المذاهب الهدامة
العلم والمذاهب الهدامة
بارود لم ينفجر وطباعة لم تطبع
قدوة غير صالحة
الإصلاح والمذاهب الهدامة
الدعوات الهدامة والناشئة (1)
الدعوات الهدامة والناشئة (2)
العائلة والوطن والدين
العامل والماركسية
الحرية والإذاعة
صفحة غير معروفة
الشيوعية والإسلام
القرم الإسلامية والمذاهب الهدامة
الأدب والمذاهب الهدامة
الوجودية
الوجودية أو الوجدانية
الوجودية بين أنصارها وخصومها
الفوضوية والوجودية
المدرسة الرمزية
المصير
المذاهب الهدامة
صفحة غير معروفة
العلم والمذاهب الهدامة
بارود لم ينفجر وطباعة لم تطبع
قدوة غير صالحة
الإصلاح والمذاهب الهدامة
الدعوات الهدامة والناشئة (1)
الدعوات الهدامة والناشئة (2)
العائلة والوطن والدين
العامل والماركسية
الحرية والإذاعة
الشيوعية والإسلام
صفحة غير معروفة
القرم الإسلامية والمذاهب الهدامة
الأدب والمذاهب الهدامة
الوجودية
الوجودية أو الوجدانية
الوجودية بين أنصارها وخصومها
الفوضوية والوجودية
المدرسة الرمزية
المصير
أفيون الشعوب
أفيون الشعوب
صفحة غير معروفة
تأليف
عباس محمود العقاد
المذاهب الهدامة
يقول كارل ماركس وأتباعه: إن الأديان أفيون الشعوب، وإن الناس يقبلون على الدين لأنه يخدرهم ويلهيهم عن شقاء الحياة.
وهذا القول الهراء عن الدين آخر وصف يمكن أن ينطبق عليه، وأول وصف ينطبق على مذهب كارل ماركس بجميع معانيه.
فالشعور بالمسئولية والمسكرات نقيضان، وما من دين إلا وهو يوقظ في نفس المتدين شعورا حاضرا بالمسئولية في السر والعلانية، ويجعله على حذر من مقارفة الذنوب بينه وبين ضميره، ويوحي إلى الفقراء والأغنياء على السواء أنهم لن يستحقوا أجر السماء بغير عمل، وغير جزاء.
وشتان هذا، وقول القائلين: إن الدين يخدر المرء، كما تخدره المسكرات وعقاقير الأفيون.
إنما المسكر حقا هو مذهب كارل ماركس من جميع نواحيه؛ لأنه يرفع عن الضمير شعوره بالمسئولية ويغريه بالتطاول والبذاء على ذوي الأقدار والعظماء.
إنه يرفع عن الضمير شعوره بالمسئولية؛ لأنه يلقي بالمسئوليات كلها على المجتمع، ويقول ويعيد للعجزة وذوي الجرائم والآثام إنهم ضحاياه المظلومون، وإن التبعة كلها في عجزهم وإجرامهم واقعة عليه، ويتمم عمل السكر بحذافيره حين يطلق ألسنتهم بالاتهام على كل ذي شأن ينظرون إليه نظرة الحسد والضغينة، ويعز عليهم أن يساووه بالعزيمة والاجتهاد.
ولو أنك نظرت إلى فعل «السكرة» في المخمور لم تجد لها في نفسه شهوة تستهويه غير هذا الشعور بإسقاط المسئولية، وهذا التطاول على أعظم عظيم، كما يقول كل سكران غابت به السكرة عن حقائق الأشياء. وما كان للماركسية من سحر يستهوي السفلة إليه غير هذا السحر الذي يبذلون فيه الدراهم ويجدونه في الماركسية جما بغير ثمن، وعليه المزيد من التغرير بالعقول، وشفاء أدواء الحسد والانتقام.
صفحة غير معروفة
سكرة رخيصة لا أكثر ولا أقل.
وإنهم ليتحدثون عن «المذهب العلمي» أو يتحدثون عن التفسير «العلمي» للتاريخ، ويكثرون من ذكر العلم والبحث والاستقراء، ثم تنظر فيمن يستهوونهم بهذا الهراء، فلا ترى أحدا منهم يحفل بالعلم، أو يعنيه أمر المعرفة والاستقراء، ولكنك واجد فيهم - على يقين - من يعميهم الحسد عن كل فضيلة، وتندفع بهم الغرائز كما تندفع السائمة على غير هداية، ومن يعملون ولا يفكرون في عاقبة ما يعملون.
إن «الماركسية» إذن لهي الحقيقة بما تفتريه من وصف للأديان والمعتقدات، وإنها لأفيون الشعوب بغير مراء، وكلما بحثت عن سبب صالح لشيوع المسكرات في بيئة من البيئات؛ فاعلم أنه سبب صالح كذلك لشيوع المذاهب الهدامة، ولتفسير هذه الشهوات التي تتلخص في أول الأعراض التي تبدو على السكران: بإسقاط للتبعة، وخلع للحياء، واستمراء للتطاول والبذاء على كل محسود، وإن لم يكن من الأغنياء.
وفي هذه الكلمة الوجيزة - وما يلي من الأحاديث المذاعة في حينها - تنبيه سريع إلى هذه الحقيقة البينة.
ولكنه تنبيه لمن؟
لا للمخمور الغارق في سكرته، فإنه لا يفيق، ولا يحب أن يفيق، وفي رأسه بقية من خمار.
ولكنها تنبيه لمن ينظرون، لا يكلفهم إلا أن يديروا إليه الآذان والعيون.
عباس محمود العقاد
العلم والمذاهب الهدامة
من الدعاوى العريضة التي يدعيها أصحاب المذاهب الهدامة أنهم يعتمدون على الحقائق العلمية، ويتجنبون الأوهام والخيالات التي تعلق بها دعاة الإصلاح الأقدمون. ومن أجل هذا يسمون الاشتراكيين السابقين لهم بالحالمين، ويقولون عنهم إنهم خادعون مخدوعون، وإن الاشتراكية الحديثة التي يبشرون بها هي الاشتراكية العلمية التي لا تقيم وزنا لغير الواقع المقرر بالتجربة والمشاهدة، ولا تعد الناس شيئا إلا أن يكون مضمونا حاصلا أو في حكم الحاصل بعد زمن قريب.
صفحة غير معروفة
وإذا كان أصحاب المذاهب الهدامة مضللين أو مضللين في كثير من الأمور، فالأمر الأول منها: هو هذه الصفة العلمية التي يسبغونها على مذهبهم، وهو مناقض لكل علم، مخالف لكل حساب صحيح.
مثال ذلك، أنهم يسمون مذهبهم بالمذهب المادي، ويعنون به أنهم يفسرون كل حادث من حوادث التاريخ بالأسباب المادية، ولكنهم يخطئون في تفسير أكبر الحوادث، كما يخطئون في تفسير أصغرها وأهونها، كلما طبقوا عليها سببا من تلك الأسباب.
فإنهم يتحدثون مثلا عن عصور الفرسان والنبلاء، ويعللون زوال هذه العصور بظهور البارود وظهور المدن التجارية، ومن يتحكمون فيها من كبار التجار وأصحاب الأموال.
قالوا: إن الفرسان كانوا يسودون الولايات لخبرتهم بفنون الحرب وأصول الفروسية، واعتصامهم بالقلاع والحصون، وإن سلطانهم قد زال بعد اختراع البارود؛ لأن البارود قد جعل استخدام السلاح هينا سهلا على عامة الناس. وقد جعل الهجوم على القلاع والحصون هينا سهلا كذلك على العامة ومن يقودهم من الأعيان والأغنياء.
