ثقافتنا في مواجهة العصر
ثقافتنا في مواجهة العصر
اصناف
إن لأصحاب التفسير البيولوجي للتاريخ في عصرنا، وأظن أن في مقدمتهم جميعا المفكر الفرنسي المعاصر «تيار دي شردان»
Teilhard de Cardin ؛ رؤية للحقيقة - حقيقة الكون وحقيقة الإنسان - يصلون إليها عن طريق نظريتهم الخاصة في تفسير التطور، أحسبها معينة لنا أنفع العون فيما نحن الآن بصدد الحديث فيه، حتى وإن كانت لنا اعتراضات على تفسيرهم للتطور بصفة عامة، وأساس تلك الرؤية التي أشرنا إليها، هو أولا: أن ننظر إلى التطور فيما قبل ظهور الإنسان نظرة تختلف عنه فيما بعد ظهور الإنسان، وبالنسبة للإنسان وحده دون سائر الكائنات، فأما قبل ظهوره فقد كانت القوة الباطنية الدافعة قوة طاردة، بمعنى أنه كلما ظهر جنس حيواني معين إلى الوجود، فهو لا يلبث أن يتفرق في أنواع مختلفة، يتميز كل منها بخصائصه، برغم اشتراك الأنواع كلها في أرومة واحدة، وأما بالنسبة إلى الإنسان، فالقوة الباطنية الدافعة هي قوة ضامة أو جاذبة، تدأب على تجميع الأطراف نحو مركز واحد، حتى لا تتفرق أنواعا كما حدث في دنيا الحيوان والنبات؛ ولذلك لبث الإنسان بين سائر الكائنات الحية جميعا، وحيدا في كونه نوعا واحدا، ولم يتكاثر أنواعا متباينة، كما نرى مثلا في عالم الحشرات التي تزيد أنواعها على نصف المليون، وفي عالم الطير الذي تقرب أنواعه من تسعة آلاف، لكن الإنسان - وإن صمد على مجرى الزمان نوعا إنسانيا واحدا - فقد استعاض عن التنوع البيولوجي تنوعا آخر، هو التنوع في الثقافات. ومع ذلك فحتى هذا التشتت الثقافي، سرعان ما يجد له دائما مراكز حضارية كبرى، تجمع خيوطه في قبضتها الواحدة، فيظهر العصر وكأنه متميز بطابع فكري واحد.
وثانيا: تتميز رؤية الحقيقة من وجهة نظر التفسير البيولوجي للتاريخ بمبدأ هام، وهو أن البناء العضوي صفة لا تقتصر على الكائن الفرد، بل تتسع لتشمل مجموعات الأفراد؛ فما يصدق على الفرد الواحد من حيث الترابط والتعاون بين أعضائه الكثيرة المتنوعة، بحيث يصبح برغم كثرة أجزائه كائنا واحدا ذا هدف واحد ووجهة نظر واحدة؛ يصدق أيضا على «المجموعة» إذا تعضونت بحيث تصبح هي الأخرى - برغم كثرة أفرادها - وكأنها فرد واحد في اتجاهه وغاياته ووجهة نظره، وذلك بما يكون عندئذ بين هؤلاء الأفراد من ترابط وتعاون؛ شريطة أن يكون لهذه المجموعة من الخصائص العضوية الموحدة ما للفرد، وأهم تلك الخصائص أن يكون لها «دماغ» يتولى التوجيه والتوحيد، ولقد حرصت على ألا أقول هنا كلمة «رأس»؛ لأنها كلمة سرعان ما تتحول في أوهامنا إلى «رئيس»، ثم تتوالى بعد ذلك النتائج، التي لا بد لها - في مناخنا الثقافي الذي تغلغل في كياننا حتى العظام - أن تجعل بين الرئيس والأعضاء حاكما ومحكوما، ومستبدا وخاضعا، وآمرا ومطيعا، وهو ما لا يطوف لي ببال حين أريد الانتفاع بفكرة «الدماغ» في عملية التوحيد العضوي.
