بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمات
تقديم
الحمد لله الذي أنزل الكتاب متناسبا سوره وآياته، متشابها فواصله وغاياته، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي تمت كلماته، وعمت مكرماته، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده الذي ختمت به نبواته، وكملت برسالته رسالاته، توالت عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأحبابه صلواته، وتواتر تسليمه وبركاته ما دامت حياته وبقيت ذاته وصفاته.. وبعد:
فهذا كتاب لطيف، تناول فيه مؤلفه من علوم القرآن، ألا وهو ترتيب السور وتناسقها ومناسباتها، وإيضاح ما في ذلك من إعجاز وبيان ومقاصد، وسوف يتجلى لنا من خلال عرض هذا الكتاب الدقائق التي فتح الله بها على مصنفه، وتلكم اللمحات الزكية التى أكثرها من نتاج فكره، وولاد نظره، وغير ذلك من فوائد، يجنيها القارئ.
وقد قل اعتناء المفسرين بهذا النوع لدقته، وممن أكثر منه الإمام فخر الدين الرازي1 في تفسيره: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط.
وقال بعض الأئمة: من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض؛ لئلا يكون منقطعا.
وهذا النوع يهمله بعض المفسرين -أو كثير منهم- وفوائده غزيرة، قال
صفحة ٣
القاضي أبو بكر بن العربي1: ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منتظمة المباني -علم عظيم، لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله عز وجل لنا فيه، فلما لم نجد له حملة، ورأينا الخلف بأوصاف البطلة ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه2.
ثم إنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا، وأبسق فرعا، وأحلى جنى، وأعذب وردا، وأكرم نتاجا، وأنور سراجا، من علم البيان، الذى لولاه لم تر لسانا يحوك3 الوشي، ويصوغ الحلي، ويلفظ الدر، وينفث السحر، ويقري4 الشهد، ويريك بدائع من الزهر، ويجنيك الحلو اليانع من الثمر، والذى لولا تحفيه5 بالعلوم، وعنايته بها، وتصويره إياها، لبقيت كامنة مستورة، ولما استبنت لها يد الدهر6 صورة، ولاستمر السرار7 بأهلتها، واستولى الخفاء على جملتها، إلى فوائد لا يدركها الإحصاء، ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء8.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام9: المناسبة علم حسن؛ ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر10.
صفحة ٤
وقال برهان الدين إبراهيم البقاعي1: "وعلم المناسبات -الأهم من مناسبات القرآن وغيره- علم تعرف منه علل الترتيب، وموضوعه أجزاء الشيء المطلوب علم مناسبته من حيث الترتيب، وثمرته الاطلاع على الرتبة التي يستحقها الجزء بسبب ما له بما وراءه، وما أمامه من الارتباط والتعلق الذي هو كلحمة النسب، فعلم مناسبات القرآن علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه، وهو سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه من الحال، وتتوقف الإجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها، ويفيد ذلك معرفة المقصود من جميع جملها؛ فلذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة، وكانت نسبته من علم التفسير نسبة علم البيان من النحو"2.
أما ترتيب السور: فقد اختلف العلماء في ترتيب السور:
- فالقول الأول: إنه توقيفي، تولاه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كما أخبر به جبريل عن أمر ربه، فكان القرآن على عهد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مرتب السور، كما كان مرتب الآيات على هذا الترتيب الذي لدينا اليوم، وهو ترتيب مصحف عثمان الذي لم يتنازع أحد من الصحابة فيه مما يدل على عدم المخالفة والإجماع.
- والقول الثاني: إن ترتيب السور باجتهاد من الصحابة؛ بدليل اختلاف مصاحفهم في الترتيب؛ كمصحف ابن مسعود، ومصحف أبي.
- والقول الثالث: إن بعض السور ترتيبه توقيفي، وبعضه باجتهاد من الصحابة؛ حيث ورد ما يدل على ترتيب بعض السور في عهد النبوة، فقد
صفحة ٥
ورد ما يدل على ترتيب السبع الطوال والحواميم والمفصل في حياته عليه الصلاة والسلام.
