كأن حجاج مقلتها قليب ... من الشِّيقين حلّق مستقاها
الحجاج: العظم الذي ينبت عليه شعر الحاجب. والقليب: البئر. والشيقان: موضع. وحلق مستقاها: غار ماؤها. والحجاج لا يوصف بأنه غائر كالقليب، وهذا مما لا يخفى على أحد.
ومن ذلك قول بعضهم:
ونطعنهم حيث الكلى بعد ضربهم ... ببيض المواضي حيث ليّ العمائم
أراد هذا الشاعر أن يذكر شجاعتهم، ويصف بأسهم في قتال أعدائهم، فأتى بما يدل على عكس ما أراد، لأنه إذا ضربهم بالسيوف مكان ليّ العمائم: أي في رؤوسهم ولم يموتوا، واحتاجوا بعد ذلك إلى طعنهم بالرماح في كلاهم، فقد فعلوا فعل الجبان الخائف غير المتمكن من قتل قرنه، وهذا مما لا يفخر به، وإنما الجيد قول بلعاء بن قيس:
غشيته وهو في جأواء باسلة ... عضبًا أصاب الرأس فانفلقا
بضربة لم تكن مني مخالسة ... ولا تعجّلتها جبنًا ولا فرقا
(ومن فاسد) التشبيه قول بشر بن أبي حازم:
وجرّ الرامسات بها ذيولًا ... كأنّ شمالها بعد الدَّبور
رماد بين آظآر ثلاث ... كما وشم النواشر بالنؤور
والشمال والدبور لا تشبهان بالرماد، وإن كان أراد ما تخلف من فعل الشمال والدبور، فقد أساء التعبير، وقصر في بيان مراده.
(ومن قبيله) قوله أيضًا يصف سفينة:
أجالد صفّهم ولقد أراني ... على زوراء تسجد للرياح
إذا ركبت بصاحبها خليجًا ... تذكّر ما لديه من جناح
ونحن على جوانبها قعود ... نغضّ الطرف كالإبل القماح
وهو مما عابه عليه ابن قتيبة في طبقات الشعراء، لأن معنى غض طرفه كسره وأطرق ولم يفتح عينيه والإبل القماح: هي الرافعات رءوسها عن الماء الممتنعة عن الشرب، فكيف يشبه المطرق بالرفع رأسه. ولكن من يراجع مادة (قمح) في اللسان لا يعدم للكلام مخرجًا.
(ومن التشبيهات) التي لم تقع موقعها قول ابن هرمة:
وإنّى وتركي ندى الأكرمينَ ... وقدحي بكفّى زنادًا شحاحا
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
وقول الفرزدق:
وإنك إن تهجو تميما وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق العمائم
كمهريق ماء بالفلاة وغرّه ... سحاب أذاعته رياح السمائم
فإن بيت ابن هرمة الثاني يليق ببيت الفرزدق الأول، وبيت الفرزدق الثاني يليق ببيت ابن هرمة الأول، فلو كانا كذلك لكن كل واحد منهما قد شبه تشبيهًا واضحًا صحيحًا؛ فأما والشعر وما هو عليه فإن التشبيه فيه بعيد. كذا في سر الفصاحة لابن سنان. وعزا صاحب الأغاني هذا النقد لأبي نواس، فذكر أنه قال: «شاعران قالا بيتين وضعا التشبيه فيهما في غير موضعه، فلو أخذ البيت الثاني من شعر أحدهما فجعل مع بيت الآخر، وأخذ بيت ذاك فجعل مع هذا لصار متفقًا معنى وتشبيهًا» وقال بعد إيراد المقطوعين: «ولكن ابن هرمة قد تلافى ذلك بعد فقال:
وإنّك إذ أطمعتني منك بالرضا ... وأيأستني من بعد ذلك بالغضبْ
كممكنة من ضرعها كفّ حالب ... ودافقة من بعد ذلك ما حلبْ»
انتهى. يريد: أنه أتى هنا بتشبيه صحيح لا أنه أصلح به تشبيهه الأول فإن هذا غير ذاك.
(ومما وهم) فيه خفاف بن ندبة قوله:
أبقى لها التعداء من عتداتها ... ومتونها كخيوطة الكتّان
قال المرزباني: «العتدات: القوائم، أراد: أن قوائمها دقت حتى عادت كأنها خيوط، وأراد ضلوعها فقال متونها» .
(ومثله) قول ابن أحمر:
غادرني سهمه أعشى وغادره ... سيف ابن أحمر يشكو الرأس والكبدا
قالوا: أراد غادرني سهمه أعور فلم يمكنه فقال أعشى. وكان ابن أحمر أعور رماه رجل يقال له مخشى بسم فذهبت عينه.
(ومن الأوهام) قول القائل:
يمشى بها كل موشّى أكارعه ... مشى الهرابذ حجوا بيعة الزُّون
الهرابدة: النمجوس، وهم قومة بيت النار، والزون: الصنم. قال أبو هلال: «الغلط في هذا البيت في ثلاثة مواضع، أحدهما: أن الهرابذ المجوس لا النصارى. والثاني: أن البيعة للنصارى لا للمجوس. والثالث: أن النصارى لا يعبدون الأصنام ولا المجوس» .
(ومما عابه) أبو هلال على ذي الرمة قوله:
تغار إذا ما الروع أبدى عن البرى ... ونقرى عبيط اللحم والماء جامس
1 / 14