ثقافتنا في مواجهة العصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
اصناف
وفي عصرنا هذا، في البلدان الرائدة، ربما كانت الملاحق الأدبية لكبريات الصحف هي التي تهيئ للناس مكان الالتقاء الفكري، الذي من شأنه أن ينسج - أسبوعا بعد أسبوع، وشهرا بعد شهر - مناخا ثقافيا مشتركا يطبع البلد الواحد، ثم يطبع العصر كله بما يميزه، وربما قامت الجامعات والمنتديات والمؤتمرات وغير ذلك من صنوف اللقاء المدبر المرسوم، بشيء من هذا التجميع؛ إنك لو سألتني - في مجال الدراسة الفلسفية - أين أجد الفلسفة الإنجليزية اليوم؟ لأجبتك جوابا يحقق كثيرا من الصواب: في مجلة
mind ، وفي الندوات الدورية التي تنظمها «الجمعية الأرسطية» هناك؛ لكن افرض ألا مجلة ولا جمعية تنظم ندوات الحوار حول الموضوع الواحد، فهل كان يسهل على الرأي المبعثر أن يتبلور فيما يسمى «فلسفة إنجليزية معاصرة»؟
وقد أتخيل قارئا «علميا» في تخصصه الدراسي يبتسم في شيء من تعجب الزراية - وكثيرا ما يفعلون - فيقول: لكن حديثك هذا كله هو عن الأدب والدراسة الأدبية، فما بالك وعصرنا عصر التكنولوجيا؟ والجواب عندي أيسر تناولا؛ لأن نظرة واحدة تكفيك لتعلم أن دنيا العلم التكنولوجي بأسرها، من غربها إلى شرقها، تسير وكأنها عقل واحد وصدر واحد؛ فكيف كان ذلك ليتحقق لولا الاتصال الوثيق بين المشتغلين في كل ميدان علمي، حتى لكأنهم يتجاورون في معمل واحد ومركز واحد للبحوث والتجارب؛ وفي سياق حديث كهذا قرأت يوما لكاتب أوروبي لفتة عجيبة، تأخذها منه أول الأمر وكأنها شطحات المتصوفة، ثم تمعن فيها النظر فإذا هي الحق أو ما يقرب منه؛ وذلك أنه كتب ليقول: إن الأجهزة العلمية اليوم تكون عالما متصلا بعضه ببعض، يكاد ينفصل وحده ليتولى تطوير نفسه بنفسه، ليخلق مرحلة رابعة من مراحل التطور الكوني: فمن المرحلة اللاعضوية، إلى المرحلة العضوية، إلى المرحلة العقلية في الإنسان، وأخيرا إلى مرحلة تتخلق فيها دنيا التقنيات؛ إن الأجهزة التقنية اليوم تتواصل أرجاؤها بحيث يستحيل أن تنمو هنا وتتخلف هناك، ولو أحكمنا تصور هذه الصورة التطورية الجديدة، أفزعتنا نتيجتها؛ لأنها لو صدقت كانت الجماعات البشرية التي تنفض أيديها من المشاركة في العلوم التقنية خلقا وإبداعا - اكتفاء بشراء أجهزة يصنعها الآخرون - قد أوشكت أن تصبح «نوعا» بشريا تطور بعده «نوع» بشري آخر.
ونعود إلى رجال الفكر العربي في عصرنا الراهن هذا لنلحظ عليهم ما قد أسلفناه، وهو أن أوصالهم مفككة، يكاد لا يدري أحد منهم عن أحد إلا أسماء وعناوين، فلا مشاركة ولا حوار، إنه ليس بالشيء المستبعد في حياتنا الفكرية أن تنبت فكرة هناك فلا نسمع بها هنا، فضلا عن أن تجد من يناقشها ليحييها؛ وأقتل ما يقتل التفكير مقابلته بالصمت؛ لأن المعارضة والموافقة كلتيهما زاد للنماء، في الوطن العربي «أفكار» مبعثرة، لكنها «هوامل» لا تجد «الشوامل» التي تجمعها وتصهرها (والإشارة هنا إلى كتاب التوحيدي «الهوامل والشوامل»)، والأمر يحتاج إلى تحليل وتوضيح، لم يفلح في صهرها كل ما نقيمه من مؤتمرات ومهرجانات ولمحات نقدية نتقاذفها حينا بعد حين؛ إنني لأكاد أعجز عن الجواب إذا سألني سائل: ما أهم القضايا الفكرية التي تشغل رجال الثقافة العربية؟ فلكل منهم قضية، ثم لا لقاء!
سل: ما التيار الفلسفي الأغلب بين المثقفين العرب؟ ولن تجد الجواب؛ فكل صوت مسموع في دنيا الفلسفة في أوروبا وأمريكا له بيننا صداه، ففينا المثاليون والتجريبيون والواقعيون والوجوديون والبرجماتيون والماديون الجدليون والشخصانيون.
