فما من وطن من الأوطان يزرع كل ما يحتاج إليه أو يخرج من المعادن كل ما يستخدمه في صناعاته، وما من حكومة تستطيع أن تنفرد في مكان واحد بتنظيم المحصولات والمصنوعات على حسب الحاجة في كل وطن على حدة، وما من حكومة تستطيع أن تنفرد في مكان واحد بتنظيم مواصلات البر والبحر والهواء على حسب المواعيد التي توافق جميع الأقطار والأنحاء، فلا غنى في نهاية الأمر عن الإدارة الوطنية، ولا غنى عن استقلال كل وطن بشئونه، ثم اشتراك جميع الأوطان في الشئون العالمية، وكلما اتسع العالم تعددت فيه جوانب التخصص، ووجب أن يختص فريق من الناس بجانب من هذه الجوانب. فلماذا نهدم الأوطان ونحن أحوج إليها في هذا الزمن الذي شاع فيه التخصص وتوزيع الأعمال؟
يقول دعاة الهدم والفوضى: إن الوطن للغني وحده وإنه لا وطن للفقير ، ويقولون: إن الغرض من قوة الوطن هو حماية الدولة التي يسيطر عليها الأغنياء.
ولم ينكر أحد أن الأغنياء يطمعون وأن الفقراء يهانون، ولم يقل دعاة الهدم والفوضى في اتهام الأغنياء إلا بعض ما قالته كتب الدين، ومنه: إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، ومنه: إن دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الغني إلى ملكوت السماوات.
لم ينكر أحد هذا، ولم يقل دعاة الهدم والفوضى إلا بعض هذا، ولكن الذي ننكره ولا ينكره أعداء الهدم والفوضى هو تقبيح الوطنية على إطلاقها وإقامة هذه العلاقة الإنسانية، وكل علاقة غيرها على أساس واحد هو أساس الفلوس، وتوزيع الفلوس.
إن في نفوس الناس شيئا، بل أشياء جمة لا تحكمها هذه الفلوس، ومنها الغيرة الوطنية الصادقة التي تعلموا منها دروس التضحية والنخوة، وهانت عليهم أرواحهم وأرواح أبنائهم في سبيلها، وليس تاريخ الإنسانية تاريخ بنك أو شركة تجارية حتى نرجع بأطوار الإنسانية جميعا إلى توزيع الأسهم والأرباح وتدبير الحصص وأساليب الاستغلال، ولو كان المال وحده كافيا لخلق الأوطان وإقناع الناس بالتضحية لما كانت هناك حاجة - مع وجود المال - إلى الإيمان بشيء من الأشياء، ولا احتاج الشيوعيون أنفسهم إلى تسمية الحرب العالمية بالحرب الوطنية، بعد أن جربوا حفز الهمم بمذهبهم المميت فتخاذلت في ساعة الشدة والفداء.
كلا. ليس تاريخ الأوطان تاريخ بنك ولا شركة، وإنما نرجع إلى تاريخ الأوطان فنعلم يقينا أنها تقوى وتزدهر بمقدار ما في النفوس من الشجاعة والإقدام والتضحية والصبر على الشدائد والشغف بالمعرفة والجمال، وإنما تزول الأوطان أو تقترب من الزوال كلما استسلمت للغنى والثروة وغلب فيها النزف والمتاع على الفضيلة والثبات؛ تزول أو تقترب من الزوال كلما طغى فيها طمع المال على الشجاعة وقوة الأخلاق.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الوطنية تقترن بكثير من الشرور والأخطاء، ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الحياة نفسها ما خلت قط، ولن تخلو أبدا من شرورها وأخطائها، ولكن من السخف واللغو أن نحكم من أجل هذا بإلغاء الحياة أو إلغاء الوطنية، وأن نعتقد لحظة واحدة أن النظام الذي نستبدله بالوطنية سيأتي إلينا معصوما من كل نقص مبرأ من كل عيب.
يخطر لي أحيانا أن أسأل نفسي: ترى لو هبط على الكرة الأرضية نوع من الأحياء عدو للنوع الإنساني منطو على حب النكاية به وتحقير أعماله وآثاره - ماذا يقول عن تاريخ البشر فيما مضى غير ما يقوله الشيوعيون ودعاة الهدم والفوضى على العموم؟ وبأي أسلوب يعبر عن حقده وضغينته على الأجيال الماضية غير الأسلوب الذي يعبر به الشيوعيون عما يسمونه تارة بالفروسية وتارة بالبرجوازية، وتارة برأس المال، وينسون أنهم يطلقون هذه الأسماء على نوع الإنسان الذي ينتسبون إليه؟
يكفي هذا السؤال ليعلم السائل والمجيب أنه يواجه أعداء الإنسانية حقا حين يواجه دعاة الهدم والفوضى، وأنهم لو كانوا نوعا غريبا طارئا على الكرة الأرضية، لما كان تصويرهم للإنسانية أقبح من هذا التصوير. فهم يحكمون على الإنسانية حكم الأعداء على الأعداء ويعاملونها معاملة الخصوم البغضاء في ميادين القتال، ويتعقبون كل أثر من آثارها كأنهم يكرهون أن يبقى لها أثر أو يتخلف منها تراث مذكور، فلا جرم يستديرون إلى العقائد والأديان ليبطلوها أصلا وفصلا، كما استداروا على العائلة لتمزيقها وعلى الوطن لازدرائه وتدنيسه، وحسبهم من العقائد والأديان أنها تراث إنساني ماض لتستحق منهم أن ينقلبوا عليها بالمقت والتفنيد والإلغاء.
ونعود فنقول: إن اشتمال العقائد الإنسانية في العصور الماضية على الخرافات والأباطيل أمر مفروغ منه بين المتدينين أنفسهم فضلا عن غير المتدينين، ولكننا نسأل عن ألزم اللوازم الجسدية للأحياء وهو الطعام: هل خلا طعام الناس قط في الزمن الحاضر أو الغابر من الفاسد والضار، ومن الغث والتافه الذي لا يفيد؟ هل عرف الناس حتى اليوم حقائق الهضم وأصول التغذية؟ هل ينسون شهوات الذوق والطعم التي تعود عليهم بالوبال؟
صفحة غير معروفة