محمد بن عبد الوهاب (1115-1206ه، 1703-1791م)
علي باشا مبارك (1239-1311ه، 1823-1893م)
عبد الله نديم باشا (1261-1313ه، 1845-1896م)
السيد عبد الرحمن الكواكبي (1265-1320ه، 1848-1902م)
محمد بن عبد الوهاب (1115-1206ه، 1703-1791م)
علي باشا مبارك (1239-1311ه، 1823-1893م)
عبد الله نديم باشا (1261-1313ه، 1845-1896م)
السيد عبد الرحمن الكواكبي (1265-1320ه، 1848-1902م)
زعماء الإصلاح في العصر الحديث
زعماء الإصلاح في العصر الحديث
نامعلوم صفحہ
تأليف
أحمد أمين
محمد بن عبد الوهاب (1115-1206ه، 1703-1791م)
هو زعيم الفرقة التي تسمى الوهابية، وتعتنق مذهبه الحكومة الحاضرة في الحجاز.
نشأ في بلدة تسمى (العيينة) في نجد، وتعلم دروسه الأولى بها على رجال الدين من الحنابلة، وسافر إلى المدينة ليتم تعليمه، ثم طوف في كثير من بلاد العالم الإسلامي، فأقام نحو أربع سنين في البصرة، وخمس سنين في بغداد، وسنة في كردستان، وسنتين في همذان، ثم رحل إلى أصفهان ودرس هناك فلسفة الإشراف والتصوف، ثم رحل إلى «قم»، ثم عاد إلى بلده واعتكف عن الناس نحو ثمانية أشهر، ثم خرج عليهم بدعوته الجديدة.
وأهم مسألة شغلت ذهنه في درسه ورحلاته مسألة التوحيد التي هي عماد الإسلام، والتي تبلورت في «لا إله إلا الله» والتي تميز الإسلام بها عما عداه، والتي دعا إليها «محمد»
صلى الله عليه وسلم
أصدق دعوة وأحرها، فلا أصنام ولا أوثان، ولا عبادة آباء وأجداد، ولا أحبار
1
ولا نحو ذلك، ومن أجل هذا سمي هو وأتباعه أنفسهم «بالموحدين»، أما اسم الوهابية فهو اسم أطلقه عليهم خصومهم واستعمله الأوربيون، ثم جرى على الألسن.
نامعلوم صفحہ
وقد رأى أثناء إقامته في الحجاز ورحلاته إلى كثير من بلاد العالم الإسلامي؛ أن هذا التوحيد الذي هو مزية الإسلام الكبرى قد ضاع، ودخله كثير من الفساد.
فالتوحيد أساسه الاعتقاد بأن الله وحده هو خالق هذا العالم، والمسيطر عليه، وواضع قوانينه التي يسير عليها، والمشرع له، وليس في الخلق من يشاركه في خلقه ولا في حكمه، ولا من يعينه على تصريف أموره، لأنه تعالى ليس في حاجة إلى عون أحد مهما كان من المقربين إليه، هو الذي بيده الحكم وحده، وهو الذي بيده النفع والضر وحده لا شريك له، فمعنى لا إله إلا الله: ليس في الوجود ذو سلطة حقيقية تسير العالم وفقا لما وضع من قوانين إلا هو، وليس في الوجود من يستحق العبادة والتعظيم إلا هو، وهذا هو محرر القرآن:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .
إذا فما بال العالم الإسلامي اليوم يعدل عن هذا التوحيد المطلق الخالص من كل شائبة إلى أن يشرك مع الله كثيرا من خلقه؟ فهؤلاء الأولياء يحج إليهم، وتقدم لهم النذور، ويعتقد أنهم قادرون على النفع والضر. وهذه الأضرحة لا عدد لها، تقام في جميع أقطاره، يشد الناس إليها رحالهم، ويتمسحون بها، ويتذللون لها، ويطلبون منها جلب الخير لهم ودفع الشر عنهم، ففي كل بلدة ولي أو أولياء، وفي كل بلدة ضريح أو أضرحة تشرك مع الله تعالى في تصريف الأمور ودفع الأذى وجلب الخير. كان الله سلطان من سلاطين الدنيا الغاشمين، يتقرب إليه بذوي الجاه عنده وأهل الزلفى
2
لديه ويرجون في إفساد القوانين وإبطال العدل. أليس هذا كما كان يقول مشركو العرب:
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله
وقولهم:
هؤلاء شفعاؤنا عند الله .
بل وا أسفاه؟ لم يكتف المسلمون بذلك بل أشركوا مع الله حتى النبات والجماد، فهؤلاء أهل بلدة «منفوخة» باليمامة يعتقدون في نخلة هناك لها قدرة عجيبة، من قصدها من العوانس تزوجت لعامها، وهذا الغار في «الدرعية» يحج إليه الناس للتبرك، وفي كل بلدة من البلاد الإسلامية مثل هذا،؛ ففي مصر شجرة الحنفي، ونعل الكلشني، وبوابة المتولي
نامعلوم صفحہ
3
وفي كل قطر حجر وشجر. فكيف يخلص التوحيد مع كل هذه العقائد؟.
إنها تصد الناس عن الله الواحد، وتشرك معه غيره، وتسيء إلى النفوس، وتجعلها ذليلة وضيعة مخرفة، وتجردها من فكرة التوحيد، وتفقدها التسامي.
وأساس آخر يتصل بهذا التوحيد كان يفكر فيه «محمد بن عبد الوهاب»، وهو أن الله وحده هو مشرع العقائد، وهو وحده يحلل ويحرم، فليس كلام أحد حجة فن الدين إلا كلام الله وسيد المرسلين، فالله يقول:
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ، فكلام المتكلمين في العقائد وكلام الفقهاء في التحليل والتحريم ليس حجة علينا، إنما أمامنا الكتاب والسنة، وكل مستوف أدوات الاجتهاد له الحق أن يجتهد، بل عليه أن يفعل ذلك ويستخرج من الأحكام - على حسب فهمه لنصوص الكتاب وما صح من السنة - ما يؤديه إليه اجتهاده، وإقفال باب الاجتهاد كان نكبة على المسلمين؛ إذ أضاع شخصيتهم وقوتهم على الفهم والحكم، وجعلهم جامدين مقلدين يبحثون وراء جملة في كتاب أو فتوى من مقلد مثلهم، حتى انحط شأنهم وتفرقوا أحزابا يلعن بعضهم بعضا، ولا منجاة من هذا الشر إلا بإبطال هذا كله، والرجوع إلى الدين في أصوله، والاستقاء من منبعه الأول.
وهكذا شغلت ذهنه فكرة التوحيد في العقيدة مجردة من كل شريك، وفكرة التوحيد في التشريع، فلا مصدر له إلا الكتاب والسنة.
هذا هو أساس دعوة محمد بن عبد الوهاب، وعلى هذا الأساس بنيت الجزئيات.
اقتفى في دعوته وتعاليمه عالما كبيرا، ظهر في القرن السابع الهجري في عهد السلطان الناصر هو «ابن تيمية». وهو - مع أنه حنبلي - كان يقول بالاجتهاد ولو خالف الحنابلة، وكان حر التفكير في حدود الكتاب وصحيح السنة، ذلق اللسان، قوي الحجة، شجاع القلب، لا يخشى أحدا إلا الله، ولا يعبأ بسجن مظلم، ولا تعذيب مرهق، فهاجم الفقهاء والمتصوفة، ودعا إلى عدم زيارة القبور والأضرحة وهدمها، وألف في ذلك الرسائل الكثيرة، ولم يعبأ إلا بما ورد في الكتاب والسنة، وخالف إمامه أحمد بن حنبل حين أداه اجتهاده إلى ذلك.
فيظهر أن «محمد بن عبد الوهاب» عرف ابن تيمية من طريق دراسته الحنبلية، فأعجب به، وعكف على كتبه ورسائله يكتبها ويدرسها. وفي المتحف البريطاني بعض رسائل لابن تيمية مكتوبة بخط ابن عبد الوهاب، فكان ابن تيمية إمامه ومرشده وباعث تفكيره، والموحي إليه بالاجتهاد والدعوة إلى الإصلاح.
دعا مثله إلى رد البدع والتوجه بالعبادة والدعاء إلى الله وحده، لا إلى المشايخ والأولياء والأضرحة ، ولا بواسطة توسل ولا شفاعة، وزيارة القبور إن كانت فللعظة والاعتبار، لا للتوسل والاستشفاع، فهم لا يملكون شيئا بجانب الله وقوانينه الثابتة التي لا تتخلف والتي نظم الله بها كونه، فالذبح للقبور والنذور لها والاستغاثة بها والسجود عندها شرك لا يرضاه الله، وهو هدم للتوحيد - الذي جاء به الإسلام - من أساسه، ومثل ذلك تجصيص القبور
نامعلوم صفحہ
4
وبناية الأضرحة وتشييد الأبنية عليها، وكسوتها بالحرير المذهب وما إلى ذلك، فكل هذه لا يعرفها الإسلام.
فكانت دعوة ابن عبد الوهاب حربا على كل ما ابتدع بعد الإسلام الأول من عادات وتقاليد، فلا اجتماع لقراءة مولد، ولا احتفاء بزيارة قبور، ولا خروج للنساء وراء الجنازة، ولا إقامة أذكار يغنى فيها ويرقص، ولا «محمل» يتبرك به ويتمسح، ويحتفل به هذا الاحتفال الضخم، وهو ليس إلا أعوادا خشبية لا تضر ولا تنفع.
كل هذا مخالف للإسلام الصحيح يجب أن يزال، ويجب أن نعود إلى الإسلام في بساطته الأولى، وطهارته ونقائه، ووحدانيته واتصال العبد بربه من غير واسطة ولا شريك. فلا إله إلا الله معناها كل ذلك. والكتب المملوءة بالتوسلات كتب ضارة بالعقائد، كدلائل الخيرات، وما في البردة من مثل قوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
سواك عند حدوث الحادث العمم
5
وقوله:
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي
فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
نامعلوم صفحہ
وقوله:
فإن من جودك الدنيا وضرتها
ومن علومك علم اللوح والقلم
6
ونحو ذلك، أقوال فاسدة كاذبة. فلا التجاء إلا إلى الله، ولا اعتماد في الدنيا والآخرة إلا عليه.
لقد كان محمد بن عبد الوهاب ومن نحا نحوه يرون أن ضعف المسلمين اليوم وسقوط نفسيتهم ليس له سبب إلا العقيدة، فقد كانت العقيدة الإسلامية في أول عهدها صافية نقية من أي شرك، وكانت لا إله إلا الله معناها السمو بالنفس من الأحجار والأوثان وعبادة العظماء وعدم الخوف من الموت في سبيل الحق، وعدم الخوف من استنكار المنكر والأمر بالمعروف مهما تبع ذلك من عذاب، ولا قيمة للحياة إلا إذا بذلت في رفع لواء الحق ودفع الظلم، وهذا هو الفرق الوحيد بين العرب في الجاهلية والعرب في الإسلام، وبهذه العقيدة وحدها غزوا وفتحوا وحكموا. ثم ماذا؟
ثم لم يتغير شيء إلا في العقيدة، فتدنوا من سمو التوحيد إلى حضيض الشرك، فتعددت آلهتهم من حجر وشجر وأعواد خشب وقبور أولياء، وركنوا إلى ذلك في حياتهم العامة، فالزرع ينجح لرضا ولي ويخيب لغضبه، والبقرة تحيا إذا نذرت للسيد البدوي أو مثله، وتموت إذا لم تنذر، وهكذا في الأمراض والعلل والغنى والفقر! كلها لا ترجع إلى قوانين الله الطبيعية، وإنما ترجع إلى غضب الأرواح ورضاها، ومثل هذه النفوس الضعيفة التي تذل للحجر والشجر والأرواح، لا تستطيع أن تقف أمام الولاة والحكام الظالمين تأمرهم بمعروف أو تنهاهم عن منكر، فذلوا للحكام والأغنياء كما ذلوا للخشب والأحجار. وما زال كل قرن يمر تزداد معه الآلهة عددا وتزداد النفوس ذلة، حتى وصلت الحال بالأمة الإسلامية إلى فقد سيادتها، وانهيار عزتها. ولا يصلح آخر الإسلام إلا بما يصلح به أوله، فلا بد من العودة إلى الحياة الإسلامية الأولى حيث التوحيد الصحيح والعزة الحقة، ولا بد من هدم هذه البدع والخرافات باللين إن نجح، وبالقوة إن لم ينجح، والله المستعان.
