بالأصحاب وكن كما تشاء في الدنيا، على شريطة أن تتم حكمتك، وتبقى عفتك، وتظهر شجاعتك، فالمال والعلوم والجاه والولد، تصلح لخيرك وشرك، ونفعك وضرك، وكما يحزن العنين لحرمان الولدان، يشقى الوالد بابنه الكسلان.
وكما ترى في الجهلاء من هم لإخوانهم خادعون، ولأوطانهم خائنون، فهكذا ترى في الشعراء والأدباء والعلماء من ينافقون، ويمكرون، ويخادعون إخوانهم وهم في الشقاء خالدون، وكما ترى الصعلوك يحزن لذلته، ويشقى لرثاثة حالته، كذلك ترى الملوك والأمراء في شقاء دائم، فإذا اتسمت نفسك بالفضيلة فالمال والجاه والعلوم بها أولى لتكون شجرة جميلة الأزهار غزيرة الأثمار نضرة الجمال.
أما هذا المنظر السادس وهو النساء اللاتي تراهن فوق الجبل فإنهن يمثلن الحكمة والفضيلة التي أشارت لها تلك العلوم وسهلت سبيلها الأخلاق، ويقطع السبيل عنها الشهوات، فاسع إليها، ولا تنم بالجهل عنها، فإنك إذن تكون من السعداء المصلحين.
وما العلوم الأدبية إلا كالترجمان يفهم الحكمة، وما أقل العاقلين!
وكما أن معرفة اللغات الأجنبية وسيلة للعلوم لا مقصودة بالذات، فهكذا العلوم مقصودة لغيرها، وهي الحكمة والسعادة والفضيلة، فمن أصغى إلى نصائح تلك النساء المشيرات لقمة الجبل الممثلات للعلوم، رقى إليه وحظي بالتاج والجمال، وما أقل السعداء سعادة حقة في العالمين.
ألا وإن السعادة سعادتان، سعادة وقتية، وسعادة دائمة، فسعادة الجهلاء وقتية، كالذي يتخطى عقبة إلى عقبة، ويعبر خندقا فيقابله خندق، وذلك بالحظوظ الوقتية من المال والجاه والعبيد والسلطان وأمثالها، وأما السعادة الدائمة فهي التي نصبوها من أنفسهم وخبئوها في عقولهم وأودعوها في أرواحهم، وهناك سعادة عامة تجمع الأمم جمعاء وهي أن تتعاون الأمم على عمارة الأرض ، وسيصلها نوع الإنسان في مستقبل الأزمان. (15) النفس
ثم انطلق بي حتى علونا الجبل بعد ما كادت نفوسنا عند الغلصمة، وشاهدنا من آيات الجمال والبهاء والحسن ما لا يحلم به أكثر العالمين، ولبسنا التاجين، ونلنا الحسنيين، ورأيت جنة خضراء زينة للناظرين، لا أستطيع وصفها، ولا أعلم كنهها، قد ازينت للمدكرين وأعدت للعاقلين المفكرين، فلما سرنا بجانب خليج من خلجانها، ماؤه لجين، ذي ضفتين خضراوين زبرجديتين نظر إلى بخار مائه يصعد في الجو بحرارة الشمس، فتبسم ضاحكا كالمستهزئين، ثم لوى كشحا كالساخرين. فقلت: مم تضحك؟ فقال: انظر البخار، إذ علا في الجو وطار، فإن بعض علماء النفس عندكم يزعمون أنها نفثة من نفثات الجسم، وعرض عرض لامتزاج العناصر، ومزاج الذرات المتفاعلات، فكأنه هذا البخار المتطاير، ولو صح ما قالوه لنسي العاقل اليوم ما قرأه أمس، ولمحيت سطور لوحه بالطمس، وكيف ينام الرجل ويستيقظ ثم يتذكر ما فعله في أمس الدابر، ويحصر في عقله ما وعاه من أيام صباه، ويجمع القديم والحديث في بخار ضعيف، ومن تذكر بعد النوم ما عمل من قبله، فسوف يذكر عند الموت وبعده، ما سطر في لوح عقله، ولو كان ذلك اللوح كهذا البخار، ما بقي يوما أو بعض يوم، وكيف يبقى أمدا طويلا والجسم يتبدل في بضع سنين؟ فما أكثر الجاهلين من الآدميين.
الماء أكسوجين وأودروجين، والحرارة الشمسية أخرجت بخاره، والجسم أجزاء وعناصر تتقد نارا بالتفاعل، وتعرض لها عوارض بالتمازج، وأعراض الأجسام من الحرارة الغريزية والمفاعلات الكيماوية، كأعراض الماء بالحرارة الشمسية، فإذا تجدد أول العرضين بالمشاهدة والعيان فما أحرى ثانيهما بالتجدد وما أحقه بالدثور، وكيف تبقى آراؤكم وعلومكم وأخلاقكم ومحباتكم طول الحياة والجسم دائم التحليل والتركيب وأعراضه متجددات على أعداد اللحظات؟ إن في ذلك لآيات للمتفكرين.
النفس شقيقة المادة، إنهما أختان تارة تجتمعان وأخرى تفترقان، ولكل منهما صور وأعراض، فليعتبر العقلاء، وليتذكر أولو الألباب.
ثم قال: إننا نضرب لأطفالنا الأمثال بمثل ما شاهدت الآن. ثم أبصرت آسادا كآسادنا وأسلاك التلغراف ممتدة على الأعمدة الخشبية. فقال: إن هذه عندنا كمحال الآثار عندكم، فإذا أردنا تدريب أبنائنا على الاستنتاج في أحوال كوكبنا أو الكواكب الأخرى، أريناهم أشكالها، ونصبنا لهم آثارها، وقلنا لهم: اكتبوا عليها بأسلوب كما سأريك الآن، تطبيقا على المشاهدة والعيان، ألا فاسمع الحكمة مني، وخذ العلم عني، واعلم أنه ضل ابن آدم بخصلتين؛ فضل المنطق، وفضل السلاح، فأما فضل المنطق، فإنه إذا رام اهتضام حق، أو غصب ملك، عمد إلى الأقوال فزينها، وقصد إلى الكتابة فنمقها، ولبس الحق بالباطل، وأبرز الكذب في صورة الصدق، وزخرف القول زورا، فيرفع من شأن نفسه، ويحط من حق غيره، في المجالس والطرقات، والمعابد، وعلى صفحات الجرائد، وينشر ذلك فيما شاء من دولة، ويفيض به فيما أراد من أمة، حتى يخيل للسامع أنه حق، فيعطف على القائل، ويذعن للقول، لا سيما في هذا الزمان، الذي تفرعت فيه فروع البريد البخاري، والبرق السلكي، والبريد الأثيري، بتلغراف «مركوني».
واعتبر ذلك في الأمم الغالبة، فتراها تكذب وتنشر الأقاويل المنفرة عن الأمم الضعيفة، لتستمرئ ابتلاعها، وتسوغ هضمها، ظلما وزورا، وما أسرع تصديق الناس، وما أكثر خطأهم، وما أشد جهلهم، فإن أكثر الناس لا يعلمون.
فأما فضل السلاح، فذلك أن ابن آدم دافع عن نفسه قديما، تارة بالحجر، وأخرى بالعصا، وآونة بالمدر، وطورا بالحديد، ووقتا بالرصاص، فظن ذلك الأمر الاضطراري جبلة راسخة، والعارض ملكة ثابتة، فتوغل فيه، وأخذ يتفنن في السلاح والكراع، جعل ذلك مقدما على غيره من الأغذية والأدوية والملابس.
جهل الإنسان أصله، إن الإنسان لكثير النسيان، كانت الحرب للمدافعة، فاتخذها للمطاردة، وقام المدني على نهج الوحشي، فهو ظلوم وابن ظلوم، جهول وابن جهول، كفور وابن كفور، كان الكلام للإفهام، فجعله للخصام، واهتضام الحقوق، وخراب المدن، وإخافة الآمنين، فلعمرك لقد ضل ابن آدم بخصلتين؛ فضل المنطق وفضل السلاح.
هذا ما أردت أن تعتبر به من الآساد والأسلاك البرقية وهو المنظر الثاني والعشرون، ثم انظر إلى هذه الأسلاك من وجه آخر وهو: (16) وحدة الإنسان
نوع الإنسان كرجل واحد، ودليلنا على ذلك أسلاك التلغراف الممتدة في الهواء، ألا ترى أنها أشبه شيء بتلك الأسلاك الشعرية، التي تنوف على ثلاثة آلاف عصب شعري، تبتدئ من تجويفي الأذنين، وتتصل برملات صغيرات قد لا ترى بأكبر المجاهر المعظمة، وجميعها واصلة إلى الدماغ، فإذا ورد على الأذن صوت التقطه عصب من تلك الأعصاب الدقيقة المتصلة برملة من تلك الرملات وأوصله إلى الدماغ فأحس به الإنسان، ولكل صوت سلك عصبي من تلك الأعصاب يوصله إلى الدماغ، وما أكثر أنواع الأصوات في العالم، وما أكثر الأسلاك العصبية. فلكل صوت من تلك الأصوات عصب من تلك الأعصاب، كما أن لكل عرق من عروق النخلة عملا خاصا في التغذية، إذ تجتلب العناصر الأرضية، وتوصلها إلى أجزاء النخلة العلوية.
ولما كانت أجزاء النخلة كثيرة من أغصان وألياف وجمار وبلح ونوى وجذع، كثرت الفروع ودقت، ووزعت الأعمال عليها توزيعا متقنا، واتصلت عروقها الأرضية بطوائف من الأنابيب الدقيقة الممتدة في جذع النخلة الواصلة إلى الأغصان والألياف والجمار إلى آخره، هكذا كانت الأصوات الواصلة إلى آذان الإنسان السارية في الأسلاك العصبية، المبثوثة في الأذن الواصلة إلى الرأس، وهكذا كانت أسلاك التلغراف، توصل الأخبار من أمة إلى أمة، ومن قرية إلى قرية، ومن إنسان إلى إنسان.
فوضح أن الإنسان كله شخص واحد، له أسلاك خارجية تشابه الأسلاك الداخلية، وهل الحيوان له في هذا نظير، وهل له وحدة تجمع أشتاته كما جمعت الإنسان.
لا جرم أن الإنسان أقرب للاتحاد، فقتاله وحربه جهل فاضح وظلم واضح وغفلة عن الصراط المستقيم. (17) الماديات والمعنويات
ثم قال: الجنس البشري الأرضي تردد بين عاملين، المادة والروح، فأما البوذيون والبرهميون ومن على شاكلتهم من الصين والهند، ومن نحا نحوهم من بعض متأخري المسلمين وقدماء المسيحيين، فإنهم أحبوا التجرد عن المادة، والتخلي عن الشهوة، والانقطاع إلى العقل والتبتل، والدخول في باحات الأرواح وساحات الخيال، ومن كانت هذه حالهم، تألبت عليهم الأمم، وغلبتهم الطاغية.
وأما الماديون من الرومان وبعض فلاسفة الإفرنج الذين جنحت هممهم إلى تقوية المادة، فأولئك الذين يرقبون غفلة غيرهم، وينكلون بهم، ويؤذونهم أذى شديدا، ويعذبونهم عذابا أليما ثم تدور الدائرة عليهم، إذا طغوا وبغوا فيصبحون في ديارهم جاثمين.
ألا وإن طريقنا الذي نختاره أن تأتلف القلوب وتتحد النفوس وتتعاشق الأرواح ويصبح الإنسان كله كإنسان واحد ناظم أمر الجسم والروح، ثم ليتحدوا في أعمالهم. (18) الوحشية
ثم قال: الوحشية في العالم صنفان، طبيعية وصناعية، فوحشية الآساد والصقور اقتضتها الطبيعة الكونية، والحكم النظامية، لتزاحم الناس والحيوان، لإزالة الرمم، ودفع الغمم، المعفنة للهواء، المميتة للأحياء. ووحشية الإنسان صناعية جاهلية، أكسبته إياها عوائد الجاهلين ولصقت به لصوق العار للفاسقين، وعادات السوء للغاوين، إنكم يا معشر أهل الأرض جهال ضعاف العقول، أولا ترى كيف تدليتم إلى الحضيض الأسفل عن السباع والضباع والذئاب والكلاب، إذ صرفتم قواكم إلى القوى الدفاعية والهجومية، ألم تر كيف كان مجموع دين ممالك أوروبا سنة 1870: 4000000000 أربعة بليون جنيه، وقد بلغ الآن 6000000000 ستة بليون جنيه صرفتموها على الجيوش الجرارة، والسيوف البتارة، والمدافع الضرارة. وانظر إلى هذا الجدول تعرف عدد الجيوش وما يصرف عليها كل سنة:
الممالك
عدد الجنود
ما يصرف سنويا
بريطانيا
420000
65000000
روسيا
1150000
46500000
ألمانيا
661000
43800000
فرنسا
620000
41000000
النمسا والمجر
384000
19400000
إيطاليا
305000
17000000
إسبانيا
100000
6700000
السويد والنرويج
73000
5500000
تركيا
370000
4800000
هولاندا
35000
3650000
بلجيك
50000
2500000
برتغال
34000
2600000
سويسرا
148000
1300000
اليونان
23000
1200000
دانمارك
14000
1200000
بلغاريا
43000
1000000
الولايات المتحدة
107000
40000000
أليست تلك المبالغ وأولئك الجند خسارة وحسرة على الإنسان؟ أفليس ذلك دليلا على أنكم تنزلتم عن الحيوانية، وابتدعتم أقصى الوحشية، وجهلتم أنفسكم، وتربصتم، وارتبتم، وغرتكم الأماني، وغركم الغرور؟
لقد حق القول عليكم، فأصبحتم لا تعلمون من الإنسانية إلا الوحشية، ولا تفقهون من الحكمة إلا البهيمية.
