قلنا: يطلق الضرير أيضًا على المريض المهزول، وعلى ذي الزمانة إلا أن الأكثر استعماله لفاقد البصر كما قالا، ولا نظن الشاعر أراد غير الضعف وسوء الحال، ولكنه لما استعمله في غير ما يستعمل فيه في الأكثر أتى بما يوهم الخطأ والاحتراس من مثله أولى.
(ومنه) قول يزيد بن مالك:
أكفّ الجهل عن حلماء قومي ... وأعرض عن كلام الجاهلينا
إذا رجل تعرّض مستخفًّا ... لنا بالجهل أوشك أن يحيينا
قال قدامة: «قد أوجب هذا الشاعر في البيت الأول لنفسه الحلم والإعراض عن الجهال، ونفى ذلك بعينه في البيت الثاني بتعديه في معاقبة الجاهل إلى أقصى العقوبات وهو القتل» .
(ومما عدوه من التناقض) قول زهير:
قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيّرها الأرواح والديم
فقالوا: نقض في عجز هذا البيت ما قال في صدره، لأنه زعم أن الديار لم يعفها القدم، ثم انتبه من مرقده فقال: بلى عفاها وغيرها أيضًا الأرواح والديم. وقال أبو عبيدة: أكذب نفسه فقال: لم يعفها، ثم رجع فقال: بلى. ومن يحتج له يقول: مراده أن بعضها عفا وبعضها لم يعف. وقيل: بل المراد أن الديار لم اعف في عينه من طريق محبته لها، وشغفه بمن كان فيها. ومثله قول امرئ القيس:
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمأل
ثم قوله في بيت آخر:
وإن شفائى عبرة مهراقة ... فهل عند رسم دارس من معوّل
ومن يذهب إلى عدم التناقض يقول: أراد لم يعف رسم حبها من قلبي. والأظهر قول بعضهم: أراد لم يقتصر سبب محوها على نسج الريحين، بل كان له أسباب منها هذا السبب، ومر السنين، وترادف الأمطار وغيرها.
وعد بعضهم من التناقض قوله في موضع:
فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال
ولكنّما أسعى لمجد مؤثّل ... وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي
وقوله في كلمة أخرى:
فتملأ بيتنا أقطًا وسنًا ... وحسبك من غنًى شبع وري
لأنه وصف نفسه في موضع بسمو الهمة وقلة الرضا بدنيء المعيشة، وأطرة في موضع آخر القناعة، وأخبر عن اكتفاء الإنسان بشبعه وريّه. وقد رد قدامة على هذا العائب فقال: «أقول: إنه لو تصفح أولًا قول امرئ القيس حق تصفحه لم يجد معنى ناقص معنى، فالمعنيان في الشعرين متفقان إلا أنه زاد في أحدهما زيادة لا تنقض ما في الآخر، وليس لأحد ممنوعًا من الإتساع في المعاني التي لا تتناقض، وذلك أنه قال في أحد المعنيين:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال
وهذا موافق لقوله: (وحسبك من غنى شبع وري) ولكن في المعنى الأول زيادة ليست بناقضة لشيء، وهو قوله: لكني لست أسعى لما يكفيني ولكن لمجد أؤثله، فالمعنيان اللذان ينبئان عن اكتفاء الإنسان باليسير متوافقان في الشعرين، والزيادة في الشعر الأول التي دل بها على بعد خمته ليستن تنقض واحدًا منهما ولا تنسخه، وأرى أن هذا العائب ظن امرأ القيس قال في أحد الشعرين: إن القليل يكفيه، وفي الآخر لا يكفيه، وقد ظهر بما قلنا أن هذا الشاعر لم يقل شيئًا من ذلك ولا ذهب إليه، ومع ذلك فلو قاله وذهب إليه لم يكن عندي مخطئًا من أجل أنه لم يكن في شرط شرطه يحتاج إلى أن لا ينقض بعضه بعضًا، ولا في معنى سلكه في كلمة واحدة أيضًا» .
(ومن التناقض) على طريق المضاف قول عبد الرحمن بن عبد الله القيسي:
فإنّي إذا ما الموت حلّ بنفسها ... يزال بنفسي قبل ذلك فأقبر
قال قدامة: «جمع بين قبل وبعد، وهما من المضاف، لأنه لا قبل إلا لبعد، ولا بعد إلا لقبل، حيث قال: إنه إذا وقع الموت بها، وهذا القول كأنه شرط وضعه ليكون له جواب يأتي، وجوابه قوله: يزال بنفسه قبل ذلك، وهذا شبيه بقول قائل: لو قال: إذا انكسرت الجرة انكسر الكوز قبلها» . وقال أبو هلال: «هذا شبيه بقول قائل: إذا دخل زيد الدار دخل عمرو قبله» .
(ومما أخذوه) على الأعشى قوله:
شتّان ما يومي على كورها ... ويوم حيّان أخي جابر
وكان حيّان أشهر وأعلى ذكرًا من أخيه جابر، فلم يكن محتاجًا لأن يعرف به.
(ومن غريب الوهم) قول عدي بن زيد:
والمشرف الهندي يسقى به ... أخضر مطوثًا بماء الخريص
1 / 16