ولا بد في هذا التمهيد من كلمة موجزة عن ماركسية أصحاب النظرية النقدية؛ فقد ذكرنا أنهم تبنوا الماركسية من حيث المبدأ أو من حيث الجوهر وروح المنهج ، ولكنهم لم يتقيدوا بصورتها الحرفية ومقولاتها التقليدية، التي تركزت حول نقد الرأسمالية كنسق اقتصادي تعتمد عليه «البنية الفوقية» والمنظومة الفكرية (الأيديولوجية) بمختلف جوانبها. لقد قامت ماركسيتهم المبدئية - كما قدمت - على نقد العلاقات المغتربة والمسببة لاغتراب الإنسان في المجتمعات الرأسمالية والصناعية القائمة على الشمولية والعقلانية التقنية والإدارية التي ادعت التقدمية والاستنارة، وتباهت بالسيطرة على الطبيعة والإنسانية في الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي على السواء. ولم يكن المصدر الأساسي لهذا النقد هو النظرية الماركسية في مجموعها، ولا الارتباط بالطبقة العاملة، بقدر ما كان - في معظم الأحوال، لا في جميعها - هو التأثر بتجربة ماركس الشاب الذي اكتشفوه مع اكتشاف «مخطوطاته الاقتصادية والفلسفية لعام 1844م» في مطالع هذا القرن في باريس، بحيث وجدوا في آرائه تأكيدا لاغتراب الإنسان في المجتمعات السابقة الذكر عن ماهيته الحقيقية، واغترابهم كيهود مضطهدين من تلك المجتمعات. لقد أدركوا أن الرأسمالية كارثة تحيق بالإنسان؛ بحقيقته وآماله في حياة حرة ومبدعة وسعيدة، وعرفوا أن نقدهم لها ينبغي ألا يقتصر على الإصلاح الاقتصادي والسياسي، بل يستوجب الثورة الشاملة عليها؛ على «صنميتها» السلعية وعقلانيتها واستنارتها المزعومة التي تقف حجر عثرة أمام كل حياة إنسانية أصيلة (وهذا هو الذي فعله «أدورنو» في مقاله المبكر سنة 1932م عن الوضع الاجتماعي للموسيقى، وفي الكتاب الذي اشترك فيه مع «هوركهيمر» عن «جدل التنوير»، 1945م).
غير أن هذه النظرة النقدية المشبعة بروح الخلاص والوعي المسئول ب «رسالة» أصحابها، لم تخل في الوقت نفسه من الازدواج والتمزق والتشكك في دور النظر العقلي والبحث العلمي والتقني، في ظل حضارة تندفع - في رأيهم - إلى هاوية لا عقلانية، وتتسلط على وعي الإنسان وتزيفه، في الوقت الذي تسيطر فيه على المادة والطبيعة، وتتحكم فيهما بوسائل القمع والقهر الرهيبة. ولم تتجرد تلك النظرة كذلك من الإحساس الفاجع القاتم، الذي فرضته عليهم روح العصر المتدهور أو الآفل للغروب (على حد تعبير شبنجلر، وتحت تأثير شوبنهور وفلاسفة الحياة)، ولا من الإيمان الشجاع بضرورة «الإنقاذ» عن طريق المعرفة العلمية والموضوعية بالعلاقات والأشكال الاجتماعية، ومن خلال الأمل «الرواقي» الصامد رغم كل شيء، الواعد بحياة إنسانية «أصيلة» وبريئة من القمع والزيف والبؤس والاغتراب.
وإذا كانت الإبداعات والإنجازات الكبرى قد تولدت - في تقديري المتواضع - عن الأزمات التاريخية والاجتماعية والفكرية، التي أحسها الأفراد العظام ووعوا شروطها وإرهاصاتها تمام الإحساس والوعي، فإن النظرية النقدية لهذه المدرسة ليست استثناء من ذلك؛ فهي أيضا وليدة أزمات العصر وعصر الأزمات، ونتاج الصراعات والمتناقضات على اختلاف درجاتها ومستوياتها وأسبابها ونتائجها، بل إن اسم مدرسة فرانكفورت ليثير مشكلات ويوحي بتداعيات تقفز على الفور إلى الذهن، وتؤكد أنها من إفراز النظم الشمولية الحديثة في المجتمعات الصناعية المتقدمة، على الرغم مما قد يبدو بينها من تنافر وتنوع في أبعادها. ويكفي أن نذكر منها: النازية وهجرة المثقفين الألمان فرارا من إرهابها، أهوال الحرب العالمية الثانية، مشكلة اليهود في أوروبا، جمهورية فيمار الهشة التي اكتسحها الطغيان النازي، عصر «مكارثي» الذي عاش أعضاء المدرسة تحت نير مباحثه أثناء وجودهم في نيويورك ولوس أنجلوس، حركة الطلاب المتمردين أو الرافضين في أواخر السبعينيات، أزمة الماركسية سواء تمثلت في عجز الأحزاب اليسارية الأوروبية تجاه التصاعد النازي، أو تجلت بعد الحرب في محاولات تجديدها من الداخل وتفجير تزمتها المذهبي وشموليتها البوليسية والبيروقراطية، أزمات الفكر الفلسفي «البرجوزاي» التي تبدت واضحة في تهاوي المثالية، وجمود الفلسفة الأكاديمية، وانسحاب فلسفة الظاهرات (الفينومينولوجيا) وفلسفة الوجود إلى الباطن عجزا منهما عن إدراك الواقع الحي وتفسيره وتغييره، أو خوفا من المد الثوري الاشتراكي.