فامتعضت لهذا القول وأنكرته واستهجنته. فقال: أوتنكر الشمس في رابعة النهار، أوتكذب ما صدقه العيان، ثم قال: أين أنتم من الحكمة المقدسة، والحكمة الذهبية، والحكمة العالية، والحكمة الزاهرة، والحكمة الجميلة، والحقيقة المحزنة؟ فقلت: وما الحكمة المقدسة، والحكمة العالية، والحكمة الذهبية، والحكمة الزاهرة، والحكمة الجميلة، والحقيقة المحزنة؟
الحكمة المقدسة
فقال: لقد ضل أكثر الفلاسفة والسواس في أرضكم، إن للناس شهوتين، إحداهما للطعام والشراب، والأخرى لحب الزواج، ثم شهوة الغضب حافظة لهما، والعقل مدير للجميع.
يا عجبا لهذه الحكمة، المعدة بها الحياة من الولادة للموت، إذا عدمت عدم الحيوان، أما حبه للزواج فإنما يستطير شرره، ويظهر أثره، إذا تبدى نور الشباب، وازدهرت أزهاره، فبهر الجمال، وضاء أنواره.
ولا شوق للزواج في حالي الصغر والكبر، فليس له في الحالين من خبر، فشهوة الطعام للحياة، وحب الزواج لبقاء الأنواع لا الأشخاص، كيف لا وقد عاش الخصيان بدونها، وبقي العنين والمجبوب ولا أثر من تلك الشهوة عندهما، ولا خامر حب الاقتران قلبهما.
وهل يعيش المرء بلا معدة؟ كلا. فقلت في نفسي: يا رب، ما هذه المقدمات؟ وما علاقتها بسياسة الأمم؟ لا جمال إلا حيث مظنة الحمل، فإذا ضعفت غاض ماء الجمال، وأعقبه نور الجلال، حب الزواج تسخير للناس في المنافع العامة، ألا إنما يخدمون غيرهم، ويضعون في الأرض أمما تخلفهم، ويا عجبا كيف استحالت الشهوة والعشق جيوشا وجنودا، وعظماء وقوادا! إن الناموس الطبيعي سخركم، بل سحركم لفعلين اثنين، حياة أنفسكم، وحياة غيركم المسمين بالبنين، أعمالكم إذن نصفان، نصف لكم، ونصف لغيركم، وأنتم مدفوعون مرغمون بقاهر يسمى حب الزواج، ولم تحرصوا على هذا إلا حيث صح منكم الولد حال القوة، فكان لغيركم لا لأنفسكم مقصودا.
ليس حب التناسل مقصودا لذاته كالسماع، فسماع الأغاني محبوب لجماله، وسر الاقتراب والشهوة مرغوب لإنجاب البنات والبنين، ألا إن لذة الإنسان بها سياسة قهرية، وشهوة سخرية، إنكم تخدمون الأبناء لنفس الأبناء، ولا حظ في الحقيقة للأمهات والآباء إلا الفضيلة العالية، والهمة الراقية، إذا قصد أحدكم منفعة نفسه من ابنه، فذلك لضعف فطنته، وقلة خبرته، ألا ترى الدجاجة والحمامة وسائر الحيوان يخدمن أبناءهن، ولا يبتغين المنافع منهن، إنهن يسعين في مصالحهن لنفس الذرية، لا للمنافع الذاتية، وكثير من الناس يموتون قبل أن ينالوا حظا من أبنائهم.
فالقضية الصادقة: أن الحيوان والإنسان يخدمان الأبناء لنفس الأبناء وسعادة الذرية.
الأمة كإنسان، وجمعية الحيوان كحيوان، قد ألفت الغربان جمعية، وكلاب البحر قرية، والنحل والنمل لها نظامات حسب حاجتها، جماعات جماعات، على مقدار حاجتهن، فعمل الواحد في النمل والنحل للمجموع كعمله لنفسه، الإنسان اليوم لم يرتق عن الحيوان في الجمعية ، وإذا كان الحيوان ساعد أبناءه ونظم جمعياته، فما امتياز الإنسان عن الحيوان إلا الخدمة العمومية للجمعية الإنسانية.
لو أن الأمم عرفت استعداد الإنسان لخدمت الأمم كلها خدمة واحدة، ولعملت لأنفسها قسطا ولغيرها قسطا، كما رأينا الفرد يعمل لنفسه نصفا ولغيره المسمى ابنا نصفا آخر، غفل الناس غفلة عظيمة.
أواه، يا ليتهم قرءوا علوم النحلة، هذه النحلة الصغيرة الضعيفة اندمجت في مجموع الكوارة العسلية، ودخلت في زمرة الجمعية، فتصور أنها كبرت فصارت إنسانا وأعطيت مواهبه، وأخذت في الكون مراتبه، فأقسم بالعلم وشرفه، والفضل وتاجه، إنها تكون جمعية كلية، في سائر الكرة الأرضية، ولكانت خير من عمر الأرضين، ووالله يا بني الإنسان، إن لم تقلعوا عن أعمالكم، وترجعوا عن غيكم، لتبتلعنكم الأرض أجمعين، ويخلفكم عليها قوم آخرون، فلستم للخلافة صالحين، ولا في عمارة الأرض بمصلحين.
ألا لا ينتظم حال الإنسان، إلا بمثل هذا الميزان، الأمم اليوم جاهلة، يعوزها الحكماء المصلحون، والقادة الراشدون، ولمثل هذا فليعمل العاملون، فلما أتم مقالته سألته: وما الحكمة الذهبية؟
الحكمة الذهبية
فقال: ألستم مغرمين بالفضة والذهب، عاشقين لجمالهما، هائمين بحسنهما ونضارتهما، وحسن نقشهما، ورقشهما؟ فقلت: بلى. فقال: أوليست الشمس أنضر وجها من الدينار والجنيه، وأبهى ضوءا، وأبهر لألاء، أوليس القمر والكواكب أحسن أشكالا وأجمل بهاء وأزهى نورا من الفضة وبريقها، فكيف استبدلتم حب الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ فتعجبت من هذا الاعتراض البديهي البطلان، وقلت: يا ليت شعري، أي هاوية أراد أن يقذفني فيها، وأي حفيرة يرديني بقاعها. فقلت له: ما عشقنا جمال الذهب الشمسي، ولا بريق الفضة القمري، وإنما هيامنا بمنافعهما، وقضائهما حاجاتنا، وكم جميل ظاهره نبذناه إذا ساء مخبره، فنحن إن راقنا جمالهما فذلك لمعنى مخبوء فيهما وجمال باطني مغطى بسناهما، ولقد جرت العادة أن الجمال الظاهري يغلب أن يصحبه الجمال الباطني، ففي أكثر الأحوال، جمال الشكل دليل الاعتدال. فرأيته يتهلل وجهه، ويشرق سناه. فقال: إذن أنتم لا تحبون الأشياء إلا لحقائقها، ولا تراعون إلا فضائلها؟ قلت: نعم. قال: كلا والله، لم تصلوا قرب الكمال ، ولا تزالون عن الحكمة مبعدين، وعلى الجهل في الحب عاكفين، يا هذا، إن الفرس ليحب من قدم له العلف أكثر من حب سيده الذي اشتراه، وأغدق عليه النعم وواساه، وإذا قذفت الكلب بحجر أخذ يعضه ويعاقبه لقصر نظره وضعف فطنته، لقد قلت إنكم تحبون النقدين لقضاء الحاجات، فممن تقضون حاجاتكم، ومع من تستبدلون نقودكم؟
فقلت: مع أفراد الإنسان. فقال: وماذا تشترون؟ فقلت: الأغذية النافعة، والملابس الدافعة، وغيرها مما له الحاجة داعية. فقال: ومن يصنع ذلك؟ فقلت: الإنسان، بالعلوم والعرفان. فقال: إذن المحبوب في الحقيقة نوع الإنسان. ما أجهلكم! لو لم تكن العلوم والصناعات العامة في الإنسان، فممن تبتاعون، لولا الإنسان ما كان للنقدين معنى معقول، ولا لقضائهما حاجاتكم سبيل مسلوك.
يا هذا، أحببتم الذهب، أحببتم منافعه، أحببتم ما ينفعكم، أحببتم عمل الإنسان، أحببتم الإنسان، من كره الإنسان فقد كره عمله، كره ما ينفعه، كره نفسه، ومن أجهل ممن أبغض نفسه.
ألا إن ذلك نقص شائن، وجهل فاضح، وعذاب أليم، وتناقض غريب، أين المناطقة، أين الفلاسفة، أين الحكماء، أين العلماء، أين العقول، قد ثبت بالبرهان أن الأمة من أممكم تحب نفسها وتكرهها، وهذا التناقض أمره عجيب، نظركم قصير وعقلكم ضئيل.
الذهب والفضة سحاب حال دونكم ودون شمس الإنسانية، فالإنسان معشوق الإنسان، الإنسانية شمس أضاء نورها في الخافقين، فحجبتها سحب الطمع، وكسفتها بدور الفضة، وغطاها النضار. المحبوب من الشمس ضوءها، ومن الإنسان علمه وعمله، فإن رأيتم أن تكونوا أحرارا، فلا تعبدوا درهما ولا دينارا، ولتعلم أمة أمة العلم والحكمة والصناعة إعلانا وإسرارا.
حبكم الذهب والفضة رمز عجيب لسر غريب، رمز لكم كي تحبوا من تعاملون، كما أن حب الزوجين رمز لما سيكون بينهما من ولد محبوب، ونسل مرغوب. فما أحبت الفتاة الفتى، ولا هام الفتى بالفتاة، إلا لمعنى مستور عنهما، ونور واضح في جباههما، ألا وهو الولد، الذي خبأه القدر هناك، وطواه الغيب وأسدل عليه الستار. فإذا قبل الوجنتين فإنما يستخرج بفيه ما كنزته الحكمة في الجثمان، من الإناث والذكران، ثم يبقى بين الزوجين صافيا لا شية فيه، وحقا لا باطل يعتريه، ونورا لا شهوة تخالطه، إذا داما أزمانا، وأنجبا أولادا.
هكذا فليكن حب النقدين. فالمحبوب بالتحقيق ما وراءهما من نوع الإنسان، وتحليه بالعلوم والعرفان، أفليس من العجب أن تجمعوا بين الضدين، وتسلكوا سبيل النقيضين، تحاب الزوجان، فولدا الغلمان وعمرا البلدان، فلتتحاب الأمم الإنسانية، ليلدن سعادة الإنسان.
فلما فرغ من مقالته أجبت: إن نوع الإنسان متحابون، وإذا تجاذبت الكواكب بأجرامها، وعشقت السيارات الشمس، والأحجار وكل ما فوق الأرض عشقتها وانجذبت إليها، فإن عشق الإنسان للإنسان روحي معنوي، ولا جرم أن عشق الروح أرقى من عشق الجثمان. فقال: هذه أقوالكم المعروفة، ولكن أين الأعمال؟ إنما تحاب الأفراد يعطي الأمم وتحاب الأمم يمنح السعادة.
فقلت: وما الحكمة العالية؟
الحكمة العالية
فقال: «النحلية»، انظر يعسوب النحل، كيف يدبر النحل في بيوته الشمعية، وقصوره العسلية، لذريته الكامنة في البيض المفرق على البيوت، وما يصنعه من اصطفاء ألذ العسل وأنقاه، وأخلصه وأشهاه، وأحسنه وأبهاه، للذي سيكون ملكا للذرية، وكيف خصص له خدما وحشما، وجعل له من العناية والرعاية ما ليس لسواه من السوقة والرعايا، من الخناثي والذكور النحلية، التي لكل بيت من بيوتها نحلة واحدة تخدمها، وعسل معد لحياتها.
كل ذلك يفعله النحل وأنتم عنه غافلون، وهل ذلك لشهوة من الأبناء يبتغيها، أو ثمرة يجتنيها، أو حاجة يقضيها؟ كلا والله، فعل ذلك بغريزته، إنه عبرة لكم وتعليم، الإنسان أضعف في ذلك غريزة، وأكبر عقلا، فهلا رفع نفسه إلى مرتبته، وترقى إلى درجته، فاعتبر كل أمة من أممه شخصا، وحلت الأمم في الإنسان، محل الأفراد في الحيوان، وحاطت الأمة غيرها برعايتها، وعطفت عليها عطف النحلات على أبنائها، وإلا فما الفارق إذن بينكم وبين النحلات، تلد وأنتم تلدون، وتربي وأنتم تربون، الفرق أنكم أوسع إدراكا، وأرقى شأنا، فلتربوا الأمم كما تربون الذرية، وليكن سائر الإنسان على سطح الكرة الأرضية، ككوارة واحدة ، وإلا فلتكبروا على عقولكم أربعا لوفاتها.
النحل بلغت النهاية في الرعاية، ورقت أعلى صفة في الهندسة، ووكل لغريزتها تشكيل أبنائها، وبناتها، ونظام ذريتها. والإنسان حرم هذه الغريزة، ومنع هذه الفضيلة. وتكفلت الفطرة بتشكيل الذكران والنسوان، ونظام عددهما، وتقارب مقدارهما، وقيل للإنسان: ضع كل امرئ في درجته، وأقم كل أمة فيما أعدت له. قسمنا لك الذكران والنسوان، وعدلنا في تعدادهما، وتقسيم الغرائز النافعة على أفراد نوعهما، ففتش عن الغرائز، وابحث عن الطبائع، واستعن بكل من الأفراد والأمم على ما خصص له بفطرته، وما هيئ له بغريزته، تقول الحكمة الإلهية للإنسان: وكلنا للنحل أمر بدايته، وعليها أعناه، ولم نبح له أن يتخطى حدها ويتعداه، وقد أحكمنا لك أمر البداية، فتول أنت شأن النهاية. فقلت له: وما الحكمة الزاهرة؟
الحكمة الزاهرة
فقال: لقد أحسن علماء التشريح والنفس، عرفوا تقسيم الأعمال الإنسانية، والحركات الحيوانية، فألفوها موزعة على أجزاء المخ، منظمة مرتبة، والناس عنها غافلون.