وقد ناقش بعض العلماء1 هذه الآراء الثلاثة، وانتهى إلى ما يلي:
- أن الرأى الثاني الذي يرى أن ترتيب السور باجتهاد الصحابة لم يستند إلى دليل يعتمد عليه.
فاجتهاد بعض الصحابة في ترتيب مصاحفهم الخاصة كان اختيارا منهم قبل أن يجمع القرآن جمعا مرتبا، فلما جمع في عهد عثمان بترتيب الآيات والسور على حرف واحد، واجتمعت الأمة على ذلك تركوا مصاحفهم، ولو كان الترتيب اجتهاديا لتمسكوا بها.
وحديث ابن عباس رضى الله عنهما: "قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينها ... "2.
وهذا الحديث يدور إسناده في كل رواياته على "يزيد الفارسي" الذي يذكره البخاري في الضعفاء، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور؛ كأن عثمان كان يثبتها برأيه، وينفيها برأيه؛ ولذا قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه عليه بمسند الإمام أحمد: "إنه لا أصل له".
وغاية ما فيه أنه يدل على عدم الترتيب بين هاتين السورتين فقط3.
- أما الرأى الثالث: الذي يرى أن بعض السور ترتيبها توقيفي، وبعضها ترتيبه اجتهادي، فإن أدلته ترتكز على ذكر النصوص الدالة على
صفحة ٦
ما هو توقيفي، أما القسم الاجتهادي فإنه لا يستند إلى دليل يدل على أن ترتيبه اجتهادي؛ إذ إن ثبوت التوقيفي بأدلته لا يعني أن ما سواه اجتهادي، مع أنه قليل جدا.
وبهذا يترجح أن ترتيب السور توقيفي كترتيب الآيات1.
وقال أبو بكر بن الأنباري2: "أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا، ثم فرقه في بضع وعشرين، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث، والآية جوابا لمستخبر، ويوقف جبريل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- على موضع الآية والسورة، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف كله عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن"3.
وقال الزركشي: قال بعض مشايخنا المحققين: قد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة؛ لأنها على حسب الوقائع المتفرقة، وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلا، وعلى حسب الحكمة ترتيبا، فالمصحف كالصحف الكريمة على ما في وفق الكتاب المكنون، مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، وحافظ القرآن العظيم لو استفتي في أحكام متعددة، أو ناظر فيها، أو أملاها لذكر آية كل حكم على ما سئل، وإذا رجع إلى التلاوة لم يتل كما أفتى، ولا كما نزل مفرقا؛ بل كما أنزل جملة إلى بيت العزة ، ومن المعجز البين أسلوبه، ونظمه الباهر؛ فإنه {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} [هود:1] .
قال: والذي ينبغي في كل آية أن يبحث عن كونها مكملة لما قبلها، أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسباتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جم، وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له.
صفحة ٧
وإذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها، ثم هو يخفى تارة ويظهر أخرى؛ كافتتاح سورة الأنعام بالحمد، فإنه مناسب لختام سورة المائدة من فصل القضاء؛ كما قال سبحانه وتعالى: {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} [الزمر: 75] وكافتتاح سورة فاطر ب {الحمد} أيضا، فإنه مناسب لختام ما قبلها من قوله: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل} [سبأ: 54] وكافتتاح سورة الحديد بالتسبيح: {سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} [الحديد: 1] فإنه مناسب لختام سورة الواقعة من الأمر به: {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 74] .
وكافتتاح البقرة بقوله: {الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه} إشارة إلى {الصراط} في قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم، قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب.
وهذا معنى حسن يظهر فيه ارتباط سورة البقرة بالفاتحة1.
ومن لطائف سورة الكوثر أنها كالمقابلة للتي قبلها "الماعون"؛ لأن السابقة قد وصف الله فيها المنافق بأمور أربعة: البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة، فذكر هنا في مقابلة البخل: {إنا أعطيناك الكوثر} أي: الكثير.
وفي مقابلة ترك الصلاة: {فصل} أي: دم عليها.
وفي مقابلة الرياء: {لربك} أي: لرضاه لا للناس.
صفحة ٨
وفي مقابلة الماعون: {وانحر} وأراد به: التصدق بلحم الأضاحي، فاعتبر هذه المناسبة العجيبة1.