وقالوا أيضا: إن انتشار المدن التجارية قد حول النفوذ إلى أيدي أصحاب الأموال والتجار الذين يعرفونهم باسم البرجوازيين، ولهذا زالت سيادة الفرسان الإقطاعيين، وقامت بعدها سيادة التجار وأصحاب الأموال، أو سيادة الطبقة البرجوازية.
ولا يخفى أن تفسير الحركة البرجوازية هو أهم المسائل في الدعوات الهدامة، لأن ظهور هذه الطبقة عندهم هو الدليل على صدق حرب الطبقات، وهو المقدمة عندهم لزوال النظام الحاضر الذي يسمونه بنظام رأس المال.
فهل صحيح أن البارود والمدن التجارية تفعل هذا الفعل في تطورات التاريخ؟
ألم يظهر البارود في الصين قبل ظهوره في القارة الأوروبية؟ ألم تظهر المطبعة نفسها في الصين قبل ظهورها في الغرب بعدة أجيال؟ ألم يكن في الصين سادة يملكون الأقاليم الواسعة من الضياع والبقاع؟ ألم تكن في الصين مدن تجارية راجت فيها التجارة من قبل عصر الميلاد؟ فلماذا لم يحدث في الصين ما حدث في القارة الأوروبية، إن صح ما يزعمون عن تفسيراتهم للتاريخ؟ ولماذا صنع البارود وصنعت المدن التجارية في الغرب ما لم تصنعه في مملكة ابن السماء .
ندع هذا وننظر في نبوءاتهم عن المستقبل، وهي في اعتقادهم حق محتوم كالنبوءات الفلكية عن اقتران الكواكب وعن الكسوف والخسوف.
فمن هذه النبوءات عن المستقبل أن البلاد التي تتقدم فيها الصناعة هي البلاد التي تسرع إلى الدعوة الماركسية قبل غيرها، ويتعرض فيها نظام رأس المال للتداعي والانهيار.
صفحة غير معروفة
فهل هذا هو الواقع المشاهد كما يدعون؟
كلا! بل الواقع المشاهد أن الماركسية ظهرت في البلاد التي تأخرت فيها الصناعة، وأن نسبة المذاهب الهدامة فيها كنسبتها في التأخر، على النقيض من تفسيرات الماديين.
فالصحيح أنه على قدر التأخر في الصناعة يكون الاندفاع إلى المذاهب الهدامة، ولهذا ظهرت في روسيا ثم في إيطاليا وإسبانيا، ثم في البلاد الصناعية الأخرى على درجات تناسب نصيبها من الصناعة الكبرى، وقد بلغت العصمة من المذاهب الهدامة أشدها في الأمم الصناعية العريقة، كما يشاهد في الولايات المتحدة والجزر البريطانية وبلاد الشمال التي أخذت من الصناعة بنصيب موفور.
وتكاد هذه القاعدة أن تطرد في آسيا كما اطردت في أوروبة وأمريكا، ومن هنا كانت الصين أقرب إلى الشيوعية من اليابان. ولم تنجح الشيوعية بين اليابانيين كما نجحت بين الصينيين الذين لم يمارسوا الصناعة الكبرى، ولم يمارسوا ما هو دونها من الصناعات.
ومن نبوءات هؤلاء القوم الذين يفخرون بالنبوءات العلمية أن العمال والصناع تنقص أجورهم، كلما تضخمت المصانع وتضاعف رأس المال، ولا يزال النقص مستمرا حتى يعز القوت على العامل، ولا يبقى عنده شيء يفقده غير السلاسل والقيود، ويومئذ يطيع من يدعونه إلى الثورة العالمية؛ لأنها تعطيه ملك العالم كله ولا تضيع عليه شيئا غير تلك السلاسل والقيود.
تلك هي النبوءة العلمية التي لا تحسب عندهم من الخرافات ولا من الأوهام، أما الواقع العملي الذي لا شك فيه، فهو أن الأجور تزداد مع تقدم الصناعة، وأن العمال يزدادون اعتمادا على الوسائل الدستورية أو البرلمانية في تحسين أحوالهم، ويزدادون نفورا من الوسائل التي تعرف بالوسائل المباشرة، أي وسائل الثورة والانقلاب.
ومن الجهل بالحقائق أن يقال: إن الثورات التي تحدث في هذا العصر دليل على صدق النبوءات الشيوعية، وأن العالم يمضي إلى الخاتمة التي تنبأ بها كارل ماركس وتلاميذه المؤمنون بما تخيله وادعاه.
فالثورات والفتن لم تنقطع في القرن التاسع عشر، ولم تنقطع في القرن الثامن عشر، ولم تنقطع في القرون الوسطى، ولم تنقطع قبل ذلك في عهد الدولة الرومانية، ولكنها كانت تحدث لأسباب كثيرة تارة لأجل العقيدة، وتارة لأجل الوطن، وتارة لتبديل حاكم بحاكم أو دولة بدولة. وكل ما تدل عليه أن هناك أسبابا كثيرة لسخط الأمم واندفاعها إلى إصلاح الحكومات.
ولعل هذا العصر الذي نحن فيه يمتاز بخاصة لم تكن شائعة في العصور الغابرة، وهي الدعوة المتوالية إلى السلام والتحكيم وتوحيد المعاملات والعلاقات. فإنها لم تعهد بهذا الإجماع في زمن قبل الزمن الحاضر، وإن كانت لا تزال في مبدئها ناقصة مختلة، ككل عمل إنساني كبير في حالة الابتداء.
والخلاصة مما تقدم أن الاشتراكية العلمية المزعومة ليست من العلم في شيء، وليست نبوءاتها ولا مقرراتها بأصدق من بشائر المخرفين والحالمين من أدعياء الإصلاح في أزمة الجهالة، وربما كانت نبوءتها الكبرى هي أكذوبتها الكبرى، كما سينجلي بعد حين، ولعله قد انجلى من اليوم لعيان الكثيرين.
صفحة غير معروفة
فالنبوءة الكبرى في عرف الماركسيين هي نبوءتهم عن اليوم الذي تزول فيه الطبقات التي تستولي على وسائل الإنتاج، ولا يبقى فيه أحد غير المعامل والعمال.
فمن اليوم قد تبين أن وسائل الإنتاج تئول شيئا فشيئا إلى أيدي خبراء الصناعة، وخبراء الاقتصاد، وخبراء الدعوة، ومن اليوم قد تبين أن إدارة المعامل وتدبير الثروة لا تئول إلى العامل الصغير بمجرد زوال رأس المال؛ بل تستولي على تلك الإدارة طبقة من ذوي الاختصاص الفني لا تستغني عنها الحكومة؛ بل ستكون هي الحكومة المتصرفة في الإنتاج، وفي المطالب المختلفة، وفي التوزيع والإشراف على طلب الخامات وتصريف المصنوعات، كما قلنا في حديث غير هذا الحديث.
وعلى نقيض ما يزعمه الماركسيون، يأتي الحاضر بتكذيب النبوءات الهدامة واحدة بعد واحدة، ولا يتقدم الزمن فترة بعد فترة إلا انهدم ركن من مذهب هدام، ولحقت به أركان لا تقوى على الثبات. •••
لو كانت المذاهب الهدامة فلسفة مقنعة لما عول أصحابها على الجهلاء الذين لا يفكرون ولا يهتدون إلى الحقائق ولو صبروا على التفكير فيها. فإن الحكم على حقائق التاريخ في أطوار الإنسانية جميعها مطلب عسير لا يقدر عليه الجهلاء الذين يجندهم الهدامون للتخريب والفتنة العمياء، ومثل هؤلاء قد انقادوا من قبل لكل ناعق، ولم يسألوه قط عن فلسفة ولا برهان مقنع، وحسبهم من الدعاة أنهم يقودونهم إلى الشر والفوضى، ويفتحون أمامهم مصرفا لما طبعوا عليه من نوازع الجهل والخراب.