للعين مرآتها في مؤخر الدماغ، وللأذنين مرآتاهما في الصدغين متخالفتين بحيث ترتسم آثار الأذن اليسرى جهة اليمين، وآثار اليمنى جهة اليسار.
عرفوا أن أعصاب الحركة أقرب إلى المقدم والجبهة حول الشق الداخل في الدماغ، الذي اكتشفه العلامة «رولاندو» الألماني، ومعها الأعصاب المحركات للسان، أدركوا كيف كان للغات لوح منقوش نحو وسط الدماغ، وللحروف المكتوبة لوح محفوظ نحو أعلاه، لوح الكتاب مخلوق وهو عند العامة غير مكتوب، وعند المتعلمين مكتوب.
كل ذلك عرفه العلماء بالتجربة، وأدركوه بالتمرين، هكذا بحثوا في أنواع الحيوان، من سمك يعوم، وحمام يطير، وصقر يصيد، وقرد ذي تقليد، وإنسان ذي بيان.
لو زل المخيخ الذي خلف المخ لاختل سير الإنسان، وزاغ، ودار على نفسه في مشيته، وضل في أعماله. رتبت أحوال الإنسان على الدماغ، فمؤخره لنظام العين، ومقدمه لسائر الحركات، عجب عجاب، حقيقة أدركها الطبيعيون، فيا ليت شعري، ماذا فعل الحكماء والسياسيون، أنتم والله نائمون غافلون.
يا حكماء الأمم، ماذا فعلتم، ماذا أدركتم، ماذا فهمتم، حرام عليكم حرام، لكم عقول فأين نتائجها، وآذان فأين مدركاتها، وأبصار فأين غاياتها، الإنسان غافل نائم ساه مسكين. يا حكماء الأمم، يا عظماء الرجال، خبروني أليس الإنسان كله كشخص واحد ؟ وهل الفطرة التي نوعت الأعمال في الدماغ، ووزعت الإدراك، والحركات على أنحاء المخ، يغفل مبدعها، ويأنف صانعها أن يقسم الأعمال الإنسانية، على سائر الآدميين، من سكان الكرة الأرضية؟
جهل الناس! إن جهل أمة، أو ضعفها، راجع بالضعف على الباقين، إنما الأرض كالجمجمة، والناس على سطحها موزعة عليهم الأعمال، توزيع القوى على سطح الدماغ، تعاونت قوى الدماغ، فهل تعاونت الأمم على أديم الأرض تعاون قوى الدماغ على ظاهر المخ، ألا إن الناس صالحون فرادى، ضالون جماعات. فقلت: وما الحكمة الجميلة؟
الحكمة الجميلة
قال: وهل أتاك نبأ الحكمة الجميلة، والجوهرة البديعة، واليتيمة الفريدة؟ إن الناس يحبون من أغدقوا هم عليهم النعم، وليس المنعم عليهم بأشد حبا لمن أسداهم المعروف من المحسنين لهم. فقلت: أوضح المقال. فقال: الوالد والمعلم والحكيم والنبي أشد حبا للولد وللمتعلم وقارئ الحكمة والمؤمن من الآخرين للأولين. فقلت: زدني إيضاحا. فقال: الوالد يحب ولده أكثر من حب الولد له، وهكذا المتعلم مع الأستاذ، وسائر المحسنين، ألا ترى أن أولئك المحسنين يرون في إبقاء صنائعهم إحياء لمجدهم، وتخليدا لذكرهم، وشرفا عظيما لهم، ولا جرم أن رب الدين يحب بقاء المدين ليستوفي دينه.
ألا إن أولئك أشبه بالمدينين، والأولون أشبه بالدائنين. ولو أن الأمم عرفت النافع والضار لأحبت بقاء جاراتها، وسرها تعميرها الأرض، ورقيها وحضارتها، لا سيما إذا أدركن ما بينهن من التضامن في المنافع، وعملت كل منها لغيرها عملا مقصودا بالذات، مخلصة في نفعها، دائبة على إخلاصها، فيصبح الناس أجمعون محبين محبوبين، وترى كل أمة محسنة لغيرها مدينة لها، ولكن أكثر الناس لا يحبون إلا بالرياء، ولا يعملون لسواهم إلا وهم يخادعون. فقلت: إن الإنسانية سائرة على هذا النهج القويم، فالتجارة متبادلة، والحياة مشتركة، والصنائع موزعة، والأسواق آهلة نافعة، والمدارس عامرة. فقال: كلا، ولكنها الحقيقة المحزنة. فقلت: فأفدني ما الحقيقة المحزنة؟
الحقيقة المحزنة
قال: الأمم الإنسانية اليوم تحسن لغيرها طمعا في ابتلاعه ، وحبا في اقتناصه، فعلها مع الشياه المعلوفة، والبقر السائمة، والجمال السارحة، يربي الرجل الشاة ويذبحها، فيذهب شرهه برحمته ، وحرصه بشفقته، وطمعه بعطفته، قد غلبت شهواته رحماته، وأمات حرصه وجدانه، إذا ساغ هذا مع الشياه فكيف يسوغ مع الإنسان.
هكذا فعل مع الإنسان، وقرنه في عقله مع الخرفان، فلا فارق عنده بين الحيوان والإخوان، وإذا أطعم أخاه فإنما يطعمه ليكون له طعاما، والأمم الراقية لا تمتاز عن الهمجية في هذه القضية، فإن خدموا غيرهم، وأصلحوا أرضهم، وساعدوا أبناءهم فإنما ذلك ليكونوا لهم مسخرين، الخراف عندهم والإنسان سواء، جهل الناس عقولهم، وإذا اجتمعت طائفة من العقلاء وتشاورت، فإنما يتبعون أخس الآراء، كمثل السباع الضارية، ذلك لأن كل فرد يسند الرأي للمجموع ويحمل بهم على الجموع، إن الإنسان لظلوم كفار جهول.
ثم أومأ إلى غلمان وراءه، وكلمهم بما لا أفهم، إذا كتاب مطبوع بالتصوير الشمسي بحروف إنجليزية، وهو كتاب اللورد أفبري
The Peace and Happiness
فأراني في صفحة 292 عبارة في فصل تحت عنوان
The Peace of Nations
فقرأت ما ترجمته: قال أحد السياسيين اليابانيين: لما كانت اليابان لا تهتم إلا بالصناعات القيمة، والفنون الجميلة، والأعمال الشريفة، كانت أوروبا تعدهم نصف متوحشين، وتسومهم سوء الذم والمقت أجمعين، فلما أن أهلكوا خميسا عرمرما من الروس، وأزاحوا عن أبدانهم الرءوس. قالت أوروبا: إنهم قوم متمدينون، وأناسي صادقون. ثم تناول مني الكتاب، وقال: وهل تريد برهانا على ضعف قواكم العقلية، وملكاتكم الإنسانية أقوى من هذا البرهان.
مساكين يا أهل الأرض، إذا رجعت إلى قومك أيها الإنسي فخبرهم أنهم للعذاب معرضون، وللهوان مسارعون، إذا داموا على ضلالهم المبين فتلق نصيحة السيد «جامون» بقلب واع، وفؤاد حافظ، وبلغها لأهل الأرض لعلهم يعلمون.
فرجعت إذا السيد «جامون» متربص قدومي، منتظر رجوعي، فلما رآني واستقر بنا الجلوس. قال: يا ابن آدم الأرضي لا تحزن، فسألقي عليك درسا فانشره بين الأمم، وقل لهم ينعموا النظر وليشرحوه، وليفكروا فيه بعقولهم، ولترسله إلى مشارق الأرض ومغاربها. فقلت: لك الشكر، وعلي السمع والطاعة. فقال: وإني سائلك قبل نصيحتي عن أممكم العظيمة، هل داووا جراح الحرب؟ فقلت: نعم، بمحكمة «لاهاي» يحكمون فيما اختلفت فيه الأمم من صغائر الأمور. فقال: وهل هذا دواء ؟
ألا إنما مثلهم مثل الطبيب المأجور الذي لا يبالي بالمريض، إذا آنس فيه أمراضا ظاهرة، لها أصل خفي في الأعضاء الباطنة، داوى القروح بالمراهم، وترك الباطن، فلم يستأصل داءه، ولم يستقص أصله، ويقطع جذوره من أعماق الجسم، ذلك مثلكم.
فقلت: هناك أطباء يداوون الجرحى، من وخز الأسنة، وطعن الرماح، وفتك المدافع. فقال: وما منعهم أن يقتلعوا المرض بالحكمة، والفلسفة، وهلا دعت أمة منهم العلماء المغرمين بمنفعة النوع الإنساني، فاصطفت من كل أمة رجلا، سواء في ذلك أمم المشارق والمغارب، لينظروا في التحاب والتواد، والتعليم العام بين الأمم. وإني سأضع لكم مباحث، تدور عليها محاور أبحاثكم وآساسا تبنون عليها قصور علمكم، وتشيدون حصون حكمتكم، وترفعون بنيان مجدكم، ولا أدعكم على غير هدى، وإننا الآن بما وصفنا وما سنصف نريد من الأمم أن تكون كالرجل الذي يحفظ صحته بقانون حفظ الصحة، بالسير على منواله، وإقامة وزن حياته، حتى لا يقع في التهلكة المرضية ولا تنتابه الأسقام، إلا مما يفاجئه من حوادث الجو، فيلجأ إذن للدواء.
وخير الأطباء من نصح بحفظ صحة الأصحاء، وشرهم من تركهم وشأنهم، بحيث يتخبطون في أمراضهم، حتى يدوم احتياجهم لدوائه، أكثر أيام حياتهم. ثم قال: وقد آن أن أوجز لك ما أردت في مقال، أخاطب به أمم الأرض أجمعين.
الفصل العشرون
وهو خلاصة الكتاب
في بيان استخراج السلام العام في الأمم من النواميس الطبيعية، والنظامات الفلكية والفطر الإنسانية، وبنيان السياسة على أساس الطبيعة، وأن مدنية اليوم حيوانية، ودعوة الناس للإنسانية الحقيقية، وبيان أن الإنسان لم يفهم إنسانيته، وخطاب موجه لفلاسفة الأمم، ثم نوابها وملوكها، يدعو الأولين لبحث هذا الموضوع، والآخرين للتعاون على العمل.
قال السيد جامون: «النوع الإنساني أرقى أنواع الحيوان بعقله، أفلا يحب أن يكون أرقاها نظاما، وأعدلها دستورا، وأعمها مدنية، ولكنا وجدناه لم يزل في طفوليته في النظام، ولم يرتق عن النمل في السياسة ففيه السادة والعبيد. وأرقى الأمم في المدنية بحسب عرفكم اليوم تضارع أنواع السباع والصقور في سيطرتها القهرية، بسلاحها لا صلاحها. مجموع النوع الإنساني اليوم قسمان: سادة كالحيوانات المفترسة، وعبيد كأكالة الكلأ والحشيش، وأهم نظريات أكابر الأمم القائدين لغيرهم أربع: (1) العقول الإنسانية يجب أن تخدم القوة الغضبية. (2) بالقوة الغضبية والسلاح يقهرون غيرهم. (3) ثم يربونهم كالأنعام يتخذون أصوافها وألبانها. (4) الشهوات تغشي على العقول فتسلبها الشفقة والرحمة على الضعفاء كما سلبها ذابح الحيوان لأكله.»
قال أرسطو قديما: يتميز الإنسان عن الحيوان بنظره في العواقب، ولم يخالفه فلاسفة الأوروبيين والأمريكيين، ونحن نبين ماذا فعل بعقله أولا وبم امتاز.
إن عقل الإنسان زاده أرجلا يمشي عليها، وهي آلات النقل، كالترام والسيارات، والقطارات والبريد والسفن العظيمة، وأطال أظفاره الضعيفة، بما يلائم مخالب السبع، ويزيد عليها، من الرصاص والمدفع والأساطيل والجنود المجندة، والسفن الغاطسة، والدوارع السابحة والقباب الطائرة المسلحة، وأناله سواعد أخرى بآلات الحرث والزرع والبناء وما أشبهها، وأنبت له ما هو كأجنحة الطير، من القباب الطائرات وما أشبهها، وهل زاد الإنسان بهذه القوى المسخرة له بابتداع العقل إلا شهوات بهيمية، أو قوى غضبية، ولم يعرج على الإنسانية، ولم يمدها عقله بالسلام أيما إمداد.
الإنسان دائر في الدائرة الحيوانية، ونسي أنه إنسان، أنا لا أفهم ما أمتاز به عن الحيوان، ولا أدري، أين مدنيته وهل تحققت.
كان الإنسان يحبو كالطفل على الأرض، فاكتشف البخار، فانتصب قائما يمشي بالقطار، وبه قطع الكرة، وها هو استنبت له الجناحين ليطير في الهواء، وهل بعد هذا إلا البحث عن المدنية والإنسانية، أين هما، وكل ما اكتشفه لا يغني عنهما شيئا، وما معرفته للعواقب بممتازة كثيرا عما ركز في نفوس الطيور الطائرات، والحيوانات السارحات، والحيتان الغاطسات، من تدبيرها بيوتها وتربيتها أولادها، وحفظها جماعاتها، إلا امتيازا نسبيا، ليس يحل الإنسان المحل اللائق بمقامه إلا متى دبر المجموع الإنساني المجموع الإنساني.
إن نظر الأفراد في مستقبلها، والأمم في شئونها الحالية والمستقبلة، يشارككم فيه أكثر الحيوان. ومتى تولى المجموع تدبير المجموع، ظهر معنى الإنسان وتجلى للعيان، ثلث هذا النوع رشيد، وثلثه نصف رشيد، وثلثه غارق في بحار الجهل، ويحاول الأول اتخاذ بعض الثاني، وجميع الثالث كالحيوان، إذ يتخذون من جلودها صوفا ومن ضروعها ألبانا، وطوائف هذا الفريق فيما بينهم دائمو العداوات، لما لهم من القوى المتكافئة.
