ثِقي بجميلِ الصَّبرِ منِّي علَى الدَّهرِ ... ولا تثقِي بالصَّبرِ منِّي علَى الهجرِ
فإنِّي لصبَّارٌ علَى ما ينوبُني ... وحسبكِ أنَّ اللهَ أثنَى علَى الصَّبرِ
ولستُ بنظَّارٍ إلى جانبِ الغنَى ... إذا كانتِ العلياءُ في جانبِ الفقرِ
وقال الوليد بن عبيد الطائي:
عذيرِي منَ الأيَّامِ رنَّقنَ مشرَبي ... ولقَّيننِي نَحسًا منَ الطَّيرِ أشأما
وألبسنَنِي سخطَ امرئٍ بتُّ موهنًا ... أرَى سخطهُ ليلًا معَ اللَّيلِ مُظلِما
تبلَّجَ عن بعضِ الرِّضا وانطوَى علَى ... بقيَّةِ عتبٍ شارفتْ أنْ تصرَّما
إذا قلتُ يومًا قدْ تجاوزَ حدَّها ... تلبَّثَ في أعقابِها وتلوَّما
وأصْيدُ إنْ نازعتهُ الطَّرفَ ردَّهُ ... كليلًا وإنْ راجعتهُ القولَ أحجما
ثناهُ العدَى عنِّي فأصبحَ مُعرضًا ... ووهَّمهُ الواشونَ حتَّى توهَّما
ولوْ أنَّني وقَّرتُ شَيبي وقارهُ ... وأجللتُ شِعري فيكَ أنْ يُتهضَّما
لأكبرتُ أنْ أُومي إليكَ بإصبعٍ ... تضرَّعُ أوْ أُدنِي لمعذرةٍ فمَا
وكانَ الَّذي يأتي بهِ الدَّهرُ هيِّنًا ... عليَّ ولوْ كانَ الحِمامُ المقدَّما
ولكنَّني أُعلي محلَّكَ أنْ أرَى ... مُدلًاّ وأستحييكَ أنْ أتعظَّما
ولمْ أدرِ ما الذَّنبُ الَّذي سُؤتَني بهِ ... فأقتلُ نفسِي حسرةً وتندُّما
وأنشدني أحمد بن يحيى عن أبي عبد الله بن الأعرابي:
ألا أبلغْ أخا قيسٍ رسولًا ... بأنِّي لمْ أخنكَ فلا تخنِّي
ولكنِّي طويتُ الكشحَ لمَّا ... رأيتكَ قدْ طويتَ الكشحَ عنِّي
فلستَ بمُدركٍ ما فاتَ منِّي ... بلهفَ ولا بليتَ ولا لَوَانِّي
ولستُ بآمنٍ أبدًا خليلًا ... علَى شيءٍ إذا لمْ يأتَمنِّي
وصلتُكَ ثمَّ عادَ الوصلُ أنِّي ... قرعتُ ندامةً مِنْ ذاكَ سِنِّي
فإنْ أعطفْ عليكَ بفضلِ حلمٍ ... فما قلبي إليكَ بمطمئنِّ
وقال العباس بن الأحنف:
لو كنتِ عاتبةً لسكَّنَ عبرَتِي ... أملِي رضاكِ وزرتُ غيرَ مُراقبِ
لكنْ مللتِ فلمْ تكنْ لي حيلةٌ ... صدُّ الملولِ خلافُ صدِّ العاتبِ
وقال آخر:
ومُستوحشٍ لمْ يمشِ في أرضِ غُربةٍ ... ولكنَّهُ ممَّنْ يودُّ غريبْ
إذا رامَ كتمانَ الهوَى نمَّ دمعهُ ... فآهٍ لمحزونٍ جفاهُ طبيبُ
ألا أيُّها البيتُ الَّذي لا أزورهُ ... وهجرانُهُ منِّي إليكَ ذُنوبُ
هجرتكَ مشتاقًا وزرتكَ خائفًا ... ومنِّي علَيَّ الدَّهرَ فيكَ رقيبُ
سلامٌ علَى الدَّارِ الَّتي لا أزورُها ... وإنْ حلَّها شخصٌ إليَّ حبيبُ
وقال أبو نواس:
غصصتُ منكِ بما لا يدفعُ الماءُ ... وصحَّ هجركِ حتَّى ما بهِ داءُ
قدْ كانَ يُقنعكمْ إذْ كانَ رأيكمُ ... أن تهجُروني منَ التَّصريحِ إيماءُ
وما جهلتُ مكانَ الآمريكِ بذا ... منَ الوُشاةِ ولكنْ في فَمي ماءُ
ما زلتُ أسمعُ حتَّى صرتُ ذاكَ بمنْ ... قامتْ قيامتهُ والنَّاسُ أحياءُ
وقال أيضًا:
صليتُ مِنْ حبِّها نارَينِ واحدةً ... جوفَ الفؤادِ وأُخرى بينَ أحشائِي
وقدْ منعتُ لسانِي أن يبوحَ بهِ ... فما يعبِّرُ عنِّي غيرُ إيمائِي
يا ويحَ أهلِي أبلَى بينَ أعيُنهمْ ... علَى الفراشِ ولا يدرُونَ ما دائِي
لوْ كانَ زهدكِ في الدُّنيا كزهدكِ في ... وصلِي مشيتِ بلا شكٍّ علَى الماءِ
وبلغني عن سفيان بن عيينة أنَّه قال: بينا أنا بالكعبة إذ رأيتُ أبا السَّائب المخزومي متعلِّقًا بأستار الكعبة وهو يقول:
يا هجرُ كُفَّ عنِ الهوَى ودعِ الهوَى ... للعاشقينَ يطيبُ يا هجرُ
ماذا تريدُ منَ الَّذينَ جُفونُهمْ ... قرحَى وحشوُ صدورهمْ جمرُ
وسوابقُ العَبراتِ بينَ خدودهمْ ... دررٌ تفيضُ كأنَّها القطرُ
متحيِّرينَ منَ الهوَى ألوانهمْ ... ممَّا تكِنُّ صدورهمْ صفرُ
قال: فقلتُ يا أبا السَّائب في مثل هذا الموضع تُنشد مثل هذا؟ فقال: إليك عنِّي يا أبا محمد فوالله للدُّعاءُ لهم في مثل هذا الموضع أفضل من حجةٍ وعمرةٍ.
ولقد أحسن الفرزدق حيث يقول:
1 / 53