إعجازه من هذه الوجهة التي لم تخطر على بال مسلم من العامة فضلا عن الخاصة، فيظن بعض البسطاء في نهاية تلك السوق نفي الإعجاز عن القرآن بالكلية؛ نتيجة لذلك اللؤم في الفكر، أو لهذه الهواية البهلوانية مما يشبه ألعاب "السيرك" من الكلام يقتل به صاحبه نفسه، ويقتل غيره، وحسبه أن تلوك الألسنة اسمه على أي صفة وأي صورة من الصور والصفات حتى ولو كانت باللعنات المترادفات.
عظمة القرآن في أنه آية من آيات الله واضحة المعنى والهدف بالقدر الذي يحتمله البشر، ويفهم منه القانون الإلهي، سهل الأسلوب؛ حتى ليخيل لمن مارس طريقته أنه يستطيع مثله، فإذا حاول عجز عجزا كاملا، واعتراه النقص والتخبط مهما أجهد عقله ونفسه، وراضها على تلك الحكمة الأسلوبية الناصعة الوضوح في القرآن.
ولهذا كان وصف الوليد بن المغيرة للقرآن واضحا في أن نسق القرآن مغاير تماما لنسق الكلام البشري، فما هو إلا ضرب من القول فوق قدرات البشر سماه: "سحرا يؤثر".
قال الوليد لأبي جهل: والله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته.
فلما قال له أبو جهل: إن هذا القول لا يرضى به قومه، فكر طويلا فلم يجد إلا أن ينسبه إلى قوة من القوى غير المنظورة، وغير المقدورة، فقال: "سحر يؤثر"، وبطلان نسبة القرآن إلى السحر معلوم؛ ولكن نسبة الوليد إياه إلى تلك القوة غير المنظورة يبطن العجز عن معارضته، وشلل القدرة العربية -على الأقل في ذلك العصر وفي وسط الكفار الذين يتلمسون وجها للمعارضة- عن الإتيان بمثله، فهو وإن لم
صفحة ٢١