ثقافتنا في مواجهة العصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
اصناف
على أن صراع الأجيال يتجلى في أوضح صورة حين تشتد قبضة التقاليد على رقاب الناس، فلا تترك لهم خيارا في ملبس أو مأكل أو أي وضع من أوضاع الحياة، فتضيق النفوس بهذه القيود كلها، فينفجر الشباب ثائرا ساخطا غاضبا، حتى يتطرف في ثورته وسخطه وغضبه، بحيث لا يدع شيئا إلا حاول تغييره، فلا يبقي على ملبس قديم، ولا على مأكل، ولا على طريقة من طرق استخدام الفراغ، وهنا تتبدل العلاقات الاجتماعية بين الأفراد تبدلا جوهريا يقلب القيم القديمة رأسا على عقب.
وأوضح مثل أستطيع أن أقدمه لمثل هذه الثورة الغاضبة من الشباب على جيلهم القديم، هو ما شهدت بعضه وسمعت أو قرأت عن بعضه، مما حدث ويحدث في أوساط الشباب في إنجلترا، والمثل هنا واضح؛ لأن إنجلترا كانت هي القوة الاستعمارية الأولى في العالم لفترة طويلة من الزمن، وكان هذا الاستعمار يعود على أبنائها بثروات منهوبة، فكان تمسكها بتقاليدها عندئذ - برغم أنه قد بلغ حدا مضحكا في كثير من الأحيان - هو من قبيل الحرص على وضع نافع لها، ولم يكن للشباب عندئذ أن يثوروا على تلك التقاليد؛ إذ فيم الثورة عليها وهي تقاليد تعود عليهم بتلك البحبوحة كلها، وبتلك السيادة كلها؟! لكن التغير العميق الذي شمل العالم فيما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي كان من أهم أركانه تحرر الشعوب من ربقة المستعمر، قد أفقد إنجلترا سلطانها وثراءها، فلم يعد هنالك في أعين الشباب ما يبرر أن يقيدوا أنفسهم بقيود تضر ولا تنفع، فانطلقوا في ثورة عارمة، هي التي نسمع عن أطراف منها في أنباء تلك الجماعات الغريبة التي تلجأ إلى الغريب الشاذ في ثيابهم وفي قص شعورهم وفي طرائق عيشهم؛ لكنهم لم يقفوا عند هذا الحد السطحي الظاهر، بل تجاوزوه إلى ميادين الأدب والفن، فكان لهم موسيقاهم ومسرحهم وقصتهم وشعرهم.
لقد مررت بإنجلترا صيف عام 1964م، وكنت لم أشهدها منذ أعقاب الحرب، أعني أنني لم أشهدها لما يقرب من عشرين سنة قبل ذاك، فعجبت لهذا التحول العميق يصيب أمة كهذه، في مثل هذه الفترة القصيرة، وكان من أظهر مظاهر هذا التحول هؤلاء الشبان الذين كنت أراهم في زيهم المميز - ولكل جماعة منهم زي خاص - فيصعب أن أميز فيه بين فتى وفتاة؛ لقد كان سلوكهم الاجتماعي أقرب جدا إلى سلوك الجانحين، حتى ليتعذر عليك أن تصدق أنهم في حقيقتهم هم الشباب العادي الذي يختلف إلى معاهد الدرس، أو ينتظم في مكاتب العمل، وبهذا كادت الفوارق تنمحي بين السلوك الجانح والسلوك المألوف ، أو قل بين سلوك الإجرام وسلوك الحياة المشروعة، ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن انحراف السلوك عن العرف القديم، قد اتسع مداه، حتى كاد يكون بدوره عرفا لا حق لأحد أن يعترض عليه.