وقد يتفق للهدامين أن يستجيب لهم طائفة من المتعلمين أو العلماء، فمن عرف هذه الطائفة أيقن أنها لا تخلو من أحد اثنين: فالعالم الذي يستجيب لمذاهب الهدم إما أن يكون من زمرة ممسوخة الطبائع، مطوية على الحسد والبغضاء، ممتلئة بالغرور الذي يسول لها أن تطاوع كل نقمة، وتستكثر الخير على كل إنسان، فإن لم يكن العالم المستجيب للمذاهب الهدامة من هذه الزمرة فهو مخدوع فيها يتحول عنها بعد العلم بحقائقها والاطلاع على مساوئها، كما قد تحول عنها كثير من الكتاب والحكماء الذين أقبلوا عليها مخلصين، ثم أعرضوا عنها مخلصين. •••
إن الاشتراكية العلمية إذن خرافة لا علم فيها، وقد يطول شرح هدف الاشتراكية، ويطول البحث في قواعدها ومبادئها، وفي مواطن الضعف منها، ولكن العقل الذي يعرف شيئا من العلم والفهم، لا يحتاج إلى شرح طويل ليعلم أن نظرة القوم إلى أطوار الإنسانية نظرة باطلة، وأن حكمهم على المستقبل القريب أو البعيد حكم مردود.
إنهم يدعون أن زعيمهم كارل ماركس قد فرض على المستقبل نظاما لن يختلف بعد آلاف السنين، وأنه قد أجرى حكمه على المجتمعات الإنسانية إجراء حاسما دائما، لن يقبل التبديل والتنويع، وقد تجوز على العقل الآدمي المستقيم كل خرافة من خرافات الأساطير، قبل أن تجوز عليه خرافة تزعم أن الفرد الواحد يسلط فكره على الدهور المقبلة إلى غير نهاية، فإن الغول والعنقاء لأقرب إلى العلم من هذه الدعوى التي لا علم فيها ولا تقدم، والتي يروجها دعاتها مع هذا، وهم يفخرون بأنهم هم العلميون، وهم التقدميون.
بارود لم ينفجر وطباعة لم تطبع
تواتر القول بأن اختراع المطبعة واختراع البارود قد كانا فاتحة عهد، أو نقطة تحول في تاريخ الحضارة الحديثة. وبين المطبعة والبارود مناسبة، أو مشابهة قريبة، وهي مشابهة «التعميم».
فقد أصبح الكتاب ميسورا لكل من يطلبه بعد نشر الطباعة، وقد كان قبل ذلك موقوفا على رجال الدين أو على الذين يتفرغون لنسخ الكتب ودرسها، وكلاهما يلجئ الطالب إلى تفرغ وانتظار.
صفحة غير معروفة
وقد أصبح حمل السلاح ميسورا لمئات الألوف وألوف الألوف بعد صنع الرامية البارودية، وقد كان السلاح الفعال حكرا قبل ذلك لفرسان القلاع.
ولهذا ارتبطت العلاقة بين المطبعة والبارود وبين الديمقراطية وحرية الشعوب، وصور المؤرخون هذه العلاقة على صور شتى يصح بعضها، ويحيط الخطأ الكثير ببعضها الآخر. وهو الذي نتناوله هنا بالتصحيح.
فالخطأ الكبير أن يقال إن المطبعة والبارود هما سبب التحول، أو سبب القضاء على دولة الكهانة، ودولة الفرسان.
والصواب أن يقال: إنهما أداة التحول أو علامة التحول، وإن الفكرة الإنسانية هي السبب الفعال وراء كل أداة.
فالقلعة قد انهدمت في اليوم الذي أنكر فيه الناس سلطانها، وطلبوا السلاح الذي يقاومها ويغني عنها، ومسألة السلاح واختراعه بعد ذلك، هي مسألة زمن، أو مسألة تجويد لصناعة من الصناعات المستحدثة، كما تحتاج كل صناعة إلى زمن للتجويد.
والكهانة قد انهدمت يوم أنكر الناس علمها بكل شيء، واطلاعها على كل سر، وحاجة الإنسان إليها في خلاص روحه من الهلاك، وخلاص عقله من الجهالة. ومسألة الكتب وانتشارها بعد ذلك هي مسألة الوسيلة التي ارتسمت غايتها قبل اختراع آلاتها. •••
حذار في هذه القضايا التاريخية من اثنين: أحدهما القائل الذي يحب تسيير الأقوال، وإبرام الأحكام، فهو يتخير الأعاجيب لتسير، ويفضل من الأحكام أسرعها إلى الإبرام.
وثانيهما: الخليق بأن نحذره، هو المفسر المادي للتاريخ، فإنه يرفض كل سبب يرجع إلى النفس والوجدان، حتى إذا عثر على سبب يرجع إلى مادة جامدة هلل له وكبر، وكانت صحة السبب عنده على قدر جموده وخلوه من الفكر والضمير.
أما حقيقة الأسباب التي لا شك فيها، فهي أن الفكرة الإنسانية هي الأداة وراء كل أداة، وأن الأدوات والمكنات، ما لم تكن وسيلة لفكرة إنسانية هي والحجارة المنبوذة بالعراء سواء. •••
قالوا: إن البارود هو الذي هدم القلعة، وإنه هو الذي نقل السلطان من أبطال الحصون إلى أبطال المدن التجارية.
صفحة غير معروفة
وهذه حركة قوامها عند المفسرين الماديين للتاريخ، هو براميل البارود والنبلاء وتجار المدن، ولا سيما المدن التي على البحار.
هذه هي عناصر الحركة التي نقلت الدنيا من عهد الإقطاع إلى عهد «البورجوازية»، إلى ما وراءه من العهود.
وهذه العناصر كلها كانت في الصين من عشرات القرون، البارود والنبلاء والمدن التجارية، فلم تنتقل خطوة واحدة من تلك الخطوات التي حركت الحضارة الأوروبية من أطوار القرون الوسطى إلى أطوارها في القرن العشرين.
إن بعض المؤرخين يشك في سبق أهل الصين إلى اختراع البارود؛ لأنه يربط اختراعه بالكشف الذي سجله «روجرز باكون» في معمله عند منتصف القرن الثالث عشر، ويرى أن وجود البارود يتوقف على وجود ملحه
Saltpetre ، وهو لم يكن معروفا - في زعمه - قبل روجرز باكون.
إلا أن الراجح، أن روجرز باكون نفسه قد عثر على الصيغة الكيمية في المرجع العربي، الذي أشار إليه «أومان» في تاريخ فن الحرب، فإن لم يصح هذا، فالصحيح بلا مراء أن هذا الملح يوجد على سطح الأرض في بلاد آسيا الشرقية، ومنها الهند التي يوجد بها على سطح الأرض إلى اليوم.
وندع هذا، ونرجع إلى الزمن الذي انقضى بين كشف البارود والانتفاع به في الحملات على القلاع والحصون.
لقد مضت ثلاثة قرون منذ جاء ذكر البارود في أوراق روجرز باكون، إلى أن أصبح قوة فعالة في الهجوم على المعاقل المحصنة، وقد مضت هذه القرون في تنقية الأخلاط، وضبط المقادير الصالحة لسرعة الانفجار، وتركيب هذه الأخلاط تركيبا موافقا للأدوات التي أمكن اختراعها يومئذ، سواء أكانت مما تحمله اليد، أم تجره الخيول، وكانت مشكلة الوقت الذي ينقضي بين إطلاق القذيفة، وتعبئة المدفع أو الرامية عقبة معوقة، ولم تكن من أسباب الإسراع والتغلب.
