1 - فريضة التفكير في كتاب الإسلام‏

2 - الموانع والأعذار‏

3 - المنطق‏

4 - الفلسفة‏

5 - العلم‏

6 - الفن الجميل‏

7 - المعجزة‏

8 - أمام الأديان‏

9 - الاجتهاد في الدين‏

10 - التصوف‏

11 - المذاهب الاجتماعية والفكرية‏

12 - العرف والعادات‏

خاتمة‏

1 - فريضة التفكير في كتاب الإسلام‏

2 - الموانع والأعذار‏

3 - المنطق‏

4 - الفلسفة‏

5 - العلم‏

6 - الفن الجميل‏

7 - المعجزة‏

8 - أمام الأديان‏

9 - الاجتهاد في الدين‏

10 - التصوف‏

11 - المذاهب الاجتماعية والفكرية‏

12 - العرف والعادات‏

خاتمة‏

التفكير فريضة إسلامية

التفكير فريضة إسلامية

تأليف

عباس محمود العقاد

الفصل الأول

فريضة التفكير في كتاب الإسلام

من مزايا القرآن الكثيرة مزية واضحة، يقل فيها الخلاف بين المسلمين وغير المسلمين؛ لأنها تثبت من تلاوة الآيات ثبوتا تؤيده أرقام الحساب، ودلالات اللفظ اليسير، قبل الرجوع في تأييدها إلى المناقشات والمذاهب التي قد تختلف فيها الآراء ...

وتلك المزية هي التنويه بالعقل، والتعويل عليه في أمر العقيدة، وأمر التبعة والتكليف.

ففي كتب الأديان الكبرى إشارات صريحة أو مضمونة إلى العقل أو إلى التمييز، ولكنها تأتي عرضا غير مقصودة، وقد يلمح فيها القارئ بعض الأحايين شيئا من الزراية بالعقل أو التحذير منه؛ لأنه مزلة

1

العقائد، وباب من أبواب الدعوى والإنكار ...

ولكن القرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به، والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية؛ بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله، وقبول الحجر عليه.

ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها النفسانيون من أصحاب العلوم الحديثة؛ بل هي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، وتتعمد التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص في مواطن الخطاب ومناسباته، فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع،

2

ولا في العقل المدرك، ولا في العقل الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح؛ بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة، وهي كثيرة لا موجب لتفصيلها في هذا المقام المجمل؛ إذ هي جميعا مما يمكن أن يحيط به العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل المفكر الذي يتولى الموازنة والحكم على المعاني والأشياء ...

فالعقل في مدلول لفظه العام ملكة يناط بها الوازع الأخلاقي، أو المنع عن المحظور والمنكر، ومن هنا كان اشتقاقه من مادة «عقل» التي يؤخذ منها العقال، وتكاد شهرة العقل بهذه التسمية أن تتوارد في اللغات الإنسانية الكبرى التي يتكلم بها مئات الملايين من البشر؛ فإن كلمة «مايند»

Mind - وما خرج من مادتها في اللغات الجرمانية - تفيد معنى الاحتراس والمبالاة، وينادى بها على الغافل الذي يحتاج إلى التنبيه.

ونحسب أن اللغات في فروعها الأخرى لا تخلو من كلمة في معنى العقل لها دلالة على الوازع أو على التنبيه والاحتراس ...

ومن خصائص العقل ملكة الإدراك التي يناط بها الفهم والتصور، وهي على كونها لازمة لإدراك الوازع الأخلاقي، وإدراك أسبابه وعواقبه، تستقل أحيانا بإدراك الأمور فيما ليس له علاقة بالأوامر والنواهي، أو بالحسنات والسيئات ...

ومن خصائص العقل أنه يتأمل فيما يدركه، ويقلبه على وجوهه، ويستخرج منه بواطنه وأسراره، ويبني عليها نتائجه وأحكامه. وهذه الخصائص في جملتها تجمعها ملكة «الحكم»، وتتصل بها ملكة الحكمة، وتتصل كذلك بالعقل الوازع إذا انتهت حكمة الحكيم به إلى العلم بما يحسن وما يقبح، وما ينبغي له أن يطلبه، وما ينبغي له أن يأباه ...

ومن أعلى خصائص العقل الإنساني «الرشد»، وهو مقابل لتمام التكوين في العاقل الرشيد، ووظيفة الرشد فوق وظيفة العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الحكيم؛ لأنها استيفاء لجميع هذه الوظائف، وعليها مزيد من النضج والتمام والتميز بميزة الرشاد؛ حيث لا نقص ولا اختلال. وقد يؤتى الحكيم من نقص في الإدراك، وقد يؤتى العقل الوازع من نقص في الحكمة، ولكن العقل الرشيد ينجو به الرشاد من هذا وذاك ...