هي رؤية تنفعنا نفعا عظيما في إيجاد الوحدة الفكرية الحية النامية التي تبلغ النضج في حينه وتعطي الثمر في إبانه؛ ففي ضوئها نفهم لإحياء تراثنا العربي معنى وقيمة؛ إذ لو سألني سائل (وقد وقعت على السؤال مطروحا في بعض مجلاتنا العربية التي تشتعل على صفحاتها ألسنة من لهيب الثورة الفكرية الجامحة عند طائفة من شبابنا)، أقول إنه لو سألني سائل: فيم العناية بتراثنا الفكري وعصرنا قد اختلف كل هذا الاختلاف عن عصور آبائنا؟ لأجبته - على ضوء الفكرة العضوية التي أسلفنا ذكرها - أننا نحن مع هؤلاء الآباء تيار حيوي واحد ، إذا بترت جزءا منه؛ فني هذا الجزء بالذبول والضمور، فالموت. وليس هذا القول من قبيل التشبيهات البلاغية الجوفاء، لكنه تصوير دقيق لما يقع ويحدث؛ لأننا قد نسأل بدورنا: إذا نحن أهملنا تراث الآباء الفكري إهمالا تاما، فماذا تقترحون لحياتنا الفكرية عندئذ؟ أتقولون مثلا: نقتصر على نتاج أوروبا وأمريكا الآن؟ لكننا لو فعلنا ذلك، ألا يكون فيه «فناؤنا» الفعلي بأن جعلنا أنفسنا خلايا في جسم آخر، هو جسم أوروبا أو أمريكا أو كلتيهما، لو كانا متحدين في كيان واحد؟ وبالفعل هذا ما قد حدث لطائفة من رجال الفكر فينا، ملئوا شرايينهم بثقافة غربية خالصة، فكان وجودهم بيننا وجودا جغرافيا وجوارا مكانيا فقط، وأما أن يشاركونا في الوجود «الزماني»، أي الوجود الذي يمتد ليصل أمسنا بيومنا، ثم ليصل هذين معا بالغد، فذلك ما يستحيل عليهم؛ ومن ثم فهم لا يدخلون حلقات من تاريخنا الفكري، ومع ذلك كله، فلا بد لي من التحذير بأن يؤخذ كلامي هذا على أنه دعوة لقبول الثقافة الموروثة بقضها وقضيضها، بغثها وسمينها؛ فذلك ما لست أعنيه ولا أريده؛ لأنه لو حدث، كان هو الآخر موقفا يند عن وجهة النظر العضوية التي ننظر منها؛ لأنها نظرة تحتم علينا شيئين في آن معا: أن يكون الحاضر موصولا بالماضي في شريان واحد، وأن يكون الحاضر أغزر من الماضي وأضخم وأغنى، بما يستحدثه ويضيفه خلقا جديدا.
الوراثة في عالم النبات والحيوان مقصورة على ما تنقله الناسلات من الوالد إلى الولد، وأما في دنيا الإنسان فيضاف إلى هذا الجانب الجسماني وراثة أخرى، هي الوراثة الثقافية، فلا مندوحة لي - إذا أردت لنفسي «حياة» فكرية صحيحة - عن تشرب العقل العربي كما تجلى في تاريخنا الفكري، لا لأقف عنده خاشعا عابدا، بل لأتصرف فيه تصرف الأحرار فيما بين أيديهم من أدوات نافعة؛ فلئن أخذت قوامي وقامتي وبشرتي وسماتي عن طريق الناسلات العضوية، فلا بد أن يضاف إلى ذلك كله أن أسقى شراب الأقدمين من آبائي، شريطة أن يسري ذلك الشراب سريان العصارة الحية، وذلك هو على وجه الدقة جانب «التربية» الذي ينضاف إلى جانب التعليم والتدريب المهني؛ ليكون لنا من ذلك «المواطن العربي» إلى جانب الكائن البشري متمثلا في - أو مصبوبا في - «الفرد» البيولوجي، الذي هو واحد من آحاد تعد بالملايين من سكان الأرض، لا فرق بين واحد منهم وواحد.
نظرتنا إلى الجهاز الإدراكي كله عند الإنسان، إذا نحن أخذنا بمبدأ التفسير البيولوجي الذي أسلفناه، تعلو به درجة عن مستوى الإدراك الفردي؛ فإذا كان المخ عند الفرد الواحد مؤلفا من خلايا كثيرة تعضونت لتعمل معا؛ فالدماغ الجماعي المشترك خلاياه الكثيرة هم الأفراد من أصحاب الفكر العلمي، أو الخلق الفني، أو ما شئنا من مجالات النشاط العقلي، وإن تضامن المنتجين في كل ميدان بعضهم مع بعض، من شأنه أن يصعد بالوعي إلى درجة أعلى من درجته وهو عند الفرد الواحد، ولست أقصد بهذا ذلك الضرب من العقل الجمعي الذي قال به علماء الاجتماع في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، بل أقصد إلى نوع من المشاركة يزيد فاعلية الأفراد، وإذا شئت توضيحا فقارن لنفسك بين حالتين: الأولى أن يخرج كاتب من كتابنا كتابا يبسط فيه فكرة معينة، فإذا به يجد الصدى بعد حين آتيا إلى مسامعه من سائر أجزاء الوطن العربي، فهو - مثلا - يخرج كتابه في القاهرة، فإذا هو محور للمناقشة والرد والتعديل والرفض عند حلقات المفكرين في لبنان أو الكويت أو العراق. والثانية أن يخرج الكاتب كتابه فإذا الذي يلقاه من الناس صمت أعمق من صمت القبور؛ في الحالة الأولى تكون عقل مشترك بدرجة ما، وفي الحالة الثانية بقي الفرد عند حدود فرديته.
