شعر بالاطمئنان يعود إليه وهو ينقل قدميه على أرض الشارع الذي طالما قطعه ذهابا في أول المساء وإيابا قرب الفجر، وأخذ يقلب بصره بين المحلات والدكاكين والأسوار الحجرية الداكنة الصفرة والبوابات الحديدية الصغيرة والشرفات النحيلة ذات العمدان الملتوية القصيرة كراقصات عاريات البطون، وخيل إليه أن هذه الشرفات تطل فتحاتها في دهشة على الضوضاء الزاحفة والأصوات الجهورية الغاضبة التي لم يكن لها صوت في الزمن القديم. وما هي إلا لحظات حتى وجد نفسه أمام البيت ذي الشرفات الواسعة في أدواره الثلاثة بلونها الليموني الفاتح. لم يجد صعوبة في العثور على المدخل الذي يقود إليه ممر طويل كان يتوقف فيه كلما رأى القطة السوداء السمينة وتذكر عنادها وكبرياءها ووجهها المستدير الفاحم السواد الذي كانت تشيح به جانبا وتمضي في سبيلها كلما حاول الاقتراب منها والمرور بيده على ظهرها. صعد السلم بخطوات ربما كانت أبطأ وأثقل مما تعود عليه، لكنه شعر بالراحة تغمره وتسري في كيانه كله كمياه جدول صاف عندما وقف أمام الباب الذي يحمل نفس اللافتة القديمة بنفس الخط الذي كتب به اسم صاحبه على سطح اللوح النحاسي المستطيل الذي بدا له باهتا أكثر مما كان ومغبشا ببقع بنية داكنة تقترب من السواد. لقد سمع من أحد معارفه أن صديقه مريض منذ سنوات، ولكنه لم يسأل نفسه عن نوع المرض وشدته ومداه. كان كل ما يشغله هو أن يزوره ويداعبه ويحيي معه الأيام والليالي التي شاركه فيها في تقديم الكراسي وتقبل التصفيق الحار من الجمهور الصغير بالانحناء والامتنان، وربما خالجه الأمل الغامض في أن الذكريات الحية يمكن أن تبعث أنفاس الصحة والقوة في الجسد المريض الغائب عن المكان والزمان.
ضغط على زر الجرس فتردد صوته المشروخ في جنبات الردهة الواسعة كما كان يفعل تماما قبل عشر سنوات، ومال به الخجل الفطري ناحية الحائط كما كان يفعل على الدوام وهو يطرق برأسه ويرد على الصوت المتسلل من شراعة الباب دون أن يرفع عينيه. أجاب على الصوت المتسائل قائلا: أنا عاصم، عاصم النجار.
كان يظن أن نطق اسمه كفيل بتعريف صاحب الصوت الخافت بصديق الشباب وزميل الكفاح القديم، ولكن الصوت المتسائل ارتد إليه في حزن لم يخف عليه: معذرة، هل تسأل عن أحد؟
قال في مرح مكتوم كأنه يستنكر الجهل باسمه أو نسيانه: أنا صديق الأستاذ شهاب إسماعيل.
وملأ صدره بالهواء قبل أن يقول بلهجة اختلط فيها المرح بالدهشة بالعتاب: عاصم، عاصم الذي كان يزوركم كل جمعة وأحيانا كل يوم بعد انتهاء العروض ولا يخرج قبل الفجر. صديق شهاب وزميله في عرض الكراسي. وقبل أن يفصح عن عجبه الشديد كانت الشراعة قد أغلقت وسحبت يد المزلاج من الداخل وواربت الباب قليلا - ظل مطرقا برأسه وإن رفعه قليلا كي تتمكن سيدة البيت من إدراك خطئها الكبير - وسرعان ما جاءه الصوت الذي لم تغب عنه في هذه المرة نغمة التردد والأسى العميق: أهلا وسهلا، لا تؤاخذنا يا أستاذ ...
أسرع موضحا اسمه وهويته المؤكدة: عاصم النجار، يا ما وضعت الحمامة والخليفة أبو بكر على كتفي ومعهما القطة السوداء التي ألف عنها شهاب الكتاب، يا ما لعبت معها و... ورد عليه الصوت أكثر وضوحا وحسما: نعم، نعم يا أستاذ، ولكن هديل في الشغل، وأبو بكر في المصنع ويزورنا كل أسبوع أو كلما احتجنا إليه، أما شهاب ...
تحشرج صوتها واختنق بالدموع - لم تستطع أن تخرج حرفا واحدا فأسرع يقول: أعلم أنه مريض من سنوات. - مريض؟ ادع له يا أستاذ.
لم يملك نفسه من الصياح: لا لا، لا تقولي هذا، لقد عرفت أنه حي ويصارع المرض. أجاب الصوت المختنق واتسعت فتحة الباب: نعم يا أستاذ ولكنه لا يحيا ولا يموت.
أوشك أن يندفع نحو الباب ولكنه كبح قدميه في اللحظة الأخيرة: اعذريني يا سيدتي. أنا مقصر، ولكنني كنت خارج البلاد، أرجوك لا تحرميني من رؤية شهاب.
رفعت السيدة وجهها وتأملت وجه الزائر الذي اتضحت ملامحه لعينيها بعد أن تعودت على الظلام الذي غلف السلم بغلالة بدأت تخف قليلا. قالت وهي تهز رأسها: ولكنه غائب عن الوعي، لا يعرف أحدا ولا يزوره أحد.
صفحة غير معروفة