من العائلة دون غيرها تعلم الإنسان أصول الاجتماع وقواعد الأخلاق وعلاقات التعاون بين العاملين في البيئة الواحدة، وفي كل لغة من لغات العالم شواهد على ذلك تظهر لنا من مراجعة الكلمات التي تدل على الفضائل والصفات المحمودة.
فالرحمة مأخوذة من الرحم وهو القرابة في الأمهات والآباء.
والكرم مأخوذ من الأصل العريق المنزه عن الأخلاط والأوشاب.
والحرية أيضا تفيد هذا المعنى بعينه، فيطلق وصف الحر على النسب الخالص من الهجنة والعبودية.
والعزة تطلق على الأسرة التي لا تغلب لكثرتها، «وإنما العزة للكاثر»، كما قال الشاعر المعتز بقبيلته وقومه.
والشيخ والكبير والرئيس هي كلها كلمات كانت تطلق على الأب الذي تقدم في السن، ثم أطلقت على كل متقدم في جماعة من الجماعات، حتى أطلقت على الحكيم الفيلسوف، كما سمي ابن سينا بالشيخ الرئيس.
وإلى العائلة يرجع الفضل في حفظ كثير من الصناعات التي توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد.
وإلى العائلة يرجع الفضل في عمل العاملين للمستقبل، وسعي الإنسان لما بعد حياته.
وعيب العائلة في رأي دعاة الهدم والفوضى أنها تحرض الآباء والأمهات على توريث الأبناء والبنات، وقد يكون في نظام التوريث عيب كبير أو صغير لا يستحيل إصلاحه بالقوانين وآداب الاجتماع. أما المستحيل قطعا فهو إلغاء الوراثة من قوانين الطبيعة. فإن الأب يورث ابنه الحميد والذميم من أخلاقه، ويورثه القوي والضعيف من وظائف بنيته، ويورثه الصحيح والسقيم من طباعه وأعضائه، ويورثه الجميل والقبيح من ملامحه وقسمات وجهه، وليس من حق المجتمع أن يحرم الولد كل ميراثه من مال أبيه إذا كان المجتمع عاجزا عن حماية هذا الولد من وراثة الضعف والقبح وسوء الاستعداد، بل ليس من مصلحة المجتمع أن يسوي بين الرجل الذي يعمل للغد، والرجل الذي يعمل لساعته والرجل الذي يتواكل ويتوانى ولا يعمل لغده ولا لساعته، لأنه قانع بالعيش من معونة المجتمع وفضل إحسانه.
إن الهدامين المخربين سريعون إلى الهدم والتخريب لغير سبب يقنع أحدا ممن يكرهون الهدم والتخريب، ولولا شهوة الخراب في نفوسهم الممسوخة لما تهجموا على نظام الأسرة ذلك التهجم الذي لا يقنع أحدا بهدم جحر من جحور الحشرات، على أن التهجم في دعوتهم إلى هدم الوطن أغرب من هذا التهجم على هدم العائلة، لأن التدبير العالم بغير أوطان مستحيل، أما تدبير المجتمع بغير عائلة فقد يتيسر إلى حين.
صفحة غير معروفة