وإني ليجدر بي أن أطرح على بساط البحث بين فلاسفتكم وحكمائكم من جميع الأمم الأرضية، على اختلاف نحلهم، وأجناسهم ومللهم، هذا السؤال، أيهما أنفع للثلث الأول الرشيد، أيكون الثاني مثله في الإنسانية يعاونونه، أم تتنزل ملكاتهم، إلى دركات الحيوانية؟ فإن كان الأول أنفع، وثبت بالبرهان، فلا مناص لملوك الأمم، وقادة الشعوب، من السير على منواله، وإن كان الثاني، بقي النوع الإنساني على ضلاله إلى الأبد.
ليس يحل المشكل الإنساني، إلا ناموس الوجود، وقانون الطبيعة. من حاد عن فطرة العالم في سياسته، حاق به العذاب. كل شيء سائر بنظام حسن، ألا ترى دوران الكواكب بحساب لا يتغير، وسير النواميس الطبيعية بنظام عجيب، وهكذا غرائز الحيوان، كنسج وهندسة النحل، وسياسة النمل، وجمهورية كلاب البحر، أفلا يكون لهذا النوع ناموس لراحته، ونظام لم يكتشفه للآن، وربما كان حاضرا لديه، يراه في غدوه ورواحه، وهو مع الغافلين، كما كان يرى البخار صباحا ومساء والناس عنه ساهون.
فلننظر في هذا الإنسان، نجد جسمه منظما، معتدلا، فطوله ثمانية أشبار بشبره، وإذا مد يديه إلى الجانبين، كان طوله كعرضه، هكذا سائر أعضائه بميزان عجيب. وأكثر الحيوان والإنسان تولد بحواسها الخمس، إلا النادر جدا، كما ندرت مدارس الصم البكم والعمي.
أفليس هذا الوضع دالا على حكمة عالية، غرست في نفوسكم كل ما تحتاجون، حتى تتم سعادتكم في الحياة بنظام، كما كملت أجسامكم، ونظمت حواسكم. والعناية التي نظمت الأعضاء والحواس لا تغفل عن تنظيم القوى والملكات.
أوليس من العجيب أن يمتد النظام إلى ما هو أعم من نظام الأجسام، فارتقى إلى نظام مجموعكم، فإنا نرى الذكران والنسوان في المواليد على سطح الكرة الأرضية يكادون يتساوون.
وما الزيادة النادرة، أو القليلة في النوع، إلا كعدد الصم البكم منكم، وإن زيادة نحو خمس عشرة امرأة في إنجلترا في كل ألف رجل وامرأة أثقل كاهلها، فأنت وشكت، وبكت، في هذه الأيام، ومن عجب أن قاعدة الذكران والإناث لم تخطئ في بلدة، أو إقليم، أو جيل، ولو أنها أخطأت مثلا عشر سنين لأخذ الإنسان في الانقراض، ولو أخطأت خمسين سنة، لذهبت الأمم، وبادت، ولكنا نرى ذلك مضطردا أبدا، وما سمعنا انقراض الذكور أو النسوان في أمة، بل الميزان العمومي في العالم دائم الوزن، ولا جرم أن ذلك وضع للحياة المشتركة.
ولم يقف عند هذا الحد، بل تعالى إلى الملكات والقوى فجعل استعداد العقول موزعا حسب الحاجة كما في الذكور والإناث، وترى الشعراء المطبوعين في أممهم قليلين، وكذا الفلاسفة والموسيقارون، والبارعون في الجمال وحسن الصوت، وترى عشاق العلوم المغرمين بها ينبتون في الأمة حسب حاجتها، كالمستعدين للصناعة، والزراعة، والتجارة.
وكما أننا نجد طولا وعرضا في الجسم بمقدار محدد للمصلحة، وأعداد الذكران والإناث كذلك في الإنسان والحيوان والنبات، ولم يكن من خطأ فيها إلا عرضا، ونادرا، فهكذا استعداد العقول للفلسفة، والموسيقى، أو السياسة العامة، أو العلوم الصناعية، فالفطرة منبثة في النفوس بذورها حسب الحاجات قلة وكثرة.
وكما أن الأمم الوحشية لم تفقد الذكران أو الإناث حتى تقترض لهم أناسا من أمم أخرى، ليسدوا عوزهم للاقتران، فهكذا يخلق لكل أمة ما يلزم لسد عوزها على حسب حاجتها، فالمستعدون للأعمال العالية الأقلون، وأهل القبول للحرف المختلفة والعلوم والمعارف يكثرون.
أما آن الأوان لاستثمار ما استكن في الأرواح الإنسانية، وما ذراه الله في العقول، من تلك الفطر المودعة في الثلثين الضعيفين من النوع الإنساني.
أفليسوا إذا تركوا وشأنهم، أو تعمد إخماد نار جذوة أفئدتهم ينحطون إلى درجة البهائم، ويخسر الراشدون من النوع الإنساني مواهب ونفوسا لو سقيت ماء العلم، وأحيطت بسور من الرحمة، لشاركتهم في استخراج كنوز الأرض، واستدرار بركة السماء، واستنتاج خيراتهما ومواهبهما المخزونة فيهما.
وكما وزعت الحرف والصناعات والعلوم بقدر الحاجة، فهكذا قسمت أنواع الخيرات على بقاع الأرض، فلكل تربة حظ صالح من المنافع لا ينجع فيها سواه، فهذه معدنية، وتلك زراعية، والأخرى جبلية، وغيرها ذات غابات.
إن الراشدين من الأمم سلطوا غضبهم السبعي على إخوانهم في الإنسانية الضعفاء، ولم ينموا من عقولهم، أو يستثمروا من أرضهم، إلا على مقدار منافعهم وخسروا هم أنفسهم ربحا كثيرا، خسروا مودة إخوانهم، وراحة بالهم، والفطر المودعة المدفونة في نفوسهم، والمنافع الكامنة في الأرض المرهونة على بروز فطر زراعها، حتى تفيض عليهم على مقدار ما ظهر من مواهبهم، وعقولهم وقدرهم.
سخر الإنسان الحيوان أحقابا، وأنزل عليه من سوط عذابه، وجهنم غضبه ما أرهقه ألوانا، ثم اكتشف البخار، والكهرباء، فأنالاه بعض الراحة، وفرح بما أوتي من النعمة، نور عظيم، وثمرة وفيرة، أثمرها ثلث عقل الإنسان، فما يكون حالها إذا ما عقل القسمان الآخران، وجاءت قاعدة التضعيف في الفائدة الناجمة من تربيع الثلاثة الأقسام، فلا جرم تثمر بقاع الأرض تسعة أضعاف ما لدينا اليوم، وإذا استخرج ما في الأرض من منافع وثمرات بهذه العقول كانت النتائج أضعافا مضاعفة بالتربيع.
فلا جرم أن بين نواميس الكائنات الطبيعية، والمسائل الاقتصادية، مناسبة تامة، فتربيع حركات الأحجار الساقطة من أعلى الجبل، قد تتخطى إلى ثمرات الأعمال الإنسانية إذا ازدوجت وائتلفت، وليست ثمرات العقول المتحدة على الأعمال على وزان ما أثمره العقل الواحد، بل إنما يكون بنسبة تربعية، فإذا كان للواحد ثمرة فلثلاثة متحدة تسعة، وعلى وزانه ثمرات الأرض، ولسنا نطلب المحال من الأمم من إغماد السيف، وكسر المدفع، ولكنا نقترح أن يكون لجنود العقول المجندة في ساحة القتال الاقتصادي، الغاديات الرائحات في تدبير الأمم والممالك لجنة دائمة، تضيء حالكات المشكلات، وتفسر لهم الحوادث، وتلتقط من تلك الساحات مرضى الآراء، فتنقلها إلى مستشفياتها العلمية والفلسفية، كما تفعل جمعية الصليب الأحمر في ساحات الحروب الجسمية، والميادين الحربية، وهذه أهم مباحث تلك اللجنة: (1)
هل قوى نوع الإنسان موزعة عليه توزيعا حسب الحاجة كما في الذكورة والأنوثة؟ (2)
هل المنافع موزعة على سطح الكرة الأرضية توزيعها على العقول؟ (3)
أيهما أنفع للأمم الرشيدة أتسير على منوالها المرسوم ولا تتجاوز في سياستها أصغر الحيوانات كالنمل أم تعدل عنها إلى شرفها وإسعادها وصداقتها؟ (4)
إذا كثر تعداد أمة أفلا تعطى أرضا من بلاد أخرى بمقدار نموها . (5)
أيحسن أن تحصى أراضي الأمم العامرة والغامرة. (6)
أوليس من الجهل الفاضح أن تصرف قوى الأمم إلى قتال أنفسهم، ويذرون محاربة الطبيعة لإخضاعها! أوليس من الواجب أن يوضع ناموس عام لإصلاح الأرض في كل أمة، وتمدين الشعوب التي هي نصف رشيدة، والتضافر بعد ذلك على إصلاح الباقي من الأمم، طوعا أو كرها، ثم يبين مقادير ثمرات العقول الخامدة، إن أوقظت من غفلتها، وقامت من سباتها وأشربت العلم والحكمة! وما مقادير فوائد الأمم الرشيدة منها؟ (7)
أليس سعادة الإنسان في أن يكون ذا ملكة في فن خاص تضارع غرائز الحيوان كنسج العنكبوت وهندسة النحل، فإذا وصل النوع إلى هذه الملكات، فما مقدار الفوائد إذ ذاك؟ (8)
الدول اللاتي تربح من إضعاف غيرها وجهله، فما الذي يجب أن يستعيضوا عن الربح بدل ما فقدوه، وهل يحكمون العقود فيستديموا بعض تلك الثمرات؟
هذه أهم المباحث التي يتناولها أطراف البحث في هذا الموضوع العام حتى يخرج النوع الإنساني من أزمة الهلكة، أوليس الإنسان اليوم معاقبا على جهله بهذه القواعد! أوليس الهلع في الممالك واستعبادها وإضاعتها أموالها أحزانا وآلاما وضياع قوى وفوات ثمرات، تضاهي مضاهاة حقيقة تلك المواهب المسلوبة من الأمم الضعيفة والأراضي الغامرة، في أنحاء الكرة الأرضية!
ولإيضاح هذا نقول: إن الله أفاض على الإنسان عقولا، وأوسع له الأرض، ولن ترضى تلك العروس الجميلة الولود إلا إذا تزوجها كفء كريم، وهل يكافئها أحد إلا العقول الإنسانية كافة على سطح الكرة الأرضية، كما كان الرجال جميعا كفوء النساء عموما وكانوا عددهن، فانتظم نسلهم، ولعمرك ما قام بعمارتها إلا ثلث الإنسان الرشيد، ثم أخذ يضعف مواهب كثير من الأمم وسخرها لإرادته، وقهرها لسطوته، فساموهم الخسف، وأصلوهم نارا حامية، فاستثمروا نصف عقولهم، وبعض منافع أرضهم، فأجدبت منهم عقول وأراض كثيرة، وغرائز كامنة، فكان العقاب والجزاء مقدرا بالذنب، جزاء وفاقا.
وذلك أن منهم فريقا يتربصون الحرب كل آن، ومقدار كبير من ثروتهم يصرف على قواهم الحربية.
وما مثل الأمم الرشيدة والضعيفة إلا كمثل رجل أمسك بذراعه الأيمن الذراع الأيمن لامرأة حتى لا تفر، وهي تلقمه لقيمات بيدها اليسرى.
ذلك مثل الأمم القوية القاهرة المعطلة لبعض قواها لقهر الأمم الضعيفة وإنهاك قواها، أفليس الناموس العام في هذا الوجود عذب الأمم القوية، بعذاب مهين، من أخذ القوة والحيطة والسلاح والكراع جزاء ما أماتوا من الأمم الضعيفة قواهم وملكاتهم.
أوليس الناموس العام تولى عقاب الأمم بنفسه، فلم يفلت منه ظالم ولا عات، أفلا تبحثون في تلك النواميس عما أعدته لرقي العالم، وتشمخون بأنفسكم، وتتعالون عن هذه الحقارة والصغار والتنزل إلى مرابض الحيوان، ومراتب الأنعام، ها أنتم هؤلاء استخرجتم قوى الحيوان وسخرتموها، فلم تغنكم وحدها، فعمدتم إلى بعض قواكم البشرية، فسلطتموها على الطبيعة، فحملتكم وكلمتكم، وخدمتكم فأرحتم الحيوان!
أما آن لكم أن تستخرجوا قواكم لتستعينوا بها على إكمال سعادتكم وتخلصوا إخوانكم من الشقاء، كما تخلص بعض الحيوان، وهاكم نواميس الطبيعة التي قدمناها واضحة ظاهرة، والقوى في الأدمغة موزعة على أعمال الحياة بالمشاهدة والاختبار!
أيها الفلاسفة، أيها الملوك، أيها النواب، الحقيقة واضحة، ظاهرة تلمس بالأيدي، ولكن الناس لا يبصرون؛ لأن حجاب الشهوات ران على قلوبهم، والقوى الغضبية غشت أبصارهم، فلم تنجل لها أنوار شمس العلم المشرقة المجللة سطح الكرة الأرضية، وكيف يجوز التغافل عن أراضي الأمم فلا تزرع؟ أم كيف تغادر العقول والقوى الكامنة فلا تستثمر؟ فلئن لم يصدع بهذا الأمر الملوك، ولم يفكر العلماء، فلتدهمن الأمم الدواهي الدهماء، وليصبحن في عذاب واصب، لا سيما إذا حامت حوائم الموت، من خلال الطيارات الطائرات في الجو، وحلقت على عوالم الشرق والغرب حائمات القباب الطيارة ترسل على الأمم الصواعق والشهب والرصاص، وتزجي عليهم المصائب، وتمطرهم مطر الدمار والخراب، وأول ما يصمي به الأمراء والملوك، ولئن فطنوا لما أوضحناه اليوم، فليكونن ذلك أشبه بعذر في القريب العاجل لهم، كما أنهم إن نجحوا في طلبتهم وهو الأقرب عندي كان لهم إطراء المادحين، وشكر الأمم أجمعين، وبالجملة فلهم الغنم، وعليهم الغرم.
