مثل هذا النقد «السالب» أو «النافي» - بالمعنى الحقيقي للسلب أو النفي - عنصر أساسي في تكوين المنهج الجدلي الذي أثبت، منذ هيجل على أقل تقدير وحتى ماركس وأصحاب النظرية النقدية الذين سنتحدث عنهم، أنه بطبيعته نقدي وثوري، وأنه يؤدي إلى التغيير الإيجابي عن طريق سلبه لكل ما هو فاسد في الواقع السائد، وتطوير ما يقبل منه التطوير إلى جديد ملائم للحاجات المستجدة، وقادرة - في حدود الممكن لا المستحيل، وبصورة عقلانية وعلمية، لا بصورة عاطفية متمردة وعشوائية! - على الخروج من الأزمات والمشكلات، وإحلال قيم ومعايير مختلفة محل القيم والمعايير التي أصبحت تقليدية جامدة، واقتضت «الجدلية» الجذرية أو الثورية تخطيها, ولا بد في النهاية أن يعمل مثل هذا النقد على تغيير القائم أو السائد تغييرا فعليا، وألا يقتصر على تعريته وتحليله تحليلا نظريا وفكريا وحسب؛ لأنه إما أن يتحول إلى فعل ثوري واع يستبدل ببناء اجتماعي ومعرفي وقيمي منهار بناء آخر أصلح وأقرب للواقع الحي، ويضع تصورا لتغيير مستقبلي ينفي السائد الذي دب فيه الفساد ويزلزل ثوابته المزعومة، وإما ألا يكون نقدا على الإطلاق، بل شيء من قبيل الأوهام الزائفة والأحلام المستحيلة، والوعود البلاغية والإنشائية التي لا يلبث الواقع العيني أن يكذبها ويخذلها.
بهذا المعنى يصبح النقد هو الجهد العقلي والعملي، الذي يتجه لعدم تقبل الأفكار وأساليب القول والفعل والسلوك والظروف الاجتماعية والتاريخية وسائر العلاقات التي تربط الإنسان بعالمه ومجتمعه تقبلا أعمى، وهو جهد يبذل للتوفيق بين جوانب الحياة الاجتماعية وبين الأفكار والأهداف العامة للعصر، وتمييز المظهر فيها من الجوهر، والبحث في أصول الأشياء وجذورها، وفي المصالح الكامنة وراءها والمعارف المرتبطة بهذه المصالح ... إلخ؛ أي معرفتها معرفة حقة تفضي إلى تغييرها من أساسها على هدي «نموذج ضدي» متصور وممكن في آن واحد.
1
وبهذا المعنى أيضا نصل إلى مفهوم النقد عند أصحاب النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، أو نقترب منه على أقل تقدير؛ فقد كانوا رواد فلسفة اجتماعية أو علم اجتماع نقدي، توحد فيه التأمل الفلسفي النظري مع العلوم الاجتماعية أو العلوم الإنسانية التجريبية، ونظروا - على حد تعبير رائدهم ماكس هوركهيمر (1895-1973م) - إلى المجتمع بوصفه «كلا ضديا» حافلا بالصراعات والتناقضات، وأسسوا فلسفة اجتماعية تركز موضوع بحثها على البشر المغتربين عن أشكال حياتهم التاريخية في المجتمعات الرأسمالية والصناعية الشمولية، التي أنتجوها كما كانوا نتاجا لها، واغتربوا عنها كما كانت السبب في اغترابهم.
وعنوان هذا التمهيد يثير مشكلة تستحق الإشارة إليها؛ فهل نسمي مجموعة الفلاسفة وعلماء الاجتماع اليساريين، الذين بدأ جيلهم الأول نشاطه النظري والتجريبي في أوائل الثلاثينيات من هذا القرن، مع تأسيس معهدهم الشهير «معهد البحث العلمي» في مدينة فرانكفورت (على نهر الراين) قبل هجرتهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم بعد عودة معظمهم من هذا المهجر أو المنفى سنة 1951م إلى المدينة نفسها، حتى وفاة واحد من أهم أعضاء هذه المجموعة وأنبغهم، وهو تيودور فيزنجروند أدورنو (1903-1969م)، وبروز الجيل الثاني وعلى رأسه الفيلسوف المشهور المرتفع الصوت يورجين هابرماس (1929م) وتلاميذه؛ هل نسميهم باسم «مدرسة فرانكفورت»، وهو الاسم الذي عرفوا به بعد الحرب العالمية الثانية، أم نسميهم من ناحية المنهج الذي اتبعوه في النظر والتطبيق، واستندوا فيه إلى روح الفلسفة الماركسية مع الابتعاد عن معظم مقولاتها الأساسية، باسم أصحاب «النظرية النقدية»؟
2
