ثقافتنا في مواجهة العصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
اصناف
لست أدعي معرفة الوسيلة، ولكني موقن بأنه لو تحقق لنا شيء من هذا اللقاء الفكري الحي الفعال فلن نلبث طويلا قبل أن تشهد الأمة العربية حركة فكرية يمكن وصفها وتقنينها، فيمكن لها - بالتالي - أن تدخل في تاريخ الفكر المعاصر فصلا من فصوله.
صراع الأجيال
فكرة «الجيل» فكرة غامضة، فلست تدري - إلا على وجه التقريب - متى يبدأ الجيل ومتى ينتهي؟ فالحياة تيارها دافق، يتعاقب فيها موج الأحياء لحظة بعد لحظة، وساعة بعد ساعة، ويوما بعد يوم؛ ولو استطعت أن تدرج الأحياء بحسب أعمارهم صعودا أو هبوطا، لوجدت خط البيان موصولا، يظهر فيه بين كل مولودين مولود؛ فهو خط يبدأ من كائنات شهدت نور الحياة لتوها، وينتهي عند كائنات عمرت كذا من السنين - فليس هناك حد أقصى نعرفه - وفيما بين البداية والنهاية أعمار تتفاوت، لكنها مسلسلة رياضية لا تترك بين حلقاتها ثغرة خالية، وأمام هذا التدرج المتصل، كيف يجوز الوقوف عند نقطة بحيث نقول عنها إن جيلا يبدأ هنا وجيلا ينتهي؟ إني لألحظ الأسرة المعينة وهي تحتوي على جد ووالد وولد، فأسأل: ترى هل تكون هذه الأسرة ممثلة لثلاثة أجيال: فالجد جيل، وابنه جيل ثان، وحفيده جيل ثالث؟ لكنني سرعان ما أجد أن من هو جد هنا قد يتساوى في عمره مع أب هناك، ومع حفيد هنالك، فتأخذني الحيرة إذا أردت أن أرسم خطا أفقيا يقسم مجموعة الأسر إلى أجيال، برغم أن الأسرة الواحدة قد أمكن فيها أن نرسم خطا عموديا يقسمها أجيالا متعاقبة.
ومع ذلك ففكرة «الجيل» - على غموضها - فكرة لازمة ونافعة، عند الحديث عن حركة التاريخ الحضاري، كيف تنتقل في سيرها إلى الأمام من «جيل» إلى «جيل»؟ حتى لقد قيل إنه يكفينا من تحديدها أن نعد القرن الواحد مشتملا على ثلاثة أجيال، كأنما مجرى الزمن - ومعه مجرى الحياة - يعرف في تدفقه هذه «المحطات» العرفية التي اتفق الناس على أن يؤرخوا بها الحوادث، فيقولوا عن سنة معينة إنها نهاية قرن، وعن سنة تليها إنها بداية قرن جديد؛ لكنه شيء كالقدر المحتوم، كتب على الإنسان في مناهج فكره ألا يجد أمامه مندوحة عن استخدام كلمات لازمة ونافعة في التفاهم، برغم بعدها البعيد عن الدقة الرياضية التي تعرف كيف تفرق بين المثلث والمربع والدائرة؛ فنحن - في تفاهمنا اليومي - نباين بين الكثبان والتلال والجبال، لكن هيهات لنا أن نتفق على ارتفاع معين يكون مرتفع الأرض قبله كثيبا، ويكون بعده تلا، ويكون بعد بعده جبلا. ونحن - في تفاهمنا اليومي - نباين بين ذوي الرءوس الصلعاء وذوي الرءوس المكسوة بفرائها، ولكن من ذا يستطيع القطع فيقول عند أي شعرة ينتقل الرأس من حالة الاكتساء إلى حالة الصلع؟
