قالت وهي تجفف عينيها وتضع يدها في يده: مع السلامة. لا لزوم للتعب. هل يمكن أن نغير ما حدث، هل نستطيع إحياء الموتى؟
الكراسي
«قم وبلغ رسالتك، أعلنها على الملأ، قل كل شيء، اشرح كل شيء، إنهم جالسون أمامك، شخصيات مرموقة وأخرى مغمورة، كلهم جاء ليستمع إليك، ليعرف مضمون رسالتك التي ستنقذ الأرض والعالم والإنسان والحيوان والبيوت والأشجار، ها هم قد اصطفوا أمامك على الكراسي، زحام فظيع وكراسي في كل مكان، زحام فظيع وكراسي في كل مكان، امتلأت بهم القاعة والردهة والمدخل والممرات على الجانبين، كراسي وكراسي وكراسي، ومن لم يجد كرسيا وقف في الزوايا والأركان أو ربض كالقط العجوز تحت أحد الكراسي، قم يا أخي قم! ما هذا المرض الذي يقعدك عن القيام بدورك وإلقاء خطبتك؟ ألم تسمع عن إرادة الحياة؟ ألم تقرأ عن أناس هزموا أعضل الأمراض وأخبثها في عصرنا المريض؟ وهل يمنعك هذا من الوقوف على خشبة مسرحنا؛ خشبة مسرحنا الذي وقفنا عليه وجلجلت أصواتنا في عز الشباب؟ قم يا أخي وصديقي قم، الجميع ينتظرون خطبتك، الجميع ينتظرون.»
بهذه العبارات المبتورة وأشباهها مضى يناجي نفسه في طريقه من مجاهل العباسية إلى مشارف الروضة. لم يجد مواصلة مباشرة فاستأجر تاكسيا وطلب من السائق الثرثار أن يقف به على شاطئ النيل بالقرب من الكوبري التليد الذي طالما تمشى عليه مع صديقه؛ ليستنشقا الهواء النقي بعد سهرة طويلة وحديث أطول عن المسرح ومشروعاته وأحلامه في غرفته الملبدة بسحب الدخان الكثيفة ورائحة البيرة النافذة، وبعد أن هبط من التاكسي وتخلص من أسئلة السائق عن أخص أموره وجد نفسه وسط المتاهة المزعجة: أبواق سيارات تزعق كأنما ركبت لها حناجر ثيران تساق إلى الذبح ... سوق فوضوي اختلط فيه الماشي بالراكب بالدراجات بعربات الكارو بالفولفو والمرسيدس والنصر ومن كل الماركات، وتحسر على انتظام المرور وصرامته في البلد الصحراوي الذي قضى فيه سنواته الأخيرة. واكتفى بسؤال نفسه قبل أن يسأل عن العنوان الذي راح يتقلب ويطفو ويغطس في ظلمات ذاكرته: كيف صرنا إلى هذا الحال؟ هل سبقنا عرب البادية إلى الحضارة والنظام وتركونا نتصادم في الفوضى والشراسة والوحشية؟ وأدار ظهره للنيل الذي لم يشأ أن ينظر إليه حتى لا يفجع مرة أخرى بالتحسر على ركود مياهه وتيبس شريانه وانسياب سطحه الأملس البليد كظهر حوت عجوز ومريض. وبدأت تفاصيل العنوان تتخبط في صندوق دماغه كالوطاويط السوداء أو العصافير العمياء. آه لو استطاع أن يضع قدمه على الشارع! سيتذكر الكهربائي والرفا العجوز على الناصية، وبعدها المقهى الصغير الذي يأوي إليه البوابون وعمال التنظيم وعساكر القسم القريب وصبية الميكانيكية وباعة الجرائد المنهكين وصاحب دكان التموين بوجهه الصغير المنحس كوجه فأر مغبر خرج لتوه من تحت الأنقاض. آه لو يتذكر الكلمة الأولى من الاسم القديم الذي اقترن بالمماليك والسلاطين. هل هي السراي؟ الجامع؟ البوابة أم الباب؟ بل هي الحصن. نعم حصن، وربما مقياس النيل.
ومال على مقلاة ليسأل الشاب الأسمر الذي يقف خلف تلال صغيرة متجاورة من اللب والحمص والسوداني الشهي الرائحة: من فضلك، أليس هنا شارع قريب اسمه الحصن أو المقياس؟ قال الشاب مبتسما: إن كنت تريد شارع المقياس فهو خلفك، بعدنا بشارعين، على نفس الرصيف.
أجاب بسرعة: لا، لا، إنه قريب من هنا، ربما الحصن.
قال الشاب وهو يكتم ضحكته: يظهر أنك سائح يا أستاذ، تقصد حصن بابليون؟ إنه هناك في مصر القديمة.
وخرج الشاب من وراء التلال الصغيرة التي تفج منها الرائحة الكثيفة الدافئة ليدله على الطريق فومضت الكلمة في رأسه كشرارة برق خاطف وسأله: القلعة، لعلها القلعة!
ضحك الشاب وهو يشير إلى الأرض: قلعة الروضة؟ لا يمكن أن تقصد قلعة صلاح الدين! وبادله الضحك: لا، لا، ليس إلى هذا الحد! صحيح أنني غبت طويلا ولكني لم أصبح من السواح. وضع الشاب يده على كتفه وقال: خطوتين وتدخل القلعة بنفسك يا حاج، الشارع الذي تريده على اليمين.
شكره وأجزل في الشكر وهو يخبط جبهته بكفه اليمنى خبطة مدوية، وتركه وهو يعتذر له بحكم السن.
صفحة غير معروفة