أضف إلى هذا كله أزمة الحركة التعبيرية في الأدب والفنون التشكيلية قبل الحرب وبعدها، واتهام أنبغ المبدعين الألمان بالتحلل والزيغ، واضطرارهم للهرب من وطنهم، بجانب عدد من النزاعات الجدلية والخصومات الفلسفية والعلمية التي شارك فيه بعض أعضاء المدرسة - وبخاصة أدورنو وتلميذه هابرماس - مثل النزاع حول النزعة الوضعية عند علماء الاجتماع التقليديين في الجامعات الألمانية، وحول النقد الثقافي والحضاري، وحول فلسفة «هيدجر» في الوجود (الأنطولوجيا)، وهي الفلسفة التي كان لها «نصيب الأسد» من الهجوم الحاد الذي صبه عليها الاسمان الأخيران على فترات متباعدة بين الستينيات والثمانينيات، وكلها أزمات وصراعات تستحق مزيدا من التفصيل الذي يضيق عنه هذا المجال المحدود.
يترتب على ما سبق حقيقة بالغة الوضوح وإن كنا لا ننتبه إليها عادة، وهي أن النظرية النقدية نفسها «تاريخية» وليست ثابتة ولا مطلقة. ومعنى هذا أنها تخضع للنقد، شأنها شأن كل الظواهر التي يغمرها نهر الصيرورة وتحركها أمواج التاريخ، ومعناه كذلك أن «نقد النقد» أمر وارد وواجب، وإلا فنحن لم نتعلم من النقد شيئا. وطبيعي كذلك أن يكون نقدنا لها نقدا تاريخيا؛ أي مشروطا بأوضاعنا وظروفنا الذاتية والموضوعية، ومرتبطا بسياقنا الاجتماعي والسياسي والثقافي ومدى قدرتنا على استيعابه؛ ولذلك فهو بدوره لن يكون معصوما من النقد ولا من نقد النقد، وسوف نؤجله إلى ما بعد العرض الإجمالي للنظرية النقدية وتطورها وجذورها التاريخية وأهم سماتها ومعالمها وأبرز أعضائها، وذلك كما قلت في الإطار المحدود الذي يتسع له هذا البحث. (1) النظرية النقدية الجدلية (1-1) جذورها التاريخية وأهم ممثليها
ترتبط النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت أوثق ارتباط ب «معهد فرانكفورت للبحث الاجتماعي»، الذي أسسته في سنة 1923م نخبة من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والاقتصاد والنفس والنقد الأدبي والجمالي المنحدرين من أصول يهودية، وقد حددوا وضعه وهدفه منذ البداية، بحيث يكون معهدا حرا غير مقيد بالنظم الجامعية والأكاديمية، يتفرغ لبحث مشكلات الاشتراكية والماركسية والعنصرية وحركة العمال، مع الاعتماد بصورة عامة على المنهج الماركسي في التحليل النقدي الاجتماعي. وقد كان من بين أعضائه في العشرينيات والثلاثينيات عدد من الأعلام الذين ذاعت شهرتهم بعد ذلك في الحياة الفكرية والأدبية، مثل عالم النفس الاجتماعي والكاتب الفيلسوف «إريك فروم» (1900-1980م)، والناقد الأدبي الماركسي فالتر بنيامين (1892-1940م)، وعالم الاجتماع الأدبي ليو لوفنتال، وبوجه أخص الفيلسوفان: تيودور فيزنجروند أدورنو (1903-1969م) وهربرت ماركوز (1898-1979م)، وفيلسوف الاجتماع ماكس هوركهيمر (1895-1973م)، الذي تولى إدارة المعهد من سنة 1930م إلى سنة 1934م عندما أغلقته السلطات النازية، فاستمر في الإشراف عليه بعد ضمه إلى جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية (من 1934-1950م)، بجانب إشرافه على إصدار «مجلة البحث الاجتماعي»، ورئاسة تحريرها من سنة 1932م إلى سنة 1941م. وتجمع الآراء اليوم على أن أصحاب الأسماء الثلاثة الأخيرة هم مؤسسو «النظرية النقدية الجدلية» وأهم ممثليها من الجيل الأول، بالإضافة إلى أهم ممثليها من الجيل الثاني وأشهرهم، وهو المفكر والفيلسوف الاجتماعي يورجين هابرماس (ولد سنة 1929م).
بلغت هذه المدرسة ذروة تأثيرها على الحياة الفلسفية والعقلية، وعلى تفكير الرأي العام المثقف في أوروبا وألمانيا الغربية في النصف الثاني من عقد السبعينيات، عندما تبنت حركة الطلاب المعروفة بعض أفكار النظرية النقدية، وأدمجتها في «أيديولوجيتها» اليسارية الجديدة الرافضة لكل أشكال السلطة والتسلط. وقد تأثر رواد هذه الحركة الثورية بأفكار «ماركوز» على وجه الخصوص، كما راجت آراؤه النقدية للمجتمع الرأسمالي الصناعي، في أعقاب مظاهرات الاحتجاج على التمييز العنصري، واضطهاد الأقليات، وحرب فيتنام التي هزت الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية؛ مما ساعد على انتشار «النظرية النقدية» على الأقل في أوساط المثقفين والطلاب المتمردين.
ومن أهم الجذور التاريخية والعقلية التي تغذت عليها النظرية النقدية، ونمت في تربتها: (1)
تراث الفلسفة المثالية الألمانية، وفي مقدمته تراث جورج فيلهيلم فريد ريش هيجل (1770-1831م). (2)
كتابات الشباب المبكر لكارل ماركس (1818-1883م)، وبخاصة المخطوطات الاقتصادية الفلسفية لعام 1844م، التي تحتل فيها فكرة اغتراب الإنسان في ظل مجتمع علاقات الإنتاج الرأسمالي مكانة كبيرة. (3)
نامعلوم صفحہ