لم ينظر محمد بن عبد الوهاب إلى المدينة الحديثة وموقف المسلمين منها، ولم يتجه في إصلاحه إلى الحياة المادية كما فعل معاصره محمد علي باشا، وإنما اتجه إلى العقيدة وحدها والروح وحدها، فعنده أن العقيدة والروح هما الأساس وهما القلب إن صلحا صلح كل شيء، وإن فسدا فسد كل شيء، وطبيعي أن يكون هذا هو الفرق بين رئيس الدين في نجد ورئيس الحكم في مصر.
أما بعد.. فإن التوحيد الصحيح المطلق المجرد عن شائبة كل تجسيم، المنزه عن كل تشخيص، الذي يصل العبد بربه من غير وساطة ولا وسيلة، مطلب عسير لا يستطيعه إلا الخاصة أو خاصة الخاصة. أما من عداهم فيشعرون بالتوحيد لحظات ثم سرعان ما يتدهورون، ويشوب عقيدتهم نوع من التشخيص، وأسلوب من التجسيم على نحو ما، ثم يتخذون من الصالحين وسائل وزلفى - كان ذلك في الجاهلية، وكان ذلك في الإسلام بعيد البعثة إلى الآن.
فالمؤرخون يروون أن أهل الطائف لما أسلموا كان لهم بنية على اللات،
نامعلوم صفحہ
7
فأمر النبي بهدمها، فطلبوا منه أن يترك هدمها شهرا لئلا يروعوا نساءهم وصبيانهم حتى يدخلوهم في الدين، فأبى ذلك عليهم وأرسل معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب وأمرهم بهدمها.
وفي الحديث أن العرب كانت لهم في الجاهلية شجرة تسمى «ذات أنواط» كانوا يعلقون بها سلاحهم ويعكفون حولها ويعظمونها، فسأل بعض المسلمين رسول الله يجعل لهم كذلك «ذات أنواط» فنهاهم عن ذلك.
ولما جاء عمر شعر أن بعض الناس أخذ يحن إلى العادات الجاهلية القديمة، فرآهم يأتون الشجرة التي بايع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تحتها بيعة الرضوان فيصلون عندها، فبلغ ذلك عمر فأمر بها فقطعت.
ولما رأى عمر كعب الأحبار يخلع نعله ويلمس برجليه الصخرة عند فتح بيت المقدس، قال له: «ضاهيت والله اليهود يا كعب».
وهكذا ما لبث بعض الناس حتى تراجع عن التوحيد المطلق الذي جاء به الإسلام؛ لأن التحرر من المادة بأشكالها جميعا، والإفلات من قيود الحس، والتسامي إلى الله فوق المادة وفوق الحس وفوق التشخيص، يتطلب منزلة رفيعة من السمو العقلي تعجز عنه الجماهير.
وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «إن من كان من قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك».
نامعلوم صفحہ
ثم سرعان ما اتخذ المسلمون قبور الصالحين وغير الصالحين مساجد، ولم يكن الصحابة الأولون يشدون الرجال إلى المشاهد، ثم كان ذلك، وهكذا كلما مضى زمن كثرت فيه أصناف التعظيم للقبور والأضرحة وكثير من الأشجار والجماد.
وظهر الدعاة والمصلحون على توالي العصور يحاولون أن يردوا الناس عن هذا ويرجعوهما إلى التوحيد وحده، وكلما دعا داع إلى ذلك عذب وأهين ورمي بالكفر والإلحاد كما فعل بابن تيمية، فقد ألف الرسائل في هذا الموضوع، وانتقد حال المسلمين في استغاثتهم بالقبور ورحيلهم إليها، وطوافهم بالصخرة في بيت المقدس، ورحيلهم إلى مشهد الخليل ومشاهد عسقلان، وتعظيمهم حتى بعض آثار النصرانية فعذب وسجن، وأتى بعده بقرون محمد بن عبد الوهاب هذا، فدعا مثل هذه الدعوة فرمى بالكفر. وأخيرا جاء الشيخ محمد عبده فدعا إلى العدول عن التوسل والشفاعة والزيارة للقبور، وملأ دروسه في التفسير بمثل هذه الدعوة، فلقي من أهل زمنه ما لم يغب عن أذهاننا بعد.
هذا هو جوهر الدعوة التي دعا بها محمد بن عبد الوهاب، فماذا كان شأنها ومصيرها؟
1
كانت جزيرة العرب عندما دعا محمد بن عبد الوهاب دعوته - التي شرحناها فيما مضى - أشبه شيء بحالتها في الجاهلية، كل قبيلة تسكن موضعا يرأسها أمير منها. هذا أمير في الإحساء، وهذا أمير في العسير، وهؤلاء أمراء في نجد إلخ، ولا علاقة بين الأمير والأمير إلا علاقة الخصومة غالبا. ثم تتوزعها - أيضا - الخصومة بين البدو والحضر، فمن قدر من البدو على خطف شيء من الحضر فعل، ومن قدر من الحضر على التنكيل ببدو فعل، والطرق غير مأمونة، والسلب والنهب على أشدهما، وسلطة الخلافة في الأستانة تكاد تكون سلطة اسمية، ومظهرها تعيين الأشراف في مكة وإمدادهم ببعض الجنود وكفى.
لقد بدأ «محمد بن عبد الوهاب» يدعو دعوته - التي ذكرناها - في لين ورفق بين قومه، ثم أخذ يرسل الدعوة لأمراء الحجاز والعلماء والأقطار الأخرى، حاثا لهم على استنهاض الهمم في مكافحة البدع والرجوع إلى الإسلام الصحيح.
كم من المصلحين دعوا مثل هذه الدعوة، ولكنها مرت بسلام، وإن شابها شيء فسجن الداعي أو التشهير به ورميه بالكفر أو الزندقة، ثم ينتهي الأمر ويعود الناس سيرتهم الأولى، بل نرى من قام بمثل هذه الدعوة - فعلا - في المغرب كالشيخ أبي العباس التيجاني، فقد أمر بترك البدع ونهى عن زيارة القبور، وكثرت أتباعه حتى بلغت مئات الألوف، ولكن لم يلفت الناس والحكام أمره كما لفتهم محمد بن عبد الوهاب، وكذلك الشيخ محمد عبده دعا مثل هذه الدعوة، فأجابه بعضهم ، وأنكر عليهم بعضهم، ثم أسدل الستار. فما السبب في نجاح الدعوة الوهابية دون الأخرى؟
السبب في هذا ما أحاط بالدعوة الوهابية من ظروف لم تتهيئ لغيرها.
فقد اضطهد في بلده العيينة، واضطر أن يخرج منها إلى الدرعية مقر آل سعود، وهناك عرض دعوته على أميرها محمد بن سعود فقبلها، وتعاهدا على الدفاع عن الدين الصحيح ومحاربة البدع، ونشر الدعوة في جميع جزيرة العرب باللسان عند من يقبلها، وبالسيف عند من لم يقبلها، وإذ ذاك دخلت الدعوة في دور خطير، وهو اجتماع السيف واللسان، وزاد الأمر خطورة نجاح الدعوة شيئا فشيئا، ودخول الناس أفواجا فيها، وإخضاع بعض الأمراء بالقوة لحكمها، وكلما دخلوا بلدة أزالوا البدع وأقاموا تعاليمهم، حتى هددت الحركة كل جزيرة العرب، ولما مات الأمير ومات الشيخ تعاقد أبناء الأمير وأبناء الشيخ على أن يسيروا سيرة أبويهم في نصرة الدعوة متكاتفين، وظلوا يعملون حتى غلبوا على مكة والمدينة.
وشعرت الدولة العثمانية بالخطر يهددها بخروج الحجاز من يدها، وهو موطن الحرمين الشريفين اللذين يجعلان لها مركزا إسلاميا ممتازا، تفقد الكثير منه إذا فقدتهما.
نامعلوم صفحہ
فأرسل السلطان محمود إلى محمد علي باشا في مصر أن يسير جيوشه لمقاتلة الوهابيين، وكما أرسلت الجيوش لمقاتلتهم أرسلت الدعاية من جميع الأقطار الإسلامية للنيل من هذه الدعوة وتكفير مبتدعيها. وحمل علماء المسلمين عليها حملات منكرة وألفت الكتب الكثيرة في التخويف منها والتشنيع عليها.
وهكذا حدثت الحرب بالسيف والحرب بالكلام، كل هذا خدم الدعوة الوهابية بلفت الأنظار إليها ودورانها على كل لسان، وزاد في شأنها أن الوهابيين انتصروا على حملة محمد علي باشا الأولى بقيادة الأمير طوسون.
ثم أعد محمد علي باشا العدة القوية الكبيرة، وسار بنفسه وحاربهم بخير سلاحه، فانتصر عليهم، وأتم النصر ابنه إبراهيم باشا، وانهزمت قوة الوهابيين.
ولكن بقيت الدعوة إلى أن هيئ لها في العهد الحاضر المملكة السعودية الحاضرة في تاريخ طويل لا يعنينا هنا، وإنما يهمنا الدعوة وما تم لها.
إن الدعاية التي أحكمت ضدها، وتعلق الناس بالدولة العثمانية، وميلهم الشديد أن تظل بلادها وحدة لا ينفصل عنها جزء، جعلت عامة المسلمين في أقطار العالم الإسلامي يفرحون بهزيمة الوهابية. ولو لم يفهموا جوهر دعوتها، وشيء آخر كان كبير الأثر في تنفير عامة المسلمين من هذه الحركة، وهو أنها حيث استولت على بلد نفذت تعاليمها بالقوة ولم تنتظرها حتى يؤمن الناس بدعوتها، فلما دخلوا مكة هدموا كثير من القباب الأثرية، كقبة السيدة خديجة، وقبة مولد النبي
صلى الله عليه وسلم ، ومولد أبي بكر وعلي، ولما دخلوا المدينة رفعوا بعض الحلي والزينة التي كانت على قبر الرسول، فهذه كلها أثارت غضب كثير من الناس وجرحت عواطفهم، فمنهم من حزن على ضياع معالم التاريخ، ومنهم من حزن على الفن الإسلامي، ومنهم من حزن لأن مقبرة الرسول
صلى الله عليه وسلم
وفخامتها مظهر للعاطفة الإسلامية وقوة الدولة، وهكذا اختلفت الأسباب واشتركوا في الغضب. والوهابيون لم يعبثوا إلا بإزالة البدع والرجوع بالدين إلى أصله.