ليس الجديد في هذه الجماعات الثائرة من الشباب هو تمردهم على الأوضاع المألوفة؛ لأن شيئا من التمرد جزء لا يتجزأ من طبيعة الشباب، تشكمه تقاليد المجتمع فينشكم ويتجانس المواطنون في سلوكهم الاجتماعي المميز لهم، لكن الجديد في هذه الجماعات الثائرة من الشباب هو جرأتهم على مواجهة المجتمع بتمردهم، بحيث لا تكون للمجتمع قوة الشكم ولا يكون في وسعه أن يفرض التجانس بين أفراده؛ لقد كان للشباب دائما منظماتهم، لكنها كانت منظمات تجري - في الأغلب - على صور معروفة مألوفة من أوجه للنشاط في مجالات السياسة أو الفكر أو التعاون الاجتماعي، وما إلى ذلك، أما هؤلاء الشبان الثائرون اليوم فيرفضون هذه الصور المألوفة لنشاط الشباب؛ لأنهم بادئ ذي بدء يرفضون «النظام» في حد ذاته، لأنه يقتضي الولاء، وهم يحاربون أن يكون ثمة ولاء منهم لأحد أو لفكرة أو لنظام أو لشيء كائنا ما كان؛ ولك أن تعجب من جماعات «تنظم» نفسها لتحارب «النظام»!
ويعلل علماء الاجتماع عندهم هذه الظاهرة الاجتماعية بعوامل عميقة المدى في صلب المجتمع الإنجليزي ذاته، أو قل إنها عوامل تعتمل في أصلاب المجتمعات الأوروبية الغربية والأمريكية بصفة عامة؛ وأهم تلك العوامل فكاك الشبان من رقابة المجتمع الصغير، الذي كان فيما مضى لا يجاوز قرية أو حيا من أحياء مدينة؛ لأن النشأة والدراسة والعمل والزواج والسكن، كانت - في معظم الأحيان - تتم كلها في مثل هذه الدائرة الضيقة، وبذلك كان كل فرد يعرف جميع الأفراد في القرية أو الحي، ومن هنا كانت تنشأ معايير اجتماعية وأخلاقية، تضغط بقوة على الأفراد، فلا يملكون إلا أن ينصاعوا لها ولو بعد حين؛ لم تكن وسائل المواصلات بهذه الكثرة ولا بهذه السرعة، وبالتالي لم يكن العامل يسكن على مسافة من مكان عمله تمتد إلى عشرات الأميال أو مئاتها ، كما هي الحال اليوم، وقد أدى ذلك إلى أن يحيا الفرد الواحد معظم وقته بين «غرباء» لا يجاورونه ولا يساكنونه، ومن ثم لا تكون لهم عليه رقابة تحدد سلوكه؛ فهل ينتج عن هذا التباعد شيء سوى أن تتنوع صور السلوك بتنوع الأمزجة، بحيث لا يستطيع أحد أن يقول أيها هو الصواب وأيها هو الخطأ؟ لا، بل إن هذا التنوع سرعان ما انتهى إلى نتيجته الطبيعية، وهي أنه بدلا من أن يستهدف المواطن أن يتجانس مع سائر مواطنيه، كما كانت الحال من قبل، أصبح يستهدف التميز الشخصي، الذي يباين بينه وبين سائر الأفراد، فلا يشبههم في ملبس، ولا في طريقة التمتع بالفراغ، ولا في مزاج ثقافي بصفة عامة؛ وتسربت هذه العوامل كلها في نفوس الشباب، تم تجمعت وتبلورت حتى أصبحت عداء صريحا منهم للمجتمع القديم.