الحق أن التسميتين واردتان، وهما متفاعلتان عند من يعرف الجهود المشتركة لهذه المجموعة من المثقفين اليساريين وعلماء الاجتماع ونقاد الحضارة والأدب والفن، الذين أعملوا مبضع النقد الثوري في أمراض حضارتهم «البرجوازية» التي ضلت طريقها، وتزايدت في رأيهم سرعة اندفاعها إلى هاوية اللاعقل وكارثة السقوط المحتوم عن طريق عقلها نفسه أو عقلانيتها التقنية، هؤلاء الذين سيطرت عليهم فكرة «الخلاص» والكفاح في سبيل عالم أفضل تسوده الاستنارة والرشد، ويختفي منه القهر والقمع، ويتم فيه إنقاذ الحياة المباشرة السعيدة؛ الحياة الأصيلة المبدعة. هؤلاء المفكرون والعلماء أصحاب الرسالة الاجتماعية والإنسانية يمكن أن يكون شعار «مدرسة فرانكفورت»، الذي عرفوا به علامة مميزة لجهودهم وسماتهم المشتركة، كما يمكن وصفهم بأصحاب النظرية النقدية، أو الاكتفاء بالاسم الذي يدل على منهجهم وهو «النظرية النقدية»، وبصورة أدق «النظرية النقدية الاجتماعية»، أو «النظرية النقدية الجدلية». كل هذا على الرغم من الاختلافات الدقيقة بينهم في تحديد معناها، ومن تفاوت طرقهم في البحث والنظر، بحيث يمكننا الحديث في الحالتين عن موضوعات وسمات عامة، تؤلف بين أعضاء جماعة تنوعت اهتماماتهم وتخصصاتهم أكثر من إمكان الحديث عن مدرسة علمية موحدة ومتماسكة، ولا سيما أنها لم تزل عند أبرز رواد جيلها الثاني (وهو هابرماس الذي سبق ذكره) فلسفة مفتوحة، ولم تزل تسعى إلى إتمام بنائها النظري والعلمي، وإدماج عناصر جديدة فيه من فلسفات العصر الأخرى المؤثرة (كالفلسفة التحليلية والتحليل النفسي والفينومينولوجيا أو الظاهرية والوجودية والهيرومينويطيقية أو فلسفة التفسير ... إلخ) إلى الحد الذي تتهم معه من جانب خصومها بأنها لم تعد نقدية ولا ماركسية، وأنها انتهت عند بعض أعلامها في أواخر حياتهم إلى نوع من اليسارية العدمية!
ربما كان من أهم السمات المشتركة التي ذكرناها، أن أعضاء الجيل الأول ينحدرون من أصول يهودية، وقد ألح عليهم ذلك الشعور الذي لازم اليهود في كل المجتمعات القديمة والحديثة التي عاشوا فيها، حتى قيل: إنه جزء من طبيعتهم، ألا وهو الشعور بالاغتراب عن مجتمعاتهم «البرجوازية» والشمولية - رأسمالية كانت أو شيوعية - وإحساسهم المعذب بافتقاد الحياة الذاتية الأصيلة وسط بشر مثلهم مقهورين ومغتربين. ولعل هذا الشعور المعذب أن يكون كذلك سببا في اقترابهم من الطبقة العاملة المطحونة والمغتربة عن تلك المجتمعات، واهتمامهم من بداية أمرهم بتكريس قدر كبير من بحوثهم الاجتماعية لقضايا هذه الطبقة ومشكلاتها وألوان الظلم التي تتعرض لها
3 (مع العلم بأن معظم أعضاء المدرسة قد نشئوا في عائلات يهودية موسرة، وأن معهد البحث الاجتماعي نفسه قد أسسه وأنفق عليه بسخاء ابن مليونير يهودي هو فليكس فايل).
وربما كان من أهم السمات العامة التي تميز كذلك معظم أعضاء المدرسة من أصحاب النظرية النقدية، أنهم التفوا - لفترة طويلة على الأقل، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية ورجوع معظمهم من المهجر - حول معهدهم ومجلتهم، والتزموا إلى حد كبير بالبيان «المانيفيستو!» الذي وضح اتجاههم العلمي والنقدي، وألقاه راعيهم ومديرهم «ماكس هوركهيمر» في محاضرته الافتتاحية بجامعة فرانكفورت سنة 1931م بعنوان: الوضع الحاضر للفلسفة الاجتماعية ومهام معهد البحث الاجتماعي. كما التزموا بالأفكار الأساسية التي وردت في مقاله الذي يرجع لعام 1937م عن النظرية التقليدية والنظرية النقدية. أضف إلى هذا كله أنهم عدوا أنفسهم ورثة هيجل وماركس (الشاب بوجه خاص!) وأدمجوا في ماديتهم التاريخية والنقدية عناصر مختلفة من التحليل النفسي الفرويدي، وأفكارا ومشاعر عديدة من رواد فلسفة الحياة وأصحابها الذين نقدوا العقل والميتافيزيقا (مثل شوبنهور ونيتشه ودلتاي وكلاجيس وبرجسون)؛ مما جعل بعض خصومهم يصفونهم بأنهم ماركسيون وجوديون أو وجوديون متمركسون، وبأنهم عاطفيون مصابون بالتشاؤم الحضاري والعدمية التاريخية، التي حاولوا الفرار من أسوارها الكثيفة المظلمة بأجنحة أحلامهم الغامضة عن الإنقاذ والخلاص، عن طريق الإبداع والفن حينا، أو على يد أنبياء العصر الجدد حينا آخر، من المنبوذين والمضطهدين والهامشيين وصعاليك الفنانين وشباب الجامعات المتمردين.
نامعلوم صفحہ