وكذلك مناسبة فاتحة سورة الإسراء بالتسبيح، وسورة الكهف بالتحميد؛ لأن التسبيح حيث جاء مقدم على التحميد، يقال: سبحان الله، والحمد لله2.
هذا، وأسأل الله أن ينفع بهذا العمل، وأن يرد الأمة الإسلامية إلى كتابها الكريم وهذا الفرقان، معتصمة به، تالية له، ومتدبرة لما فيه، ومتمسكة بسنة نبيها خاتم النبيين محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وما كان عليه السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم، فلا معين إلا الله، ولا دليل إلا رسول الله، ولا زاد إلا التقوى، ولا عمل إلا الصبر عليه، ولا عز لنا إلا في إسلامنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
مرزوق علي إبراهيم
في مساء الجمعة
26 محرم 1422ه
20 إبريل 2001م
مدينة نصر- القاهرة
صفحة ٩
نبذة عن مصحف عثمان "رضي الله عنه":
من المآثر الخالدة لذي النورين ما فعله حين جمع الناس على مصحف واحد، وجمع القرآن فيه؛ وبذلك صلح أمر الناس من السلف والخلف، ولولا الذي فعله عثمان -رضي الله عنه- لألحد الناس في القرآن إلى يوم القيامة، كما قال الحسن البصري.
قال الزركشي: وقد اشتهر أن عثمان هو أول من جمع المصاحف؛ وليس كذلك؛ بل أول من جمعها في مصحف واحد الصديق، ثم أمر عثمان حين خاف الاختلاف في القراءة بتحويله منها إلى المصاحف1.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني2 في "الانتصار للقرآن": "لم يقصد عثمان -رضي الله عنه- قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين؛ وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ومنسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه؛ خشية دخول الفساد والشبهة على ما يأتي بعد"3.
والذي حمل الصحابة -رضوان الله عليهم- على جمع القرآن ما جاء في الحديث أنه كان مفرقا في: العسب واللخاف وصدور الرجال، فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته، فجمعوه وكتبوه كما سمعوه من النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير أن يقدموا شيئا أو يؤخروا، وهذا الترتيب كان منه
صفحة ١٠
-صلى الله عليه وسلم- بتوقيف لهم على ذلك، وأن هذه الآية عقب تلك الآية، فثبت أن سعي الصحابة في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه؛ فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب الذي هو في مصاحفنا الآن، أنزله الله جملة واحدة إلى سماء الدنيا؛ كما قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة: 185] وقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: 1] ثم كان ينزل مفرقا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مدة حياته عند الحاجة؛ كما قال تعالى: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} [الإسراء: 106] .
فترتيب النزول غير ترتيب التلاوة؛ وكان هذا الاتفاق من الصحابة سببا لبقاء القرآن في الأمة، ورحمة من الله على عباده، وتسهيلا وتحقيقا لوعده بحفظه؛ كما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] وزال بذلك الاختلاف، واتفقت الكلمة.
ولقد كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون القراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان زيد قد شهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات؛ ولذلك اعتمده الصديق في جمعه، وولاه عثمان كتابة المصحف.
وروي عن علي -رضى الله عنه- أنه قال: رحم الله أبا بكر! هو أول من جمع بين اللوحين، ولم يحتج الصحابة في أيام أبي بكر وعمر إلى جمعه على وجه ما جمعه عثمان؛ لأنه لم يحدث في أيامهما من الخلاف فيه ما حدث في زمن عثمان، ولقد وفق لأمر عظيم، ورفع الاختلاف وجمع الكلمة، وأراح الأمة.
وقد قال علي رضى الله عنه: لو وليت ما ولي عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل1.
