فالقديس أوغسطين - الذي ولد في منتصف القرن الرابع - كان أسبق هؤلاء المفكرين اللاهوتيين إلى البحث عن حقيقة الله وحقيقة النفس وحقيقة العبادة. قرأ شيشرون وأفلاطون وبعض المذاهب اليونانية، ودان في شبابه بالمانوية فلم يعجبه منها تسليمها بقوة الشر، ونفر منها إلى القول بأن الله لا يصنع الشر؛ لأن الشر ليس بشيء يصنع، ولكنه هو بطلان الخير، واحتكم إلى العقل في فهم المسائل الدينية، ولكنه قرر أن العقل وحده لا يهدي إلى الله، وأنه لا بد من الإيمان، ولا بد للمؤمن من تصديق ما لا يراه، فالعقل يعلمنا أن الأجسام المتغيرة لا تخلق نفسها، وأن العقل لا يخلق حقائقها بل قصاراه أن يفهمها، ولكن هذه الحقائق لها عقل خالق هو عقل الله، وهو جوهر مجرد لا تركيب فيه ولا تعديد، وإنما صفاته هي ذاته لا فرق فيها بين صفة وصفة على الإطلاق، فالقادر على كل شيء هو العالم بكل شيء، والقدرة المطلقة هي العلم المطلق، ومحل الإيمان - بعد محل العقل في الاهتداء إلى الله - هو تكملة العجز الذي يعتري العقل إذ يحاول أن يتصور ما لا قبل له بتصوره من عظمة الله وحكمته في خلقه، فليس للعقل من مخرج من هذه المآزق غير التسليم.
ولا يتردد أغسطين في الجزم بأن العالم مخلوق، وأنه لم يوجد هكذا من أزل الآزال، فلا تناقض بين قدم الإرادة الإلهية وحدوث المخلوقات، ولا يفهم خلق الله للعالم في ستة أيام على ظاهره بل على معناه؛ لأن اليوم من أيام الخلق غير اليوم الذي نحسبه من تقلب الليل والنهار، فلم يكن ليل ولا نهار قبل خلق الكواكب، وهي كما جاء في سفر التكوين قد خلقت في اليوم الرابع، فلا مناص من تقدير تلك الأيام بغير المقدار الذي نجريه في حساب الأفلاك، ولا محل للاعتراض على خلق العالم في هذا الزمان دون ذاك؛ لأن الزمان لم يكن قبل العالم حتى يقال: إنه خلق فيه فإذا خلق من العدم، فليس هناك مفاضلة بين زمانين، ولا موجب للسؤال عن تفضيل زمان على زمان.
ولا اعتراض بوجود الشر على وجود الله في مذهب أوغسطين كما تقدم؛ لأن الشر ليس بموجود فيخلق وينسب خلقه إلى الله، ولكنه هو عدم الخير ولا بد من عدم بعض الخير في المخلوق المحدود؛ لأن المحدود لا يمكن عقلا أن يكون خيرا محضا أو يكون هو كل الخير، ولكن الله يتدارك هذا النقص بحكمته ويمنح الإنسان إرادة تعينه على الاختيار وشوقا إلى الكمال يهديه إلى حسن الاختيار، ولا يفوت أغسطين أن القول بهذا يستلزم القول بحرية الإنسان، فهو في اعتقاده حر الإرادة ولولا ذلك لبطل التكليف.
وقد عرض القديس أغسطين لمسألة الثالوث فقال: «إن للأب والابن وروح القدس جوهرا واحدا ليس الأب فيه شيئا والابن شيئا آخر وروح القدس شيئا غيره، وإن كان الأب ذاتا والابن ذاتا وروح القدس ذاتا كذاك» ومثل هذا الاتحاد باتحاد نور النار ولهيبها، وهما جوهر واحد.
ويعتبر القديس أغسطين أوفى آباء الكنيسة الأسبقين بحثا في معضلات الفكر من وجهتي النظر الدينية والعقلية، ولكنه كان ينتهي منها أحيانا إلى حلول يراها فصل الخطاب، وهي في رأي غيره مثار بحث لا تقف العقول لديه.
ثم أخرجت الكنيسة بعده بأجيال مفكرا يعتبر تلميذه في كثير من تحقيقاته ويعتبر في طليعة المفكرين الإلهيين في العالم كله؛ لأنه - على استقلال فكره - قد وعى حكمة اليونان وحكمة المسلمين وحكمة الآباء الأسبقين، ونظر فيها جميعا نظر المتصرف في الفهم والانتقاد، وهو القديس توما الأكويني المولود في أوائل القرن الثالث عشر للميلاد.
وهو يعتمد على أرسطو كثيرا كما يعتمد على ابن سينا في الفكرة الإلهية، ويقول: «إن حدوث العالم مسألة يفصل فيها الوحي ولا يتأتى إثباتها بالبرهان، ويصف الله بجميع صفات الكمال ومنها العلم بكل شيء من الكليات والجزئيات، مخالفا بذلك أرسطو الذي يقول: إن الله يعقل ذاته وحدها لأنها أشرف المعقولات، ودليل القديس توما على ذلك أن الله يعلم ضرورة ما هو خلاف ذاته؛ لأنه يعقل ذاته عقلا تاما كا هو جلي ظاهر، وإلا كان وجوده ناقصا لأن وجوده هو عقله، ومتى كان الشيء معروفا معرفة تامة لزم من ذلك أن تكون قدرته أيضا معروفة معرفة تامة، ولكن هذه القدرة لا تعرف تماما إلا بمعرفة المدى الذي تمتد إليه، ومتى كانت قدرة الله تمتد إلى الأشياء بمقتضى أنها هي علتها الأولى فمن اللازم أن يعلم الله جميع الأشياء ...»
ويقول القديس توما كما قال بعض فلاسفة الشرق من قبله: إن صفات الله السلبية أيسر فهما من صفات الله الثبوتية، فالله غير مركب وغير متعدد وغير فان وغير ناقص، ويلزم من ذلك أنه كامل كل الكمال، وأن صفات العلم والخير والجمال هي من معاني هذا الكمال ولا تدل على التعدد والتركيب.
وقد عرض القديس توما لمسألة الثالوث فلم يخرج فيها عن مقررات الكنيسة، ولكنه رأى أن الصدور بالنسبة إلى الأقانيم لا يمكن تمثيله إلا بالصدورات العقلية لأنها أقرب الموجودات إلى الصفات الإلهية، فالروح القدس تصدر من الأب مثلا كصدور المعقول من العقل دون أن يقتضي ذلك فصلا أو تفرقة بين الصادر ومصدره، أو كصدور الكلمة من الإنسان وهي بصدورها لا تفارقه ولا تنفصل عنه.
وقد بلغ القديس توما الذروة في موضوعات الفلسفة المسيحية فلا حاجة إلى سرد الآراء الأخرى التي أثرت عن بعض الآباء، وهي لا تزيد شيئا على فحواه.
صفحة غير معروفة