صلى الله عليه وسلم
أن ملته وأهلها هم الظاهرون ليوم القيامة لأبطلوا الإسلام، ولكنهم قد ثلموه وعوروا أركانه، والله ينجز وعده إن شاء الله ...»
ثم يقول: «فأول الحوادث التي أحدثوها إخراج كتب اليونانية إلى أرض الإسلام، فترجمت بالعربية وشاعت في أيدي المسلمين، وسبب خروجها من أرض الروم إلى بلاد الإسلام يحيى بن خالد بن برمك، وذلك أن كتب اليونانية كانت ببلد الروم، وكان ملك الروم خاف على الروم إن نظروا في كتب اليونانية أن يتركوا دين النصرانية، ويرجعوا إلى دين اليونانية، وتتشتت كلمتهم، وتتفرق جماعتهم، فجمع الكتب في موضع، وبنى عليها بناء مطمئنا بالحجر والجص حتى لا يوصل إليها.
فلما أفضت رياسة بني العباس إلى يحيى بن خالد، وكان زنديقا، بلغه خبر الكتب التي في البناء ببلد الروم، فصانع ملك الروم الذي كان في وقته بالهدايا ولا يلتمس منه حاجة، فلما أكثر عليه جمع الملك بطارقته وقال لهم: إن هذا الرجل خادم العربي أكثر علي من هداياه ولا يطلب مني حاجة، وما أراه إلا يلتمس حاجة، وأخاف أن تكون حاجته تشق علي.
فلما جاءه رسول يحيى قال له: قل لصاحبك: إن كانت له حاجة فليذكرها. فلما أخبر الرسول يحيى رده إليه وقال له: حاجتي الكتب التي تحت البناء يرسلها إلي، أخرج منها بعض ما أحتاج إليه، وأردها إليه. فلما قرأ الرومي كتابه استطار فرحا، وجمع البطارقة والأساقفة والرهبان وقال لهم: قد كنت ذكرت لكم عن خادم العربي أنه لا يخلو عن حاجة، وقد أفصح بحاجته، وهي أخف الحوائج علي، وقد رأيت رأيا فاسمعوه؛ فإن رضيتموه أمضيته، وإن رأيتم خلافه تشاورنا في ذلك حتى تتفق كلمتنا، فقالوا: وما هو؟ قال: حاجته الكتب اليونانية يستخرج منها ما يحب ويردها، فقالوا: فما رأيك؟
قال: قد علمت أنه ما بنى عليها من كان قبلنا إلا أنه خاف إن وقعت في أيدي النصارى وقرءوها كانت سببا لهلاك دينهم، وتبديد جماعتهم، وأنا أرى أن أبعث بها إليه وأسأله ألا يردها؛ يبتلون بها ونسلم نحن من شرها، فإني لا آمن أن يكون بعدي من يجترئ على إخراجها إلى الناس، فيقعوا فيما خيف عليهم، فقالوا: نعم الرأي رأيت أيها الملك؛ فأمضه ...» •••
وهذه قصة تصح في التاريخ أو لا تصح، فلا شبهة على الحالين في سوء الأثر الذي أصيبت به الأمة الإسلامية من آفة الجدل باسم المنطق المزيف، فإنها أشبه شيء بالنقمة التي يصبها العدو على عدوه، أو بالمكيدة التي يدسها عليه؛ ليشغله بالشقاق والشتات عن مهام دنياه، ومطالب دينه.
وهذه المحنة هي التي أرادها من أرادها بالحظر والتحريم من علماء المسلمين، فمنعوا الاشتغال بالجدل سدا للذرائع، واتقاء للفرقة التي تبلبل الأذهان، وتفسد القلوب، وتجر إلى هذه المشكلات أهل الفضول والبطالة، فيوبقون معهم طوائف الأبرياء من أهل الجد والاستقامة الذين لا طاقة لهم بالمنطق ولا بالجدال.
وكان دخول مصطلحات اليونان على أيدي أناس يجهلون العربية، ويعجزون عن فهم ألفاظ القرآن ومعانيه بابا آخر من أبواب الخلط والغلط في تطبيق البرهان والقياس ...
فمن كان من أصحاب المنطق أهلا لفهمه ومعرفة وجوهه لم يكن أهلا لتطبيقها على معاني القرآن وعباراته؛ لجهله بذوق اللغة وأسرار بلاغتها، ومن كان يعرف اللغة لم يكن من ذوي المعرفة بالبرهان والقياس. وشر من هؤلاء من يجهلون اللغة كما يجهلون المنطق، ثم يهرفون بما لا يعرفون في شئون ترتبط بها سلامة المجتمع، وطمأنينة الخواطر، وشر من هؤلاء أجمعين من يعرفون اللغة والمنطق، ويسيئون النية عمدا لإزعاج الخواطر المطمئنة، وتقويض المجتمع السليم ...
نامعلوم صفحہ