ولا شك أن المنجنيق الذي كان يقذف الحجارة على قرب قد كان أفعل من المدافع الأولى في تهديد الحصون والقلاع، بل استطاع الهوجنوت إلى أوائل القرن الثامن عشر أن يقاوموا المدفع حول الحصون بمتاريس التراب، وما إليها، فلم يكن البارود إذن هو القوة الحاسمة في تغلب نظام على نظام، ولم يكن استخدام المدفع الأول أسهل من فنون الفروسية، التي احتكرها نبلاء القرون الوسطى.
وأصح من هذا أن يقال إن البارود في أوروبة، قد أفاد في ميدان الصناعة قبل أن يفيد في ميدان القتال، لأن بدعة الأسلحة النارية حولت الأنظار إلى البحث عن الحديد والفحم، فنشطت حركة التعدين، واستفادت منها الصناعات الحديثة، مع توالي الطلب عليه حسب حاجة العصر الحديث. •••
صفحة غير معروفة
إن كان في سبق أهل الصين إلى اختراع البارود قليل من الشك، أو كثير فليس هناك قليل من الشك أو كثير في سبقهم إلى اختراع المطبعة بنوعيها، ونعني بالنوعين المطبعة الثابتة التي تطبع الصفحات دفعة واحدة، والمطبعة التي تعتمد على الحروف المنفصلة قبل تركيبها في الصفحات.
هذان النوعان من الطباعة وجدا في الصين واليابان وكورية، منذ اثني عشر قرنا أو تزيد، ولكن الطباعة بنوعيها، لم تنقل الصين من أطوارها التي كانت عليها في القرون الأولى للميلاد إلى أطوار القرن العشرين كما شهدتها البلاد الأوروبية.
فلماذا لم يحدث هذا الانتقال في الصين بفضل المطبعة، كما حدث في البلاد الأوروبية؟
لاختلاف الفكرة واختلاف الثقافة. فإن الفكرة التي اخترعت الكتابة الصينية قد جعلت لزاما على الطابع أن يستعد بمئات العلامات قبل أن يحيط بمقاطع الهجاء، فلم يكن في الطباعة تيسير، ولم يكن فيها إسراع ولا إيجاز، ولم تنفع أصحابها الذين سبقوا الغرب إلى اختراعها بعدة قرون.
أما اختلاف الثقافة، فهو ها هنا بيت القصيد.
في الغرب كانت الثقافة هي التي طلبت المطبعة؛ فوجدت المطبعة سدا لحاجة مطلوبة.
وفي الصين وجدت المطبعة، ولم تطلبها الثقافة، فوقفت المطبعة عند غايتها الأولى، وهي نقش الحرير وغيره من المنسوجات، ولم تكن المطبعة وحدها هي القوة الفعالة في توجيه الأفكار وتنبيه النفوس.
وها نحن أولاء نبصر المطابع بيننا على أحسن صنع وأحدث طراز، ونبصر كل يوم صنوفا من الكتب والمجلات والصحف تنشرها هذه المطابع، وتيسر عرضها، وتعلن القراء بظهورها، ولكنني أسعى إلى كتاب فأطلبه، وأبذل فيه ثمنه، وأمر بعشرات غيره فلا أطلبها، ولا أقبلها بغير ثمن، لأن المطبعة في الواقع هي الأداة التي تكمن وراءها الفكرة الإنسانية، وليست هي العامل الحاسم الذي يملي على الإنسان ما يقرأه، وما يحب قراءته، فضلا عما يأباه، ولا يلقي عليه نظرة، ولو كان بين يديه.
وقد قيل إن المطبعة هي التي هدمت سلطان الكهانة، ونسي هؤلاء القائلون أن سلطان الكهانة كان هو «العميل الأكبر» للمطبعة، ولا يزال حتى اليوم كذلك. فإن ملايين النسخ من الكتب الدينية لم تزل تصدر كل عام من المطابع منذ منتصف القرن الخامس عشر إلى يومنا هذا، ولو أننا أحصينا نسخ الأناجيل والشروح الدينية، وأحصينا نسخ الكتب الأدبية والعلمية لكانت مادة الدين أرجح من كل مادة منفردة في أبواب العلوم والفنون والآداب، ولو شاء قائل أن يقول إن المطبعة عززت سلطان الكهانة؛ لكان له من الإحصاء دليل لا يقل في صدقه ووفرة شواهده، عن أدلة القائلين بالهدم والتقويض.
والمطبعة هي هي في كل مكان، فما بال المطبعة في بلد تخرج للناس مليون مصحف، وتخرج في البلد الآخر مليون إنجيل؟! بل ما بال المطبعة في البلد الواحد تخرج هنا صحيفة محافظة، وتخرج إلى جانبها صحيفة حرة، وتخرج معهما صحيفة بين بين، ولا تمتد يد القارئ إلا إلى الصحيفة التي يعرفها، ويريديها، ويقبل آراءها؟!
صفحة غير معروفة
إن سبب هذا كله في رأس الإنسان وبين جوانحه، وليس مرجعه إلى حديدة كبيرة هنا، أو حديدة صغيرة هناك، أو إلى مطبعة تخرج مليونا في الساعة، ومطبعة لا تخرج غير الألوف في الساعات والأيام.
ولقد كانت المطبعة حقا «نقطة تحول» في تاريخ الحضارة الإنسانية، ولكن الإنسان هو الذي تحول؛ فحولها، وهو الذي طلب الكتاب؛ فأوجد الأداة التي تعطيه الكتاب.
وإذا كان في هذا العالم أناس ينظرون إلى العقول وهي تزدهر، وإلى النفوس وهي تتوثب، فلا يستريحون حتى يردوا ذلك كله إلى رطل من الحديد، أو حفنة من الملح المسحوق، فمن حقنا نحن أن لا نستريح كلما رأينا أداة تصنع الأعاجيب وتزودنا بسلاح المعرفة أو سلاح القوة، إلا أن نشير من وراء ذلك إلى النفس المتوثبة، والعقل الخالد والقريحة المنجبة لنا ما نريد.
قدوة غير صالحة
تعود بعض الناس أن يعطلوا عقولهم عند وزن الكلام الذي يعرض عليهم، فهم لا يزنونه بميزان النقد والعلم والخبرة الصادقة، ولكنهم يتركون حقائق الأقوال، ويغترون بمظاهر القائلين. فإن كان قائل الكلام غنيا، أو وجيها، أو صاحب نفوذ فكلامه صادق وبليغ ومقبول، وإن لم يكن كذلك فحكمته جهالة، وصدقه كذب، وإخلاصه مشكوك فيه.
لهذا جاء في المثل السائر: «انظر إلى ما قيل، لا إلى من قال.» وهي نصيحة رشيدة، إذا كان الغرض منها أن نهتم بحقائق الأقوال، ولا نجعل اهتمامنا كله مقصورا على مظاهر القائلين.