وأتوسع في هذا السياق قليلا - لأهميته عندي وأرجو أن تكون له أهمية عند القارئ - فأقول إن التفاهم اليوم كثيرا ما يكتفي من درجات التحديد بذكر الأضداد، فيكفيه أن يقال: حار وبارد، طويل وقصير، شاب وشيخ، ثقيل وخفيف، غال ورخيص ... وهلم جرا إلى مئات الأمثلة التي من هذا القبيل؛ مع أن الضدين في كل حالة من هذه الحالات هما طرفان أقصيان، ليس الذي بينهما خلاء وفراغ، فبينهما درجات متدرجة في تسلسل متصل، لا ينقطع عند ثغرة أو عند فجوة؛ فدرجات الحرارة مثلا تسير مع سلسلة الأعداد السالبة والموجبة في تتابع متلاصق، بادئا من درجة كذا تحت الصفر، إلى درجة كذا فوق الصفر، دون أن يكون في هذا الخط الطويل فاصل معين تقول عنده: هنا ينتهي الحار ويبدأ البارد؛ وقل هذا في حالة الشباب والشيخوخة - وهما طرفان متصلان بالحديث عن «الأجيال» - فإذا استطعنا أن نحدد بداية الشباب بحالة بلوغ الرشد، فلن نعرف بعد ذلك أين ينتهي إلا على سبيل التقريب الشديد؛ وإن الأمر ليزداد عسرا إذا احتكمنا إلى الشخص نفسه نسأله: متى تنتهي عندك مرحلة الشباب؟ ذلك لأنه لولا الشواهد الخارجية لما استطاع إنسان أن يعرف عن نفسه - محتكما إلى دخيلة نفسه - أشاب هو أم بلغ الكهولة أو الشيخوخة، وأعني بالشواهد الخارجية شيئا كشهادة الميلاد، أو ما يرويه الناس الآخرون من حوادث تدل على عدد ما عاشه من سنين، أو ما يصادفه في حياته من تحديات تقيس قدرته الجسدية فتشير إلى انحدارها بدرجة معينة؛ كان فيما مضى - مثلا - يستطيع أن يقفز على سلالم البيت قفزا، وهو الآن لا يستطيع، كان يستطيع أن يعدو في الطريق عدوا ليلحق بالسيارة أو بالقطار، وهو الآن لا يستطيع؛ كان يهضم صنوفا من الطعام، وهو الآن لا يقوى على هضمها، كان شعره أسود فدب فيه البياض، كان حديد البصر، قوي السمع، وهو الآن يتحسس الأشياء ليراها، ويكور كفه حول أذنه ليجعل منه بوقا يعينه على السمع، وهكذا، فمتى ذهبت القوة ودخل الضعف؟ في أي عام ابيض الشعر الأسود وتجعدت بشرة الوجه؟ إنه لا يدري، فكيف يدري متى خرج من جيل ودخل في جيل؟
لكن الفكرة شائعة ونافعة بأن الناس «أجيال»، بل إن الفكرة شائعة، وإن لم تكن نافعة كل النفع، بأن تلك الأجيال المتعاقبة في صراع لا ينتهي؛ فالجيل اللاحق ناشب بأظافره المحنقة المغيظة في أعناق الجيل السابق، الجيل اللاحق - هكذا يزعم أصحاب هذه الفكرة - ساخط دائما على سابقه، غاضب دائما، ثائر دائما، يريد أن يفلت من معاييره وأحكامه، ويظن أنه متسامح غاية التسامح إذا قبل أن يبقى من سلفه السابق على خيط رفيع يمسك على الأمة تاريخها، ويحتفظ لها بطابعها المميز؛ لأن هذا الدوام لا يرضيه إلا نفاقا؛ إن الشباب في بلد يظن أنه أقوى رباطا بالشباب في سائر البلدان، منه بالشيوخ في بلده، إنه يظن أن الرابطة بينه وبين شيوخ بلده رابطة مكانية لا تعني شيئا كثيرا، وأما الرابطة بينه وبين سائر الشباب في سائر الأقطار فرابطة زمانية تعني الكثير؛ فروح العصر مرهونة بعصرنا الزمني، لا بهذا المكان أو ذاك؛ المكان ثابت والزمان متحرك؛ إن النهر هو النهر، والوادي هو الوادي، والصحراء هي الصحراء منذ آلاف السنين، أما النصف الثاني من القرن العشرين فشريحة من الزمن، لم تقع قبل ذلك، ولن تقع بعد ذلك.