وقد اهتموا بالناحية الدينية وتقوية العقيدة وبالناحية الخلقية مما صورها الدين، ولذلك حيث سادوا قلت السرقة والفجور وشرب الخمور وأمن الطريق وما إلى ذلك، ولكنهم لم يمسوا الحياة العقلية، ولم يعملوا على ترقيتها إلا في دائرة التعليم الديني. ولم ينظروا إلى مشاكل المدنية الحاضرة ومطالبها. وكان كثير منهم يرون أنا ما عدا قطرهم من الأقطار الإسلامية التي تنشر فيها البدع ليست ممالك إسلامية، وأن دارهم دار جهاد، فلما تولت حكومة ابن سعود الحاضرة كان لا بد أن تواجه هذه الظروف، وتقف أمام منطق الحوادث. ورأت نفسها أمام قوتين قويتين لا معدى
8
نامعلوم صفحہ
لها عن مسايرتهما، قوة رجال الدين في نجد المتمسكين أشد التمسك بتعاليم ابن عبد الوهاب والمتشددين أمام كل جديد، فكانوا يروا أن التلغراف السلكي واللاسلكي والسيارات والعجلات من البدع التي لا يرضى عنها الدين، وقوة التيار المدني الذي يتطلب نظام الحكم فيه كثيرا من وسائل المدنية الحديثة كما يتطلب المصانعة والمداراة، فاختطت لنفسها طريقا وسطا شاقا بين القوتين، فقد عدلت نظرها إلى الأقطار الإسلامية الأخرى وعدتهم مسلمين، وبدأت تنشر التعليم المدني بجانب التعليم الديني، وتنظيم الإدارة الحكومية على شيء من النمط الحديث، وتسمح للسيارات والطيارات واللاسلكي بدخول البلاد واستعمالها وما إلى ذلك، وما أشقه عملا، التوفيق بين علماء نجد ومقتضيات الزمن، وبين طبائع البادية ومطالب الحضارة.
لم تقتصر الدعوة الوهابية على الحجاز والجزيرة العربية، بل تعدتها إلى غيرها من كثير من الأقطار الإسلامية، وكان موسم الحج ميدانا صالحا وفرصة سانحة لعرض الدعوة على أكابر الحجاج واستمالتهم إلى قبولها. فإذا عادوا إلى بلادهم دعوا إليها. فنرى في زنجبار طائفة كبيرة من المسلمين يعتنقون هذا المذهب، ويدعون إلى ترك البدع، وعدم التقرب بالأولياء.
وقام في الهند زعيم وهابي اسمه السيد أحمد. حج سنة 1822م. وهناك آمن بالمذهب الوهابي، وعاد إلى بلاده، فنشر هذه الدعوة في بنجاب وأنشأ بها شبه دولة وهابية، وأخذ سلطانها يمتد حتى هدد شمال الهند، وأقام حربا عوانا
9
على البدع والخرافات، وهاجم الوعاظ ورجال الدين هناك. وأعلن الجهاد ضد من لم يعتنق مذهبه ويقبل دعوته، وأن الهند دار حرب، ولقيت الحكومة الإنجليزية متاعب كثيرة شاقة من أتباعه، حتى استطاعت إخضاعهم.
وكذلك حضر الإمام السنوسي مكة حاجا، وسمع الدعوة الوهابية واعتنقها، وعاد إلى الجزائر يبشر بها، ويؤسس طريقته الخاصة في بلاد المغرب كما سيأتي بيانه.
وفي اليمن ظهر أعلم علمائه، وإمام أئمته وهو الإمام الشوكاني المولود سنة 1172ه. فسار على هذا النهج نفسه، وإن لم يتلقه عن ابن عبد الوهاب، وألف كتابه القيم «نيل الأوطار» شارحا فيه كتاب ابن تيمية «منتقى الأخبار»، عارضا الأحاديث النبوية، مجتهدا في فهمها، وفي استنباط الأحكام الشرعية منها ولو خالف المذاهب الأربعة كلها، وحارب التقليد ودعا إلى الاجتهاد، وثارت من أجل ذلك حرب كلامية شعواء
10
بينه وبين علماء زمنه، كان أشدها في صنعاء. وألف في ذلك رسالة سماها «القول المفيد في حكم التقليد»، ودعا في قوة إلى عدم زيارة القبور والتوسل بها، فقال في نيل الأوطار
11 : «وكم سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، (منها) اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج وملجأ لنجح المطالب، وسألوا منها ما يسأل العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال وتمسحوا بها واستغاثوا. وبالجملة فإنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون. «ومع هذا النكر الشنيع والكفر الفظيع، لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف، لا عالما ولا متعلما، ولا أميرا ولا وزيرا ولا ملكا، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من قبل خصمه حلف بالله فاجرا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني تلعثم وتلكأ، وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على شركهم، قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى ثاني اثنين وثالث وثلاثة. «فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك المبين؟».
نامعلوم صفحہ
وقد مات الإمام الشوكاني سنة 1250 بعد أن أبلى في هذا بلاء عظيما، وخلف تلاميذ كثيرين يدينون برأيه.
وفي مصر شب الشيخ محمد عبده فرأى تعاليم ابن عبد الوهاب تملأ الجو، فرجع إلى هذه التعاليم في أصولها من عهد الرسول إلى عهد ابن تيمية، إلى عهد ابن عبد الوهاب، وكان أكبر أمله أن يقوم في حياته للمسلمين بعمل صالح، فأداه اجتهاده وبحثه إلى هذين الأساسين اللذين بني عليهما محمد بن عبد الوهاب تعاليمه، وهما: (1) محاربة البدع وما دخل على العقيدة الإسلامية من فساد بإشراك الأولياء والقبور والأضرحة مع الله تعالى، و(2) فتح باب الاجتهاد الذي أغلقه ضعاف العقول من المقلدين، وجرد نفسه لخدمة هذين الغرضين، ولكنه امتاز بميزة كبرى عمن عداه، وهي ثقافته الواسعة الدينية والدنيوية، ومعرفته بشئون الدنيا وأسسها وتياراتها، وذلك بتربيته الدينية الأولى المستمرة، ورحلاته إلى أوربا يخالط علماءها وفلاسفتها وساستها. فلما تعرض لمثل ما تعرض له ابن عبد الوهاب فلسف الدعوة وركزها على أسس نفسية واجتماعية، كما شارك في تركيزها على الأسس الدينية، ففي دروسه في التفسير التي كان يلقيها في الرواق العباسي بالأزهر، كان ينتهز كل إشارة لآية ولو من بعيد تندد بالشرك فيفيض في الحملة على عبادة الصالحين، وزيارة القبور والشفاعة والتوسل وما إلى ذلك. فيطيل الوقوف - مثلا - عند قوله تعالى:
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب
فيقسم الشيخ الأنداد إلى قسمين: هؤلاء الشفعاء الذين اتخذتهم الناس وسيلة للقرب من الله يستقصونهم في الحوائج، وهؤلاء الذين يقلدون في الدين يتخذ قولهم شرعا من غير حجة ولا برهان. وتظهر فلسفته للمذهب في بيان الأضرار النفسية من هذه العقائد، فهي تورث الذل وتخضع الناس للحكام الظالمين، تحط النفوس إلى الدرك الأسفل، ثم هي تضر اجتماعيا باعتماد الناس على هؤلاء الأولياء بتركهم القوانين الطبيعية التي جعلها الله أسبابا لا بد منها لحصول المسبب، فالزراعة إنما تنجح بالحرث والتسميد والبذر والسقي، لا بالاستغاثة بولي، والحرب إنما تكسب باتخاذ سلاح مجهز على آخر طراز كسلاح العدو، وإعداد العدة الكاملة كما يفعل العدو، لا بالاستعانة بأهل القبور، وفضيلة المسلم أن يستعين بعد ذلك كله بالله وحده، يطلب منه أن يثبت قلبه، ويلهمه التوفيق. وهكذا كان يفيض في هذين الأساسين مفندا آراء من يقول بالتوسل والشفاعة والتقليد.
وينتهز فرصة وجود جماعة من العلماء عنده في يوم مولد النبي، ودعوته للعشاء عند أحد المحتفلين، فيبين لهم أن هذه الموالد كلها منكرات، ويتمنى لو أنفق ما يصرف في الموالد على تعليم الفقراء، ويناظرهم في ذلك مناظرة تنتهي بانصراف العلماء إلى العشاء في المولد، وامتناع الشيخ وحده.
ويضع الشيخ تفسيرا لجزء «عم» للناشئة فيلتمس كل وسيلة للحملة على كل ما يشوب التوحيد من شرك بعبادة المشايخ والقبور والأضرحة والتخريف، راجيا أن ينشأ الشباب نشأة دينية صحيحة خيرا مما عليه آباؤهم - وأعانه في هذه السبيل تلميذه وصديقه السيد محمد رشيد رضا في مجلة المنار، فقد ملأها كذلك بمثل هذه الدعوة ومثل هذه الحجج، يسمع بها المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية.
وفي تركيا قامت الحكومة التركية الكمالية بمحاربة هذه البدع والخرافات، فأغلقت التكايا وكانت عش التدجيل، وطاردت المشايخ، واضطهدت المهرجين، ولكن الفرق بين هذه الحركة وما قبلها أن كل الحركات السابقة كانت مؤسسة على الدين والإصلاح الديني، والرجوع إلى الأصول الدينية، أما هذه الحركة فمؤسسة على العقل المطلق، وفكرة الإصلاح الاجتماعي من غير أن يكون الدافع إليها الرغبة في الإصلاح الديني.
وأخيرا وقد مضى على هذه الدعوة الإصلاحية من عهد محمد بن عبد الوهاب إلى الآن عشرات السنين، واشترك في تنظيم الغزوة عشرات من الأبطال، فماذا كانت النتيجة؟
ظلت عامة المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية - كما هم - من حيث الالتجاء في قضاء الحوائج إلى المشايخ والقبور والأضرحة، وظلت على عادتها في الاحتفال بالموالد ونحوها وإن قل بهاؤها ورونقها، وإنما تأثر بهذه الدعوة الخاصة أو خاصة الخاصة. كما تأثر بها ناشئة الشباب المثقفين بحكم ثقافتهم ونمو عقليتهم، فلم يلجأوا إلى المزارات والمشايخ كما كان يلجأ آباؤهم، ولكن أخشى أن يكون كثير منهم لا يلجأ إلى الله أيضا كما كان يلجأ آباؤهم.
والآن ننتقل إلى نوع آخر من الإصلاح كان مظهره مدحت باشا في تركيا.
نامعلوم صفحہ
علي باشا مبارك (1239-1311ه، 1823-1893م)
«برنبال» الجديدة قرية صغيرة كسائر قرى الفلاحين بمصر تابعة لمركز (دكرنس) من مديرية (الدقهلية) تقع على البحر الصغير، بها أربع حارات، ومرافقها الاجتماعية. مسجد للصلاة، وكتاب لتعليم القرآن، ودكان لعطار، ومعملان لتفريخ الدجاج، وأربعة أنوال يدوية لنسيج الصوف، ودكانان لصبغ الثياب البيضاء صبغة زرقاء، وضريحان لوليين يستشفي بهما الأهالي لقضاء الحوائج، وأربعة مضايف لكل حارة مضيفة، تقام فيها مآتم الحارة وأفراحها واحتفالاتها في الأعياد والمواسم، وباعة صغار لبيع الخضر وما إليها، وبعض صناع يقومون بصناعة ساذجة كنجار للسواقي ونوتي للمراكب تجري في البحر الصغير ، وفي الجهة القبلية منها جبانة لدفن الموتى، وحولها الأراضي الزراعية ليس فيها من الأشجار إلا نخلتان.