إلا أن تمحيص الكلام لا يغنينا عن تمحيص المتكلم في كثير من الأحوال، ولهذا يهتم الناس دائما بتراجم العظماء، وسير البلغاء، ليعرفوا موضع الثقة، ويتبينوا الفرق بين المخلصين وغير المخلصين في الهداية ودعوات الإصلاح. وقد أشرنا إلى ذلك في مقام آخر فقلنا: «إن الكلمة تختلف معانيها باختلاف قائليها.» وكلمة مثل قول المعري:
تعب كلها الحياة فما أعج
ب إلا من راغب في ازدياد
يؤخذ منها ما لا يؤخذ مما تسمعه في كل حين بين عامة الناس من السخط على الحياة. فإننا نثق بأن المعري مارس الأمور الجوهرية في الحياة، ودرس الشئون التي تكون بها عذبة أو مرة، ونكدا أو رغدا، ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم من أمور عرضية لا تكفي للحكم على ماهية الحياة. وقد يقول أحدهم إن الدنيا كلها شر وظلم؛ لأنه كان يطمع في عشرين قرشا، فلم يصل إلى أكثر من عشرة قروش.
صفحة غير معروفة
فنحن نعرف الكثير من دعاة الإصلاح خاصة إذا عرفنا كيف كانوا يطبقون كلامهم على أنفسهم، ونتبين الفرق بين الجدير منهم بالثقة، والجدير منهم بالشك والريبة، إذا عرفنا أمانتهم في تطبيق المذهب الذي يدعون إليه.
على هذه القاعدة نعرض في هذا الحديث لسيرة زعيم من زعماء المذاهب الهدامة؛ بل لعله أكبر زعيم من زعمائها، وهو كارل ماركس الذي تنسب إليه الشيوعية، فتسمى بالماركسية في بعض الأحيان.
كان هذا الزعيم يبني مذهبه كله على أساس واحد، وهو: «أن من لا يعمل لا يأكل» ... وبهذا المبدأ أراد في دعواه أن يبطل استغلال العاطلين للعاملين.
فإذا رجعنا إلى سيرته في حياته، فماذا نرى من دلائل الأمانة في تطبيق هذا المبدأ، الذي أراد أن يكون فيه قدوة للمقتدين؟
خلاصة الحقائق المستمدة من حياته أن الناس جميعا لو جروا على طريقته لماتوا جوعا، وأنه هو لو عاش بما كسبه من عمله لما عاش أكثر من سنة واحدة على أبعد احتمال.
في خطاب من خطابات أبيه المحفوظة يقول له: «ماذا تظن! كأننا مصنوعون من الذهب؟» وفي خطاب آخر يقول له: «لسوء الحظ أراك تؤيد بسلوكك رأيي الذي كونته عنك، وهو أنك على ما فيك من خصال حسنة - أناني تغلب الأنانية على جميع صفاتك.»
وإنما كتب أبوه إليه ما كتب في هاتين الرسالتين، لأنه كان لا ينتهي من طلب المال وإنفاقه في غير جدوى، وكان يثقل على أبيه بالطلب مع علمه باتساع أسرته، وقد كان فيها ثمانية أبناء يحتاجون إلى التربية والتعليم.
ومات أبوه فوجب أن يخلفه هو في رعاية بيته، ولكن الذي حدث هو أنه لبث إلى الرابعة والعشرين من عمره عالة على أمه وإخوته؛ فاضطرت أمه أن تكتب إليه ومعها أخته التي كانت تسمى صوفي، وقالتا له: إنه لا ينتظر بالبداهة أن يعيش «طفيليا أبديا»، وأنذرتاه بقطع المعونة عنه إذا لم يبحث له عن مورد رزق يغنيه.
في تلك الآونة كانت تصدر في بلاد الرين صحيفة تسمى «رنيش جازيت
Rhenish Gazette » وكانت تتطرف في دعوتها إلى الاشتراكية، فأنذرتها الحكومة بالإغلاق إذا هي لم تعدل عن خطتها وتخرج منها الكاتب المسئول عن سياستها، وكان شابا من أصحاب كارل ماركس اسمه روتنبرج
صفحة غير معروفة
Rutenberg . فلما سئل كارل ماركس عن رأيه في موقف الحكومة أشار بإخراج ذلك الكاتب، وقبل أن يتولى تحرير الصحيفة بعده. وتولى التحرير فعلا على خطة جديدة تنحي على الاشتراكية والاشتراكيين، وأعدادها التي كتب فيها تلك الحملات محفوظة إلى اليوم.
أغلقت الصحيفة بعد شهور من أجل مقالة تتعلق بالطلاق والزواج ولا شأن لها بالدعوة الاشتراكية، فهجر كارل ماركس بلده وذهب إلى باريس ليعلن الدعوة الاشتراكية التي كان ينحي عليها، فلم تفلح الصحيفة الجديدة، وعاد كما كان بلا عمل ولا رغبة في العمل، وظل يعيش من معونة كان يتلقاها من بعض أصهاره في هولندة، حتى انقطع هذا المورد فألقى عبأه كله على أصحابه ومريديه.
قد يخطر لأحد أن الرجل كان يترك طلب الرزق لأنه كان مشغولا بالدعوة إلى مذهبه، سواء كان مخلصا لهذا المذهب أو كان متهما في إخلاصه.
لكن الواقع أنه كان لا يطيق العمل لطلب الرزق ولا لنشر الدعوة. ففي هذه الأثناء أشفق عليه بعض رفقائه فأقنعوا لسكي
leske
بالاتفاق معه على تأليف كتاب في موضوع الاقتصاد وعلاقته بالسياسة، وهو الموضوع الذي تدور عليه دعوته الشيوعية. فتم الاتفاق في سنة 1844 وقبض كارل ماركس من ثمن الكتاب ألفا وخمسمائة فرنك، ومضت أربع عشرة سنة، ولم يظهر الكتاب. وحلت سنة 1858؛ فإذا بكارل ماركس يتفق مرة أخرى مع ناشر آخر على تأليف الكتاب. وكان الناشر الجديد هو الهر دنكر
Dunker
الذي كان ينشر رسائل الزعيم الاشتراكي لاسال فانقضت السنون، ولم يظهر الكتاب الموعود.
وضاقت موارد الرزق بالرجل لكسله وإخلافه لوعوده واتفاقاته، وكان قد انتقل إلى العاصمة الإنجليزية، وسعى بعض عارفيه لتدبير عمل له يواظب عليه، ويكسب منه قوته. فاتفق مع صحيفة نيويورك تربيون
Tribune
صفحة غير معروفة
على مقال أسبوعي أو مقالين يرسلهما إليها من العاصمة الإنجليزية، ويؤجر على كل مقال بعشرين شلنا، فلم ينشط لكتابة هذه الرسائل، واعتمد على زميله أنجيلز ليكتبها باسمه، ويساعده مع ذلك بمعونة من عنده، ولم يزل كذلك حتى انقطعت مراسلته للتربيون.
ويعتبر كتاب «رأس المال» إنجيل الشيوعية المقدس عند أتباعها. فكان من المعقول أن يفرغ نبي الشيوعية لإتمام إنجيله الذي تقوم عليه دعوته، ولكن النبي لم يكن يقترب من صفحات إنجيله إلا تحت ضغط شديد من الحاجة العاجلة الملحة. وما هو إلا أن استقل زميله أنجيلز بتجارة أبيه واستطاع أن يخصص لكارل ماركس معاشا سنويا دائما، حتى طوى النبي كتابه المقدس طي الأبد، وتركه ناقصا كما بقي حتى الآن.
هذا هو الإمام الذي خرج للناس ليبشرهم بقداسة العمل، ويبغضهم في المتبطلين الذين يعيشون عالة على غيرهم. فلو أنه عومل بالشريعة التي أراد أن يفرضها على الناس، لهلك جوعا، وأنصفته الدنيا على حد قوله: «من لا يعمل لا يأكل»، ولم يكن هو من الذين يعرفون أمانة العمل، ويتحرجون من أخذ المال بغير جزاء.
