فهذه الأكاديمية الفرنسية أخرت الفنون بدلا من أن ترقيها، ولذلك لما جاءت الثورة أذنت «الجمعية الوطنية» لجميع رجال الفن سواء أكانوا أعضاء أم غير أعضاء بالأكاديمية أن يعرضوا رسومهم، وألغت بذلك احتكار الأكاديمية للعرض. ومن الأرقام يتضح للقارئ مقدار التقدم بإلغاء السلطة الأكاديمية. فقد كان المعروض من الصور قبيل الثورة سنة 1789 والملوكية قائمة 350 صورة، فزادت إلى 794 سنة 1791 أي مدة الثورة. وفي سنة 1795 بلغ العدد 3048 صورة.
وهذه الأرقام تدل القارئ على أن ما نحسبه نظاما مفيدا قد يكون تقييدا مضرا، وأن الحرية على ما فيها من قليل من الفوضى والاضطراب خير من المبالغة في التقييد بدعوى النظام.
وفي سنة 1793 قررت حكومة الثورة دفع مكافآت لرجال الفنون تبلغ قيمتها السنوية 442000 فرنك. وتأسس متحف في اللوفر لجميع التحف الفنية. وبينما كان الرعاع يهدمون الآثار الفنية، كان رجال الثورة يجمعون كل ما يستطيعون جمعه منها وصيانته.
وكانت النزعة الفاشية في الفنون مدة الثورة تنحو نحو القدماء وتستوحي الإغريق والرومان، وكان الميل إلى الرومان أكثر من الميل إلى الإغريق، ولعل هذا هو السبب لإخفاق الثورة في إنجاب رجل عظيم من رجال الفن.
ويعد «دافيد» الذي ولد سنة 1748 وتوفي سنة 1825 من أحسن من يمثل تأثير الثورة في الفنون. وقد رحل إلى روما، وأخذ هناك في درس القدماء. ولا نعني القدماء من الرسامين في عهد النهضة، بل قدماء الرومان أيام الإمبراطورة، ولذلك فإنه كان يختار لرسومه موضوعات قديمة. وعاد إلى باريس فكان من حزب روبسبير، وكاد يتعرض للخطر. ولكنه كف عن السياسة واعتكف في مرسمه، فنجا بذلك من عواصف الثورة. ولما أسس «معهد فرنسا» على أنقاض الأكاديميات القديمة تعين «دافيد» عضوا لكي يختار سائر الأعضاء.
ولما ظهر نابليون وارتفع شأنه كان «دافيد» من أعظم المعجبين به، وقد قعد له نابليون جلسة واحدة فشرع في رسم الرأس ولكنه لم يتمم الجسم لسأم نابليون، ولأنه كان يحب أن يظهر للناس كما يتخيلون على رأس جيش أو وهو على جواده في المعمعان أو نحو ذلك، ولذلك رسمه رسما خياليا في صورة «نابليون يعبر جبال الألب».
وأحسن ما خلفه «دافيد» هو صورة «المدام ريكامييه»، مع أنه كان يعتقد أنها غير جديرة به وكاد يتلفها لهذا السبب. وقد حدث له أنه قبل أن يكمل الصورة تركته هذه السيدة وقصدت إلى رسام يدعى «جيرار» وثب حديثا إلى الشهرة لكي يرسمها، فلما مضت مدة لم تعجبها الصورة فعادت إلى «دافيد»، ولكنه أجابها بقوله: «نحن يا سيدتي لنا نزق النساء فلنترك الصورة حيث وقفنا».
ولما انهزم نابليون سنة 1815 نفى «دافيد» من فرنسا. فقصد إلى بروكسل حيث مات سنة 1825. وإلى «دافيد» يعزى إحياء هذه النزعة إلى درس القدماء من إغريق ورومان.
ومن أحسن الرسامين في ذلك العصر المدام «فيجيه لوبران» التي ولدت سنة 1755 وماتت سنة 1842. وكان أبوها رساما مات وهي في الثانية عشرة فاستأنفت هي عمله وصارت لها شهرة وهي بعد في الخامسة عشرة. وتزوجت المسيو لوبران، وكان يتجر بالرسوم والتحف الفنية وعنده مجموعة من الصور، وجدت هي الفرصة الحسنة في درسها والنقل عنها. واختيرت عضوا في الأكاديمية سنة 1783. وكانت ترسم أعضاء الأسرة المالكة، وقد رسمت الملكة ماري أنطوانت وأولادها. ولما اشتعلت الثورة خشيت عواقبها فنزحت إلى إيطاليا، وهناك احتفل بها الرسامون وأكرموها، وتنقلت في العواصم الأوروبية. ثم عادت إلى فرنسا سنة 1801، وعادت فغادرتها إلى إنجلترا ثم هولندا، ولم تعد إليها إلا سنة 1809.
ولم تتأثر بالثورة لأنها قضت معظم وقتها خارج فرنسا، ولذلك فإننا لا نجد فيها تلك النزعة إلى القديم التي نجدها في دافيد. ولا يمكن أن ننسبها إلى مدرسة خاصة، فإنها لا تنتسب إلى المدرسة الفرنسية إلا من حيث الرعوية والزمن فقط، فهي في الواقع أممية الذوق والنزعة. وأحسن ما خلفته من الصور هو رسمها لنفسها مع ابنتها.
نامعلوم صفحہ