صفحة ١١
فائدة:
من الأدلة التي ساقها الباقلاني على صحة نقل القرآن وصحة تأليفه وترتيبه:
"ومما يدل على ذلك قول تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] وقوله: {إن علينا جمعه وقرآنه} [القيامة: 17] وقد ثبت بإجماع الأمة -منا ومنهم- أن الله تعالى لم يرد بهاتين الآيتين أنه تعالى يحفظ القرآن على نفسه ولنفسه، وأنه يجمعه لنفسه، وأهل سمواته دون أهل أرضه، وأنه إنما عنى بذلك أنه يحفظه على المكلفين للعمل بموجبه، والمصير إلى مقتضاه ومتضمنه، وأنه يجمعه لهم فيكون محفوظا عندهم، ومجموعا لهم دونه، ومحروسا من وجوه الخطأ والغلط والتخليط والإلباس، وإذا كان ذلك كذلك وجب بهاتين الآيتين القطع على صحة مصحف الجماعة، وسلامته من كل فساد ولبس؛ لأنه لو كان مغيرا أو مبدلا أو منقوصا منه أو مزيدا فيه، ومرتبا على غير ما رتبه الله سبحانه؛ لكان غير محفوظ علينا، ولا مجموع لنا، وكيف يسوغ لمسلم أن يقول بتفريق ما ضمن الله جمعه، وتضييع ما أخبر بحفظه"1.
صفحة ١٢
عملنا في الكتاب
كان العمل في تحقيق هذا الكتاب على المنهج التالي:
- قابلنا النسخة المطبوعة بتحقيق الأستاذ عبد القادر عطا "وهي نسخة دار الكتب المصرية" على نسخة دمشق1 المطبوعة، التي اعتمد محققها على نسخة الظاهرية.
- رمزنا لنسختنا المصرية ب"المطبوعة".
- رمزنا لنسخة دمشق ب"ظ"، وتميزت هذه النسخة بأنها أتم من النسخة المصرية في الغالب، وفيها ترضية على الصحابة، وبعد ذكر النبي أو الأنبياء يأتي بعد ذلك "عليه السلام" أو "عليهم السلام"، وكذلك حينما يأتي ذكر العلماء، يأتي بعدهم ب"رحمه الله"، فضلا عن الثناء على الله تعالى إذا ذكر الله عز وجل.
- وضعنا الزيادة من نسخة "ظ" بين معقوفين، وكذلك إذا كانت هناك إضافة من الأصول، أو تتمة لنقص وضعناها كذلك بين معقوفين.
- أبقينا التعليقات التى علق عليها الأستاذ عبد القادر عطا، وإن كان فيها خطأ صوبناه، وما كان من نقص أتممناه.
- الرجوع إلى المصادر التى أخذ عنها المؤلف، وكذلك المصادر التي دارت حول هذا الموضوع، وكل ذلك ساعد على تقويم النص، وخروجه بشكل أتم مما كان عليه سابقا.
- قمنا بتصحيح ما وقع من تصحيف، وتحرير ما وقع من تحريف في النص.
صفحة ١٣
عظمة القرآن ووحدته الموضوعية:
بقلم: عبد القادر أحمد عطا
قالت الجن حينما سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم: {إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا} 1، واهتزت عقيدة الشرك في قلب رجل من صناديد الكفر هو الوليد بن المغيرة حينما سمع بعض آياته من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما هو بقول البشر"، وفزع أئمة الكفر من قريش حينما شاهدوا تأثير القرآن على القلوب، فقالوا لزعمائهم: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} 2، وسعى أهل النباهة من فتيان العرب -من أمثال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله، علمني من هذا القرآن" حينما استأسر قلبه لسلطانه، واستشرف على عتبات الإسلام.
تلك واحدة من دلائل عظمة القرآن هي: سلطانه الروحاني الخفي على القلوب، وولايته المطلقة على مدارك الإنس والجن على السواء، وجاذبيته المضيئة لقلوب المهتدين والجاحدين جميعا.
وقد يكون لبعض المكتوبات البشرية سلطان على المشاعر، وجاذبية للنفوس؛ ولكنها لم تصل في ماضي الزمان، ولن تصل في مستقبله إلى أعماق الروح، ولا إلى مستقر الإيمان واليقين، ولا إلى قمة التضحية في سبيلها بالمال والنفس، كما وصل الرواد الأوائل للإسلام إيمانا بالقرأن، ويقينا بسلطانه، واستشهادا في سبيل دعوته، واحتمالا لما لا يطيقه بشر في سبيل إعلاء كلمته.