والعجب العاجب في أمر هذا الرجل الذي استباح الأجر بغير عمل، أنه خشي من منافسة الزعيم باكونين، وبحث عن سبب للتشهير به وتجريحه وحمل المؤتمر الاشتراكي على فصله، فماذا كان السبب الذي بنى عليه حملة التشهير، وطلب الفصل والتحقير؟ سبب عجيب من كارل ماركس: وهو أن باكونين قد دنس سمعة الاشتراكيين، لأنه اتفق مع ناشر في روسيا على ترجمة كتاب، ولم ينجز ترجمة ذلك الكتاب.
ونص الحملة موجود في سجلات المؤتمر، ونص الاتفاق بين ماركس وبين لسكي وبين دنكر موجود كذلك في تراجم هذا الرجل المريب.
فإذا كانت هذه الصفحة المدنسة مفتقرة إلى سواد فوق سوادها، فقد يزيدها سوادا، أن نعلم أن باكونين كان استاذا لكارل ماركس في الآراء الديمقراطية، وأن هذا الجزاء السيئ كان نصيب كل أستاذ، وكل زميل، وكل صاحب اتصلت حياته بحياة هذا الرجل. وقد مضى بنا اسم الزعيم لاسال في هذا الحديث، وعرفنا منه أنه توسط لكارل ماركس عند ناشر مؤلفاته ليساعده بنشر كتابه، فمن شاء أن يرجع إلى رسائل كارل ماركس فلينظر، كيف كان وفاؤه لهذا الفضل عليه؟ إنه كان يقول عن لاسال أنه يفكر تفكير الزنوج، وأن ملامحه تدل على وراثة زنجية، ثم يشفع ذلك بالتلميح إلى عفاف أمهاته قبل جيل!
ويستطيع من شاء أن يرجع إلى أسماء أساتذته وزملائه واحدا واحدا، فلن يجد إنسانا منهم سلم من تهمة شائنة أو وصف بغيض. ولا استثناء لغير شخص واحد هو الذي كان محتاجا إلى معونته المالية مدى الحياة، وهو فردريك أنجيلز. ومع ذلك نقرأ رسائل أنجيلز إليه فنرى كيف وصفه في إحداها بجمود العاطفة والأنانية، ونقص المروءة والشعور. •••
إن الحقائق التي لخصناها هنا عن زعيم الشيوعية بعض ما عرف عنه من هذا القبيل، وكلها مستمد من سجلات الحركة الشيوعية، التي دونها دعاتها وأنصارها، فمن كان لا يعميه غرض ولا هوى، فلا صعوبة عليه في فهم الرجل على حقيقته التي لا تحتمل المغالطة والخداع، فهو مثل في التطفل، ومثل في طوية الشر والكنود، ومن كان كذلك لا يقتدى به في شريعة العمل، ولا تفيض نفسه بخير صحيح لمن يجهلهم من بني آدم وحواء، وقد كان أقربهم إليه يلقون منه الشر في موضع الخير، ولا يجدون فيه موضعا للثقة والاقتداء.
الإصلاح والمذاهب الهدامة
كل مذهب من المذاهب الاجتماعية، فالداعون إليه يزعمون أنهم يريدون به الخير ويقصدون إلى الإصلاح.
صفحة غير معروفة
ولكن هذه الدعوى لا تصدق في جميع الأحوال؛ بل تختلف المذاهب في صلاحها حتى يأتي منها الضرر، حيث تراد المنفعة. فمنها ما يصلح كثيرا، وما يصلح قليلا، ومنها ما يعطل الإصلاح ويفسده؛ لأنه بطبيعته مناقض لطبيعة الإصلاح.
مذهب الماركسيين - فيما نعتقد - من هذه المذاهب التي تناقض الإصلاح بطبيعتها، وتعطل الحركات المصلحة أن تستقيم في وجهتها، وتضيع جهود الأمم التي ينبغي أن تتوفر، وتصان عن الضياع، وقد تعرف هذه الحقيقة بالتفصيل، وقد يكفي فيها القليل من البيان؛ لأنها لا تحتجب إلا حين تحجبها عماية الهوى ولجاجة الغرض، وهي لولا ذلك أقرب الحقائق إلى الظهور والجلاء.
فلا حاجة بالإنسان إلى البحث الطويل ليعلم أن الطب الذي يداوي جميع الأمراض بدواء واحد طب فاسد، أو ليعلم أن الطبيب الذي يعالج كل بنية بوصفة واحدة يدعي الطب ولا يصلح للتطبيب.
فإذا كان الطب طب الأمم والمجتمعات فعلامة الجهل، أو علامة التدجيل، أن يحاول الطبيب المزعوم مداواتها من جميع العلل بوصفة واحدة، وأن ينسى ذلك الطبيب أن الأمم تتفاوت في الطبائع، وتتفاوت في العلل، وتتباعد في أسباب الشكوى، كما تتباعد في أسباب البرء من شكواها، ولا يحدث في وقت من الأوقات أن تشكو كلها علة واحدة، وتصح كلها بعلاج واحد، فقد يكون الشفاء لواحدة منها مرضا لغيرها، وقد يكون النظام الذي يضرها في فترة من الزمن، هو المنفعة كل المنفعة في غير تلك الفترة.
إن الأمة من الأمم تحس شكواها فتبحث عن علتها، وقد تهتدي إلى العلة مرة، وتضل عنها مرة، وهي في اهتدائها وضلالها على السواء، تتعلم وتقترب يوما بعد يوم من العلاج المفيد.
وهكذا يكون العلاج الذي تستمده الأمة من كيانها، وتعتمد فيه على تجاربها وهداية فكرها ووجدانها، فتختار حكومة بعد حكومة، وتنشئ نظاما بعد نظام، وتشرع في التجربة، ثم تمضي فيها، أو تعدل عنها، أو تحتال على تعديلها، وبهذه المحاولات تتربى الأمم وتتقدم، وتبلغ رشدها من طريق النمو الطبيعي الذي ينمو عليه جميع الأحياء.
ماذا يصنع الماركسيون، أو الشيوعيون لأمم الأرض في هذا العصر الذي نشطوا فيه للدعوة أو للإصلاح المزعوم؟
هل تركوا الأمم تتربى وتتعلم، وتستفيد من التجربة، وتتخذ لها من ماضيها سبيلا إلى حاضرها، ومن حاضرها سبيلا إلى مستقبلها؟
كلا. لم يفعلوا ذلك، ولم يميزوا بين أمة وأمة في علل فسادها، وأسباب صلاحها، بل جعلوا الأمم كلها مريضا واحدا يتداوى بعلاج واحد، وصنعوا كما يصنع الخرافيون، الذين يدعون الناس إلى ترك دوائهم وترك أطبائهم، ويصفون لهم المعجزة التي تشفي من جميع السقام، وتبرئ من جميع الشكايات.
إن اسم الدجال هو الاسم الذي يطلقه الناس بداهة على من يتصدى للعلاج وليس لديه غير علاج واحد يصفه لمن يشكو بجوفه، ويصفه لمن يشكو بعظامه، ومن يشكو بأعصابه، أو يصفه للطفل في الرابعة وللفتى في العشرين وللشيخ في الستين والسبعين، أو يصفه للعجوز والفتاة والصبية والجارية، كما يصفه للرجال في جميع الأسنان، وعلى اختلاف الأمزجة والأجسام.
