116

هذا الفيلسوف هو سليمان بن جبيرول الذي ولد في مالقة سنة 1020 وألف كتاب ينبوع الحياة، وربما كان له أثر في توجيه سبينوزا أكبر فلاسفة اليهود ومن أكبر فلاسفة الغرب على العموم. •••

ولا تزال المحافظة على أقدم النصوص الإسرائيلية شغلا شاغلا للمفكرين من اليهود حتى في هذه الأيام، ففي سنة 1937 ظهر لمردخاي كبلان كتاب بالإنجليزية عنوانه «معنى الله في الديانة اليهودية الحديثة» يفسر فيه نصوص الأسفار الإسرائيلية ويستمسك بكل نص من تلك النصوص مع تفسير جديد يلائم الحياة العصرية، ومن ذاك عهد لبني إسرائيل ليجعلنهم شعبه المختار بين الشعوب، فهو يقول: إن هذا العهد لا يناقض وحدة الإنسانية ولا وحدة الحضارة الإنسانية، بل يؤيد هذه الوحدة ويؤكدها؛ لأن العهد يبشر بإنجازه بين الله وإسرائيل يوم تستقر مملكة الله على الأرض ويبطل فيها البغي والعدوان ويتفق بنو الإنسان جميعا على عبادة الله بالحق والإخلاص، ولكن الله لم يخلق الإنسانية آحادا بل خلقها شعوبا وجماعات ووكل سعيها في سبيل الوحدة إلى جهود هذه الشعوب والجماعات: كل منها بما هو أهله وكل منها بما هو مقيض له ومعهود إليه.

والمحافظة هي المسحة الغالبة على التفسيرات العصرية للعقائد الإسرائيلية الأولى، ولا استثناء في ذلك لما يكتبه الأدباء الطلقاء من قيود الكهانة الدينية كالقصاص المعروف شولم آش

Sholem Asch

وبعض الشعراء والكتاب المحدثين، فيقول شولم في كتابه «ما أعتقد»:

إن جميع الديانات غير ديانة التوحيد كما أدركها إبراهيم يصح أن تشبه بآبار ملأها الإنسان بيديه، وإنما تجد الروح الخالقة في الإنسان تعبيرها الصحيح في الصور المجسمة، وقد يتلقى الإنسان الوحي من المعاني المجردة ولكنه لا يصنع ولا يعمل إلا بالتجسيم، وكل ما ادخرته روح الإنسان في المجسمات فذاك الذي أسميه بالدين.

خلق الله الإنسان على صورته، وعاد الإنسان فخلق الله على صورته وتمثله في طبيعته، ودرج من أقدم الأزمان على أن يزدلف إلى الله بأن يصفه بما هو أجمل الصفات وأفضلها في نظره، وكل جيل من أجيال البشر يرفع إلى الله خلاصة ثمرات عصره، وكل جيل من أجيال البشر قد صور الله على الصورة المثلى التي يستمدها من خلائقه ومزاياه، ومن هنا أصبحت الربوبية أوجا تلتقي فيه أفضل الفضائل التي تتخيلها الشعوب.

فلا ضير على هذا أن يظل التجسيم ملازما للديانة كما يراها شولم آش، ولكنه يفرق بين الديانة والعقيدة؛ لأن الديانة تتكون في باطن الإنسان فلا تعلو عليه، أما العقيدة فهي ثقة يتلقاها من فوقه ومن أمامه ولا يتمثلها في مثال. •••

وعلى الجملة يلاحظ أن الديانة اليهودية على قدمها هي أقل الديانات الكتابية تأثرا بشروح الفلسفة وعوارض التجديد الأخرى، ويرجع ذلك إلى أسباب عدة: منها أن اليهودية عند نشأتها لم تنهض لها ضرورة قاضية بالتعجيل في التفسير والتأويل؛ لأن اليهودية نفسها كانت بمثابة فلسفة تجريدية بالقياس إلى العقائد الوثنية والأديان المجسمة التي نشأت بينها، وكان أنبياء اليهود يتلاحقون واحدا بعد واحد، فيشغل النبي الأمة بأقواله عن أقوال الذين سبقوه إلى استنزال الوحي من الله، وينبغي أن نذكر في هذا الصدد أن الدينين الكتابيين العظيمين اللذين ظهرا بعد اليهودية إنما كانا تعديلين في نصوص الدين اليهودي ومعانيه، فهما خليقان أن يشغلا كل فراغ كان متسعا لتفسير النصوص ومحاولة التوفيق بين المنقول والمعقول.

وقد تلاحقت الهجرة والتشتيت على الأمة اليهودية منذ أيامها الأولى وأصابتها المحن من ذوي قرباها، ونزل بها الحيف من الدول القوية المسلطة عليها، فاشتدت في نفوسها العصبية القومية، ونفرت كل النفور من البدع الأجنبية، وتحصنت دونها بحصن منيع من العزلة الروحية والفكرية، فأحجمت عن الفلسفة التي تطرقت إليها من جانب الإغريق وجانب المشارقة الفارسيين والهنديين، ولم تكن هذه الفلسفة على هذا قد تكاملت في بلاد الإغريق أو تفرقت منها بين الأقطار الشرقية؛ لأنها لبثت في دور التكوين والتكامل والتعليق إلى ما بعد ميلاد المسيح. (2) المسيحية بعد الفلسفة

صفحة غير معروفة