تلك دلالة لا شك فيها من دلائل عظمة القرآن بالنسبة للمؤمنين،
صفحة ١٤
يقابلها على نفس الطريق عنف المقاومة لهذا السلطان من جانب الكفار، وجبروت التعذيب الذي تسلطوا به على المؤمنين في مطلع الدعوة، فما لبثوا أن فجروا جديدا من ينابيع الإيمان بما ابتكروا من وسائل التعذيب، ووحدوا شتات الدعاة الأوائل تحت راية الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما نفثوا من سموم الحقد والعداء، فكان القرآن هو محور هذا الصراع الرهيب العجيب الذي دارت رحاه على رمال جزيرة العرب، والذي طاشت في نهايته أحلام المعارضين على وفرة المال والرجال والسلاح حينما ذلت رقابهم أمام قلة من الرجال، وقلة من المال، وإعواز في السلاح يحدوها طوفان غامر من اليقين، وإيمان راسخ بالقرآن، وانطباع كامل بأخلاقه، فتحطمت إلى الأبد شوكة الكفر، وشمخ إلى الأبد صرح القرآن.
وثانية الدلائل على عظمة القرآن: صموده أمام دعوات الهدم على مدى التاريخ الطويل، وتصديه لهجمات الإلحاد الضارية في ميدان الحرب وفي ميدان الفكر ، فلم تزده تلك الهجمات إلا انطلاقا إلى آفاق جديدة من الأرض، وانبلاجا لنوره على صدر الزمان، وأعماقا بعيدة لجذوره في القلوب، ولئن ذبلت في بعض أحقاب التاريخ همم أهل الحضارة القرآنية تحت تأثير الصدمات المتوالية واستجابة المؤمنين إلى أهواء النفوس، فما كان هذا الذبول إلا غفوة أعقبها استجماع للقوة، ورؤية مضيئة لحركة التاريخ كما حددها القرآن، فعاد الذبول نضارة، وكان من الضعف قوة، ومن آمال أهل الإلحاد تمزق وخيبة وانحلال، وكان من هذا التمزق دفع لمجتمع المؤمنين إلى ذروة التاريخ.
لقد عانت حضارة القرآن تسلط قريش، وجبروت الروم، وجدل الفرس، وسلاح الصليبية، ولؤم اليهودية العالمية، وأخيرا عانت بريق المذاهب السياسية والاقتصادية وأخصها الشيوعية اليهودية، وكان من أبناء الإسلام أعوان لهؤلاء المتآمرين حاولوا قهر الأعزة على أوهام الشيوعية، فأعزوا في سبيل ذلك أهل الأهواء؛ ولكن أولئك جميعا ذلوا
صفحة ١٥
أمام صلابة الحق في القرآن، وذهلوا حينما عجز المال والسلاح والتكتل الدولي عن النيل من إيمان أهل القرآن.
وثالثة الدلائل على عظمة القرآن بعد الصمود الذي لا يستطيعه إلا الكتاب الحكيم: أنه كتاب حضارة تندرج تحت لوائه الأمم والشعوب، وتستسلم حضاراتها لحضارته، فما تلبث أن يحتويها الإطار الشامل للإسلام الرحيب، وتتخذ نفس الصفة الشرعية لخير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر داخل النفس وخارجها، وداخل الأمة وبين الأمم الأخرى، وتؤمن بالحق والعدل عن الله فيصلا وحكما بين الجميع، فلا عنصرية ولا عصبية، ولا استمساك بالذات؛ بل هو إنكار لها، وعمل للمجموع مع الاحتفاظ بكرامة الفرد وكيانه بعيدا عن أي لون من ألوان الامتهان.
فعظمة القرآن نابعة من أنه لا يستجدي الشعوب أن يتبعوه، ولا الحضارات أن تذوب في حضارته؛ بل يعرض أمام العالم وجهه السمح الكريم، ويكشف عن رحابته النادرة بين دساتير الحضارة، ويعلن حربه الضارية على الظلم وامتهان الإنسان للإنسان، وامتهان الإنسان لنفسه وعقله، ويكشف الستر البراق عن عفن اللؤم البشري، وعن الحبائل التى ينصبها أعداء العدل، ومتلصصة الفكر، أولئك الذين يحاربون الله ورسوله لا لشيء إلا لأن الإيمان بهما يقف سدا منيعا أمام أطماعهم وشهواتهم التي لا تدع قيمة إلا حطمتها، ولا مثلا أعلى إلا شوهته وأذلت أهله، والداعين إليه.
