ثقافتنا في مواجهة العصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
اصناف
لكن شبابنا لا يشبه شبابهم في الشعور الزائف بأن المجتمع قد أحبطهم فوجب عليهم أن يناصبوه العداء؛ ليس في حياتنا هذا الانفصام الغريب الذي يشطر المجتمع شطرين يتقاتلان: شباب وشيوخ، أو جيل جديد وجيل قديم؛ فمهما يكن بين الجيلين عندنا من أوجه التباين، فما يزال الشعور عميقا بأننا في مجتمع واحد يستهدف هدفا واحدا؛ وشبابنا لا يشبه شبابهم في اصطناعه لحياة التشرد عن مبدأ وعقيدة، وفي التنكر لروابط الانتماء إلى الأسرة، وفي أن يحلوا محلها روابط جديدة بانتماء جديد، تجعل الشباب فردا في مجموعة شباب يسخطون بطريقة واحدة، ويتشردون بطريقة واحدة، لا فردا في أسرة تراقب السلوك وتضبطه؛ وشبابنا لا يشبه شبابهم في هذا اليأس المرير الذي يدفعهم إلى الانحراف الجنسي، وإلى أخذ المخدرات بهذه الدرجة البشعة التي نسمع عنها ونقرأ؛ واختصارا، فإن الأمل في مستقبل أسعد ما زال يحرك شبابنا على الطريق، على حين يتحرك شبابهم على غير طريق؛ لأن المستقبل لم يعد يحمل لهم أملا يرتجى، أو هكذا يظنون.
فلو أضاف شبابنا إلى جذوة الأمل التي أغنتهم عن الانحراف، جدية في الوسائل المحققة لذلك الأمل؛ لو أضاف شبابنا إلى انفعالهم فكرا يسدده، وإلى عاطفتهم علما تستقيم به وتهتدي؛ لو أضاف شبابنا إلى سلامة الطوية سلامة فعل، وإلى وثبات الطموح رسوخا في العمل؛ لو أضاف شبابنا إلى رغبتهم في النجاح العملي وسائل الكد والكدح لا وسائل الوساطات التي تطير بهم على أجنحتها إلى ارتفاع لا يستند إلى عمد وركائز، لو أضاف شبابنا هذا كله؛ لما وجد فيه جيل الكهول وجيل الشيوخ شيئا يعاب.
ليس صراع الأجيال عندنا كالصراع الذي شهدناه في المجتمعات الغربية؛ لأن الأجيال عندنا - صغيرها وأوسطها وكبيرها - قد وجدت في العدو الخارجي المشترك ما يجمعها على هدف واحد، فلا يبقى للخلافات الداخلية بينها إلا حيز ضئيل سرعان ما ينتهي فيه الخلاف إلى اتفاق أو ما يشبه الاتفاق، فنحن اليوم على تفاوت أجيالنا، نوشك أن نتفق على معيار واحد لحياتنا الجديدة.
لحظة مع الماضي
إيماني لا يحد بضرورة أن ينسكب ماضينا في حاضرنا انسكابا لا يعرقل سيرنا، بل يجيء قوة محركة دافعة تزيد من عجلة السير؛ وذلك لأن من تراث الماضي ما يعرقل، ومنه ما يحرك ويدفع، وأغبى الغباء هو أن نغمض العين عن هذه الحقيقة الصارخة، ليس للحاضر الحي غنى عن ماض يمده بغذاء الحياة كما تمد الأم جنينها، وليس أدعى إلى تشتت وحيرة وضياع من حاضر يهدم الجسور الواصلة بينه وبين ما كان .. لكن كيف تكون الصلة بين حاضر وماض بحيث تحقق للإنسان حياة موصولة التيار معلومة الأهداف مكينة الأصول؟
لعل إجابة من الإجابات الصحيحة عن هذا السؤال - فلهذا السؤال أكثر من جواب واحد - هي ما نستخلصه من لمحة وردت عند «بروست»
، في حديثه عن الصلة بين الحاضر والماضي، في كتابه «البحث عن الزمن الضائع»، إذ يقول إن الفن من شأنه أن يجمد لحظات من الماضي تظل قائمة حية في الحاضر، فيتيح لنا هذا أن نحطم حواجز الزمن بيننا وبين أسلافنا بأن نعيش تلك اللحظات: «فإذا ما سمعنا الآن صوتا كنا قد سمعناه من قبل، وحين ننشق رائحة كنا قد نشقناها من قبل، فعندئذ - بالذكرى - نكون قد سمعنا ذلك الصوت ونشقنا تلك الرائحة في الماضي والحاضر معا، وحينئذ فقط يزول حاجز الزمن، وتبرز إلى الوجود المتصل المستمر حقائق الأشياء في جوهرها الخفي، وتستيقظ ذواتنا الأصيلة التي كانت قد خيل إلينا أنها ماتت واندثرت آثارها .. إن لحظة واحدة نعيشها اليوم مع من عاشوها في الماضي، كفيلة وحدها أن تفك عنا قيود الزمن التي فصلت حاضرنا عن ماضينا.»
وأحسب أني قد عشت لحظة كهذه مع أبي العلاء، حينما أوقفني التأمل عند قوله: «أبكت تلكم الحمامة أم غنت؟»
ها هي ذي حمامة على غصنها تبعث صوتا، هو عند الحقيقة الكونية «صوت» متميز بموجاته التي يتناولها علم الصوت في الفيزياء بالتحليل والقياس، فيعرف لهذه الموجات أطوالها وسرعاتها، هو «صوت» في الطبيعة الخارجية، قد تسجله آذان السامعين أو لا تسجله، لكنه هناك: حدث من أحداث الطبيعة، وإنما هو الإنسان بمشاعره ومنافعه، يصنف تلك الأحداث الطبيعية على مزاجه وهواه، فيقول: هذا «بكاء» وذلك «غناء»! ليس في حقائق الطبيعة بكاء وغناء، فهذان من ذات الإنسان وميوله، حقائق الأشياء كما هي واقعة، لا تفرق بين «نوح الباكي» و«ترنم الشادي»، فالنوح والترنم كلاهما «صوت»، كلاهما اهتزازات للهواء، كلاهما ينصاع في حدوثه وفي مساره لقوانين محددة معلومة عند علم الصوت في الفيزياء، وأما الذي جعل هذا الصوت نوحا، وذلك الصوت ترنما، فذلك هو الإنسان؟ «صوت البشير» شبيه «بصوت النعي» عند الحقيقة الموضوعية الخارجية التي لا تعبث بها وتحرفها أهواء البشر.
والفرق بعيد بعد السماء السابعة عن الأرض السابعة، بين نظرة تلقط الواقع كما وقع، ونظرة أخرى تلوي هذا الواقع فتسلكه في رغبات الإنسان، فيصبح منه ما هو محبب له وما هو كريه، ما هو خير وما هو شر، وحقائق الدنيا بريئة كل البراءة من الخير والشر، والحب والكراهية ... وماذا ينقص العربي المعاصر أكثر مما ينقصه من مثل هذه القدرة على التفرقة بين حقائق الدنيا الواقعة من جهة، وبين انطباعاته هو بتلك الحقائق من جهة أخرى؟ وليس العيب في أن يكون للإنسان أهواؤه بالنسبة لما يصادفه في عالم الأشياء، فيحب ما يحب، ويكره ما يكره، ولكن العيب كل العيب هو أن نخلط بين الجانبين ذلك الخلط الذي يجيز لنا أن نتحدث عن أوهامنا وأحلامنا، ثم نظن أننا إنما نتحدث عن أمور الواقع.
نامعلوم صفحہ