يعزل القرآن عن القدرة البشرية عزلا كاملا؛ بل أبقى من يستطيع السحر قادرا على مثله، فقد زلزل بهذا الرأي عموم القدرة الإنسانية على مثله، وشهادة العدو بذلك شهادة بالإعجاز إذا راعينا جانب الكفر واللدد في الخصومة في وزن هذا القول بميزان علمي دقيق.
ومن أحسن ما قيل في تعليل إعجاز القرآن ما قاله ابن عطية في مقدمة تفسيره "1/ 278": "إن الله قد أحاط بكل شيء علما، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى، وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن أحدا من البشر لا يحيط بذلك، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتها الإتيان بمثله فصرفوا عن ذلك، والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط؛ ولهذا ترى البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولا، ثم ينظر فيها فيغير فيها، وهلم جرا، وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد ... وقامت الحجة على العالم بالعرب؛ إذ كانوا أرباب الفصاحة، ومظنة المعارضة".
لقد كان العرب أشد الناس أنفة، وأكثرهم مفاخرة، والكلام سيد عملهم، فكان من المحال أن يطيقوا ثلاثا وعشرين سنة من التحدي ولا يعارضونه لو استطاعوا إلى ذلك السبيل.
ونقل السيوطي عن حازم في منهاج البلغاء ما يتم به كلام ابن عطية؛ إذ قال: وجه الإعجاز في القرآن من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمرارا لا يوجد له فترة ولا يقدر عليه أحد من البشر، وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة من جميع أنحائها في العالي منه إلا في الشيء اليسير المعدود، ثم
صفحة ٢٢