صفحة غير معروفة
إن اسم الدجال هو الاسم الوحيد الذي ينطبق على من يتعاطى الطب على هذه الوتيرة، ولكن هؤلاء الماركسيين أو الشيوعيين، ينكرون أنهم دجالون، ويؤكدون للناس أنهم هم الأطباء النطاسيون، ووصفتهم مع هذا - وصفة واحدة للصين والهند، وللعراق ومصر، ولروسيا وفرنسا، وللجزر البريطانية والولايات الأمريكية - معجزة لا معجزة مثلها في خرافات الأولين والآخرين، تشفي من الحمى والجذام، وتشفي من السل والزكام، وتشفي من الهيضة والطاعون، وتشفي من العته والجنون، وتشفي من الكسور والجراح، ومن العجز والكساح، ومن الورم والسرطان، وتصلح لكل إنسان، في كل أمة وفي كل مكان.
وآفة هذا المذهب الخبيث أنه يعطل الإصلاح، ويضلل عن طريق الصلاح، فلا يعالج الأمم من دائها، ولا يتركها تلتمس دواءها من تجاربها ومحاولاتها، ولا سبيل إلى تقدم أمة بغير هذه التجارب والمحاولات.
ولقد ظهرت عواقب هذا البلاء، وتزداد ظهورا مع الأيام والأعوام، ولكننا نتمثلها، ونتمثل مبلغها من الضرر الوخيم إذا رجعنا مع الزمن، وقدرنا أن هذه الدعوة الماركسية قد شاعت قبل خمسين سنة، أو قبل مائة سنة، فماذا تكون العاقبة اليوم؟ وأين تذهب الجهود التي أثمرت ثمراتها في هذه السنين؟ أين كانت تذهب اليقظة التي تيقظتها الصين؟ وأين كانت تذهب نهضة الحرية في الهند، وأين كانت تذهب حركات الاستقلال في أقطار المشرق والمغرب؟ وأين كانت تذهب العلوم والصناعات التي أسفرت عنها دعوات الإصلاح، كما تنوعت بين أنواع الأمم والأقوام؟
لو قال قائل للأمم قبل خمسين سنة: إن الإصلاح كله عبث ضائع، وإن الدواء كله هو الثورة العالمية التي يبشر بها الماركسيون، فأي خسارة كانت تحيق بالأمم، وأي ضياع للجهود كانت تبتلى به لو سمعت منهم ذلك النعيب، وانطلقت معهم في الهدم والتخريب؟
لا فرق بين كثير من الأمم في وقتنا هذا، وبين كثير من الأمم كما كانت قبل خمسين سنة، ولا تزال هذه الأمم في حاجة إلى التقدم بوسائلها، التي لا تتشابه بين أمة وأمة، ولا يتأتى الاعتماد فيها على شيء غير تراث الأمة في ماضيها وتجاربها في حاضرها، فإذا ابتليت إحداها بدعوة الشيوعية فسوف تعوقها خمسين سنة عن طريقها ثم تعود بعد زوال الغاشية إلى نفسها لتستأنف جهودها في طريق تعترضه الخرائب والإطلال.
وكما تعوق الماركسية إصلاح الشعوب، تتسرب إلى ضمائر الأفراد؛ فتعوق إصلاحهم، وتصرفهم حتى عن محاولة الإصلاح بالوسيلة التي تم بها كل إصلاح، وهي وسيلة الندم، ومحاسبة النفس، وعرفان الخطأ، والعمل على اجتنابه، والخلاص من جرائره ومغرياته ودواعيه.
فمن قديم الزمن، لم يعرف الإنسان سبيلا إلى إصلاح عيوبه غير محاسبة النفس، والعودة عليها باللائمة في حالة التقصير، فيندم المخطئ على خطئه، ويجتهد العاجز في استدراك نقصه، والأخلاق كلها تقوم على شعور الإنسان بمسئوليته أو إيمانه بأنه مكلف مسئول عن عمله.
أما الماركسية فهي تهدم هذا الأساس الذي لا قوام للأخلاق بغيره. وتقول للمذنبين والمقصرين إنكم جميعا أبرياء من التهمة، منزهون من الوصمة، لأن اللوم كله على المجتمع في عجز العاجز، وفساد الفاسد، وإجرام المجرم، وتقصير المقصر؛ فليس على اللص أن يعف عن مال غيره؛ لأن المجتمع كله قائم على السرقة والاستغلال، وليس العجز من عيوب الإنسان؛ لأن القادرين في المجتمع هم المتغلبون بالقوة، والفائزون بغير استحقاق، وليس الكذب عيبا، ما دامت العلاقات الاجتماعية قائمة على النفاق والاختلاق، وليست الفحشاء عارا؛ لأنها نتيجة محتومة لنظام العائلة والزواج، كلما شاعت آداب رأس المال، وليس السقوط في مراتب الاجتماع نقصا يلام عليه الساقط؛ لأن المزايا الاجتماعية غش وخداع واختلاس، وهذا وأشباهه هو الذي يقال للعجزة والساقطين، فيصرفهم عن الاجتهاد في إصلاح نفوسهم، ويفعل في ضمائرهم فعل المسكرات والسموم.
وإذا فرضنا نجاح الشيوعية يوما، فإن مقاييس الأخلاق بعد نجاحها أهبط وأدنأ من مقاييسها في إبان نشر الدعوة إليها؛ لأنها لا تعلم الناس أن يمتنعوا عن السرقة؛ عفة وأنفة من خستها، ولا تعلمهم أن يمتنعوا عن الظلم برا بالضعيف وإيمانا بمبادئ العدل والكرامة، ولا تعلمهم أن يمتنعوا عن الفساد؛ صيانة للأعراض وغيرة على الأنساب. كلا، إنها لا تعلم الناس الفضيلة بل تصور لهم المجتمع الشيوعي كأنه عالم يمتنع فيه السرقة؛ لامتناع وسائلها وعجز الناس عن ارتكابها، ويمتنع فيه الظلم لامتناع الاستغلال، وامتناع التسلط الذي ينشأ من الاستغلال، ويمتنع فيه الفساد؛ لأن المباح والمحرم يستويان في الأنظمة الشيوعية، فكل ما عند المجتمع الشيوعي من وعود الإصلاح هو تجريد اللص من السلاح، وإخلاء الصندوق من المال المطموع فيه، ولن يقوم مجتمع قط على هذه الخلائق السلبية التي لا تعترف بقوة الضمير، فليس فيه فضيلة، إلا وهي في حقيقتها رذيلة موقوفة التنفيذ.
وصلاح العقل مهدد في النظام الشيوعي كصلاح الأخلاق، لأن المطلوب فيه من العلم أن يوافق المبادئ الشيوعية، وليس المطلوب فيه من المبادئ الشيوعية أن توافق العلم، أو توافق المنطق المعترف به بين جميع الناس. وعندهم أن العلم ينبغي أن يكون علما شيوعيا، خاضعا لتفكير ماركس ولنين وستالين، وكلامهم عن ذلك صريح يعلنونه في الخطب، وينشرونه في الكتب. ومنه كلام الأستاذ فافيلوف
صفحة غير معروفة
Vavilov
رئيس مجمع العلوم في موسكو، حيث يقول من بحثه عن العلم السوفيتي في صورته الجديدة: «إن العلم السوفيتي لم يكن قصاراه أنه فرع من العلم العالمي يتخذ مكانه في الجمهوريات الروسية المتحدة. كلا، بل هو علم منعزل مختلف بطبيعته ونطاقه. ومزيته الأولى، هي أنه دون غيره يقوم على أساس فلسفي واضح، وهو الأساس الذي لا غنى عنه للبحوث العلمية، وعلمنا نحن له أساس من المادية الثنائية التي قررها ماركس وأنجلز وزكاها لينين وستالين.»