أيها الحكماء والفلاسفة والملوك، مجموع النوع الإنساني حائد عن التهذيب، حيوان مكبر، ولن يصوره المصورون بأكثر من نسر بأجنحة كثيرة وأرجل تحتها عجلات ذي صوت يحيط بالكرة، له أظافر حادة، إذا تصور وجود مثل هذا الطائر لم نسمه إنسانا، وإنما هو حيوان ذو خصائص واسعة، ذلك مثل الإنسان.
أوليس من العار هذه الخلة في المجتمع الإنساني! أين التهذيب في الأمم؟ الأمم الرشيدة بحكم هذا النظام الحيواني مضطرة أن تنيب عنها طائفة من أبنائها في الأمم الضعيفة، فلا تطأ أقدامهم تلك الأرض حتى يتنزلوا من سماء مدنيتهم، وينحطوا عن الفضيلة، ويعثوا في الأرض فسادا، كالحيوان الأعجم، ثم يتدربون على تلك الأخلاق الفاسدة، فتصير ملكات، فيرجعون إلى أوطانهم حاملين أوزارهم على ظهورهم، فتكون بذور حناظل الرذائل، تنمو وتترعرع في خلال الفضائل والمدنية، وتتسلق على أشجار السعادات الباسقات، وتمتص غذاءها فتموت، وتتغلب أعشاب الرذائل على زروع الفضائل، وتنحط تلك الدولة إلى أسفل سافلين، كما اتفق للرومانيين فذلك فساد الحاكمين، وهلاك المستعبدين.
النوع الإنساني اليوم كغلام مراهق جاوز سن الصبا، وهو الآن يستعد لاستكمال العقل، فتراه كلما غدا أو راح يلطم بالصخر والجبل والشجر فيشج رأسه ويكسر رجله.
أفلا يكون ناموس الوجود الذي رمزنا له في صدر هذا المقال شعاعا من نور عقله وعنوانا على مبدأ سعادته فيبلغ به الحلم، ويصير رجلا بعد جهله المبين، وإنسانا بعد أن كان حيوانا، ألا ترى عذاب الأمم القاهرة والمقهورة جميعا بالجهل والطيش، كغلام يصيح مع الصائحين، فالأولون معذبون باستعبادهم، والآخرون بحبس فطرهم وجهلهم، والغنم بالغرم، وعذاب الأمم الراشدة بمقدار إذلالها لغيرها كما قدمنا.
ولا جرم أن الأمم لا تبلغ رشدها إلا إذا رفعت الأيدي الضاغطة، وأرشد الحاكمون المحكومين، وصرفت القوى في المنافع والصناعات.
إذا كان الحيوان استخدم قواه كلها في صلاحه، أفليس من العار على الإنسان، أن تعطل بعض قواه، تارة بالاستعباد، وطورا بالوثوب، وآونة بإخماد القوى.
أليس من الخزي هذه الأخلاق الشائنة، أين عقل الإنسان؟ أفليس بما قدمنا يزول الجدب ويقل الخوف وتضاعف الثروة، وليس على الأمم في مثل تلك اللجنة العلمية الفلسفية السياسية التي افترضناها من ضرر، وليست تصرف أكثر من عشر سنين في إحضار أساس المدنية وعرضها على سائر الأمم الرشيدة.
فلتدع أمة من الأمم لهذا المبحث سائر الأمم ليرسلوا أكابر علمائهم المحبين لنوع الإنسان ليبحثوا هذا الموضوع بحثا مدققا، ثم ليؤلف كل عالم من أولئك عند الإمكان كتابا في هذه المباحث يري فيه الأمم كيف يكون الحب العام، فإذا ما وافقت اللجنة العامة على كتاب ترجم إلى سائر اللغات، ويوكل لكل عالم الصورة التي بها يعممه في أنحاء بلاده، بحيث يلقن التلاميذ في سائر الممالك ما يحببهم في نوع الإنسان إجمالا وتفصيلا، ويزدري أمامهم بالتشخيص أو غيره الحرب والخداع السياسي، وتمنع كل أمة من ذم غيرها، والطعن في دينهم، حتى لا يكون بين الأمم، أحقاد في صدور أبنائها.
ومتى تكرر ذلك صار طبعا وعادة لازمة للأجيال المقبلة، وإذ ذاك تبقى كل أمة على عاداتها ودياناتها وأخلاقها، ولكل من الملاك فيها أن يتصرف في ملكه، ولكن يجب أن تكون لهم مراقبة دولية، وعلى كل أمة أن تراقب عمران البلاد واستثمار الأرض وإنماء العقول، وهذه اللجنة تراقب الأمم وتراقب الأمم أفرادها.
ها أنا أدعو ملوك الأمم، ونوابها العامة ومجالس نوابها، وحكماءها وعلماءها، فهل من ملك رشيد أو ناد ذي فضيلة يدعو لما دعوت إليه حتى يكون أول مصلح للنوع الإنساني فلا يضره ولا أمته شيء في الحال والاستقبال، ولئن لم يتم الأمر على مراد سائر الدول بقي له ذكر المصلحين أمد الدهر، وكان له أثر خالد في الأمم المستقبلة، وفي ظني أن ملوك وعلماء هذا العصر يقدرون هذا العمل حق قدره، فقد آن أوانه حتى تبطل القاعدة الحيوانية العتيقة التي وضعها «أبيقور» اليوناني في القرون الخالية قبل الميلاد بثلاثة قرون القائل: «يبيد الأقوى الأضعف.» وشيد على أنقاضها داروين الإنجليزي مذهبه، وطبقه السواس على الإنسان، فقلد السباع والوحوش، ولو أنهم فطنوا لغلبوا هذه القاعدة الإنسانية، على تلك القاعدة البائدة السبعية، ولحكموا بالعدل والسلام العام حتى يمتاز الإنسان على الدواب والأنعام، وهذه القاعدة نهاية بحث العلماء، وثمرة حكمة الحكماء، وطلبة الأنبياء، وإني لموقن بصحة النتائج لصدق المقدمات .
فلما فرغ من مقالته عجبت من حكمته، وقلت: كيف نطق الأستاذ بما وعيت، وأظهر ما أضمرت؟ وهل هو غيري وهل أنا غيره؟ فتذكرت قول الشاعر:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتنا أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا
فبينما أنا غارق في بحار هذه الأفكار إذ انفلق عمود الصباح وقال المنادي: حي على الفلاح، فاستيقظت وعلمت أنها رؤيا منامية، وعلى العلماء التأويل وعلى الأمم التكميل.
فرغت من تسويد هذا الكتاب يوم الأحد السابع عشر من شهر رجب الأصم سنة 1328 الموافق 24 يوليو سنة 1910 الساعة التاسعة صباحا بالمنشية بجوار القلعة.
وما علمت خبر انعقاد مؤتمر الأجناس العام بإنجلترا المناسب لهذا الكتاب إلا بعد تبييضه بنحو خمسة عشر يوما في الجرائد المصرية، وكان ذلك من أعجب العجائب وأحاسن الصدف والغرائب.
ومن عجب أن المؤتمر المذكور الذي سيعرض عليه هذا الكتاب سيلتئم جمعه وينتظم عقده في أواخر شهر يوليو سنة 1911.
نغمة من موسيقى الكتاب
لعلك أيها الذكي المطلع على كتابي هذا، يشوقك أن تقف على أسباب تأليفه، فأحدثك عنها لتعجب من هذا الوجود، ولترى أن للإنسان في ظلمات الحياة الدنيا مناهج وسبلا تستبين ببصيص شعاع يأتلق من أنجم الهدى، الطالعات في ثنايا الظلمات.
كنت أجد في نفسي دائما معاني متشابهة، وآراء متقاربة، تدور في دائرة، وتسير في اتجاه مرسوم، لا تحول ولا تزول، مهما عاقت العوائق، وحالت الحوائل، وهي هذه الآيات من الكتاب العزيز:
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ،
وكل شيء عنده بمقدار ،
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ،
ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون .
وطالما اختلج بقلبي، وسبق لذهني، فحكم عقلي، أن مسألة الذكور والإناث، وتقارب تساويهما في الوجود، وتنظيم أعدادهما على سطح الكرة الأرضية، أجل دليل، وأقوى حجة، وأسطع برهان، وأحكم قول، على أن هناك غرائز لو كشف الناس عنها الحجاب، وأبرزوها للعيان، لصلح حال البشر، كما تراه في الكتاب. •••
بدأت أولا في تحقيق الميزان والقسط والنظام والعدل في العالم المشاهد، وعولت في الأكثر على المحسوسات، ولم أشأ أن أقرأ الحكمة إلا بالقياس على المشاهدات، ولا أدرسها إلا مع النظر في المخلوقات.
النظام في كمية المادة وتركيبها وحركتها
رأيت أن الهواء أكثر من الماء، والماء أعم من الغذاء، والغذاء أكثر من الدواء، فعجبت لهذا العالم، كلما اشتدت الحاجة لشيء كثر وجوده، وتقل الأشياء، كلما قل طلابها، أو لم تجب أسبابها، وأكثر الناس عن ذلك غافلون.
ثم نظرت فيها من حيث تركيبها، ونسب أجزائها، فألفيت عجبا عجابا، ألفيت الأجزاء موضوعة بحساب، مرتبة بدقة ونظام، في كل تركيب كيماوي، أفلا تتعجب معي من وزن ذرات الأكسوجين والأودروجين في الماء، وإن الأول أثقل من الثاني أضعافا، والثاني أكبر منه حجما، على نسب لو اختلت وزنا أو حجما، لفسد الماء، وانفصل الزائد، وطار مع الهواء.
ألا تتعجب من الماء كيف يكون مركبا من مادتين خفيفتين لا تراهما العيون، إحداهما حارة محيية، والأخرى باردة مميتة؟
ألا تتعجب معي من هذا الوجود المنظم، وكيف كانت سائر النباتات مركبة من عناصر بنسب محفوظة ثابتة كما أوضحته عن علماء الزراعة في كتاب نظام العالم والأمم؟
أوليس مما يسحر العقول، ويخلب الألباب، أنك ترى مثل القمح والقطن مركبين من عناصر فوق العشرة، متحدة في الأكثر، مختلفة نسبها، بحيث إن ما نلبسه هو عين ما نأكله من حيث العناصر؟ واختلاف المقادير في التركيب، أوجب اختلاف الملبس والمأكل والرقاقة والحزام.
اقرأ الكيمياء ثم فكر وتعجب من هذا الوجود العجيب، المنظم البديع، وإياك أن تقرأ بلا إمعان وتفكير فإن ذلك شأن الغافلين.
العالم العلوي
فلما أن تبين لي نظام هذا الوجود كما وكيفا، رجعت بصري، وحولت اتجاه فكري إلى حركات الأجسام العلوية، فرأيت عجبا عجابا، رأيت الكواكب لا تخطئ في سيرها، ولا تغلط في جريها، كما أوضحه الفلكيون، ونظمته في رسائلي المسطورة المنشورة.
تبين لي الحق، وأيقنت بقلبي معنى قوله تعالى:
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم
وقوله:
وكل شيء عنده بمقدار .
النبات والحيوان والإنسان
عند ذلك طفقت أفكر في نظام هذا الإنسان على سطح الكرة الأرضية، وما امتاز به عن الحيوان، وهل هو سائر على سنن العدل؟ أم زائغ عن الجادة؟ حائد عن الصراط المستقيم؟
الإنسان ابن هذا الوجود، وهو مركب منه، تظله السماء، وتقله الغبراء. الوجود في نظام عجيب، والإنسان في شقاق بعيد.
رأيت أن لا بد من النظر في أمر المواليد الثلاثة، النبات والحيوان والإنسان، فرأيت الإنسان يشارك النبات في الغذاء والتناسل، ويشارك الحيوان في ذلك، وفي الحركات الاختيارية، والحواس والإدراك والغرائز.
رأيت أنه كلما كان الحيوان أدنى كالبعوض والجراد والذباب لم يقم بتربية ولده، وكلما كان أكثر إدراكا، وأرقى غريزة، وأكمل شأنا، أوتي العطف على بنيه كالبقر والفيلة والأسود والقردة.
فعلمت أن تربية الولد والعطف على الذرية، ليس خاصا بالإنسان، فاتخاذ الأزواج عم الحيوان والنبات، وتربية الولد واضح في أعلى الحيوان. فقلت: لعل الإنسان ارتقى بجمعيته، وفضل بمدنيته، فألفيت كلاب البحر والغربان، والزنابير والنحل، والنمل لها جمهوريات منظمة، ومدنيات عجيبة. وأدهشني أن هذا الإنسان كان ظلوما جهولا، لا أدري كيف غفل حكماؤه، وتغاضى علماؤه، ذلك أن الزنابير مثلا في أي بقعة من بقاع الأرض لها جمعية منظمة، فيها رؤساؤها، ولم يحتج يوما ما نمل أواسط آسيا مثلا إلى رؤساء من نمل الصين، كما لم يحتج ذكران الأولين إلى إناث من الآخرين، أوليس من العجيب أن يكون الإنسان أقدر على الكذب والبهتان من كل حيوان! إن الإنسان ظلوم جهول.