وازدادت الهوة اتساعا بين الجيلين بزيادة التغلغل الذي تغلغلت به التقنيات (التكنولوجيا) الحديثة في الصناعة وفي شعاب الحياة نفسها؛ لأنه إذا كان على الجيل الأصغر - فيما مضى - أن يخشى سطوة الجيل الأكبر، فما ذلك إلا لأن هذا الجيل الأكبر كانت في رأسه المعرفة، وفي يده المهارة، فلا مندوحة للجيل الأصغر من التبعية الصريحة، حتى يكسب لنفسه المعرفة ويكتسب المهارة، لكنه إذا ما تم له هذا الكسب والاكتساب، كان قد انتقل به الزمن من جماعة الشباب إلى جماعة الكهول، وهكذا دواليك؛ أما وقد أصبح الأمر موكولا لتقنيات تعمل بالأزرار، تضغطها إصبع من شاب، أو إصبع من كهل على حد سواء؛ فقد زال المبرر الذي يحتم على الجيل الأصغر أن يصغي بالتوقير والإذعان إلى أبناء الجيل الأكبر.
فسرى في الشباب ما يشبه التمرد، وهو في الحقيقة رغبة في استقلالهم وتقرير أشخاصهم على الأوجه التي يرونها، وليس لأحد أن يعترض ما داموا يؤدون أعمالهم بطريقة منتجة؛ بل ربما حدث - وكثيرا ما يحدث - أن يكون الشبان ألصق عهدا بالتقنيات الحديثة، وأمهر من سابقيهم على استخدامها، ومن هنا ينقلب الوضع القديم، ويكون الأولى بالاحترام والتوقير هو الشاب من الشيخ، لا الشيخ من الشاب، كما كان الأمر .
وإذا كان الشباب قد انتقل إلى مواقع القيادة في العمل وفي الأدب وفي الفن، فهل نستكثر عليهم أن يتوقعوا من القائمين على محال التسلية وعلى أدواتها من إذاعة مسموعة أو مرئية، ومن صحافة، وسينما ومسرح، وأندية، وغناء، ووسائل اللهو وتزجية الفراغ؛ أقول هل نستكثر على الشباب أن يتوقعوا من القائمين على هذه الوسائل كلها أن يقدموا لهم ما يتفق وميولهم الجديدة؟ وهكذا كان، فأصبح الشيوخ هم الذين يلتمسون وسائل المتعة التي تتناسب وأعمارهم وثقافاتهم فلا يجدونها إلا قليلا؛ لأن تلك الوسائل قد شغلت نفسها بما يرضي الشباب.
وانظر بعد ذلك إلى شبابنا نحن، بالقياس إلى جماعات الشباب التي رأيتها في إنجلترا سنة 1964م، والتي ما زلت أسمع عنها وأقرأ، فأجد شبابنا باعثا على الأمل من جهات عديدة، مثيرا لعدم الرضى في نفسي من جهات قليلة، أم يا ترى يرتد عدم الرضى عندي إلى غيرة جيل هابط من نشاط جيل صاعد؟ لست أدري.
وأما أنه باعث على الأمل؛ فذاك لأنهم - برغم التغيرات الحضارية التي أزالت عن الكبار مبررات احترامهم والإذعان لهم - لم يسخطوا السخط الذي يؤدي بهم إلى ضروب الانحراف التي ألمت بشباب المجتمعات الغربية؛ نعم إنهم يشبهونهم في طرائق ملء فراغهم بما يثير العاطفة ويحرك الشهوة، ويشبهونهم في البحث عن أسهل الطرق وصولا إلى القمة، بغض النظر عن قيمة تلك الطرق في تكوين شخصياتهم وفي تقوية أقدارهم الذاتية، وفي ملء صدورهم بما يشبع طبائعهم الإنسانية الفطرية؛ أعني أن شبابنا يشبه شبابهم في أنه قد جعل النجاح والمتعة مدارين تدور عليهما الحياة، فلا ضير عند هؤلاء وأولئك في أن تفرغ الرءوس من المعرفة وفي أن تخلو الصدور من القيم المثلى، وفي أن يحس الإنسان في دخيلة نفسه أنه إنما ينطوي على خلاء وخواء، ما دام هذا الإنسان الخاوي من داخل، قد ظفر بمكان مرموق من مجتمعه، يأمر فيه وينهي، ويحرك ويوجه ويدير.
نامعلوم صفحہ