يسكن حارة من حاراتها أسرة تتكون من نحو مائتي شخص يعيش أفرادها كسائر الفلاحين ببهائمهم ودواجنهم وأدواتهم الزراعية، وعلى رأسهم الشيخ مبارك، وكان يقوم بكل الشئون الدينية في القرية، فهو إمام مسجدها وخطيبه وهو (مأذونها) يعقد عقود زواجها، ويسجل صيغ طلاقها، ويستفتي في المسائل الدينية تعرض لأهلها، ورث ذلك عن أبيه وجده حتى سميت الأسرة بأسرة (المشايخ) وتزوج الشيخ أكثر من زوجة، رزق منهن أولادا كثيرين، إحداهن رزقت سبع بنات واحدا سماه عليا، وكلهم يعيش على الدخل التافه والرزق القليل.
في هذه البيئة ولد علي مبارك، ووقعت عينه أول ما وقعت على هذه المشاهد الطبيعية والاجتماعية. ولعله يوم ولد بشر به أبوه وسلم له في يده ليبارك عليه وأذن في أذنه أمل فيه أن يكون حلقة في سلسلة (المشايخ) يرث الإمامة والخطابة والإفتاء لأهل القرية عن أبيه، كما ورثها أبوه عن جده وما ورثها جده الأدنى عن جده الأعلى. ولو جرت الأمور مجراها المألوف لكان هذا، فما ظنك بطفل فقير من أسرة فقيرة في (برنبال) البعيدة عن مراكز المدينة والحضارة إلا أن يسعده الحظ فيكون إمام مسجد؟! ولكن للقدر شئونه ولله تصرفه.
على هذا المنهج أرسله والده إلى كتاب (برنبال) وفقيهه إذ ذاك رجل أعمى شديد عنيف، وافق اسمه مسماه، فكان يسمى أبا عسر، كان له الفضل في أن يكره (عليا) في التعليم والحفظ.
وشاء الله أن تنكب هذه الأسرة جميعها بما كانت تنكب به أسر كثيرة في البلاد إذ ذاك، فكثيرا ما كان يهمل الفلاحون زراعة أرضهم شعورا منهم بأن غلتهم ليست لهم، وإنما هي مطمع الحكام: يطمع الحاكم الأعلى في الحاكم الأدنى ويطمع الحاكم الأدنى فيمن دونه، وهكذا حتى يصل إلى الفلاح، فإذا عجزت غلة الأرض عن أداء الضريبة أخذت الأرض منه وأعطيت لغيره، وكان هذا العطاء مصيبة كبرى على من يعطى لشعوره بأنه يمط ليسخر، يسخر في الأرض وزراعتها لتكون غلتها لغيره، ولذلك كانوا يعبرون عن إعطاء هذه الأرض تعبيرا صحيحا صادقا؛ إذ يقولون (رميت عليه الأرض) وهذا ما أصاب أسرة الشيخ مبارك ، فقد رميت عليها أرض، فلما جاء المصلحون يحصلون الضرائب لم تكف الزراعة فباعوا بهائمهم وأثاث منازلهم، ثم رأوا أن لا بد بعد ذلك أن يهجروا البلد وتنقل الشيخ مبارك وأسرته في البلاد إلى أن نزل على عرب في (الشرقية) يسكنون الخيام، يسمون عرب (السماعنة) فأقاموا له خيمة مثل خيامهم، ورأوا فيه ما يسد مطالبهم الدينية، فكان مرجعهم في الفتيا وإمامهم في الصلاة، كما كان في بلدته (برنبال). فلما استقر به الحال فرغ للتفكير في تعليم علي، فأرسله إلى كتاب في قرية قريبة من الخيام، ولكن لم يكن يتيسر له أن يذهب كل يوم إلى الكتاب ويعود فكان يسكن مع سيدنا ويزور أباه مرة كل يوم جمعة. ولم يكن حال هذا الفقيه خيرا من حال (أبي العسر) وإن كان اسمه (أبا الخضر) فكان علي يجتهد في إرشائه بما يستطيع أن يحمله إليه كل أسبوع ليخفف عنه. فلما توالى عليه العنف كره الكتاب بتاتا بعد أن كان قد حفظ القرآن.
هنا حدثت الأزمة، فعلي لا يريد الكتاب بتاتا. وماذا لقي منه إلا الضرب؟ ثم ماذا يكون مصيره لو نجح في الكتاب؟ أليس إلا أن يكون كأبيه إمام مسجد ومفتي قرية؟ وهذا مطلب لا يقنعه ولا يرضيه، وأبوه مصمم على الكتاب. واصطدمت الإرادتان فغلبت إرادة علي.
ولكن أفهمه أبوه وأخوته أنه لابد أن يتعلم شيئا ما، وكان إذ ذاك في البلاد طبقة من الكتاب الصغار يكتبون للناس في مطالبهم وأغراضهم أو يمسحون
1
الأرض لهم، ففضل أن يكون صبيا لأحد هؤلاء ورضى أبوه بهذا الحل، فهو يلتحق تلميذا لكاتب من هؤلاء ويتنقل بينهم ولم يكن حظه معهم خيرا من حظه في الكتاب، فالضرب هو الضرب والبؤس هو البؤس. ومنهم من يأجره أجرا قليلا، ثم يأكل عليه أجره، ومنهم من يسأله: كم الواحد في الواحد؟ فيقول: اثنان. فيرميه بأداة أمامه على رأسه فيشجه . فهذه أيضا حالة لا تنفع. فيهرب من أمه وأبيه لضغطهما عليه في العمل بما لا يرضيه ويهيم على وجهه متنقلا في البلاد ، وأبوه يلاحقه، ويتعرض أثناء ذلك للإصابة بالكوليرا أحيانا وللسجن بسبب وشاية أحيانا. وأخيرا شاء القدر أن يسعى له السجان ليكون كاتبا صغيرا عند مأمور كبير، وشفع له في ذلك حسن خلقه وجودة خطه، كان هذا الموظف الكبير «عنبر أفندي» مأمور زراعة القطن بأبي كبير، فلما وقع عليه نظر علي مبارك وقع في حيرة شديدة، إذ رآه أسود حبشيا، وعهده بالحاكم أن يكون أبيض تركيا، فما الذي أهله لهذا المنصب الكبير. وكبار الناس يخضعون له ويمتثلون أمره ويجلون قدره؟ وإذا كان هذا الأسود قد بلغ هذا القدر.. فلم لا أبلغه وأنا على الأقل وسط بين الحبشي والتركي؟ ولكن ما السر في بلوغ هذا الأسود هذا المنصب؟ لغز صعب عليه حله، وكلما سأل عنه أحدا أجابه إجابة لا تقنعه، وقد سأل أباه يوما - بعد أن رضى عنه - عن السبب في ذلك، فأجابه بالقضاء والقدر، وأن الله إذا أراد شيئا فلا راد لمشيئته، وقد شاء أن يكون هذا العبد الأسود حاكما مطاعا فكان، ولكن هذا أيضا لم يقنعه.
نامعلوم صفحہ
وأخيرا أخذ يتحرى السبب من خدم المأمور، نعرف أن هذا العبد كان مملوكا لسيدة من كبرى السيدات، وقد أدخلته مدرسة قصر العيني فتعلم فيها الخط والحساب واللغة التركية وغير ذلك، وأن هذه المدرسة تخرج الحكام - إذ ذاك - وضع يده على سر الأمر، فهناك مدرسة لتخريج الحكام وهي لا تقيد بالأتراك، فقد كان هذا العبد الأسود تلميذا فيها، فإذا استطاع أن يصل إلى الدخول في هذه المدرسة أصبح حاكما كعنبر أفندي. ولكن كيف السبيل؟ - أصبحت هذه المدرسة شغله الشاغل، وهمه بالليل والنهار، وسؤاله المتكرر ممن يأنس منهم المعرفة - أين مدرسة قصر العيني؟ وما هو الطريق إليها؟ وما المسافة بين كل مرحلة وأخرى؟ وكيف يأخذون التلاميذ لها؟ وهكذا، ثم يكتب كل هذا في ورقة معه، وقد صمم على أن يحتال للدخول في هذه المدرسة بأية وسيلة.
وكان أهم ما عرفه عن هذه المدرسة أن مفتشا يمر على مكاتب القرى من حين إلى حين يختار أنجب التلاميذ وأذكاهم ، فيلحقهم بمدرسة قصر العيني.
هذا هو علي مبارك يترك العمل عند عنبر أفندي ويلتحق بكتاب ينتظر المفتش، ويحاول أبوه مرارا أن يصده عن ذلك فلا يفلح، ثم إذا بالمفتش يحضر ويختار علي مبارك فيمن يختارهم. وإذا هو تلميذ بمدرسة قصر العيني يمني نفسه الأماني في أنه سيكون حاكما كعنبر أفندي، وعمره إذا ذاك نحو اثنتي عشرة سنة كانت حافلة بالمغامرات الغريبة، والمفاجآت العجيبة، والصبر على البؤس والفقر والغربة.
دخل علي مبارك مدرسة قصر العيني، ولكنه سرعان ما شعر بخيبة الأمل، فلم يجد المدرسة هي الجنة التي وعد المتقون، وإنما هي النار التي يشقى بها المجرمون، وكانت المدارس المدنية إذ ذاك في أول العهد بها، لم يستقر أمرها ولم تنظم شئونها، فلم تعجبه في علمها، إذا لم يجد هندسة ولا حسابا كما قيل له، وإنما كان أكثر الوقت يصرف على تعليم المشي العسكري، ولم يجد أكلا يرضيه - وهو الفقير القنوع - فكان يفضل عليه الجبن والزيتون يشتريهما من ماله الخاص، ولم يجد نظافة يطمئن إليها، فنومه على حصير قذر، يلتحف ليلة بنسيج من الصوف الغليظ حتى أصيب بالجرب وبكثير من الأمراض. وإذ ذاك تبخرت كل آماله، وزاره أبوه في مرضه، وحاول أن يسرقه، وفكر هو أيضا في أن يفر معه، وما منعه إلا ما سمعه من أن من فر قبض عليه وعذب هو وأهله عذابا شديدا، فسلم الأمر لله واستمر في المدرسة، ثم من الله عليه فنقل إلى مدرسة الهندسة بأبي زعبل لتخلى مدرسة قصر العيني لتعليم الطب.
وكانت المدرسة الجديدة خيرا من القديمة، ففيها علم كثير يرضي نهمه،
2
ولكنه يقع في مشكلة عويصة، فعقله لا يستسيغ الهندسة ولا النحو بتاتا، ويسمع للمدرس كأنه يسمع تعاويذ سحرية لا يفقه لها معنى، ثم تبين أن المشكلة مشكلة المعلم لا مشكلة التلميذ، فكانت في نفسه عقدة منعته من فهم الهندسة؛ إذ سمعهم يسمون مثلثا أ ب ج وآخر ح د ه، فاختلط عليه الأمر، ولم يدر لم سمي هذا المثلث بهذا الاسم دون ذاك ، حتى رزق بمعلم حسن التدريس، جمع التلاميذ المتخلفين في فصل، وشرح لهم الهندسة من أولها شرحا جليا واضحا، وأبان أن هذه التسمية للمثلثات وسائر الأشكال ليست إلا مواضعات
3
للشرح والتفسير، فالمثلث ا ب ج أو ح د ه أو أي حروف كانت ليست إلا أسماء اصطلاحية يسمى بها الشكل، فانحلت عقدة علي مبارك، وتفوق على سائر التلاميذ في الهندسة، وكان أول فرقته دائما. ولم يرزق في النحو ما رزق في الهندسة، فظل معمي عليه.