إنني لا أفهم لإحياء التراث ودراسته معنى إلا أن ننظر إليه نظرة بيولوجية؛ بمعنى أنه يتيح لنا أن نجعل من «العربي» إنسانا واحدا امتدت حياته مئات السنين أو آلافها، بحسب العدد الذي نستطيع ربط بعضه مع بعض من حلقات الزمن ليتكون منها تيار واحد متصل، فإذا كان هذا هكذا بالنسبة إلى الماضين مع الحاضرين، فأولى به أن يكون أيضا بالنسبة للحاضرين بعضهم مع بعض، وإلا فهم حفنة من أفراد لا يتكون منهم جماعة عضوية واحدة، ومن باب أولى ألا يمكن ربطهم بماضيهم الموروث؛ وإني لأزعم أن رجال الفكر العربي المعاصر - مهما تكن قيمتهم الثقافية - مبعثرون على نحو يستحيل معه أن تلتقي روافدهم في نهر عظيم واحد، حتى لقد أمكن لهم - بحكم هذا التفكك - ألا ينتموا إلى عصر واحد من الناحية الفكرية، فمنهم من عاد بالتاريخ القهقرى ليعيش مع الأسلاف، ومنهم من عبر الحدود بعقله وخياله ليعيش مع أبناء هذا العصر من أصحاب الفكر في أوروبا وأمريكا، ومنهم من يتخبط في أعاصير الزمن فلا يدري هو نفسه في أي عصر يعيش.
كان من أهم ما يلفت النظر في الحياة الفكرية لآبائنا العرب الأقدمين تواصل قوي وثيق بين رجالها، حتى لتحسبهم في كل شريحة زمنية أسرة واحدة اجتمعت تحت سقف واحد، فها هنا كتاب يصدر في موضوع معين، فلا يلبث أن يرد عليه ناقد هناك بكتاب آخر، بل كان هؤلاء الرجال بالفعل يتنقلون ليلتقي أحدهم بأحدهم لقاء حيا، فيتبادلون الرأي، وكأن جميعهم أساتذة يعملون في جامعة واحدة، ثم لا يقتصر هذا التواصل على أبناء العصر الواحد، بل إنه ليجاوز هذه الحدود فيقوم النقاش بين لاحق وسابق، فكان لنا من ذلك كله نتاج فكري أمكن تسميته ووصفه باعتباره شجرة واحدة، وإن تنوعت فروعها وتباعدت، وهكذا الأمر في كل ثقافة قومية حية، وإلا لما استطعنا أن نفرق مثلا بين مجموعة الفكر في فرنسا ومجموعته في إنجلترا ومجموعته في أمريكا ... وهلم جرا، لكننا نستطيع التفرقة بما تتميز به كل مجموعة من طابع أصيل، نشأ بسبب ما يربط رجالها من روابط المتابعة الممزوجة بالنقد والتمحيص، لماذا تشيع الفلسفة التحليلية في إنجلترا، والفلسفة الوجودية في فرنسا، والفلسفة البرجماتية في أمريكا، والمادية الجدلية في الروسيا، إلا أن تكون هنالك الصلات القوية التي تجمع عددا من الرجال في فريق.
الحق أنه لولا هذا الدوران حول محور يجمع أشتات المجموعة الواحدة فيما يشبه الوحدة برغم تنوع الأفراد، لما أمكن لأي ثقافة أن تكتسب طابعها القومي المميز، وكذلك لولا ما يجمع المتفرقات من الثقافات القومية في فترة معينة من الزمن، لما أمكن للمؤرخ أن يميز عصرا من عصر، بل لانتفت فكرة التاريخ ذاتها؛ لأن التاريخ - بأي منظار نظرت إليه - هو التماس لروابط الوصل التي تحيل الحوادث المفككة في ظاهرها، حياة جارية موصولة الأجزاء.
على أن وسائل الربط في عالم الفكر قد اختلفت من عصر إلى عصر، ومن أمة إلى أخرى؛ فربما كانت مجالس الخلفاء والأمراء والوزراء في الحياة العربية القديمة وسيلة مهمة لذلك؛ ففي تلك المجالس كان يذكر الشاعر أو اللغوي أو الفقيه أو الفيلسوف مقرونا بما أذاعه في الناس من أدب وفكر، ليكون ذلك موضوعا لحديث الحاضرين، وموضعا للمعارضة أو التأييد، وبهذا الحوار المستمر خلق الجو المشترك للعصر الواحد، ثم للفكر العربي كله بصفة عامة؛ فأحسب أنا لو أرخنا لقصر واحد، كقصر الرشيد، أو قصر المأمون، أو قصر سيف الدولة الحمداني؛ لأرخنا لحركة فكرية أدبية بأسرها، وكذلك لو أرخت لجامع واحد من الجوامع التي كانت ملتقى الفقهاء والمفكرين - والجامع بهذا المعنى كان هو الجامعة - لتعقبت مدرسة فكرية كيف نشأت وعلى أي وجه تشعبت فروعها، وهكذا كان لنشاطهم الفكري مراكز تجمعه وتهيئ له طريق السير، ولا عجب أن أخذ أعلام الفكر في كل عصر يذرعون أرض العروبة من مشرقها إلى مغربها، ومن مغربها إلى مشرقها، كل يقصد إلى هذه المراكز يؤمها، ليأخذ ويعطي، فتندمج الروافد الكثيرة في نهر واحد عظيم.
نامعلوم صفحہ