117

أما المسيحية فقد تأخر تدوين كتبها وكان معظمها مسطورا باللغة الإغريقية، فلا يطلع عليها سواد المسيحيين، وقد كانت جمهرة المسيحيين في أوائل الأمر من عامة الناس الذين يقنعون بالإيمان اليسير ولا يتعمقون في النصوص ولا في التأويلات، فلما آمن المتعلمون بالدين الجديد كان اختلافهم مقصورا على بيئات الدرس والثقافة، إلى أن قام في العالم المسيحي ملوك يجلسون على العروش، فخرج الخلاف المدرسي إلى معترك السياسة الزبون، ونجمت الفرق والمذاهب، وهي في أحضان الدولة تعتمد على بأس الملوك والأمراء من أحد الطرفين أو من كلا الطرفين أو من جميع الأطراف في بعض الأحوال.

ومع هذا كتب إنجيل يوحنا في أواخر القرن الأول للميلاد وفي صدره هذا التمهيد الذي يعتبره بعض الشراح توطئة للكتاب ويعتبره بعضهم الآخر جملة أصيلة في الكتاب ، وهو: «في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان، فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه.»

وكتب بولس الرسول رسائله بعد ذلك، وهي شاهد على امتزاج الأمثلة الدينية بصور الفلسفة، ولا سيما فلسفة الحلول، وكان يقول: إن المسيح جالس على يمين الله، ويدعو لمن يطلب لهم الخير «أن تسكن فيهم كلمته»، ويسأل لهم الغفران منه، ويبشرهم بأنهم سيبلغون المجد متى عاد إلى الأرض، ويبدو من جملة كلامه أنه كان ينتظر معاده في زمن قريب، وكثيرا ما أشار إليه صلوات الله عليه «باسم ربنا يسوع المسيح» وسمى نفسه باسم «رسول يسوع المسيح بحسب أمر الله مخلصنا وربنا يسوع المسيح.»

وكانت تعبيرات بولس الرسول وتعبيرات إنجيل يوحنا معا هي مثار البحث بين جماعة التفسير وجماعة النصوص حين بدأ الخلاف بينهم في أواخر القرن الثاني للميلاد.

وأقوى هؤلاء المفسرين وأبعدهم أثرا في تطور المسيحية الأولى هو أوريجين ابن الشهيد ليونيداس

Origen

الذي ولد بالإسكندرية سنة 185 للميلاد، وتعلم على الفيلسوف آمون ساكاس - معلم أفلوطين - إمام الأفلاطونية الحديثة المشهورة.

وكان أوريجين من الغلاة في النسك والعبادة، ولكنه تعلم الفلسفة وأدرك البدائة العقلية، فاضطره فرط الإيمان إلى التوفيق بينها وبين نصوص الكتب الدينية، ولا سيما النصوص التي تشير إلى بنوة السيد المسيح ودلالة الثالوث والتوحيد، فقال: إن البنوة كناية عن القربى، وفهم معنى الكلمة التي كانت في البدء فهم الرجل الذي اطلع على مذهب هيرقليطس ومذهب أفلاطون؛ لأن الأول يقول: إن الدنيا تتغير أبدا، فليس لها وجود حقيقي وراء هذه الظواهر غير وجود الكلمة المجردة أو العقل المجرد الذي لا ينقطع عن تدبيرها، ولأن أفلاطون يقول بسبق الصور المعقولة على الأجسام المحسوسة، فجاء أوريجين بعدهما ليقول: إن السيد المسيح هو مظهر العقل الخالد تجسم بالناسوت، وإن ظهوره في الدنيا حادث طبيعي من الحوادث التي يتجلى بها الإله في خلقه، واجتهد في تأويل النصوص، فجعل للكتب الدينية تفسيرين ، أحدهما صوفي للخاصة والآخر حرفي لسائر الناس، وبشر بخلاص خلق الله جميعا في نهاية الأمر حتى الشياطين، ولم يكن ينكر الشياطين أو ينكر قدرة السحرة على تسخيرها، ولكنه - من عجب التناقض في الطبع الإنساني - كان يرى وهو منكر الحروف وداعية التفسير والتأويل أن الأسماء العبرية دون غيرها هي الأسماء التي تجدي في الاستدعاء والتسخير! وينسى أنه جعل هنا للأسماء والحروف سلطانا على الكون يقصر عنه سلطان المعاني والمسميات.

وخلف أوريجين تلميذان قويان: هما آريوس في الإسكندرية ونسطور في سورية، فمضيا في التأويل والتوفيق بين النصوص والمعاني، ولكنهما اختلفا بينهما أشد اختلاف يخلقه اللدد والشحناء، وتراميا كما ترامى أتباعهما زمنا بتهمة الكفر والجحود؛ لأن آريوس كان يقول بأن المسيح إنسان حادث، ونسطور كان يؤمن بالطبيعة الإلهية في المسيح ويأبى التسوية بينه وبين الله في الدرجة والقدم، ودخلت السياسة في هذا الخلاف فدفعت به إلى أقصى مداه.

هذه كلها كما رأينا مذاهب في الدين تصطبغ بالصبغة الفكرية ويمتزج فيها الإيمان بالتفكير، أما مذاهب الفلسفة المسيحية فلم تظهر في العالم المسيحي قبل انقضاء عدة قرون، وتأخر ظهورها - إذا استثنينا فلسفة القديس أغسطين - إلى ما بعد ظهور الفلسفة الإسلامية في أوربا الغربية.

صفحة غير معروفة