وعلى مر القرون ما زال كبار المفكرين في العالم كله يشيدون بتلك السمة التى استعصى عليهم الجهر بها هذا الردح الطويل من الزمان.
ورابعة الدلائل على عظمة القرآن: سرعته المذهلة في بناء الحضارات إذا أتيح له من ينفذ تعاليمه من القادة على نفسه وأهله قبل أن ينفذها بين
صفحة ١٦
جمهور المؤمنين، وهو الأمر الذي أهاب الله تعالى بالمؤمنين أن يحرصوا عليه، وضمن لهم في سبيل ذلك تمكينا سريعا، وزحفا منصورا، وعونا من جند الله يفوق كل قوة وكل جبروت وكل سلاح، وصادف هذا النصح الإلهي من القلوب حبا لا يقاوم للقرآن.
وتدعيما لذلك فقد كان القرآن دستورا حضاريا للعمل على مستوى الأمة كلها، عن طريق الحفظ والدرس والتلاوة الواعية والتدبر والاقتناع والتذكر والتطبيق السلوكي الدقيق، والدليل على أن تحويل القرآن إلى سلوك لم يفرض على المؤمنين بعصا السلطان؛ وإنما جاء عن طريق الدرس والتدبر والاقتناع بعظمة القرآن -ما رواه أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن -كعثمان وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وغيرهما- أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعملوا بما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا؛ ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد في أعيننا، وأقام عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- على حفظ البقرة ثماني سنين.
ويضيق بنا المقام إذا استقصينا أقوال الصحابة في هذا الصدد؛ ولكن الذي نريد أن نوضحه هنا هو أن سرعة الحضارة القرآنية في الانتشار والتأصل نابعة من هذا الينبوع العريق في الأصالة، فلا تتعثر الحضارات إلا من جهل الشعوب بالدساتير وأهدافها، أو من قصور تلك الدساتير في ذاتها، أو في إقناع الشعوب بجدواها، وفي كلا الحالين تختلف الشعوب مع السلطات، وتتمرد على القانون، ومن هنا لا تسرع الحضارة في سيرها نحو غايتها على فرض صلاحيتها، فضلا عن النفقات الهائلة التي
صفحة ١٧
يتطلبها إيقاف التيار المتمرد على السلطة، وتعويق السلطة لذلك عن المضي إلى غايتها.
أما حضارة القرآن فتختلف عن جميع الحضارات من هذه الوجهة، فالقرآن هو الفطرة البشرية التي لا تختلف فيها أمة ولا جنس، فهو مقنع لجميع الناس بجدواه وعظيم فائدته، ودافع لهم بما يحتويه من وجوه الحكمة الملائمة لجميع الأجناس إلى الدرس والتدبر الذي لا يزيد الناس إلا إيمانا وإمعانا في استكشاف الحكم التي لا تنتهي، ولا تضعف في قوتها على كثرتها الكاثرة، ومن هنا كان العلم بدستور الحضارة الإسلامية إلى جانب الاقتناع به عاملا رئيسيا من عوامل السرعة في البناء، والقوة في الأسس التي تقوم عليها الحضارة، وتوفير جهود السلطات الحاكمة؛ حيث تتفرغ لارتياد آفاق جدية لإقامة صرح الإسلام على أرضها.
لقد أمر رب القرآن بتدبر القرآن فقال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} 1، ونعى على من لا يتدبرونه فقال: {أفلا يتدبرون القرآن} 2، ولا يمكن أن يكون التدبر إلا مقرونا بفقه المعاني والأهداف والحكمة؛ ولهذا لم يؤثر خلاف بين الصحابة على معاني القرآن إلا نادرا، ولم يتهرب المخالفون للشريعة من الحدود المشروعة لأمثالهم؛ بل تقدموا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طالبين إقامة الحد عليهم، رغم محاولات ردهم عن الاعتراف، والمشروعة للتثبت من أهلية طالب الحد، وجديته في طلب التطهير من الذنب؛ حيث وصل هذا التطهير إلى الموت رجما بالحجارة، وما كان ذلك إلا لأن هؤلاء قد وصلوا إلى درجة من الوعي القرآني والإسلامي لم يصل إليها واضعو الدساتير الأرضية فضلا عن الشعوب المحكومة بها.
