وتركيا كذلك تأسف هذا الأسف، وتتجه هذا الاتجاه - وكل هؤلاء وهؤلاء يطالبون بالوفاء بوعد إنجلترا بالجلاء عند صلاح الأمور.
والحكومة الإنجليزية تلوح في البرلمان الإنجليزي من طرف خفي بالنصح لعباس أن يتبع سياسة والده في مسألة الإنجليز والتحالف معهم.
وأخذ الخديوي عباس يتصل بالشعب ويوسع نفوذه عن طريق الرحلات في المديريات، ومقابلة الأعيان، وزيارة المعاهد والمدارس، كما أخذ يميل إلى مباشرة الأعمال بنفسه بالاتصال بالمديرين، وتكليفه المختصين كتابة التقارير عن نظم التعليم والجيش ونحو ذلك، فبدأ شيء من الجفاء بينه وبين اللورد كرومر، وتسرب ذلك إلى الشعب.
عند ذلك بدأت تظهر في البلد تيارات مختلفة، وبدأت توضع بذور الأحزاب المختلفة، وبدأت تتجلى بوضوح اتجاهات الصحف المختلفة.
هذه تؤيد الحركة الوطنية وتناصر الميول الخديوية، إما عن إخلاص، وإما رغبة في الكسب، وإما خدمة للسياسة الفرنسية، وهذه تؤيد السياسة الإنجليزية، إما رغبة في الاستفادة، وإما عن عقيدة أيضا.
وظهر أثر ذلك في الجدل في المجالس والمناظرة في الصحف.
في هذا الأفق المملوء بالسحب، ظهر «عبد الله نديم»، وقد سمح له الخديوي عباس بدخول مصر، فمكث قليلا يتعرف الأحوال، ويدرس ما فاته من شئون مصر مدة غيابه، ثم صح عزمه على تحديد الغرض وإنشاء جريدة «الأستاذ» قال عنها: «إنها جريدة علمية تهذيبية فكاهية»، تصدر يوم الثلاثاء من كل أسبوع، وظهر العدد الأول منها في أول صفر سنة 1310ه-23 أغسطس سنة 1992م، يتولى هو تحريرها، ويتولى أخوه إدارتها، وقد كتب في أول عدد منها أنها لا تتعرض للسياسة العملية الإدارية؛ أما السياسة من حيث هي فن فإنها تدخل في موضوعها العلمي.
كانت أول أمرها تعد امتدادا لجريدته «التبكيت والتنكيت» من حيث موضوعها وأسلوبها، فهي تعني أكثر ما تعني بنقد العيوب الاجتماعية في المجتمع المصري، وفيها مقال أو نحو ذلك في شئون الإصلاح السياسي من وجهة عامة، ثم هي تحرر باللغة العربية الفصحى في المقالات السياسية الإصلاحية، وباللغة العامية في الموضوعات الاجتماعية.
والمطلع على ما كتبه في هذا العهد يرى أنه بعد رجوعه من مخبئه قد فوجئ بموجة من الانحلال الخلقي في البلاد. فإفراط لم يكن معهودا من قبل في شرب الخمور، وعدم اكتراث الشاربين ينقد الناقدين، وانتشار للخمارات في المدن والبلاد والقوى، وابتزاز الأروام للأموال عن طريقها - وشعور النساء بالحرية، فهن يكثرن من الخروج في الشوارع متبرجات بزينتهن، ثم الحشيش والمعاجين والإفراط فيها والاحتفاء بمجالسها. ثم استعمال كلمة الحرية وسيلة للانهماك في اللذات والشهوات؛ وأعجب من ذلك السقوط في تقليد المصري للأوربي تقليدا أعمى في لي لسانه بالقول، والتشدق باستخدامه كلمات أجنبية أثناء حديثه بالعربية، ولبس الضيق المحبوك من الثياب الإفرنجية؛ فنقد كل ذلك في أسلوب قوي جريء، واتهم الأوربيين بتشجيعهم هذه الأمور حتى يسقط الشرق وتنحل أخلاقه؛ ونقد كذلك منهاج التعليم في البلاد، وخلوها من بث الروح القومية والعصبية المصرية؛ وحث أبناء البلاد على إنشاء الجمعيات الخيرية التي تسد هذا النقص، ونحو ذلك.
وعجب مما رأى من أن كثيرا من أولي الرأي في الأمة أصابتهم الدهشة والرعب من الاحتلال، فانطووا على أنفسهم، ولزموا دورهم، فإن تكلموا في الشئون العامة فمن وراء حجاب، وتركوا الناس مبلبلة أفكارهم، مضطربة نفوسهم، لا يعرفون أين يتجهون، فدعا إلى خروج ذوي الرأي من عزلتهم؛ واختلاطهم بالرأي العام في المجامع العامة، ويخطبون فيهم، ويشرحون ما حدث وما يحدث، حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم.
نامعلوم صفحہ