{ و } علامة كفرهم أنهم من غاية نفاقهم معك ومع من تبعك { من الذين هادوا سماعون للكذب } أي: للكذب المفترى بالتورية، بأنك لست النبي الموعود فيها ومصدقون لها من الذين هادوا، قدم الاختصاص؛ إذ لا مصاحبة للمنافقين مع المؤمنين خصوصا في خلواتهم، بل مع أحبار اليهود، وهم من أعدى عدوك، وأشدهم غيظا وبغضا، ومع ذلك { سماعون } أيضا { لقوم آخرين } ممن آمن بك من أقاربهم وعشائرهم؛ لضلوهم عن طريق الحق، ومن لم يؤمن لك يميلون بقلوبهم إلى الإيمان ليقعدوهم، وليصرفوهم عما نووا في نفوسهم، وكيف لا يكون أحبار اليهود من أعدى عدوك يا أكمل الرسل، وهم من غاية بغضهم معك { لم يأتوك }؟.
ومع عدم إتيانهم { يحرفون } ويغيرون { الكلم } المنزلة في التوراة بيان بعثتك ووصفك وحليتك، ومنشأتك وحسبك ونسبك وعلو شأنك، ووضوح برهانك وتكملتك أمر النبوة والرسالة، ونسخك جمع الأديان { من بعد } كونه مثبتا عن { مواضعه } بوضع إلهي، وهم أيضا من غاية بغضهم معك { يقولون } لإخوانهم حينما حكموك في أمر؛ لشهرة أمانتك، ووثوقهم برأيك وعزيمتك في قطع الخصومات: { إن أوتيتم } وحكمتم طبق { هذا } أي: المحرف { فخذوه } واقبلوه، وامضوا عليه، وارضوا به { وإن لم تؤتوه } موافقا له { فاحذروا } منه، وأعرضوا عنه.
ثم قال سبحانه؛ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: { ومن يرد الله فتنته } كفره وظلمته وقساوته { فلن تملك له من الله شيئا أولئك } البعداء عن نهج الرشاد من الكفارين { الذين لم يرد الله } ولم يتعلق مشيئته { أن يطهر قلوبهم } من خباثة الكفر الشرك { لهم في الدنيا خزي } هوان وصغار وجزية وذلة ومسكنة { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } [المائدة: 41] هو الخلود في نار الحرمان عن مرتبة الإنسان.
[5.42-43]
وما هو إلا أنهم { سماعون للكذب } المذكور، معتقدون صدقها ومطابتها للواقع ومسمعونهم أيضا، وهم؛ أي: الأحبار { أكالون للسحت } أي: الحرام الذين يرتشون منهم؛ بسبب تحريفهم نعتك يا أكمل الرسل من كتابهم؛ لتبقى رئاستهم وجاههم فأعرض عنهم وعن إيمانهم { فإن جآءوك } ليحكموك، إن شئب { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } وعن حكمهم، فلك الخيار.
{ و } لا تبال بهم وبعداوتهم { إن تعرض عنهم } فإنهم وإن عادوك أشد عداوة وبغضا { فلن يضروك شيئا } من المكروه، فإن الله يعصمك ويكفيك من شرورهم { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } والعدل الذي هو أمر الحق ونطق به الفرقان { إن الله } المستوي باسم الرحمن على عروش الذرائر معتدلا بلا تفاوت { يحب المقسطين } [المائدة: 42] المتعدلين من عباده، المائلين عن كلا طرفي الإفراط والتفريط، المنتهين إلى قعر الجحيم، وليس غرضهم من تحكيمك الإطاعة بك وبحكمك، والوثوق لأمانتك ووقوفك، بل ليس غرضهم إلا التسهيل والتيسير، والإعراض عن بعض الأحكام مداهنة.
{ و } إلا { كيف يحكمونك } مع عدم إيمانهم بك وبكتابك { و } الحال أنه { عندهم التوراة فيها حكم الله } على التفصيل، وم يدعون العلم بها { ثم يتولون } وينصرفون { من بعد ذلك } أي: بعدما حكمت فيما حكموك فيه مع أنه مطالق لكتابهم { ومآ أولئك بالمؤمنين } [المائدة: 43] أي: وما إعراض أولئك المؤمنين بكتابهم، الموقنين فيه حتى يحكموك مع كونهم عالمين بحكمك فيه.
[5.44-45]
{ إنآ } من مقام جودنا { أنزلنا التوراة } إلى موسى، وأدرجنا { فيها هدى } بهدي إلى الحق من ضل عن طريقه { ونور } يكشف طريق التوحيد لمن استكشف منه { يحكم بها النبيون } من أنبياء بين إسرائيل { الذين أسلموا } معه، وفوضوا أمورهم كلها إليه بعدما تحققوا بتوحيده { للذين هادوا و } وكذا يحكم بها { الربانيون } المنسوبون إلى الرب بمتابعة الأنبياء، وهم الأولياء، فهم { و } كذا { الأحبار } المتفقهة، فهم يحكمون { بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه } أي: على ما استحفظوا { شهدآء } مستحضرين يراقبون، ويداومون على حفظه.
{ فلا تخشوا الناس } أي: لا تميلوا أيها الحكام عن طريق الحق من أجل الناس المتعظمين بجاههن ورئاستهم، ولا تداهنوا في الأحكم؛ رغاية لجانبهم { واخشون } من بطشي، وغضبي عليكم حين مخالفتكم كمي وأمري، مداهنة { و } عليكم أن { لا تشتروا بآياتي } وأحكامي { ثمنا قليلا } من الرشى { و } اعلموا أن { من لم يحكم بمآ أنزل الله } أي: بمقتضاه، وموافقا له { فأولئك } البعداء المداهنون، المرتشون { هم الكافرون } [المائدة: 44] الساترون مقتضى الحكمة بأهويتهم الباطلة، الخارجون عن رتبة العبودية بمخالفة حكم الله وأمره.
نامعلوم صفحہ