ثم اختاروا من مدرسة أبي زعبل خير التلاميذ وأدخلوهم مدرسة المهندسخانة ببولاق، فكان علي مبارك أحدهم، درس فيها كل فروع الهندسة وما إليها حتى أتمها.
نامعلوم صفحہ
ولما اعتزم محمد علي باشا إرسال بعثة إلى فرنسا اختار المتفوقين من هذه المدرسة فوقع الاختيار عليه فيمن اختير، فها هو ذا في باريس بعد برنبال والقاهرة، لا يعرف أي كلمة في اللغة الفرنسية، والمدرسون فرنسيون لا يعرفون كلمة عربية، فضاق بالأمر ولم يجد حيلة إلا أن يجمع الكتب الفرنسية الموضوعة للأطفال ويستعين بمن يعرف الفرنسية من زملائه، ويسهر على حفظها ليلا، حتى تمكنت منه عادة السهر الطويل والنوم القليل، وهي عادة لازمته طول حياته، وبعد ثلاثة أشهر استطاع أن يتابع الدروس تلقى باللغة الفرنسية، ويفهمها ويتفوق فيها. وتصل سمعته الحسنة إلى أولي الأمر في مصر - لقد درس سنتين في باريس الهندسة المدنية، ودرس سنتين في «متز» الهندسة الحربية، وتمرن في ذلك نحو سنة أخرى، فكانت إقامته في فرنسا نحو خمس سنين رأى المدارس والجامعات ونظم التعليم وحالة البلاد الاجتماعية، وأخذ من كل ذلك على حسب استعداده ودقة نظره، ولم ينس أبدا وهو في باريس ومتز أبويه في عرب السماعنة أو برنبال، فقد رتب له مائتان وخمسون قرشا ليصرف منها على شئونه الخاصة غير مسكنه ومأكله وتعليمه، فنزل عن نصفها لأبويه منذ فارق القاهرة إلى أن عاد ....
لقد سافر إلى فرنسا في عهد محمد على باشا وعاد في عهد عباس الأول، كان عهد عباس هذا عهد انكماش في التعليم؛ إذ لم يكن يرضى عن الحركة العلمية في البلاد بل كان همه بناء القصور لا فتح المدارس، بل ولا الاحتفاظ بالموجود فألغى الكثير منها، وخفض ميزانية التعليم حتى بلغت خمسة آلاف جنيه، وكان أميل إلى تعليم أولاد الأتراك دون المصريين، فعهد إلى علي مبارك في إدارة البقية الباقية القليلة من المدارس.
وكان طريفا أن يزور يوما أبويه في برنبال - بعد أن عاد إليها - وكان قد مضى عليه أربعة عشر عاما لم ير أهله ولا بلده؛ إذ كانت المدرسة في مصر ثكنة عسكرية قاسية النظام، من كان فيها لا يزور ولا يزار، فأمضى سني الدراسة في مصر كسنيه في فرنسا، لا يرى أهله، حتى أتيحت له الفرصة فعرج على برنبال لابسا بزته
4
العكسرية على النمط الفرنسي، متقلدا سيفا. وكان وهو في الطريق يسترجع أحداث الماضي: كيف كان في الكتاب، وكيف كان يضرب، وكيف كان يهرب، وكيف قسا عليه الكتبة الذين التحق بخدمتهم، وماذا تحمل من المشاق حتى وصل إلى مدرسة قصر العيني، وكيف كانت حياته في باريس ومتز؟ ودق الباب ليلا فأجابته أمه: من؟ فقال: علي مبارك، فلم تصدق ونظرت إليه من خرق الباب، وسألته أسئلة تتعرف منها صدقه، حتى إذا فتحت الباب ورأته وقعت مغشيا عليها، ثم أفاقت وهي تهذي، تبكي وتضحك وتزغرد، ثم يخرج من جيبه عشرة (بنتو) لتقيم الولائم وتدعو معارفها من أهل البلد. وكلهم مغتبط بما أنجبت برنبال من حاكم من الحكام.
توالت على «علي مبارك» أيام بؤس وأيام نعيم، وكانت حالة في مصر غير مستقرة، وكل الموظفين وخاصة كبارهم رهن بإشارة الحاكم ورهن بما يحاك حوله من دسائس، فيوما يرضى فيرفع إلى السماء، ويوما يغضب فينزله إلى الحضيض، والبيت الحاكم منشق على نفسه. إذا تقرب أحد إلى بعضه غضب عليه بعضه الآخر، يرضى محمد علي باشا وإبراهيم باشا عن الشيخ رفاعة الطهطاوي، فإذا جاء عباس غضب عليه وأخرجه من إدارة مدرسة الألسن وعينه ناظرا لمدرسة ابتدائية تنشأ في الخرطوم، ويرضى عباس الأول عن علي مبارك ويقربه إليه، ويعهد إليه في تنفيذ أمور كثيرة، فإذا جاء سعيد باشا غضب على علي مبارك وأعاد الشيخ رفاعة الطهطاوي وقربه إليه.
ولما غضب سعيد باشا على «علي مبارك» ألحقه بالفرقة الحربية التي سافرت لمساعدة الدولة العثمانية في حربها مع روسيا، فأقام ببلاد تركيا (الآستانة والأناضول) نحو سنتين لقي فيهما عناء كبيرا وشقاء جما فاحتمله في صبر وثبات، ومع هذا فقد استطاع في هذه المدة أن يتعلم اللغة التركية ويجيدها، وعاد إلى مصر يوظف حينا ويطرد حينا. فإذا طرد فكر في الأعمال الحرة، فاشتغل تاجرا أحيانا، يشتري من «الزاد» بعض السلع المدرسية التي تبيعها الحكومة بعد أن قللت من مدارسها ويبيعها بربح يكفل له رزقه، ويشتغل أحيانا مهندسا حرا، يضع «تصميمات» منازل لمن شاء، وصمم أحيانا على أن يعود إلى أهله في برنبال يعمل عمل الفلاحين ويعيش معيشتهم وعلى الله العوض فيما تعلم، وفي كل مرة لا يلبث طويلا حتى يستدعي لوظيفة، ولا يلبث في وظيفة طويلا حتى يطرد. ولما جاء إسماعيل باشا أعيدت الحياة العلمية وتوسع فيها، واستقر الحال بعلي مبارك في درجة ما، فكان هذا العهد أبرك عهوده، وأخصبها وأكثرها إنتاجا - لقد عمل علي مبارك أعمالا كثيرة تتصل بما اختص به من هندسة مدنية وحربية، فقد عهد إليه في «تصميم» شوارع وفتحها و«تصميم» ترع وإنشائها، وبناء جسور واستحكامات ومساجد وغير ذلك من أعمال هندسية عظيمة، ولكن كل ذلك لم يكن سر عظمته وصحيفة خلوده، إنما كان ذلك في شيء لم يتعلمه ولم يتلقه عن أستاذ، هو إصلاحه للتعليم في مصر بالوسائل المختلفة، وبناؤه في ذلك بناء ضخما يعد دعامة النهضة التعليمية في مصر - لقد أريد له أن يهندس المباني والاستحكامات فهندس هو طرق التربية والتعليم، ووضع تصميماتها، ووقف على تنفيذها في دقة وأحكام، حتى عد من كبار المصلحين.
لم يتعلم في مصر ولا في فرنسا البيداجوجيا ولا السيكولوجيا على معلم مختص، وإنما تعلمها من حسن استعداده وصدق نظره، ومن دروس في التربية الفاسدة تلقاها في الكتاب حين يضرب وفي مدرسة قصر العيني حين يعذب، ومدرسة أبي زعبل حين يلقى عليه الدرس فلا يفهم، هذا إلى طبيعة خيرة توحي إليه بالرحمة بالناس والإشفاق عليهم والألم من جهلهم. لقد وصف هو نفسه؛ إذ عهد إليه مرة في إدارة مدرسة فقال: «كنت ألتفت للتلاميذ، في مأكلها ومشربهم وملبسهم وتعليمهم، وكنت أباشر ذلك بنفسي، حتى أعلم التلميذ كيف يلبس وكيف يقرأ وكيف يكتب، وألاحظ المعلم كيف يلقي الدرس وكيف يؤدب التلامذة، ولا يمضي يوم إلا وأدخل عند كل فرقة وأتفقد أحوالها، مع التشديد على الضابط والخدمة حتى الفراشين في القيام بما عليهم، فامتنع بذلك عن التلامذة مضار عمومية ومفاسد كثيرة، ولم أكتف بذلك بل رتبت على نفسي دروسا كنت ألقيها على التلامذة ... وكان ما يحصل للتلامذة ومعلميهم من المكافآت والثناء والتشويق والترغيب داعيا لهم لزيادة الجد والاجتهاد، وجرت بين المعلمين المودة والألفة، وتربت الأطفال على الأخوة، وغرس فيهم حب التقدم وشرف النفس والعفة، واكتفيت في تأديب من فرط منهم حب التقدم وشرف النفس والعفة، واكتفيت في تأديب من فرط منهم بالنصيحة واللوم، وانقطع الشتم والسفه، وكاد يمتنع الضرب والسجن، وبالجملة كانت أغراضي فيهم أبوية، أنظر للجميع من معلم ومتعلم نظر الأب لأولاده. وإلى الآن أعتقد أن ذلك واجب على كل راع في رعيته، حتى يحصل الغرض من التربية. وقد تحقق لي نتيجة ما صرف من الهمة في تربيتهم والشفقة عليهم، حتى أنه لما تولى سعيد باشا ودعيت للسفر مع العساكر لمحاربة المكسوف مع الدولة العلية خرج جميع التلامذة كبيرهم وصغيرهم من المدرسة قهرا عن ضباطهم لوداعي، وجعلوا يبكون وينتحبون انتحاب الولد على والده، حتى بكت عيني لبكائهم، ولكن انشرح صدري لمشاهدة ثمرات غرسي، وآثار تربيتي، فحمد الله».
كان التعليم المدني الذي أنشأه محمد علي في مصر تعليم أساسه الجيش: فالمدارس الحربية لتخريجه، ومدرسة الطب لطبيبه، والهندسة لتصميماته، والمدارس الصناعية لإمداده، والبعثات لسد حاجات، فإن جاءت من كل ذلك فائدة لغير الجيش، فبالتبع لا بالقصد، حتى أن المدارس كانت ثكنات عسكرية في نظامها ومأكلها وملبسها ، ورتب المعلمين والنظار والمديرين رتب عسكرية، فملازم وصاغ وأميرالاي وميرمران إلخ، حتى الطلبة في البعثة في باريس لهم بيت يقيمون فيه يدار إدارة عسكرية، كل أنواع التعليم على هذا الوجه في القاهرة والإسكندرية فقط، أما المدن الأخرى والأرياف فليس لها حظ من هذا التعليم. وبجانب هذا التعليم تعليم آخر يبتدئ بالكتاب، وهو منتشر في القاهرة والمدن والقرى وينتهي بالأزهر، وهذا التعليم لا تعني به الحكومة ولا تتدخل فيه ولا يهمها أمره، وكل ما فعله عباس الأول وسعيد أن ضيقا التعليم المدني، حتى إذا جاء إسماعيل بدأ يتغير هذا النظام وينظر إلى التعليم نظرة أخرى غير النظرة الحربية، وكان من أكبر العاملين على هذا علي مبارك - فلو قلنا إنه حول التعليم من وجهة حربية إلى ثقافة شعبية، كان ذلك وصفا مجملا صادقا.