ولقد تبين لي أن كل مخلوق من جماد ونام يترك ميراثا للعالم نافعا، فالنخل والشوك يخلفان لنا متاعا، وهكذا دود القز والنحل والنمر، تورثنا حريرها وعسلها وجلدها وهي لا تقصد ولا تريد، فأيقنت أن الفضيلة في نية الأعمال مع الأعمال، وألا فارق ما بين دود القز والنمر وبين الذي ترك مالا وثروة. وأي فارق بين الدود الذي ورثنا الحرير، وبين الجاهل الذي أرغم على ترك الثروة بالموت، وهو لم يخطر بباله يوما منفعة الإنسان؟ كلاهما أورثنا مالا ومنفعة وكلاهما لا يريد.
وكما أن الفرق بين الحصان والبعوض في الشمائل والفضائل، إن الأول يربي أولاده ويشفق عليها، والآخر قصر عن هذه الفضيلة، فهكذا يجب أن يمتاز الإنسان عن الحيوان الجمهوري النظامي، كالغراب والزنبور والنمل والنحل وكلاب البحر، بأن يعطف الجميع على الجميع، فأما أن تنفع أمة أمة، أو فردا فردا، بلا قصد ولا عمد، كما هي حال هذا الإنسان، فذلك عام في النبات والحيوان.
فوجب أن نبحث هذا الإنسان هل هو قابل أن يتميز في جمعيته عن الحيوان ويرتقي في مستقبل أمره أم سيحل عليه العذاب والخزي أمد الدهر؟
حينئذ توجهت إلى مبدع الكائنات، وباري النسمات، وقلت: يالله، العالم كله عجيب منظم، فما لي أرى الإنسان في شقاق بعيد؟ وقلت: لعل رؤساء الإنسان أقدر على ضبطه، وأحزم في سياسته، فوجدت أن رؤساء الأمم في أكثر أوقاتهم واجمون، ووجدت الأمم تكافئهم بالمال والجاه، كما يعاملون الصبي في المكتب يرفعونه إلى الأعلى ويكافئونه بالأدنى، يقولون: اقرأ ولك الحلوى، فيرى أن الحلوى من مواد الغذاء، مكافأة على ترقية العقل. ولئن جاز ذلك في الضحك على عقل الصبي، فلن ترضى به أنفس الأمراء، وإن كانوا لا يعلمون، إن الجزاء الأوفى في الدنيا من جنس العمل.
فإذا عطفوا على الرعايا، وأحكموا نظام الممالك، فلن يسعدهم تلقاء ذلك إلا حب الرعايا وإخلاصهم كما كان ذلك لأمثال أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولذلك كان الملوك قديما يحتالون على الشعراء ليمدحوهم ليكون كتزين العجوز الشوهاء بالحلي والحلل، وكالتباهي بالزهر المجني من شجرة المقطوع من غصنه، يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه، وإذا أظلم عليهم قاموا، هؤلاء يسرهم برق المدح الكاذب ويسوءهم أن يسمعوا من الرعايا السخط والحقد في ظلمات الظلم المبين. وقارنت هؤلاء الرؤساء بما ينقل عن أمراء النمل فألفيتها موضع المحبة والإجلال، وإن النملات حين تتم عملها تنظر بعين الحب والإخلاص والمودة إلى الملكة كأنها تيمن بوجهها الكريم، فعلمت إذ ذاك أني لم أعثر على مزية الإنسان الاجتماعية التي ارتقى بها عن الجمعيات الحيوانية.
النبات كامل باه زاهر جميل الزهرات، باهر الثمرات، الحيوان تام النظام ألهمه الله ما يحتاجه، حتى إن العنكبوت والنمل والنحل والزنابير عالمات بقوانين نسجها وهندستها، وبناء منازلها، ونظام حياتها، وجني عسلها وتربية أولادها بلا مدرسة ولا تعليم ولا تدريب. قال: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
فتبين لي من هنا شيئان، عدم ارتقاء الإنسان عن الحيوان في نظام جمعيته، وحاجته للتربية والتعليم، وفهمت أنه كان ظلوما جهولا.
لكن من وجه آخر أؤمن بفضل الإنسان على الحيوان، وأعلم أن العالم كله ذو نظام، ولم أجد سدا لخلله، ولا رافعا لشأنه سوى العقل الذي به يكمل ما ينقصه بفطرته، وينظم حكوماته، وأخذت أبحث في هذا الإنسان، هل هو منظم الغرائز كهذا العالم؟ هل ملكاته وقواه الكامنة فيه لو استخرجت ينتظم عقدها ويتم بها أمره؟
نظرت أولا في عدد الذكور والإناث، فألفيتها منظمة في الإنسان كالحيوان والنبات، ثم تأملت الصفات فألفيت الأذكياء وأصحاب الأصوات الجميلة مثلا أقل من غيرهم، وتفرست في التلاميذ الذين أعلمهم، فرأيتهم يختلفون في أميالهم، وكما أن لونهم واحد وهو الأبيض غالبا أو غيره لم يشبه أحدهم الآخر فيه، فهكذا العقل واحد ولم يتشابهوا فيه، فالألوان والقوى البدنية والعقلية مختلفات بالأسباب، وقام بنفسي أن الأمم يعوزها التعليم. ولم أر تعليم الناس قائما بحاجاتهم؛ لأنه سائر على نهج حائد عن الصراط السوي، ولم أر في المدنية الحاضرة ما أبتغيه، فإن المتوحشين والمتمدينين لا يزالون يسلكون سبل النمور والصقور والسباع.
ولقد قرأنا ما سطره المستر إدوارد كاربنتر عن أحوال المتوحشين القاطنين حول بحيرة نياسا بالسودان إذ عاشرهم من سنة 1876 إلى سنة 1878. قال: إنهم أقوى أجساما وأصح أبدانا من المتمدينين، ولكنهم أكثر منهم فتكا بأعدائهم.
وقال: إن المتوحشين الإفريقيين يفوقوننا كثيرا لدرجة لا تجيز المقارنة بيننا وبينهم؛ لأن أحدنا يرى نفسه فيما بينهم طفلا صغيرا. ا.ه.
فالمدنية أضعفت الأجسام، كما خرقت سياج الأدب، وعكست وضع الإنسانية. لقد أخبرني ضابط قطن السودان في هذه الأيام أن إحدى القبائل يعيش أبناؤها، وبناتها في الصبى والبلوغ، والكهولة والشيب، وهم عري مجردون، ولا تسمع باسم الخنا في حياتهم، ولا تخطر الخيانة ببال أحدهم، وإنهم جميعا أعفاء صادقون، ولكن المدنية اتخذت اللباس شرك الدعارة، وعكست القضية، وعدت المكر والكذب كياسة، والظلم سياسة.
ولقد قرأت في التاريخ، ما تدهش له العقول، فتراهم يقولون: إن قيصر الروم غزا الأمم ودوخ الممالك شرقا وغربا، فلما أن رجع إلى قومه، وقر بوطنه، اتخذوه معبودهم، وأحبوه حبا جما، وهكذا أكثر الأمم، إلا من رحم ربك، فإنهم لا يحبون إلا الظالمين، كما يفرح الطفل بسرقة أبيه، وخيانة أخيه؛ لأنه يأكل مما يسرقان، ويلقف ما يأتفكان.
فعجبت لهذا الإنسان، كيف تنزل بشهوته، وارتقى بعقله، إنه جمع بين الضدين وعاش بالنقيضين، ثم رجعت إلى نظام ذكوره وإناثه، وفكرت في أمره، وكنت إذ ذاك قد شرعت في عمل كتاب عام في الفلسفة، وكتبت بعض المقالات، فأبت نفسي إلا السير في تحقيق هذه الفكرة والجنوح لهذا المبدأ، فكاشفت صديقا كنت به آنس، وقلت: أيها الأخ، يخيل لي أن الدول قاصرة السعي، قصيرة الخطى، فلو أنها كشفت عن غرائزها، وأبرزت للوجود عواطفها، وسعت في إنماء عقولها، لصلح الوجود، وزال الخوف الموجود، فتعادل الذكران والإناث دليل على تعادل غرائز الإنسان، فقل شعراؤهم، وكثر عمالهم، وندر حكماؤهم، هذه جبلاتهم أفلا يتذكرون.
فقال: هذا قول جميل هلا وضعته في مقال ونشرته لأمم المشارق والمغارب، فاستكبرت القول، ولم أشأ أن أقدم بلا روية، ولا أعزم بلا تدبير، فإن ذلك فعل الجاهلين، وحررت مقالة وألقيتها في الخزانة. فلما كانت أواسط السنة العاشرة، بعد التسعمائة والألف في شهر إبريل، رجعت لتحرير المقالات في الفلسفة والطبيعيات، فلما أن عثرت مصادفة على مقالة للعلامة «كنت» الألماني وجدته يقول: «الإنسان جهول، لم ينظم حكوماته، ولم يقم بتربية أبنائه.» فعجبت كيف وافق رأيي، وناسب مشربي، فعاودني الفكر في الموضوع، ولم أشأ أن أحيد عن فكرتي، ولا أن أزيد حيرتي؛ لأني خفت الحسرات من الفوات.
فلعمرك لقد طفقت أكتب، والقلب متقد الباطن، مملوء بالحمية، مبتهج بالعمل، ولولا الأدب، وألا يقبل عذري لقلت: وما فعلته عن أمري.
لقيني إذ ذاك من له بي علاقة العلم. فقال: لمن هذا تصنع؟ وماذا ينفع؟ إن بلادنا عنه لاهية، إن لها في أموالها وأحوالها لشغلا شاغلا. فقلت: إني أشعر أن العالم الإنساني له خطرات إلى العلاء وخطوات إلى الأمام.
وكان ما سطرته في الكتاب فاقرأه هناك. وإن غرائز الإنسان وطبائعه قابلة للارتقاء وما منعها إلا فساد التربية والتعليم، والزيغ عن الجادة، والميل عن الصراط المستقيم.
تمثيل آراء الإنسان بالبحر الملح وبالنبات
ولقد تبين لي أن معارف الإنسان وعلومهم كالنبات على سطح الأرض، وكالذي حواه البحر الملح.
إن النفس أخت المادة وشقيقتها كأنهما مشتقتان من أصل واحد، وربما نشأت إحداهما عن الأخرى، فلذلك تشابهت نتائجهما، ألا ترى أن الأرض تحمل الشجر المثمر والنبات النافع، فيها النخيل وثمره والعنب وزبيبه، والقمح المغذي، والصبر المداوي، والتين فاكهة، والكلأ مرعى، والقطن والتيل والكتان ملبسا، وفيها الحنظل المر، والسعدان ذو الشوك، والحشائش السامة، والنباتات المخدرة.
وإن النفوس البشرية، زرعت فيها بذور الفضائل والرذائل، فالعلوم المشيرة للصناعات كنبات القمح في الأرض، والخلقية للتداوي كالصبر، وذلك كعلم الأخلاق، وترى الأشعار الكلامية كالفاكهة، والنكات المضحكة كالمراعي؛ فإنها تسر القوة البهيمية، وعلوم الدفاع كالملابس. ومن الناس من يسخر غيره على خدمته لمصلحته، ومنهم من يرى الفضل في كف الأذى.
ومن وجه آخر، أرى الناس يقرءون قضايا الاجتماع معكوسة متناقضة، فتراهم يقولون: نعطف على الإنسان، وهم هم، الذين يجهرون بامتداح القواد القاتلين كنابليون، ويشرفون الكذوب من رجال السياسة، فحار فكري في هذا الإنسان، ورأيت أن مثله في مسائله العلمية كمثل رجال قصدوا البحر الملح، فأما أحدهم فإنه اغترف من الماء غرفة فشربها، وأما الآخر فخلصها بالتقطير كما يفعل السحاب، وأما الآخر فاصطاد الأسماك، وغيرهم استخرج الجواهر بأصدافها والمرجان من منابته، والبحر واحد، وكل منهم يؤيد عمله بحجة وبرهان.
ثم رأيت أن كل طائفة مغترة بما لديها قانعة بما وصلت له، وترى أمم الصين والهند التي قضت تعاليمهم بالانكماش، زلزلوا في أماكنهم، وغزتهم أمم أخرى، فاستفزتهم، والسبب تنافي التعليمين، وتناقض المذهبين، وتباعد الرأيين بعد المشرقين. فقلت: أوليس بين هذه المذاهب حق واضح! فتبينت أن أكثر الآراء تجمع ما بين الجيد والخبيث، والرديء والطيب، والكمال والنقص، وإن الحق مخبوء فيها كامن في النفوس، فرأيت أن أبحث عنه في الأنفس والآفاق، وأن أبينه للناس على سطح الكرة، ولم يكن لي أن أخاطب دولة واحدة أو أمة واحدة كما فعل بيدبا الفيلسوف الهندي أيام الملك دبشليم ببلاد بنجاب بالهند قبل ثلاثة وعشرين قرنا، فذلك زمان كانت الأمم فيه منفصمة العرى، بعيدة المواصلة، ووعرة المسالك، طويلة الشقة، فأما الآن فقد استدار الزمان، وتغيرت الأحوال، واتصلت الأمم، وتداخلت الأخلاق، واجتمعت الجماعات، ومدت الأسلاك، وأصبح الناس كأسرة واحدة، وأصبح الخبر يطوي البيد طيا في ثانية من الزمان، ولو أن أمة من الأمم عكفت على الفضيلة، وكان غيرها متشبثا بالرذيلة، متعلقا بأذيال النقيصة فما جزاؤها إلا الوبال إذ تتحد جاراتها على اهتضامها واقتسامها، فلا محيص لها من مقابلة الشر بالشر، كما يكافأ الإحسان بالإحسان.