صفحة ١٨
تلك عظمة لا تساق إليها الشعوب بالعصا؛ وإنما تقوم على رعايتها الشعوب بمحض الإيمان والغيرة والعلم والتطلع إلى مزيد من النجاح، الأمر الذي استطاع به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه بناء أعظم حضارة عرفها التاريخ في ربع قرن من الزمان، لا يكفي لإصلاح مدينة واحدة تحت لواء دستور أرضي في أي دولة من دول العالم، وفي جميع أحقاب التاريخ.
ولعل هذا المعنى العظيم هو الذي يفسر لنا الحوافز التى شرعها الله تعالى لحفاظ القرآن، والتالين له في مختلف الأوقات -لا سيما قرآن الفجر المشهود- حيث يصل الإنسان في هذا الوقت إلى درجة عليا من الصفاء الذي يهيئ لمن يصاحب القرآن فيه فهما لا يمكن أن يتيسر في وقت آخر، حتى لقد شجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من يقرأ القرآن بلا فهم تذرعا إلى دفعه إلى درجة من الفهم فيما بعد، وكذلك من تشق عليهم القراءة تدريبا لهم على أن يألفوا القرآن فتسهل عليهم قراءته، ثم فهمه وتدبره، وكان القرآن شرطا لصحة الصلاة، وأفضل ما يتقرب به العبد إلى ربه، إلى آخر ما هو مسطور في السنة النبوية المشرقة.
وخامسة الدلائل على عظمة القرآن: أن إجماع أهله حجة على الناس جميعا في مختلف العصور، ولم يمنح الله تلك الصفة على المستوى العالمي لأمة غير أمة القرآن، وما كانت عظمة تلك الأمة على هذه الصورة العجيبة إلا من عظمة دستورها: كتاب الله الحكيم.
والذي يتصل بالقرآن من دلائل حجية إجماع المسلمين على العالم قول الله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} 1، ولا خروج إلى النور إلا بالقرآن، فإذا أجمعوا على باطل كانت نتيجة إجماعهم إما بقاء الناس في الظلمات، وإما إعادة الناس من النور إلى الظلمات، وهو ما يشهد التاريخ بخلافه؛ إذ أمة القرآن بقيادة رسولهم -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده من
صفحة ١٩
الأئمة جاهدوا الناس لإنقاذهم من شؤم الظلام إلى وضح النور، وما زال إجماعهم هكذا في مجال الرأي والفكر والاستنباط.
وحينما أعطى الله تعالى أمة القرآن سلطان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذلك سلطانا من الله تعالى لهم أن يصيبوا الحق فيما كان معروفا أو منكرا عند الله حينما يجمعون على أحدهما أو عليهما معا أو يختلفون فلا يعدوهم الحق، وكذلك يقول الله تعالى عن أمة القرآن: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} 1 فالوسط: من يرتضى قوله، والشاهد: من يكون قوله حجة في مجلس القضاء للفصل في الخصومات، وهو إيذان بأن الحق لا يعدوهم مجتمعين أو مختلفين.
وهذه الصفة وإن كانت لأمة القرآن فإنما اكتسبوها من القرآن، فلولا أن القرآن مهيمن على جميع الكتب، ورسوله شاهد على شهداء الأمم كلها، وفيصل بين الحق الذي هو من عند الله وبين باطل تلك الأمم، لما كان لأهله تلك الصفة، ولا تلك العظمة المستمدة من القرآن على مستوى العالم كله في الدنيا، والتي تتعدى الدنيا إلى مجلس القضاء في الآخرة؛ حيث يشهد رسول القرآن -صلى الله عليه وسلم- على شهداء الأمم جميعا.
وأخيرا، فإن إعجاز القرآن هو العظمة الذاتية التي حار العلماء والمفكرون في الكشف عنها، وما زالوا يكتشفون منها كل يوم جديدا، ولا يزالون كذلك ما دام القرآن متلوا أو محفوظا في الصدور.