رأى أن عماد التعليم الشعبي الكتاتيب في المدن والقرى، وهي حالة يرثى لها،
نامعلوم صفحہ
5
فكثير منها إما دكان أو «حاصل» أو في حجرة مظلمة بجانب مراحيض المسجد، والتلامذة يختلط صحيحهم بمريضهم، وقد يكون المرض معديا، فأقرع وأبرص وأجرب ومحموم ينشرون العدوى في الأصحاء. يجلسون على حصير بال ويشربون بكوز واحد من زير واحد ويأكلون في الظهر من صحن واحد، وفقيه الكتاب كثيرا ما يكون أعمى لا يحسن أن يرعى التلاميذ، ولا أن يدير شئونهم، وكل كفايته أن يحفظ القرآن ويحفظه من غير فهم، لا علم له بالدنيا ولا بالدين، ووسائل التأديب عنده ليست إلا السب والضرب.
بدأ علي مبارك - وقد عهد إليه في إدارة التعليم في عهد الخديوي إسماعيل - يصلح هذه الحال ويدخلها تحت الإشراف الحكومي، بعد أن كانت الحكومة لا تعني إلا بالمدارس الحربية، وما يعد لها. فقبض بيديه عليها، وأرسل من يحصي كل كتاتيب القطر ويصف حالة كل كتاب من صلاحية بنائه وعدم صلاحيته وعدد تلاميذه وحالة فقيهه وتبعيته لأوقاف أولا ونحو ذلك، وقسمها بحسب ذلك إلى ثلاث درجات: جيدة ومتوسطة ورديئة، ووضع لها «لائحة» تسمى «لائحة رجب» - وهو تاريخ صدورها - تعد بحق خطوة خطيرة في تاريخ التعليم في مصر، عالج فيها كل المشاكل التي صادفته من مراعاة الأمور الصحية وتدبير المال اللازم ورفع مستوى الفقهاء - وقد سماهم «المؤدبين» - وبرامج التعليم ووسائل تشجيعه وإشراف الأهالي والمديريات في حمل بعض الأعباء المالية والتعليمية وتحويل بعض الكتاتيب الكبيرة الصالحة إلى مدارس ابتدائية، ووجه في تنفيذ ذلك كل قواه، وكثيرا ما كان يعهد إليه - إلى إدارة المدارس - في إدارة الأشغال وإدارة الأوقاف، فيكون ناظر هذه جميعها (وزيرها) فيسخر الأشغال لإصلاح مباني المدارس والكتاتيب، ويصرف من مال الأوقاف على التعليم، حتى انتقل التعليم به نقلة جديدة.
نعم ليس كل الفصل في ذلك له وحده، فقد كانت البلاد تتوقف إلى إصلاح التعليم، وقد طالب به مجلس الشورى، وكان هذا الإصلاح يتفق وما رسم الخديوي إسماعيل من رغبة في تمدين البلاد، ولكن كان فضل علي مبارك أن يأخذه الفكرة الخيالية، فيحولها إلى حقائق واقعية، ويدرسها دراسة علمية، ويضع خططها وتصميمها كما تعود ذلك في التصميم الهندسي، ويبرزها على الوجود ويرعاها بعنايته.
إلى جانب الكتاتيب وفتحها وتنظيمها والمدارس وإنشائها شغلته مسألة المعلمين كيف يصلحهم، فقد كان يقوم بتدريس اللغة العربية في المدارس رجال من الأزهر، والتعليم في الأزهر إذ ذاك على أسلوبه في القرون الوسطى، يعلم الكتب ولا يعلم العلم وغاية النابغ منهم أن يحسن فهم عبارة الكتاب لا فهم موضوع الكتاب، وهذا يؤدي إلى أنه لا يحسن تطبيق ما تعلم، فأكثرهم لا يحسن قراءة صفحة ولا أن يكتب موضوعا، ولا أن يقيم وزنا لبيت من شعر، كما وصفهم بذلك عبد الله باشا فكري في مقال كتبه، فكيف يصلحون بعد لتعليم الناشئة؟
إذا ذاك فكر على مبارك في إنشاء مدرسة يؤخذ لها من خيرة طلبة الأزهر بامتحان، ويختار لها خيرة العلماء من الأزهر وغيره، ويعلم طلبتها العلوم الدينية واللغوية وشيئا من علوم الدنيا كالرياضة والجغرافيا والتاريخ والطبيعية والكيمياء، فكان من ذلك كله مدرسة دار العلوم. أما معلمو المواد الأخرى كالهندسة والحساب واللغات، فقد رأى أن يأخذهم ممن أتموا دروسهم في المدارس العالية كالمهندسخانة ومدرسة المحاسبة والإدارة بعد أن يقضوا مدة معيدين لأساتذتهم.
وفكر في الثقافة العامة بجانب التعليم في المدارس، فكان له من ذلك ثلاثة أشياء: (1)
قاعة للمحاضرات يحضرها من شاء، يحاضر فيها كبار الأساتذة من مصريين وأجانب، فيحاضر مثلا الشيخ حسين المرصفي في الأدب وإسماعيل بك الفلكي في الفلك والشيخ عبد الرحمن البحراوي في الفقه، ومسيو بروكش في التاريخ العام وأحمد ندا في النبات، فإذا حاضر محاضر باللغة الأجنبية ألقيت محاضرته بعد ذلك باللغة العربية، وهذه المحاضرات يومية ما عدا أيام الجمع، وكل محاضرة ساعة ونصف ساعة، وبعض الموضوعات محاضرتان كل أسبوع وبعضها محاضرة واحدة. (2)
إنشاء مجلة سميت «روضة المدارس المصرية» رأس تحرير الشيخ رفاعة الطهطاوي، وذكر في أول عدد منها أن مدير المدارس وهو علي باشا مبارك «جعلها ملحوظة بنظر نظارته لا يندرج فيها شيء إلا بإشارته» وطلب من الأساتذة أن يمدوها بالمقالات، وكان ينشر فيها بعض ما يلقى في قاعة المحاضرات وكان في العدد الأول منها مقال لعلي مبارك موضوعه «إنشاء دار الكتب الخديوية». (3)
إنشاء دار الكتب، وقد كانت الكتب قبل ذلك متفرقة في المساجد أو الأماكن المهجورة عرضة للسرقة أو التلف، فجمعها في مكان واحد ورتبها وسهل الاستفادة منها وجعل لها قاعة مطالعة.
نامعلوم صفحہ
فكان من ذلك كله حركة علمية شعبية ساعدت على النهضة المصرية.
وأعانه على نجاحه في خططه ما كان يلقي من عطف وتشجيع من الخديوي إسماعيل، فهو يقر مقترحاته ويبذل المال لتنفيذ مشروعاته.
وناحية أخرى لها قيمتها في حياة علي باشا مبارك، وهي مجهوده الكبير في التأليف والتشجيع عليه، فقد نهضت البلاد في التعليم كما بينا، فكان لا بد من حركة في التأليف والترجمة تسايرها، وقد قام بقسط وافر في هذا الباب الشيخ رفاعة الطهطاوي، فقام علي باشا مبارك بنصيبه الوافر أيضا، فألف في مهنته الخاصة، وهي الهندسة، كتبا للطلبة، وألف كتبا أخرى في الثقافة العامة أهمها خططه لمصر المسماة «بالخطط التوفيقية» يصف فيها القاهرة وحاراتها وشوارعها ومساجدها ومدارسها كما يصف مدن مصر وقرأها مرتبة على حروف الهجاء. وإذا ذكر قرية ذكر ترجمة من نبغ منها أو كانت له شهرة في ناحية ما، وذكر في ذلك كله أقوال المتقدمين والمتأخرين، فكان كتابا جليل النفع عظيم القدر أكمل به خطط المقريزي وما حدث للقاهرة والمدن والقرى المصرية من تغيير بعده إلى يوم تأليفه، ووقع الكتاب في عشرين جزءا أو خمسة مجلدات. كما ألف كتابا سماه «علم الدين» وهو قصة لشيخ تربي في الأزهر وتتلمذ له مستشرق إنجليزي تعلم منه اللغة العربية ودعاه الإنجليزي أن يزور معه إنجلترا فلبى الدعوة، وكانا كلما مرا على شيء من القاهرة إلى الإسكندرية سأل الإنجليزي الشيخ علم الدين فأجابه، وبعد الإسكندرية انقلب الشيخ تلميذا والإنجليزي معلما، يسأل الشيخ عن كل ما يجهل فيجيب الإنجليزي، وملأ الكتاب بمعلومات قيمة عن الشرق والغرب ومظاهر الحضارة الأوروبية، وكان غرضه من هذا الكتاب تفتيح أذهان الشرق لما في الغرب، فالشيخ علم الدين في أول القصة رجل أزهري جامد لا يعرف شيئا من شئون الدنيا، فلما ساح في أوربا اتسع ذهنه ومرن عقله ورقيت أحكامه على الأشياء، ورأيناه يحضر دار التمثيل وينظر إلى المسرح بالمنظار. ومن طرائف علي مبارك أنه وهو وزير المعارف الخطير لم يستنكف أن ينظر إلى الأطفال في بدء تعلمهم للقراءة والكتابة ولم تعجبه طريقة تعليمهم، فأخذ نفسه بتأليف كتاب من جزأين، يعلم في أولهما حروف الهجاء وكيف تتركب، ويضع ثانيهما للتمرين على المطالعة السهلة في موضوعات مفيدة، إلى غير ذلك من الكتب، كما كان يستحث العلماء على التأليف في الموضوعات النافعة على أسلوب جديد يقرب المعلومات إلى الأذهان، وكان من أكبر من ساعده في تحقيق أغراضه في التأليف عبد الله باشا فكري.
وكان بيته في الحلمية الجديدة ناديا عجيب الشأن، يجتمع فيه كل ليلة طلبة المدارس وأساتذتها من كل نوع حتى تمتلئ بهم الدار، وينتقل هو بينهم يخاطب كل جماعة منهم في شأن من شئون العلم يتناسب معهم، فيخاطب الطلبة في حالة مدارسهم ومقدار تحصيلهم للدرس، وما يتكون منه من نظم التدريس وما يقترحون لإصلاحها، ويخاطب المدرسين في تدريسهم وانتقاداته عليهم، ويستحثهم على التأليف في الموضوعات التي يقترحها، وما ينبغي أن تكون عليه الكتب في أيدي الطلبة، ويلتمس الفرص ليشرح لهم الأخطاء التي يقع فيها الطلبة ويقع فيها الأساتذة وتأخر الشرق وأسباب تأخره تقدم الغرب وأسباب تقدمه إلى غير ذلك. حدثني عبد العزيز باشا فهمي، قال: «كنت يوما في بيت علي باشا مبارك، والناس تموج في بيته، الحجر مزدحمة بالزوار، وعلي باشا يتصدر حجرة منها، فحضر مصطفى باشا رياض وكان ناظر النظار إذ ذاك، فأخذ يخوض في الناس حتى وصل إلى علي باشا مبارك فقال له: «ما هذا يا باشا؟» فقال له: «يا دولة الرئيس أنا في بلد يهاب الناس فيه أن يخاطبوا معاون إدارة أو مأمور مركز أو أي موظف حكومي، فإذا نحن جرأناهم علينا وعلينا وخاطبناهم، وخاطبونا، وأمكنهم أن يخاطبوا الموظفين في غير هيبة، وتعودوا أن يطالبوا بحقوقهم، وقالوا: أنا نجالس الناظر (الوزير) ونخاطبه، فلم لا نخاطب من هو أقل منه منزلة؟».
