عزفتَ بأعشاشٍ وما كدتَ تعزفُ ... وأنكرتَ مِنْ حدراءَ ما كنتَ تعرفُ
ولجَّ بكَ الهجرانُ حتَّى كأنَّما ... ترَى الموتَ في البيتِ الَّذي كنتَ تألفُ
وقال:
لئنْ كانَ في الهجرانِ أجرٌ لقدْ مضَى ... ليَ الأجرُ في الهجرانِ مذْ سنتانِ
فواللهِ ما أدرِي أكلُّ ذوِي هوًى ... علَى ما بِنا أمْ نحنُ مُبتليانِ
وقال الحارث بن خالد المخزومي:
إنْ يمسِ حبلكِ بعدَ طولِ تواصلٍ ... خلِقًا وأصبحَ بيتكمْ مهجُورا
فلقدْ أرانِي والجديدُ إلى بلًى ... زمنًا بوصلكِ راضيًا مسرُورا
كنتِ الهوَى وأعزُّ مِنْ وطئِ الحصَى ... عندِي وكنتُ بذاكَ منكِ جديرا
وقال آخر:
وقالَ نساءٌ لسنَ لي بنواصحٍ ... ليعلمْنَ ما أُخفِي ويعلمْنَ ما أُبدي
أأحببتَ ليلَى جهدَ حبِّكَ كلِّهِ ... لعمرُ أبي ليلَى وزدتُ علَى الجهدِ
علَى ذاكَ ما يمحُو ليَ الذَّنبُ عندَها ... وتمحُو دواعِي حبِّها ذنبَها عندِي
ألا إنَّ قربَ الدَّارِ ليسَ بنافعٍ ... وقلبُ الَّذي تهواهُ منكَ علَى البعدِ
ولبعض أهل هذا العصر:
لعمركَ ما قربُ الدِّيارِ بنافعٍ ... إذا لمْ يصلْ حبلَ الحبيبِ حبيبُ
وليسَ غريبًا مَنْ تناءتْ ديارهُ ... ولكنَّ مَنْ يُجفى فذاكَ غريبُ
ومَنْ يغتربْ والإلفُ راعٍ لعهدهِ ... وإنْ جاوزَ السَّدَّينِ فهوَ قريبُ
وقال آخر:
لو كنتَ في بلدٍ ونحنُ بغيرهِ ... ما كانَ عندكَ في الجفاءِ مَزيدُ
قربُ المزارِ وأنتَ ناءٌ لا يُرى ... وإذا القريبُ جفاكَ فهوَ بعيدُ
وقال أبو تمام:
ونأى الهجرُ بالَّذي لا أُسمِّي ... فأنا منهُ في القريبِ البعيدِ
ففراقٌ أصابَني مِنْ فراقٍ ... وفِراقٌ أصابني مِنْ صدودِ
ليسَ مَنْ كانَ غائبًا فقدَتْهُ ال ... عينُ غيبًا كالشَّاهدِ المفقودِ
وقال البحتري:
يسوؤكَ ألاَّ عطفَ عند انعطافهِ ... ويشجيكَ ألاَّ عدلَ عندَ اعتدالهِ
فما حيلةُ المشتاقِ فيمنْ يشوقُهُ ... إذا حالَ هذا الهجرُ دونَ احتيالهِ
ولقد أحسن علي بن محمد العلوي في قوله:
هواكَ هوَ الدُّنيا ونيلكَ ملكُها ... وهجركَ مقرونٌ بكلِّ هوانِ
كذبتكَ ما قلتُ الَّذي أنتَ أهلهُ ... بلَى لمْ يجدْ ما فوقَ ذاكَ لسانِي
الباب التاسع عشر
ما عتبَ منِ اغتفرَ ولا أذنبَ منِ اعتذر
المعتذر لا ينفكُّ من إحدى حالين إمَّا أن يكون صادقًا أو كاذبًا فإن كان صادقًا فعذره مقبول وإن كان كاذبًا فإنه لم يتجشَّم مضاضة الكذب في نفسه إلاَّ لنفاسة صاحبه في صدره ومن كان بهذه الحال قُبل عذره بل وجب شكره.
وقد قال البحتري:
إقبلْ معاذيرَ مَنْ يأتيكَ معتذرًا ... إنْ برَّ عندكَ فيما قالَ أو فجَرَا
فقدْ أطاعكَ مَنْ يُرضيكَ ظاهرهُ ... وقدْ أجلَّكَ مَنْ يعصيكَ مُستترا
ولبعض أهل هذا العصر:
أنتَ ابتدأتَ بميعادِي فأوفِ بهِ ... ولا تربَّصْ بهِ صرفَ المقاديرِ
ولا تكِلْني إلى عذرٍ تُزخرفهُ ... فالذَّنبُ أحسنُ مِنْ بعضِ المعاذيرِ
وله أيضًا:
إلى اللهِ أشكُو مَنْ بدانِي بوصلهِ ... فلمَّا حوَى قلبِي براهُ ببخلهِ
سآجرُ نفسِي عنْ تقاضيهِ راضيًا ... إلى أنْ أراهُ ساخطًا بعدَ فعلهِ
وآخذُ منهُ العفوَ ما دامَ باخلًا ... وأنَّهَى لسانِي أنْ يعودَ لعذلهِ
فربَّ اعتذارٍ قدْ تمنَّيتُ أنَّني ... خرستُ وأنِّي لمْ أُخاطبْ بمثلهِ
وقال آخر:
مْ أجنِ ذنبًا فإنْ زعمتَ بأنْ ... أتيتُ ذنبًا فغيرُ مُعتمدِ
قدْ تطرفُ الكفُّ عينَ صاحبِها ... فلا يرَى قطعَها منَ الرَّشَدِ
وقال آخر:
ما أحسنَ العفوَ منَ القادرِ ... لا سيَّما عنْ غيرِ ذي ناصرِ
إنْ كانَ لي ذنبٌ ولا ذنبَ لي ... فما لهُ غيركَ مِنْ غافرِ
أعوذُ بالودِّ الَّذي بينَنا ... أنْ تُفسدَ الأوَّلَ بالآخرِ
وقال آخر:
هبْنِي أسأتُ وقدْ أتيْ ... تُ بمثلِ ذنبِ أبي لهبْ
فأنا أتوبُ ومَا أسأ ... تُ وكمْ أسأتَ فلمْ تتبْ
وقال آخر:
1 / 54