17
الفرن، ويضيف إليه بعض قرط السنط، ويتخذ أقلامه من الحجناء.
18
وهو على كل ذلك صبور، يعزيه أن يجد من أهل المروءة ما يخفف كربه، ويضمد جرحه «فمحمد معبد» الحلاق «بشباس الشهداء» يؤويه في بيته، ويغمره بفضله، وينفق عليه ما يحرم منه أسرته. و«أحمد جوده» الفلاح يصاحبه في انتقالاته في الظلام الحالك، ويعرض نفسه من أجله للمخاطر.
لشد ما أتعب نفسه في استخفائه، وأتعب الناس معه ولكن ما أكثر ما أمتعهم أيضا بأحاديثه وفكاهاته، ووعظه وسمره.
وأخيرا نزل «بالجميزة» فعرفه عمدتها وكتم أمره، ولكن رجلا اسمه حسن الفرارجي - كان جنديا ثم استخدم جاسوسا - عرفه فكتب إلى السراي وإلى الداخلية، فأمرت بالقبض عليه، وذهب وكيل حكمدار الغربية ومعه قوة من الجند فالتفوا حول البلدة، وأراد «النديم» الهرب بحيله القديمة فلم يستطع، فاستسلم. وكان من حسن حظه أنهم لم ينتبهوا إلى أوراقه. وكان في بعضها هجاء شديد للخديوي توفيق لو اطلعوا عليه لتغير مجرى حياته. وكان القبض عليه في صفر سنة 1309ه. واستخفاؤه في ذي القعدة سنة 1299ه. وأرسل إلى طنطا للتحقيق معه، وكان وكيل النيابة إذا ذاك قاسم بك أمين، فأحسن معاملته، وأمر بأن ينظف مكانه في السجن، ويضاء كما يريد، وأن يمكن من شرب القهوة والدخان كما يشاء، وأمده بالمال من عنده. وكان هم التحقيق متجها إلى معرفة من آواه، وهل كانوا يعرفونه أو لا يعرفونه؟ ولكنه أنكر كل الإنكار أن يكون أحد ممن آواه يعرف حقيقته؛ ثم صدر أمر الخديوي توفيق بالعفو عنه وإبعاده عن مصر إلى أي جهة شاء؛ فاختار يافا ونزل بها، فأكرمه أهلها، واتخذ بها دارا جعلها منتدى للأدباء والعلماء، وطوف في فلسطين يشاهد آثارها، ويحج إلى مزاراتها، ويجتلي حسن طبيعتها.
ثم مات توفيق وتولى عباس، فعفا عنه، وسمح له بالعودة إلى مصر سنة 1892 فعاد وفكر طويلا فيما يفعل وأين يتجه، وتردد بين مصر والإسكندرية، وأخيرا عين اتجاهه، وقرر أن ينشئ بالقاهرة مجلة «الأستاذ» فكان صفحة جديدة في باب جهاده.
5
كانت الظروف التي تولى فيها الخديوي عباس ظروفا دقيقة، شاب ناشئ في الثامنة عشرة من عمره، دعي من (فينا) حيث يتعلم ليتولى الحكم في مصر، ومصر قد انتهت ثورتها العرابية واطمأن الإنجليز إلى احتلالها، ووضعوا أسس نظامها، وتمكنوا من وضع أيديهم على كل شأن من شئونها، وعباس الشاب لقن آراء الاستقلال والشعور بالوطنية والعزم على العمل لتسترد مصر ما فقدت، وهو يعيب على جده إسرافه، ويعيب على أبيه توفيق استسلامه، وعلى رجال المعية ضعفهم، وشباب الأمة يبلغه هذا الشعور فيجاوبه، فيتوجه الخديوي لصلاة الجمعة في المسجد الحسيني فيقابله الشعب في حماسة، «ويتقدم الطلبة وغيرهم من المحتشدين بالسكة الجديدة - نحو العربة الخديوية ويقصون جيادها ويجرونها بأنفسهم»، ويغير الخديوي رجال المعية بغيرهم ممن هم أقرب إلى نفسه ومبادئه.
وفي ذلك الوقت كانت فرنسا تشعر بخطئها في سياستها الماضية التي آلت إلى ضعف نفوذها في مصر، فأخذت تبحث عن طريقة لاسترداد بعض ما فقدت فرأت أن يكون من هذه السبل الالتفاف حول «عباس».
نامعلوم صفحہ