فلم يكن لي بد من التصريح برأيي والجهر بعقيدتي للناس قاطبة. فقديما كان الناس لا يعلمون شجرة القطن إلا قليلا. ولم يعم الكرة الأرضية إلا في قرون متأخرة، وكان الإنسان عاكفا على صوف الحيوان وجلد الدواب، فزرع كثيرا من الأرض بهذه الشجرة المباركة الطيبة «القطن»، فألبسته ووقته وهج الحر وقارص البرد وزينته. هكذا الآراء منها ما ظل قرونا في زوايا النسيان، ثم يفطن له أناس فيبذر في بسائط النفوس فيكسوها جمالا وبهاء، بعد أن كانت عارية من لباسه عاطلة من حليه. وكما يزرع الناس في البسيطة ما جهلوه أحقابا فيغنيهم ويكسوهم فهكذا يزرعون في بسائط النفوس ما غادروه فيها أحقابا ودهورا، وأغفلوه فينشطون ويرتقون، ولكم خمدت جذوة فكرة بعد اتقادها، واتقدت جمرة بعد خمودها كما يستنبت الناس نباتا بعد أن جهلوه، ويذرون آخر بعد ما ألفوه. إن بين النفس والمادة لشبها، إنهما أختان، ألا إن العلوم كالنبات، والنفوس الإنسانية كالمواد العنصرية والكرة الأرضية، ألا إن هذا الكون لعجيب.
جهرت بهذا الرأي لتبرأ ذمتي أمام الله عز وجل. خفت أن يدفن معي، ويدخل مضجعي، وقد علمت أن التجار لا يزورون مكانا إلا أعلنوا فيه عن سلعتهم، ولا زقاقا إلا ألصقوا بجدرانه أخبارهم. فقلت: ما أحق الآراء النافعة بالنشر بين الناس، وما أولاها بالتعميم؛ لأن التجار إنما يعطون منافع الأجسام، وأما ذوو الآراء فيعطون الناس منافع العقول، وما به يرشدون ويصلحون، فأحببت من المصلحين المرشدين وقادة الأمم في الأرض أن يعنوا بتعميم الفضيلة والمحبة العامة بين الأفراد والشعوب شرقا وغربا كما تراه مفصلا في الكتاب.
ولقد أيقنت أن ما دونته في كتابي سيكون عقيدة عامة بعد حين وسيتلقاه عقلاء العالم بالقبول، ويخيل لي أن العالم الإنساني سيكون أنعم بالا وأحسن حالا وأرفع شأنا، وأعز مكانا، وأشرف نفسا، ولتعلمن نبأه بعد حين.
اعلم أن مثل الرحمة الإنسانية العامة كمثل الماء الذي سلك ينابيع في الأرض فخالط أجزاءها، وداخل أحشاءها، وتخلل باطنها، وجرى في مجاريها، وسرى في كرتها، وخزن في جبالها، فتارة تفجر أحجاره أنهارا، وآونة تشقق فتخرج ماء، وطورا يحفر الناس الأرض فيستنبطون ماءها ويستخرجون معينها. فهذا مثل الرحمة الإنسانية الكامنة في القلوب البشرية وما غشاها إلا المطامع والشهوات، وطين الرذائل وحمآت الجهالات السائرة.
ومثل آخر أن ما كمن من الرحمة في الإنسان أشبه بالكهرباء والنار، وما العلم الذي ظهر والمحبة التي جمعت الناس إلا كأضواء المصابيح المتقدة بالنار والكهرباء.
هذه صفحة قرأتها من الرحمة العامة في هذا الإنسان وكيف غشي وجهها بعذاب واقع، ضربت لك الأمثال بحال هذا الإنسان وآرائه، وضرب الأمثال مشعر بالإجمال.
فهل لك أن تطلع على صحيفة من علمه، ورسالة من عنده، ونور أشرق على عقله، وآيات نزلت على قلبه، ورحمة أحاطت به، وإلهام تنزل عليه، فاسمعوا وعوا.
منظر علماء الطبيعة
رسم علماء الطبيعة صورة من هذا الإنسان، ووصلوه بالحيوان والنبات، وكونوا منهما سلسلة ذهبية منظمة، ظهر جمالها في مقالات العلماء الإسلاميين كما في الفوز الأصغر لابن مسكويه وإخوان الصفا إذ أبانوا كيف ترقى النبات من أدنى أنواعه، وتعالى في تدرجه، وارتقى إلى درجة عظيمة، تلاصق أرقى الحيوان، وأخذ هذا يتدرج حتى انتهى إلى الإنسان، وهو عالم واسع عظيم، وهاك نص ما قيل في إخوان الصفا: واعلم يا أخي بأن أول مرتبة الحيوان متصلة بآخر مرتبة النبات، وآخر مرتبة الحيوان متصلة بأول مرتبة الإنسان، كما أن أول مرتبة النبات متصل بآخر مرتبة المعدن، وأول مرتبة المعدن متصل بالتراب والماء كما بينا قبل، فأدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط وهو الحلزون، وهي دودة في جوف أنبوبة، تنبت تلك الأنبوبة على الصخر الذي في سواحل البحار وشطوط الأنهار، وتلك الدودة تخرج نصف شخصها، من جوف تلك الأنبوبة، وتنبسط يمنة ويسرة، تطلب مادة يغتذي بها جسمها، فإذا أحست برطوبة ولين انبسطت إليه، وإذا أحست بخشونة أو صلابة انقبضت وغاصت في جوف تلك الأنبوبة، حذرا من مؤذ لجسمها، ومفسد لهيكلها. وليس لها سمع ولا بصر ولا شم ولا ذوق، إلا الحس واللمس فقط، وهكذا أكثر الديدان التي تتكون في الطين وفي قعر البحار وأعماق الأنهار، ليس لها سمع ولا بصر ولا ذوق ولا شم؛ لأن الحكمة الإلهية من مقتضاها أن لا تعطي الحيوان عضوا لا يحتاج إليه في جلب المنفعة ودفع المضرة؛ لأنه لو أعطاه ما لا يحتاج إليه لكان وبالا عليها في حفظها وبقائها. فهذا النوع حيواني نباتي؛ لأنه ينبت جسمه كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه قائما، وهو من أجل أنه يتحرك جسمه حركة اختيارية حيوان، ومن أجل أنه ليست له إلا حاسة واحدة فهو أنقص الحيوان رتبة في الحيوانية، وتلك الحاسة أيضا قد يشارك بها النبات، وذلك أن النبات له حس اللمس فقط، والدليل على ذلك إرساله بعروقه نحو المواضع الندية وامتناعه من إرساله نحو الصخور واليابس أيضا، فإنه متى اتفق منبته في مضيق مال وعدل عنه طالبا للفسحة والسعة، فإن كان فوقه سقف يمنعه عن الذهاب علوا وكان له ثقب من ناحية مال إلى نحو تلك الناحية، حتى إذا طال طلع من هناك فهذه الأفعال تدل على أن له حسا وتمييزا بقدر الحاجة. وأما حس الألم فليس للنبات؛ وذلك أنه لم يلق بالحكمة الإلهية أن تجعل للنبات ألما ولم تجعل له حيلة الدفع كما جعلت للحيوان؛ وذلك أن الحيوان لما جعلت له أن يحس بالألم جعلت له أيضا حيلة، إما بالفرار والذهاب والهرب، وإما بالتحذر، وإما بالممانعة، فقد بان بما وصفنا كيفية مرتبة الحيوان مما يلي النبات، فنريد أن نبين كيفية مرتبة الحيوان مما يلي رتبة الإنسان فنقول:
إن رتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسانية ليست من وجه واحد لكن من عدة وجوه؛ وذلك أن رتبة الإنسانية لما كانت معدنا للفضل وينبوعا للمناقب لم يستوعبها نوع واحد من الحيوان ولكن عدة أنواع؛ فمنها ما قارب رتبة الإنسانية لصورة جسده مثل القرد، ومنها ما قارب الأخلاق الإنسانية كالفرس في كثير من أخلاقه، ومثل الفيل في ذكائه، وكالببغاء والهزار من الأطيار الكثيرة الأصوات والألحان والنغمات، ومنها النحل اللطيف الصنائع إلى ما شاكل هذه الأجناس، وذلك أنه ما من حيوان يستعمله الإنسان ويأنس به إلا ولنفسه قرب من النفس الإنسانية. أما القرد فلقرب شكل جسمه من شكل جسد الإنسان، صارت نفسه تحاكي أفعال النفس الإنسانية، وذلك مشاهد منه متعارف بين الناس، وأما الفرس الكريم فإنه قد بلغ من كرم أخلاقه أنه صار مركبا للملوك؛ وذلك أنه ربما بلغ من أدبه أنه لا يبول ويروث ما دام بحضرة الملك أو حاملا له، وله أيضا مع ذلك ذكاء وإقدام في الهيجاء وصبر على الطعن والجراح كما يكون الرجال الشجعان كما وصف الشاعر فقال:
وإذا شكا مهري إلي جراحه
عند اختلاف الطعن قلت له اقدما
فلما رآني لست أقبل عذره
عض الشكيم على اللجام وحمحما
وأما الفيل فإنه يفهم الخطاب بذكائه، ويمتثل الأمر والنهي كما يمتثل الرجل العاقل المأمور المنهي. فهذه الحيوانات في آخر مرتبة الحيوان مما يلي رتبة الإنسان؛ لما يظهر فيها من الفضائل الإنسانية، وأما باقي أنواع الحيوانات فهي فيما بين هاتين المرتبتين.
هذا ما رسمه علماء الإسلام في نظام هذا العالم، هذه هي الصورة الواضحة الجلية التي رسمها مبدع هذا الكون ومنظم الوجود، هذه الصورة تريك أن الإنسان رشيد وعليه حفظ خلافته وصيانة رتبته والاحتفاظ بدرجته، وأنه هو الوكيل في الأرض على نفسه وعلى الحيوان والنبات. الإنسان خليفة، وأي خليفة! أف للإنسان وماذا صنع! انقسم مرشدوه إلى قسمين وانفصلوا حزبين: راحمين وظالمين، أما الراحمون فهم قسمان: أنبياء وحكماء، والآخرون مضلون.
الرحمة
من الرحمة ما نصح به بوذا أو جوطامي ابن ملك الهند من سنة 600 قبل الميلاد إلى سنة 543، وتبعه نحو ثلث النوع الإنساني في الهند والصين. بماذا أوصى؟ أوصى بالشفقة والمحبة والرحمة والعطف على اليتامى والمساكين وابن السبيل والإخاء والمساواة بين عموم البشر، وأوصى بالحيوان كالإنسان وشدد وحذر من إيذائه.
أوصى بالعفة والشجاعة، والصبر والوقار، والأدب والابتسام، وحب العلم في الإنسان. فكأنه شعر بأن كل حيوان على سطح الكرة الأرضية تحت رعايتنا، ولنا عليه الولاية، ونحن أوصياء الله عليه، فلنرحمه ولنعطف عليه، فالله ما خلق هذا باطلا، فمن آذى حيوانا، أو لم يقم بحق الإنسانية، فهو كفور جهول.
وترى في أصول الدين النصراني من الرحمة والشفقة، وحب النوع الإنساني ما لا مزيد عليه، ولكن الإنسان ظلوم جاحد للحقائق غادر لا يصغي لنصح الناصحين. ومن آيات الرحمة الظاهرة ما أقرته الشريعة الإسلامية من حرمة البيت الحرام وتحريم صيد الحرم، وقتل المحتمي به، فكأنها إشارة خفية للناس أن يرحموا الإنسان ويعمموا السلام، ولا يؤذوا الحيوان، هذه إشارات تشير لهم أن ارحموا ترحموا، واعلموا أن الحيوان له إدراك وشعور يتألم كما تتألمون ويشعر كما تشعرون، فإياكم أن تؤذوه.
وهل أتاك نبأ الحكيم سولون من اليونان إذ قال لقومه: ألا تعقلون! أتؤثرون حكم المستبد على العادلين، هلا استبدلتم النادي الشوري بأحكام الظالمين! فتولوا عنه مدبرين، واتبعوا الطاغي كما كانوا يعتادون، فتولى عنهم وقال: يا قوم لقد نصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين، وعلمتكم الفضيلة ونظام الاجتماع وحكم الجمهور العادل بالنائبين المخلصين فكذبتم وارتبتم وخضعتم للمفكرين، ثم ألقى سلاحه عند باب الندوة وقال: إنكم قوم تجهلون، ثم هاجر من اليونان وقال: والله لا يجمعني والظلم مكان؛ لئلا يقول طلاب العلم أن سولون يرضى بما يعمل الظالمون. فلما أن جاء ليديا قال له ملكهم العظيم: ماذا ترى من العظمة في ملكنا الفخيم؟ ألم تر إلى ما أوتينا من زينة وجمال وحبذ باهرين، وهلا راقك هذا القصر وأثاثه، والسرر البهية، والأكواب الموضوعة، والنمارق المصفوفة، والزرابي المبثوثة؟ فقال: إن كل ذلك إلا متاع الغافلين وزينة الجاهلين وعظمة المغفلين، ألا إنما سعادة الرجل أن يعدل في العالمين ويقسط في حكمه بين المتقاضين، كملك كان في اليونان أقاموا له التماثيل بعد وفاته وحزنت جميع الناس على مماته وقالوا: إنه لرزء عظيم.
وأضرب لك مثلا ولدين أكرما أمهما الصالحة، وجرا عربتها إلى مصلى العابدين، فدعت لهما، فلما ماتا رضي الناس عنهما أجمعون، فكانا صالحين في حياتهما قدوة بعد موتهما.
فاستكبر ملك ليديا فأخذه أعداؤه أخذ القاهرين وكادوا يحرقونه، فتداركه الله بلطفه وأخره إلى حين.