سل: ما الاتجاه الأغلب بين المثقفين العرب في ميدان النقد الأدبي؟ ولنلحظ هنا أن الإجابة عن هذا السؤال لو وجدناها؛ لأشارت إلى طريقتنا المقبولة في الأداء الأدبي، ولكنك لن تجد الجواب؛ فكل مذهب في النقد مما يتردد في أوروبا وأمريكا، له عندنا مناصرون، فهنالك من يقيمون النقد على أساس بحثهم في القطعة الأدبية عن «نفسية» الكاتب، ومن يقيمونه على أساس بحثهم عن «الظروف الاجتماعية» كما انعكست في الثمرة الأدبية المنقودة، ومن يقيمونه على أساس بحثهم عن «الهدف المذهبي (الأيديولوجيا)»، هل وجد تعبيرا عنه أو لم يجد؟ وهكذا وهكذا؛ هنالك من يأخذون عن ت. س. إليوت، ومن يأخذون عن أ. أ. ريتشاردز، ومن يأخذون عن جان بول سارتر، ومن يأخذون عمن لست أدري من في روسيا أو غيرها ... عندنا من البضاعة الفكرية ألف صنف وصنف! أتقول إنها فاعلية وحيوية هذا التوثب لالتقاط الشاردة والواردة؟ قل ما شئت، لكني أقول إنها كالميازيب تصب ماءها دون أن تجد المجرى الأصيل الذي يوحد الماء في تيار؛ ليس في عقولنا الإطار القومي المعد لتشكيل المادة الوافدة في شكل يحمل الطابع العربي برغم اختلاف الأفراد، قل هذا نفسه في كل شيء؛ قله في الفنون على اختلافها، لقد كان للفن العربي طابع مميز تعرفه من أصغر قطعة فيه إلى أضخم مسجد أو قصر، ولم تمنع وحدانية الطابع هذه أن تكون لكل قطعة فرديتها ومميزاتها، ولكن ها هي ذي متاحف رجال الفن عندنا تفتح أبوابها هنا وهناك كل يوم، فزر منها ما شئت، ثم أنبئني عن الطابع الذي يغلب عليها.
كلا، ليس لنا مناخ فكري نعيش فيه؛ فتنوعنا أفرادا وامتنعت روح الفريق؛ لو كان الفيلسوف «ليبنتز» يبعث فينا اليوم حيا لما وجد خيرا منا مثالا يضربه لمذهبه الفلسفي الذي جعل كل فرد برجا مغلقا على نفسه بغير نافذة يطل منها على الآخرين؛ كل فرد منا هو روبنسن كروسو وحيدا في جزيرته، يشتق من رأسه ما يقوله وما يصنعه؛ لو كتب ابن طفيل كتابه «حي بن يقظان» وهو بيننا، لما مست به حاجة إلى أن يخلق بخياله جزيرة لبطله ينفرد فيها بتحصيل العلم كله مستقلا عن سواه؛ لأن في كل رجل منا عزلة تحقق لابن طفيل ما أراد.
اختر حفنة من المفكرين العرب، اخترها كما اتفق، تجدها قد مثلت كل عصور الفكر منذ فجر تاريخنا إلى اليوم، فيها القديم الذي لا يعرف عن الجديد حرفا، وفيها الجديد الذي لا يعرف عن القديم حرفا؛ فيها المستكين وفيها الثائر، فيها الداعية إلى غرب والداعية إلى شرق، فيها من كل صنف مما عرفت ومما لم تعرف ... أفنخطئ لو طالبنا لهذا الشتيت المبعثر ب «دماغ» مشترك يعضونه ويوحده؟
وهنا يأتي السؤال: وما الذي، أو من ذا الذي تريد له أن يكون المهيمن على توجيه هذه الطائفة الفكرية السائبة؟ وأول ما أؤكده وأحرص عليه أشد الحرص هو ألا يقوم فينا من يملي علينا ما نصنعه وما لا نصنعه؛ وإنما نريد من يخلق لنا وسيلة اللقاء الفكري بصورة فعالة جادة، نريد من يهيئ المناخ الملائم الذي يدعونا من تلقاء نفسه إلى ضرب من التجمع العقلي، حتى إن لم يجمعنا مكان واحد؛ نريد للفكرة تصدر في هذا الطرف فتجد الآذان لسمعها في ذلك الطرف؛ القطرات الفكرية موجودة تظهر آنا بعد آن، ونريد من يجعل منها نهرا، اللمعات الفرادى متناثرة بين الصحف، ونريد من يصنع منها سراجا.
ترى هل نتوقع شيئا كهذا من منظمة اليونسكو العربية مثلا؟ هل نسعى لإيجاد التعاون الصحفي (وهو قائم في بعض البلاد الأخرى) الذي من شأنه ألا يكون الاتصال مباشرا بين الكاتب والصحيفة، بل تتولى هذه الصلة نقابة أو ما يشبهها، فتأخذ من الكاتب مقالته لتنشرها في يوم واحد في عدة أقطار دفعة واحدة، فتنشر في الرباط والقاهرة وبغداد - مثلا - في يوم واحد، وعندئذ لا يكون الكاتب مغربيا أو عراقيا، وإنما يكون كاتبا عربيا.
نامعلوم صفحہ