لم تكن خطط علي باشا مبارك في التعليم في المثل الأعلى، ولا كانت خالية من العيوب، ولكنها كانت خطوة مباركة صالحة لأن ترقى مع الزمان، ويصلح ما ظهر فيها عند التنفيذ من أخطاء، كما حدث ذلك فعلا في وزارة رياض باشا من بعد، ولكن ساءت الحال في مصر بتدخل الأجنبي بدعوى حماية الدين، كما أسلفنا في ترجمة جمال الدين الأفغاني وجاءت الثورة العرابية وأعقبها الاحتلال الإنجليزي، فقبض الإنجليز على التعليم، وصبغوه الصبغة التي يريدونها.
لم يشترك علي مبارك في الثورة العرابية؛ إذ كان مزاجه ليس مزاجا ثوريا بحكم منشئه وتربيته - عكس مزاج الشيخ جمال الدين، الثوري العنيف - وكان مبدؤه الطاعة التامة لولي الأمر، مهما كان. أطاع عباس الأول وسعيد وإسماعيل وتوفيق، وخدمهم في إخلاص، ولعله - كبعض المصلحين - يرى إن إصلاح التعليم خير أنواع الإصلاح، بل هو خير من الإصلاح السياسي ، ويرى أن الإصلاح السياسي ما لم يرتكز على الإصلاح التعليمي فلا بقاء له ولا قيمة - لذلك لا نرى له إصبعا ما في الثورة العرابية. ولقد اتهم كثير من عقلاء الأمة بمشايعة عرابي باشا، كعبد الله باشا فكري والشيخ محمد عبده، وغضب عليهما الخديوي توفيق، ولكن لم يتهم علي باشا مبارك في شيء ما، ولم يفقد رضا توفيق باشا وعطفه، وإنما فقد رضا عرابي باشا وحزبه، وكل ما أثر عنه في الثورة العرابية أنه تبرع يوما بشيء من ماله لهذه الحركة، ولكن لعل ذلك كان تحت تأثير ضغط شديد عليه من الشبان المتحمسين. وزاده إيمانا بحياده أنه لم يكن يؤمن بنجاح الثورة العرابية، على حسب ما كان يرى من ظروفه المحيطة به التي تمكنه من الاطلاع على شئون مصر والشرق والغرب. وقد روى الشيخ محمد عبده أنه حضر مجلسا في بيت علي باشا مبارك كان فيه سلطان باشا - وقد أخذ سلطان باشا يشيد بذكره قوة الجيش المصري وما يمكن من زيادة عدده - فرد عليه علي باشا مبارك بأن حالة البلاد المالية لا تتحمل هذه الحرب ولا تساعد على النجاح فيها، ثم رأيناه في أثناء الثورة يذهب إلى بلده ويعمل في إصلاح أرضه، وعلى كل حال فالإنسان مطالب أن يعمل وفق ما يهديه إليه عقله وما يتناسب ومزاجه، وقد كان مزاج علي مبارك مزاجه هادئا ناسبه أن يوجه أكثر قوته لإصلاح التعليم، ففعل. وربما كان أساس نجاحه شدة غيرته وقوة إخلاصه وعمق رغبته في خدمة وطنه.
وبعد الاحتلال الإنجليزي لمصر ألفت وزارة مصطفى رياض باشا وعهد فيها إلى علي مبارك في نظارة المعارف، ولكن ما أبعد الفرق بين الحالين، وما أشد الاختلاف بين العهدين - لقد كان في العهد الأول قبل الاحتلال حرا طليقا يفكر كما يشاء ويفعل ما يشاء ويدبر المال لمشروعاته كما يشاء، لا يقيده في ذلك كله إلا عرض العهد فليس حرا ولا طليقا ولا يفكر إلا إذا سمح له المستشار الإنجليزي بالتفكير، ولا يفعل إلا في الدائرة المحددة التي خطها المحتلون، وقد عبر هو عن ضيق صدره في ذلك بأسلوبه الناعم الهادئ، إذ يقول في هذه الحقبة: «وأنا الآن قائم بهذا الأمر على حسب المصالح، بقدر الإمكان، والله المستعان».
اصطدم بعد ذلك بالقيود التي قيدت بها المصالح الحكومية، وخاصة القيود المالية التي وضعها مستشار المالية ربما كان علي باشا مبارك والشيخ رفاعة الطهطاوي وعبد الله باشا فكري الفرسان الثلاثة في ميدان العلم في مصر في ذلك العصر، وأركان النهضة العلمية المصرية، ولكن كان لكل طابع ولكل ميزة، فعلي باشا مبارك يهتم بالمسائل الكلية في سياسة التعليم وتنظيمها وتخطيطها وتنفيذها، وإذا نظر إلى الجزئيات فلتطبيق الكليات عليها، والشيخ رفاعة ينظر إلى المسائل الجزئية ويعني بإصلاحها وتنفيذها، فإذا عهد إليه في إدارة مدرسة بث الروح فيها، ثم هو يؤلف ويترجم ويبعث تلاميذه على التأليف والترجمة، وبهذا أمد البلاد هو وتلاميذه بطائفة من الكتب النافعة كانت عماد النهضة، وعبد الله باشا فكري كاتب شاعر أديب مؤلف له قيمته في معرفة ما يناسب عصره من التأليف فيؤلف فيه، كان تلاميذ المدارس يعلمون الأدب من مقامات الحريري والنحو من كتاب شرح الشيخ خالد على الأجرومية، فألف كتبه على نمط جديد، وكان تلاميذ المدارس الابتدائية، لا يجدون ما يطالعونه فألف لهم (الفوائد الفكرية) ثم كان أكبر عون لعلي باشا مبارك فيما ألف من كتب - فلكل من الفرسان الثلاثة مزية، ولكل فضل. رحمهم الله جميعا.
عبد الله نديم باشا (1261-1313ه، 1845-1896م)
إن كان يستحق الإعجاب من نبغ - والظروف له مواتية - من أسرة عريقة في المجد أو الغنى أو الجاه ونحو ذلك مما ييسر للأبناء أن يتعلموا، ثم يشقوا لهم طريق الحياة وطريق المجد فأولى بالإعجاب من ينبغ والظروف له معاكسة، لا حسب ولا نسب ولا غنى ولا جاه، بل ولا القوت الضروري الذي يمكن الفتى من أن يجد له وقت فراغ يثقف فيه نفسه.
نامعلوم صفحہ
قد يدعو إلى شيء من الإعجاب منظر شجرة يانعة ضخمة مثمرة، تعهدها بستانيها بكل ما يصلحها، ومن وضع في المكان المناسب والغذاء الكافي، ولري المتوافر في أوقاته، ولكن أدعى إلى الإعجاب بذرة طرحت حيثما اتفق، فمدت جذورها بنفسها تجد في حصولها على غذائها، فقد تجده وقد لا تجده، وتعاكسها الطبيعة فتكافحها وتتغلب عليها، ثم هي آخر الأمر تكون أينع ما كانت شجرة وأضخمها وأوفرها إثمارا. كذلك كان من النوع الثاني «عبد الله نديم»، كل الدلائل تدل على أنه سيكون نجارا أو خبازا، ولو تنبأ له متنبئ متفائل لقال إنه سيكون نجارا ماهرا ناجحا، فأما أديب يملأ الدنيا ويقود الرأي العام ويحسب حسابه في كل ما يخطه قلمه أو تنطق به شفتاه، فلا يدور بخلد أحد حتى فاتح الرمل والضارب بالحصى.
هذا أبوه أصله من الشرقية ورحل منها إلى الإسكندر ية وعمل فيها نجارا للسفن بدار الصناعة (الترسانة)، ثم لم يعجبه هذا العمل فاتخذ مخبزا صغيرا يصنع فيه الخبز ويبيعه، ويحصل من ذلك على الكفاف
1
من العيش.
فما بالك بأسرة من هذا القبيل، مسكن متواضع، وخبز إن توافر فإدام
2
غير متوافر، وصحة ترك البت فيها للقضاء والقدر.
ولكن «عم مصباح» والد عبد الله رجل جاد في عمله، قنوع بكسبه، مستقيم - بالضرورة - في حياته، من بيته إلى مخبزه إلى مسجده. أرسل ابنه إلى الكتاب على باب حارته كما يفعل الناس من مثل طبقته، يرسلون أولادهم إلى الكتاب زمنا ما، فإذا اشتد متنهم
3
وقوي جسمهم أخذوهم إلى دكاكينهم في مثل صاعتهم التي تتوارث كما يتوارث المال.
نامعلوم صفحہ
ولكن عبد الله تفوق في الكتاب، وظهرت عليه ملامح الذكاء، فأراد أن يستمر في تعلمه ولم يمانعه أبوه، وكانت الطريقة المعبدة
4
لذلك أن يرسل الوالد ابنه إلى الأزهر، ولكن أين مال الأسرة الذي يحتمل ذلك؟!
على أنه في الإسكندرية - قريبا من بيتهم - مسجد هو صورة مصغرة من الأزهر، يدرس فيه المشايخ ما يدرس في الأزهر وعلى نمطه، وذلك هو مسجد الشيخ إبراهيم باشا.
فدرس فيه عبد الله نديم ما شاء الله أن يدرس، ولكنه كان تلميذا خائبا في هذه الدراسة، لا يصبر على جفافها، ولا يقدر على حل ألغازها ، ولا يتحمل العناء في تفهم كتب نحوها وفقهها فكان لا يواظب على درسه ولا يبدي به اهتماما.
وحبب إليه نوع من الدراسة غير منظم ، يوافق مزاجه، ويناسب استعداده، وهو أن يصاحب الناشئين في الأدب ويغشى مجالسهم ومجالس أساتذتهم. وما كان للأدب درس منظم ولا هو يعد علما ولا فنا، وإنما هو «هواية» كذي الصوت الجميل يهوى الغناء ويقلد فيه من سبقه، ولا درس، ولا فن، ومثل هذا ينظر إليه من أهل العلم بالنحو والفقه نظرة استخفاف وازدراء، وقد عهدنا هذا في أيام دراستنا بالأزهر، أيام كان الشيخ سيد المرصفي يحلق حلقة لدراسة الأدب، فكان هذا عجبا من العجب، ينظر طلاب الفقه والنحو. ومشايخهم إلى حلقته شذرا.
5
كان عبد الله نديم يغشى هذه المجالس الأدبية التي ليس لها منهج، فيسمع شعر الشاعرين وزجل الزجالين، ونوادر المتماجنين، وقصائد الراوين، فيصغى إلى كل ذلك في فهم كأنه كله آذان، ويدرك من غير وعي أن هذا بابه وهذا فنه، وأنه إنما خلق لذلك لا للنحو ولا للصرف. فاشتاقت نفسه أن يسلك هذا المسلك ويسير في هذا الطريق، وقد منح حافظة لا قطة، وقدرة على التقليد فائقة فأخذ يحاكي بعد ما اختزن، ويغني بعد ما سمع، فطورا يوفق فيستدعي ذلك إعجاب أمثاله، وطورا يخذل فيستخرج ضحك أقرانه، ومن كل ذلك كان يتعلم.
وإلى جانب هذا تعلم درسا في منتهى القيمة، درسا تعلمه «حافظ» ولم يتعلمه «شوقي» وتعلم «بيرم التونسي» ولم يتعلمه «توفيق الحكيم»، درسا قل أن يفقهه الأدباء مع عظيم خطره وكبير أثره، ذلك هو أن نشأته في صميم الأحياء الشعبية مع رهافة حسه، ويقظة نفسه، وفقره وبؤسه، علمته أن يحيط إحاطة واسعة بلغة الشعب وأدبه، من أمثال وحكايات وجوه معاملات وصنوف تصرفات، فرسم ذلك كله في نفسه لوحات كان لها أكبر الأثر في حياته الأدبية المستقلة، والنفس الحساسة الفنانة تختزن حتى حفيف أوراق الأشجار، وهفهفة الأغصان، ودبيب النمال، وحلاوة البسمات، وأدق مجالي الجمال والقبح، ثم تعرف كيف تستخدم ذلك في فنها متى آن أوانه .