وليس القول بالإعجاز في القرآن موجها نحو العجز عن فهمه بالقدر الذي تقوم به الشريعة كما يحلو لبعض هواة الجدل حول الدين أن يتلمسوا معنى بعيدا عن نطاق الفكر الإسلامي كهذا المعنى الذى لم يقل به أحد، فيقيموا حوله سوقا لئيما من الجدل، ويطلقوا القول بعدم
صفحة ٢٠
إعجازه من هذه الوجهة التي لم تخطر على بال مسلم من العامة فضلا عن الخاصة، فيظن بعض البسطاء في نهاية تلك السوق نفي الإعجاز عن القرآن بالكلية؛ نتيجة لذلك اللؤم في الفكر، أو لهذه الهواية البهلوانية مما يشبه ألعاب "السيرك" من الكلام يقتل به صاحبه نفسه، ويقتل غيره، وحسبه أن تلوك الألسنة اسمه على أي صفة وأي صورة من الصور والصفات حتى ولو كانت باللعنات المترادفات.
عظمة القرآن في أنه آية من آيات الله واضحة المعنى والهدف بالقدر الذي يحتمله البشر، ويفهم منه القانون الإلهي، سهل الأسلوب؛ حتى ليخيل لمن مارس طريقته أنه يستطيع مثله، فإذا حاول عجز عجزا كاملا، واعتراه النقص والتخبط مهما أجهد عقله ونفسه، وراضها على تلك الحكمة الأسلوبية الناصعة الوضوح في القرآن.
ولهذا كان وصف الوليد بن المغيرة للقرآن واضحا في أن نسق القرآن مغاير تماما لنسق الكلام البشري، فما هو إلا ضرب من القول فوق قدرات البشر سماه: "سحرا يؤثر".
قال الوليد لأبي جهل: والله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته.
فلما قال له أبو جهل: إن هذا القول لا يرضى به قومه، فكر طويلا فلم يجد إلا أن ينسبه إلى قوة من القوى غير المنظورة، وغير المقدورة، فقال: "سحر يؤثر"، وبطلان نسبة القرآن إلى السحر معلوم؛ ولكن نسبة الوليد إياه إلى تلك القوة غير المنظورة يبطن العجز عن معارضته، وشلل القدرة العربية -على الأقل في ذلك العصر وفي وسط الكفار الذين يتلمسون وجها للمعارضة- عن الإتيان بمثله، فهو وإن لم
صفحة ٢١
يعزل القرآن عن القدرة البشرية عزلا كاملا؛ بل أبقى من يستطيع السحر قادرا على مثله، فقد زلزل بهذا الرأي عموم القدرة الإنسانية على مثله، وشهادة العدو بذلك شهادة بالإعجاز إذا راعينا جانب الكفر واللدد في الخصومة في وزن هذا القول بميزان علمي دقيق.
ومن أحسن ما قيل في تعليل إعجاز القرآن ما قاله ابن عطية في مقدمة تفسيره "1/ 278": "إن الله قد أحاط بكل شيء علما، فإذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى، وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن أحدا من البشر لا يحيط بذلك، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتها الإتيان بمثله فصرفوا عن ذلك، والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط؛ ولهذا ترى البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولا، ثم ينظر فيها فيغير فيها، وهلم جرا، وكتاب الله لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد ... وقامت الحجة على العالم بالعرب؛ إذ كانوا أرباب الفصاحة، ومظنة المعارضة".
لقد كان العرب أشد الناس أنفة، وأكثرهم مفاخرة، والكلام سيد عملهم، فكان من المحال أن يطيقوا ثلاثا وعشرين سنة من التحدي ولا يعارضونه لو استطاعوا إلى ذلك السبيل.
ونقل السيوطي عن حازم في منهاج البلغاء ما يتم به كلام ابن عطية؛ إذ قال: وجه الإعجاز في القرآن من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمرارا لا يوجد له فترة ولا يقدر عليه أحد من البشر، وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة من جميع أنحائها في العالي منه إلا في الشيء اليسير المعدود، ثم
صفحة ٢٢