فإذا قبلنا قسمة التيار الزمني - الذي هو متصل في حقيقته - إلى مراحل منفصلة نطلق عليها اسم «الأجيال»، تيسيرا للتفاهم؛ فهل نقبل أن هذه الأجيال «متصارعة» دائما؟ أصحيح أن القيم الجديدة والأفكار الجديدة والنظم الجديدة هي من خلق الشباب، يملونها على الشيوخ، فإذا قبلوها كان خيرا، وإذا رفضوها وقع الصراع؟
الحق أني أكره الخبط العشوائي في أمثال هذه الأمور، وأتمنى أن ينبني الحكم فيها على إحصاءات من الواقع، فإذا فرضنا أن الجيل الأول - في الفترة المعينة - يتألف ممن هم دون الخامسة والثلاثين، وأن الجيل الأوسط يمتد من هذه السن إلى الستين، وأن الجيل الثالث يقع فيما فوق هذه السن، فكم هي نسبة الذين حرروا السياسة والاجتماع والاقتصاد والأدب والفن والعلم والتعليم من قيود التقاليد لتنطلق مع العصر الجديد، أقول كم هي نسبة هؤلاء من الجيل الأول، الذي هو جيل الشباب؟ وإذا وفقنا إلى هذه النسبة، لم تكن وحدها كافية؛ إذ لا بد أن نثبت معها أن أبناء الجيلين الأوسط والأعلى قد تنكروا للجديد؛ لأنهم إن قبلوه لم يكن ثمة بين الأجيال ما يزعمونه من صراع.
وليس بين يدي إحصاءات عن شيء من هذا كله، لكنني أتصور - بالانطباع المبهم العام - أن العشرينيات من هذا القرن، وكذلك الخمسينيات - وأنا هنا أضرب المثل من حياتنا الفكرية - كانتا فترتين من الفترات التي شهدت صراع الأجيال واضحا في كل هذه الميادين تقريبا: في السياسة، وفي الاجتماع، وفي الاقتصاد، وفي الأدب والفن، والعلم والتعليم، وإذا تجاوزنا قليلا في الحدود التي وضعناها للشباب، جاز لنا القول بأن الدعوة إلى الجديد في هذه الميادين كلها قد جاءت من الشباب، وأن هذه الدعوة قد لقيت اعتراضا - منطوقا أو صامتا - من الجيل الأقدم، ولكنه اعتراض أخذ يزول زوالا سريعا أو بطيئا في حومة الصراع؛ إذ كانت الدعوة إلى الجديد أقوى من الحفاظ على القديم.
فليست الحياة النيابية التي يشارك فيها الفلاحون والعمال بالنصف على الأقل هي كالحياة النيابية التي كانت الكلمة فيها مقصورة على أصحاب الجاه والمال، وليست الحياة الاجتماعية التي تنبني أساسا على الاعتزاز بالعروبة هي كالحياة الاجتماعية التي كان الاعتزاز فيها باللكنة الفرنسية أو الإنجليزية، تتردد بها الألسنة المعوجة في الصالونات، وليست الحياة الاقتصادية التي تجعل أموال الشعب ملكا للشعب، وتحرم على إنسان أن يستغل إنسانا، هي كالحياة الاقتصادية التي تكون فيها السيادة لمن يملكون على من لا يملكون؛ وليس الأدب من مسرح وقصة وقصيدة ومقالة، الذي يتحسس طبيعة الإنسان العربي كما تتجسد في سلوكه وفي خفايا ضميره وفي آلامه وفي آماله، هو كالأدب الذي يترك هذا الإنسان ليكتفي بما يطالعه في بطون الكتب قديمها وحديثها .. لا، ليست حياتنا الجديدة في الخمسينيات هي كسابقتها، ولا كانت الحياة الفكرية في العشرينيات كسابقتها، وكان التجديد في كلتا الفترتين من صنع الشباب بصفة عامة، وكانت هنالك مقاومة، وكان هناك صراع، سمي في العشرينيات صراعا بين القديم والجديد، وسمي في الخمسينيات صراعا بين الرجعية والتقدمية، وكان محور التقسيم في الحالة الأولى هو الحياة الفكرية؛ من أين نستقيها؟ هل نستقيها من الغرب أو من تراثنا العربي؟ وأما محور التقسيم في الحالة الثانية فهو - أساسا - وضع الفرد بالنسبة إلى المجتمع، أيكون الفرد من أجل المجتمع، أم يكون المجتمع وسيلة لسعادة الفرد؟ وفي كلتا الحالتين تأدى الصراع بين الأجيال إلى نصرة الجديد.
نامعلوم صفحہ