وهذا هو البيان الصريح الذي يجهر به رئيس مجمع العلوم في البلاد الشيوعية، ولا يخلو كلام للعلماء الشيوعيين أمثاله من عبارات الحزبية العلمية كحديثهم عن روح الحزب في الرياضيات والنظريات الماركسية اللنينية في الجراحة، فكل فكرة علمية أو فلسفية أو أدبية تخالف الأصول التي وضعها ماركس ولنين وستالين فهي تهمة للعالم، أو الفيلسوف، أو الأديب الذي يهتدي إليها، وشبهة على إخلاصه للحزب والمذهب والدعوة كلها في جملتها، ولم يعرف التاريخ في أظلم عصور الظلام حجرا على العقل البشري، كهذا الحجر العنيف في منتصف القرن العشرين، الذي يقال عنه إنه عصر الحرية والنور. •••
إن الحياة الإنسانية كثيرة النقائص والعيوب، وإنها لفي حاجة دائمة إلى الإصلاح والعلاج، وإن المذاهب الاجتماعية التي تدعو إلى إصلاحها لكثيرة منوعة، ولكننا نهتدي إلى شيء نافع، حين نعرف منها المذاهب التي تعالج مشاكل الناس بحكمة وتؤده، وتتجنب المذاهب الهدامة، ولا سيما المذهب الوخيم الذي يشعوذ على الأمم المختلفة بعلاج واحد، ويسقط عن الإنسان مسئولية عمله، ويحجر على العقل البشري أن يمضي في طريقه المستقيم.
الدعوات الهدامة والناشئة (1)
يستحق أن يسمى مذهبا هداما كل مذهب يقضي على جهود الإنسانية في تاريخها القديم والحديث، ولا سيما الجهود التي بذلها الإنسان للارتفاع بنفسه من الإباحية الحيوانية إلى مرتبة المخلوق، الذي يعرف حرية الفكر، وحرية الضمير.
ومذهب كارل ماركس - صاحب الدعوة التي اشتهرت باسم الاشتراكية العلمية - في مقدمة المذاهب التي تهدم ما بنته الإنسانية في تاريخها الطويل؛ لأنه يبيح لكل طبقة أن تهدم ما بنته الطبقة التي تقدمتها، كأنه لم يكن من عمل بني الإنسان.
هذه المذاهب ينتقدها المنتقدون من الوجهة العلمية، كما ينتقدونها من الوجهة التاريخية، ولولا أنها مذاهب تختلط بالغرائز والشهوات، وتسري بين الأغرار والجهلاء، لما تحملت شيئا من النقد العلمي، ولا من النقد التاريخي، لأن بطلانها أظهر من أن يحتاج إلى عناء شديد في النقد والتفنيد.
فمهما يكن نصيب الإنسان من العلم قليلا، ومهما يكن نصيبه من استقلال الفكر محدودا، فهو - لولا الغرائز والشهوات - يستطيع أن يفهم أن العلم الإنساني لن ينتهي إلى إنسان واحد كائنا ما كان، ويستطيع أن يفهم أن الرأس الذي يدعي أنه أحاط بأسرار الكون كله، ونفذ إلى حقائق التاريخ كلها، ووصل إلى النتيجة التي لا تتغير من بعده ولا يطرأ عليها تعديل ولا تبديل إلى آخر الزمان - هذا الرأس يدعي ما لا يقبله عقل عاقل، ولا يصلح لهداية الإنسانية في طريق العمار والفلاح.
وكارل ماركس لا يدعي شيئا أقل من هذه الدعوى العريضة التي لم يجترئ على ادعائها أحد من قبله؛ لأنه يزعم أن فلسفته أحاطت بأسرار المادة والحياة، وأسرار التاريخ والاجتماع، ووجب أن يدين بها الناس فلا يغيروا منها كثيرا ولا قليلا، فيما يأتي من الدهور والأجيال؛ بل وجب أن يعتمد الناس على فلسفته هذه ليهدموا عالمهم بأيديهم، كأنه معصوم من كل خطأ يدعو إلى التردد قبل هذه المجازفة، وأي مجازفة؟ إنها المجازفة بتحطيم عالم كامل، لا بمجرد تحطيم بيت أو مدينة أو وطن واحد يجمع المدن والبيوت.
صفحة غير معروفة
لا حاجة إلى الإطالة في البحث العلمي لإنكار هذه الدعوى من أساسها، فهي كلام لا يحتمل البحث الجدي، ولا يصغي إليه المرء، وهو مفيق من غمرة الشهوات والغرائز العمياء.
على أن بطلانها من ناحية الشعور لا يقل عن بطلانها من ناحية التفكير.
فعندما يخاطب كارل ماركس أتباعه ويأمرهم بتخريب المجتمعات قاطبة يقول لهم ما معناه: اخربوها فليس عندكم ما تفقدونه فيها ...؟
وما من عقل يفيق من غمرة الشهوات والغرائز العمياء، يسمع هذه الدعوة فيخطر له أنها دعوة خير وفلاح؛ لأنها حركة يأس وقنوط، ولن يتحقق رجاء العالم من وراء اليأس والقنوط، ولن يصلح العالم من لا يبالون بخرابه ولا يترددون في تحطيمه. ولن يعطي الإنسانية أملا من فقد كل أمل، وتساوى عنده التخريب والتعمير. بل أصبح التخريب أحب إلى نفسه من التعمير.
اليائس لا يفكر ولا يبالي، ولأنه لا يفكر ولا يبالي يخاطبه دعاة التخريب والتحطيم، ولا يهمه صدقوا أو كذبوا في وعودهم. فإن صدقوا فهو مخرب، وإن كذبوا فهو مخرب. وويل للإنسانية من مصير يهجم عليه من فقد العقل والرجاء.
ومن الجائز أن يوجد بين الناس من يستبيحون تخريب العالم لأنهم محرومون فيه. ولكنها إذن حركة شر لا حركة خير، ولا فرق بين هذه الحركة، وبين حركة السباع التي تنطلق من الغابات في طلب الفريسة؛ فليست هي على هذا الاعتبار عقيدة إنسانية، أو مذهبا من مذاهب الفكر التي تقنع بالدليل، وتقبل المناقشة بالبرهان. وإنما هي كارثة تمسخ الطبيعة الآدمية فترتد إلى ضراوة الوحشية، ولا تميز بين العمار والخراب.
وفي العصر الحاضر كثير من الشبان المتعلمين تروعهم حالة البؤس والفاقة التي يبتلى بها المحرومون، وهي حالة تروع النفوس الكريمة، وتحزن من يفكرون فيها، ولا يلام أحد على إنكارها ، وطلب الخلاص منها، ولم يكن بلاء الحرمان فقط موضع خلاف بين طلاب الإصلاح، وإنما الخلاف في العلاج الذي يدعو إليه طلاب الهدم والخراب. فإذا كان العلاج سما فهو شر من الداء الذي يعانيه المريض. ومن الواجب على من ينكر المرض أن ينكر السم من باب أولى.
ما من أحد يقول إن المريض غير مريض، ولكن الذي يقولونه هو أن الطبيب غير طبيب، وأن الدواء الذي يصفه سم يميت، ولا يرجى منه شفاء، وفرق عظيم بين القولين.
على أن الحلال بين، والحرام بين، وللحق علاماته وللباطل كذلك علاماته، وأبناء هذا الجيل - ممن أصابوا حظا من العلم، خليقون أن يعرفوا تلك العلامات من تجارب الإنسانية التي نسميها التاريخ، ومن بداهة الفكر التي يهتدي إليها الطبع السليم.
فلا حق ولا صلاح في مذهب يدعي علم الماضي كله، وعلم المستقبل كله، ويرسم لأبناء هذه الدنيا مستقبلا لا ينحرفون عنه ولا يتصرفون فيه أو تصرفهم فيه نواميس الكون وطبائع الأمور.
صفحة غير معروفة