ولكن مرصى
نامعلوم صفحہ
6
بذلك كله، تبا للحياة المادية. هل يكسب من ذلك «عبد الله نديم» قرشا، وهل يستطيع «عم مصباح» أن يحتمل هذا الهذر طويلا ؟ لقد احتمل الإنفاق عليه في الكتاب، لأنه طفل والكتاب خير من البيت، واحتمله يدرس في «جامع الشيخ» لأنه كان يرجو في ابنه أن يكون شيخا معمما وعالما مفخما، يتقرب إلى الله بتقبيل يده والتمسح بثوبه. فأما هذا اللغو الفارغ الذي يسمى شعرا ونثرا فهو عبادة الشيطان لا عبادة الله، ولست أتقرب إلى الله بالإنفاق على عبدة الشياطين.
لقد نفض أبوه يده منه، فأخذ عبد الله نديم يبحث عن وجه للكسب، فاتجه اتجاها غريبا، هو أن يتعلم فن الإشارات التلغرافية ثم يتكسب منه، وكذلك كان. فتعلمه واستخدم بمكتب التلغراف ببنها.
ثم نقل إلى مكتب القصر العالي حيث تسكن والدة الخديوي إسماعيل، وقد كان قصرا من أفخم القصور، يقع على النيل فيما يسمى الآن «جاردن سيتي» خدم وحشم وموسيقى وطرب، وما شئت من ألوان النعيم والترف، وقد تعلم منه عبد الله نديم كيف يعيش الأمراء والسادة، كما تعلم في بيته وحارته في الإسكندرية كيف يعيش الفقراء والعبيد.
وعاد إليه في القاهرة شوقه إلى الأدب ومجالس الأدباء، وكان حظ القاهرة في ذلك أوفى، ففيها - مثلا - مجلس محمود سامي البارودي، وكان مجلسا عامرا يسمر فيه السمر اللذيذ: فأدب قديم يعرض، وأدب حديثه ينشد؛ وعرض للمعنى الواحد صيغ صياغات مختلفة، ونقد قيم لهذا ولذاك، يتخلله نوادر فكهة، وأحاديث في الأدب حلوة. اتصل عبد الله نديم بهذا المجلس وأمثاله، وتوثقت الصلة بينه وبين كثير من أدباء مصر إذ ذاك، وأخصهم سبعة، أولع بهم واستفاد من معارفهم وأدبهم: شاعر مصر محمود سامي البارودي، وشيخ الأدباء عبد الله باشا فكري والسيد علي أبو النصر البليغ الشهير، ومحمود صفوت الساعاتي، الواسع الاطلاع، الكثير المحفوظ، المتفتن في الطرائف الأدبية، والشيخ أحمد الزرقاني الكاتب الأديب، ومحمد بك سعيد بن جعفر باشا مظهر الشاعر الناثر، وعبد العزيز بك حافظ عاشر الأدب والأدباء الأدب والأدباء الكريم الوفي.
وكان الذي أرشده إلى هؤلاء الأدباء وعرفه بهم، وأحكام الصلة بينه وبينهم، الشيخ أحمد وهبي أحد المولعين بالشعر، الناظمين له، والمحرر بالوقائع المصرية في بعض أيامه .
فأتم على هؤلاء وأمثالهم دراسته، وشرب من منهلهم، وارتوى من ينابيعهم، فهو في النهار تلغرافي، يتقبل الإشارات ويرسلها، وبالليل أديب يتقبل نماذج الأدب ويحاكيها.
ولكن لم يمهله الحظ، فقط غلط في عمله في القصر العالي غلطة سببت غضب خليل أغا عليه. ومن خليل أغا؟ هو كبير أغوات الوالدة (أم إسماعيل)، وكان القصر مملوءا بالأغوات، يقومون بشئون القصر، ويستقبلون المدعوات ويصحبونهن إلى باب الحريم، ونال كبيرهم خليل أغا من النفوذ ما لم ينله ناظر النظار ولا الأمراء والوجهاء، ولحظوته عند الخديوي إسماعيل ووالدته، وإشارته حكم، وطاعته غنم، يخضع له أكبر كبير، ويسعى لخدمته أعظم عظيم، رأيه نافذ في الدواوين والمصالح، يتحكم في مصر والسودان، ويأتمر بأمره كبار الموظفين والأعيان، حاز الثروة الضخمة والجاه العريض، كأنه كافور الأخشيدي في أيامه، حتى إنه لما عقد عقد زواج الأنجاب في القصر العالي حضره النظار والعلماء وكبار الأعيان، فكان يرأس الجميع «خليل أغا». كان من خصاله أن يذبح ويسبح، ويغصب ويبني مدرسة.
فما عبد الله نديم إذا غضب عليه خليل أغا العظيم؟! إذا غضب عليه خليل أغا فصل من وظيفته، ولكن إذا غضب عليه خليل أغا ضرب وطرد، وضاقت عليه الأرض بما رحبت.
سدت في وجهه أبواب الرزق في القاهرة كما سدت في الإسكندرية، وانتهى به الأمر إلى أن ينزل على عمدة من عمدة الدقهلية يقيم عنده ويعلم أولاده، ثم ما لبث أن تخاصم مع العمدة، فأما العمدة فيرى أنه آكله وأسكنه مقابل تعليم أولاده، وأما عبد الله نديم فيرى أن هذا حق الضيف ويبقى له أجر التعليم، واختلفت وجهة النظر، وتشادا ثم تسابا، وغلى مرجل عبد الله نديم؛ فكان ذلك نعمة على أدبه إذا انفجر المرجل وتدفق عبد الله نديم يصوغ في هجاء العمدة أدبا لاذعا، تدفعه عاطفة حادة، فعرف نفسه أديبا وعرفه من حوله لسنا يملك ناصية القول.
نامعلوم صفحہ
واتصل أمره بعين من أعيان المنصورة ذي مروءة فاستدعاه وأكرمه، وفتح له دكانا يبيع فيه المناديل وما إليها، فاتخذ دكانه متجرا للمناديل ومجمعا للأدب، يجتمع فيه بعض أصحابه يتذاكرون الأدب، ويتناشدون الأشعار، ويتبادلون النوادر. وبين هذا وذاك تأتي شارية لمنديل أو شار لعصابة.
وكانت هذه العادة فاشية في المدن، فقد يكون التاجر ذا ثقافة فقهية وأدبية فيتخذ أصحابه من دكانه مكانا للبحث في الفقه أو الحديث في الأدب، إذا لم تكن قد غزتنا المدنية الأوربية فعلمتنا التخصص، وأن مكان التجارة للتجارة فقط، وأما الحديث في العلم والأدب فله مكان آخر. وقد أدركنا أول زماننا شيئا من هذا، فكانت بعض الدكاكين مدارس، وخاصة في الأدب، لأن الأدب لم يكن يدر رزقا، إنما هو فن للمتعة، وكثير من أدباء عصر عبد الله نديم كان من هذا الطراز، فحسن أفندي عبد الباسط - الأديب الشاعر الهجاء - كان في بعض أيامه يفتح دكان عطارة في الزقازيق، ويجتمع به في دكانه أدباء الزقازيق وظرفاؤها، والشيخ أحمد وهبي الشاعر الأديب كان له دكان طرابيش بالغورية، وكانت مجتمع الأدباء والشعراء، ولكن أكثر هؤلاء لم ينجحوا في تجارتهم فالأديب فنان، والفنان - في الغالب - سمح يقدر الذوق الفني أكثر مما يقدر الدرهم والدينار؛ والتجارة تحتاج إلى الضبط والدقة، والعناية بالإيراد والصرف، والفنان - عادة - طليق لا تطيق نفسه القيود والحدود. وعلى كل حال وجد عبد الله نديم بعد برهة دكانة وليس فيها مناديل ولا جوارب، ولكن جماعة يتناشدون الأشعار، ويستهلكون ولا يغلون، فأغلق دكانه وطوف بالبلاد ينزل ضيفا على هواة الأدب، إلى أن نزل بطنطا، وصادف مولد السيد، فكانت له حادثة ظريفة لفتت إليه الأنظار وشهرته بين الناس.
وكانت البيوت أعظم شأنا من الدكاكين في أنها مجتمع الأصدقاء من ذوي العلم والفن يسمرون فيها السمر اللذيذ ويتحدثون الحديث الظريف، هذا بيته منتدى الأدباء وهذا بيته مجموع الفقهاء، وهكذا كل رجل يعرف مكانه من هذه البيوت على حسب ذوقه وميله، ويكثر ذلك في طبقة الأوساط والأغنياء من ذوي الميل العلمي والفني. وأدركت في حارتنا المتواضعة ثلاث بيوت من هذا القبيل، كان صاحب أحدها قاضيا شرعيا كبيرا، فكان بيته منتدى الفقهاء والعلماء يتسامرون عنده في الدين والفقه، والثاني موظفا ظريفا يسمر عنده أصحابه بالأخبار والفكاهات، ليلة يدعون قارئا جميل الصوت، وأحيانا فكها حسن الحديث؛ والثالث دفافا يضرب على الدف في الأفراح، فكان عنده كثير من هواة الآلات الموسيقية، يحيون عنده الليالي الملاح حتى الصباح. فما بالك بالموسرين إذا شغفوا بأدب أو علم أو فن، وكانوا كراما يفتحون بيوتهم للهواة من أمثالهم، يجدون فيها الطعام الشهي والفن الشهي؟!
كان بيت شاهين باشا كنج بطنطا - وهو مفتش الوجه البحري إذا ذاك - من هذا القبيل، كرم حاتمي، وذوق أدبي، وظرف نواسي، فتعرف به عبد الله نديم، فوجد فيه شاهين باشا قبح منظر، مع طلاقة لسان، وخفة روح، وسرعة بديهة فغطى ذلك على قبح منظره، واتخذه له نديما.
2
كان مرة يجلس في قهوة أيام المولد الأحمدي سنة 1249ه ومعه طائفة من أصحابه، ومنهم علي السيد علي أبو النصر الشاعر، والشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري الأديب الماجن، قطع عليهم اثنان من «الأدباتية».
والأدباتية طائفة من الشحاذين يستجدون بأدبهم العامي وطلاقة لسانهم في الشعر، وحضور بديهتهم، عرفوا بالإلحاح في الطلب، فإذا رددتهم أي رد أخذوا كلمتك على البديهة، وصاغوا منها شعرا يدل على استمرارهم في طلبهم، واستغواء ممدوحهم، وقد جمعوا إلى طلاقة لسانهم وحضور بديهتهم منظرهم المضحك في ملبسهم وحركاتهم، فزرج خارج العمامة، وطبلة تحت الإبط، وحركات يدور معها رز العمامة كأنه نحلة، وتحريك لعضلات وجوههم كأنهم قردة، وسموا «أدباتية» جمع «أدباتي» وهي لفظ سخرية لأديب. فمر هذان الرجلان من طائفة «الأدباتية» على الحاضرين حتى وصلا إلى عبد الله نديم، فقال أحدهما:
أنعم بقرشك يا جندي
وإلا اكسبنا أمال يا أفندي
أحسن أنا وحياتك عندي
نامعلوم صفحہ