ولأذكر لكم سقراط إذ نبذ الرذيلة وعشق الفضيلة، وقال: يا قوم، إياكم والظلم؛ فإنه ظلمات، وكونوا صالحين إلى الممات، إنما الحياة الدنيا متاع. فكذب الطاغون الثلاثون، وأجمعوا أمرهم بينهم أن يقتلوه، فشاع ذكره في الآفاق، وعم علمه العباد والبلاد، وانتشر تلاميذه وشاع تعليمه في الآخرين، ولقد قفى على آثاره بعد موته بمائة سنة أبيقورس اليوناني الذي كان في القرن الرابع قبل الميلاد، ولد سنة 342، وأوصى قومه بالمحبة وقال: إن المحبة العامة كنز ثمين، فالحب عندي مبدأ السعادات، وإن الحياة لشقاء، ولا يكشف غمها إلا الأحباب المخلصون.
وهاك العالم الإفرنجي دلامتري في القرن الثامن عشر، المولود سنة 1709، إذ قال: لا تتبعوا خطوات الشهوات، واعلموا أن الذين يتبعون الشهوات مرضى، فداووهم بعلم الأخلاق، واضربوا لهم الأمثال لعلهم يعقلون.
ثم قام من بعدهم البارون هلباخ من الألمانيين، إذ ولد سنة 1723 وألف كتاب نظام الطبيعة سنة 1771، وقد كان للفقراء من المحسنين، كثير الحب للعلماء، غزير العلم، عالي الهمة، نظر إلى الإنسان نظر الرجل إلى الصبيان وقال: يا أهل أوروبا، إن شقاء الإنسان لجهله بما طبع عليه من الجمال وما في هذا الكون من المخلوقات، فحرروا عقولكم من الأوهام وخلصوا أنفسكم من ظلمات الجهالات، وابحثوا عن عقولكم الشريفة وقواكم العالية، إن الإنسان لفي ضلال مبين. سيعيش الناس على الأرض أشقياء ما داموا يجهلون نفوسهم. إن الإنسان جهول كذوب، وضل عقله وغوى، واتبع الهوى، وصنع المدافع المهلكة والأسلحة القاتلة، وعلمه الجهال أن هذا سعادة الإنسان، ألا إنكم لفي عذاب مهين.
ولقد أجاد في القسم السياسي من كتابه، وكان من أسباب الثورة الفرنسية الكبرى، وقال فيه: يا أيها الناس، إنما المعاصي الظاهرة، والحروب القائمة، والشرور العامة في هذا الإنسان، ليست من طبيعته ولا من أصل جبلته، وإنما أركسهم في سجين تلك الشرور الحكومات الظالمة وبعض الديانات المنحرفة وأمثلة الشر المنصوبة أمام أعينهم.
إن أكثر الحكومات ترفع الكبير إذا ظلم، وتعفو عنه إذا اقترف الموبقات، ولا ترحم الصغير إذا ارتكب أصغر الذنوب، فلا قانون يجمع الغني والفقير والعظيم والحقير.
جهل الناس أمر القضاء، فخصوا به الضعفاء وعفوا عن الأقوياء، وتناقضوا في قضاياه، يحللون ما يحرمون، ويحرمون ما يحللون، فهم يقتلون الصعلوك إذا جنى، ويعظمون السري الظالم إذا ما فعل فعل ذلك الصعلوك. قتل الإنسان إنه لظلوم جهول. وما الفضيلة إلا هبة في الهواء وسهم عندكم طائش وهباء منثور، وما معلم الفضيلة لهؤلاء إلا كنافخ في غير ضرم ومستسمن ذا ورم، أو كمن يفضض البعرات ويجصص قبور الأموات، بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون من التربية السيئة وقدوة الشر.
ألا وإن رجال الفضيلة يتخطفهم هذا المجتمع الفاسد من عن أيمانهم وعن شمائلهم، فهم كجذوة نار في جو بارد. إن جذوة النار في البرد لا محالة ذاهبة خامدة، فماذا يفعل المصلحون، ولقد تقتل الحكومات من عملوا عملا سيئا لعقيدة فاسدة أيدتها تلك الحكومات بحماية أولئك الحاكمين، إن الإنسان لظلوم كفار. هذا هو نبأ هلباخ ولقد مات سنة 1789 في باريس، ولقد كان ممن عاصره العالم هلفتيوس. كان أبواه ألمانيين وولد بباريس. قال: إياك واضطراب الفؤاد، وإن أردت السعادة فلتكن نفسك مطمئنة؛ فالاضطراب شقاء، والطمأنينة نهاية السعادة.
وما عدا ذلك من تعاليمه في الأخلاق فإن فيها شططا يأباه نظام الكون وفطرة الإنسان.
أولئك العلماء ممن ذكرنا وممن لم نذكر حضوا أممهم على الفضيلة وإسعاد الناس، فمنهم المقصر ومنهم السابق، ومن عجيب أنهم في المادة والروح والعالم الأعلى مختلفون.
واتفقت كلمتهم واتحد رأيهم على تقبيح الرذيلة وتقديس الفضيلة، ولكن أكثر الناس غافلون. هذا ذكر بعض الرحماء من الأمم الغربية، وأكثر الناس عن البحث والفقه معرضون.
وهناك طوائف بشرية وشرذمة من العلماء قلبوا صحيفة الإنسان والحيوان وقرءوها معكوسة، وشوشوا وضعها واستحبوا ضد ما قام عليه البرهان من الرحمة العامة، وقالوا: إننا قرأنا ما ذهب إليه الفلاسفة العظماء والحكماء الكبراء، لقد قرأنا مذهب داروين إذ جاء بما لم يأت به الأولون، ونظم الإنسان والحيوان في نظام الاشتقاق، وقد غفل عن ذلك السابقون، ألا إنهم هم الكاذبون، إن هذا المذهب كان من قبل ذلك معروفا كما قدمناه عن إخوان الصفا، ولقد أوقعهم هذا الوهم في هوة الرذائل، وأخذوا يسلكون في البحث سبيل الجاهلين، وقالوا ضد ما قال الأولون، وهم كانوا أغزر منهم علما وأوسع مادة وأرقى أدبا. قالوا: إن هكلسلي أوضح أن لا فارق بين أدنى الإنسان وأعلى الحيوان كما بين الحيوانات العليا والدنيا، بل المسافة في آخرهما أوسع مما في أولهما.
فظن أولئك الجهال أن هذا يجيز لهم اهتضام حقوق الأمم الضعيفة معتبرين أنهم أدنى منهم مقاما فزادوا في غلوائهم وضلوا في طغيانهم وجهلوا المنطق وظنوا أنهم بتخمينهم «أن الفرق بين رجلين أحدهما من الطبقة العليا والآخر من الطبقة السفلى من نوع الإنسان أوسع مما بين أدنى الإنسان وأعلى الحيوان»، قد عثروا على كنز من الحكمة ثمين إذ يجعلون الإنسان الجاهل في عداد الحيوان، وتقول الأمة العالمة للجاهلة وإن كانت أكثر منها استعدادا وأصح أجساما: إنكم بالنسبة لنا خادمون، وعبيد مسخرون. ولقد عتوا عتوا كبيرا، وظلموا الحكمة باستنتاج قبيح إذ رأوا أن كثيرا من القرود الشبيهة بالإنسان يكون أكثر وقوفها منتصبة، وإبهام أرجل بعض المتوحشين أشبه بأرجل بعض الشمبانزي والغوريلا من القرود.
أليس من المدهش أن صحيفة المواليد الثلاثة تعرض على بوذا فيرى الحيوان يشعر بما يشعر به الإنسان فيرحم الطائفتين ويسعد الحيين. ونفس هذه الصورة تتجلى لبعض رجال العصر الحاضر فينسون عقولهم وأنفسهم ويقولون: ما لنا وللرحمات! إنما المفضل في العالم هم الأكثرون مدافع المنظمون جنودا، ومن عداهم من الإنسان فإنما هم من الحيوان، فلنتخذهم خدما وحشما. ألا ساء مثل الجاهلين. يا أيها الناس ادرسوا العلم كما بيناه، اقرءوا هذا العالم، افهموا هذا الوجود. هذه القضية في الإنسان غريبة كاذبة، فإن جمال الصنع وإتقان الوضع في اتصال الإنسان بالحيوان نظاميا أقوى حجة وأجل برهان على وجوب العطف العام على الناس والحيوان، أفلا تعقلون! ما لكم لا تفكرون! هل غلبت على عقولكم شهوات بطونكم ونزعات شياطينكم فأزلتكم للذنوب؟ يا أيها الناس، إنكم جميعا إخوان، إن الفلسفة التي تدعون أن داروين اخترعها ثابتة في كتب العرب معلومة عند الأمم الغابرة في القرون الخالية. لا تجعلوا العدل تبع القوة، فالعدل عام في الوجود.
وهب أن الرحمة خاصة بالأقوياء، فماذا أباح لكم أن تمنعوا ضعفاء الأمم من التعليم، وهل آنستم في الحيوان الذي احتقرتموه طيرا يمنع أخاه تعليم الطيران؟ فما أجهل الإنسان! وإذا كنتم تربون أبناءكم على المبادئ الشريفة، فهلا اعتبرتم الأمم الجاهلة أطفالا تلقنونهم العلم.
وما هو حد الوطن؟ أهو ذلك الخط الفاصل بين بلادكم وما جاورها، ولو حل فيها أعداؤكم وسكن فيها خصومكم واستظل بها قوم من أمم لكم مبغضين؟ أم الوطن وأهله الذين عاشوا معكم أيام حياتكم؟
فإن كانت الأولى فلقد حددتم تحديد الواهمين، وجعلتم إحسانكم خاصا بدائرة أرض لا يتعداه، كأنها صنم تعبدونه أو كلب تطعمونه، وهل تخدمون بهذا إلا المصادفة العمياء، فلو هلكت أبناؤكم وحل محلها قوم آخرون فإن خدمتكم بالرغم عنكم راجعة لنوع الإنسان لا لأمة خاصة؛ فإن من يتجنسون بجنسكم ويسكنون أرضكم من أمم آخرين غير معروفين.
ولكم هضمتم حقوق أمة حبا في أمتكم، ولقد والله ظلمتم للإحسان واغتصبتم للإرضاء، فرحمتم قوما وعذبتم آخرين، فما أكثر أوهام الإنسان!
وإن زعمتم أن من عاشوا معكم في الوطن هم الذين تعنونهم بخدمتكم وقصرتم عليهم رحمتكم، فإن لم تغتصبوا حقوق الأمم الضعيفة فقد أحسنتم، وإن ظلمتم الأمم وهضمتم الحقوق إرضاء لأبناء بلادكم فأنتم مجردون عن الفضيلة الإنسانية. ومثلكم كمثل السارق الذي يطعم من كسبه الفقراء، ومن يقتل امرأ ليجعله طعاما للآكلين، ومن لكم بأن تقصروا بلادكم على ساكنيها؟ فقد يتبدل السكان بالسكان، ويملأ المكان بقوم غرباء، إن الناس يخدمون أهواءهم ويتبعون جهالاتهم.
أطفال الإنسانية وما أدراك ما أطفال الإنسانية
أطفال الإنسانية هم الأمم التي ضل سعيها في الحكمة والفلسفة، نظروا نظام النبات والحيوان والإنسان واتصال هذه السلسلة البديعة فعجزوا عن فهمها وضلوا فيما يعملون.
يقول الأنبياء: عمموا الرحمة على الإنسان والحيوان؛ لأنها تحس وتفهم، ولا تكونوا جبارين فيقولون: إن ما كان أصلح للوجود هو الأولى بالبقاء، فخلطوا نظاما بنظام، ألا إنما الأضعف في حمى الأقوى، فلم ترحمون الأبناء؟
إن في النفس لرحمة وشفقة، في النفوس رحمة الأبناء ورحمة الناس ورحمة الحيوان، القلوب مهبط الرحمة، القلوب مشرق أنوارها، فمن ذا الذي أفتى الإنسان بالتفريق بين الرحمات.
صورة الوجود المنظومة المعلومة الشاملة للحيوان والإنسان دلت قوما على جمال نظامها وآخرين على وجوب الرحمة بأهلها، فترحم الإنسان والحيوان، وارتكس قوم في حمأة الرذيلة فقالوا: لا رحمة إلا للأبناء. ومنهم فريق يلوون ألسنتهم بالعلم فيقولون: نرحم فريقا ونعذب آخرين. وآخرون منهم أنعموا على الحيوان وعذبوا الإنسان، فخلطوا في فهمهم وضلوا في منطقهم. قتل الإنسان ما أكفره! الأمم اليوم أشبه بامرأة زانية ذبحت ولدها ووأدت فلذة كبدها إرضاء لشهوتها واتباعا لخطوات غيها.
هذا فعل الأمم الآن، يقدمون عقول الأمم وأموالها قربانا لمطامعهم، فما أشبههم بالعذراء الفاجرة الماكرة التي وأدت ولدها، وتراهم يقولون اعتذارا: لا قيمة للعواطف، كما تقول تلك الماكرة الغادرة.
الأمم على سطح الكرة الأرضية كالدود على ساق الشجرة، وأوراقها كالنبات، وأزهارها كالحيوان، وأثمارها كالإنسان، وكل أعلى مما قبله وأقل مما بعده. وترى الدودات يتساءلن ويقلن لفراشة طائفة حول الزهرات: ماذا تقولين عن حال هذه الشجرة؟ فتلقنها بما تفهمه فيصير قولا مقبولا.
الناس غارقون إما في غمرة الجهل أو في بحر حيرة العلم، كبرت على عقولهم نظامات العالم، فتلقفوا كلمات الخارصين تلقف الجهال كلمات الدجال الذي يدعي فتح الكنوز بالأحلام والأوهام.
أكثر الناس واهمون في قضايا الإنسانية، خاضعون لمن علت كلمته ولو كان مخدوعا.
هذا مجمل ما دار بخلدي، وكان الباعث القوي على تأليف الكتاب، حتى كان ما كان من ظهور مذنب هالي وما دار بيني وبين تلك الأرواح الطاهرة عليها التحية والسلام.
صفحة غير معروفة