وفريضة التفكير في القرآن الكريم تشمل العقل الإنساني بكل ما احتواه من هذه الوظائف بجميع خصائصها ومدلولاتها؛ فهو يخاطب العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الحكيم، والعقل الرشيد، ولا يذكر العقل عرضا مقتضبا؛ بل يذكره مقصودا مفصلا على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان ... •••

فمن خطابه إلى العقل عامة - ومنه ما ينطوي على العقل الوازع - قوله تعالى في سورة البقرة:

إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون .

ومنه في سورة المؤمنون:

وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون .

ومنه في سورة الروم:

ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون * وله من في السماوات والأرض كل له قانتون * وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم * ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون .

ومنه في سورة العنكبوت:

وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون .

ومنه ما يخاطب العقل وينطوي على العقل الوازع كقوله تعالى في سورة الملك:

وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير .

وفي سورة الأنعام:

ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون .

ومنه بعد بيان حق المطلقات في سورة البقرة:

كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون .

ومنه في سورة يوسف:

وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون .

ومنه في سورة الحشر بيانا لأسباب الشقاق والتدابر بين الأمم:

تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون .

وهذا عدا الآيات الكثيرة التي تبتدئ بالزجر وتنتهي إلى التذكير بالعقل؛ لأنه خير مرجع للهداية في ضمير الإنسان ؛ كقوله تعالى في سورة البقرة:

أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون .

وكقوله في سورة آل عمران:

يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون .

وكقوله تعالى في سورة المائدة:

وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون .

وفي سورة الأنعام:

وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون .

وفي سورة هود:

يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون .

وفي سورة الأنبياء:

أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون .

وفي غير هذه السور الكريمة تنبيه إلى العقل في مثل هذا السياق يدل عليه ما تقدم في هذه الآيات.

إن هذا الخطاب المتكرر إلى العقل الوازع يضارعه في القرآن الكريم خطاب متكرر مثله إلى العقل المدرك، أو العقل الذي يقوم به الفهم والوعي، وهما أعم وأعمق من مجرد الإدراك. وكل خطاب إلى ذوي الألباب في القرآن الكريم فهو خطاب إلى اللب - هذا العقل المدرك الفاهم - لأنه معدن الإدراك والفهم في ذهن الإنسان كما يدل عليه اسمه باللغة العربية ...

والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب [سورة آل عمران: 7].

قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون [سورة المائدة: 100].

الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب [سورة الزمر: 18].

لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب [سورة يوسف: 111].

يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب [سورة البقرة: 269].

وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب [سورة البقرة: 197].

ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون [سورة البقرة: 179].

ومن هذه الآيات نتبين أن اللب الذي يخاطبه القرآن الكريم وظيفته عقلية، تحيط بالعقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الذي يتلقى الحكمة ويتعظ بالذكر والذكرى . وخطابه خطاب لأناس من العقلاء لهم نصيب من الفهم والوعي أوفر من نصيب العقل الذي يكف صاحبه عن السوء، ولا يرتقي إلى منزلة الرسوخ في العلم والتمييز بين الطيب والخبيث، والتمييز بين الحسن والأحسن في القول ... •••

أما العقل الذي يفكر ويستخلص من تفكيره زبدة الرأي والروية، فالقرآن الكريم يعبر عنه بكلمات متعددة تشترك في المعنى أحيانا، وينفرد بعضها بمعناه على حسب السياق في أحيان أخرى؛ فهو الفكر والنظر والبصر والتدبر والاعتبار والذكر والعلم وسائر هذه الملكات الذهنية التي تتفق أحيانا في المدلول - كما قدمنا - ولكنها لا تستفاد من كلمة واحدة تغني عن سائر الكلمات الأخرى ...

ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون [سورة البقرة: 219].

الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض [سورة آل عمران: 191].

قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون [سورة الأنعام: 50].

ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون [سورة النحل: 11].

أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [سورة الروم: 8].

انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون [سورةالأنعام: 65].

أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء [سورة الأعراف: 185].

قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [سورة يونس: 101].

أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [سورة ق: 6].

أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت [سورة الغاشية: 17].

من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون [سورة القصص: 72].

أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [سورة السجدة: 27].

والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار [سورة آل عمران: 13].

أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين [سورة المؤمنون: 68].

كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [سورة ص: 29].

أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [سورة محمد: 24].

فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار [سورة الحشر: 2].

ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون [سورة البقرة: 221].

وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون [سورة الأنعام: 126].

أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب [سورة الرعد: 19].

وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون [سورة النحل: 13].

أو يذكر فتنفعه الذكرى [سورة عبس: 4].

فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [سورة النحل: 43].

ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون [سورة القصص: 43].

ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون [سورة البقرة: 151].

قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم [سورة البقرة: 247].

وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون [سورة الأنعام: 97].

قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [سورة الزمر: 9].

يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير [سورة المجادلة: 11].

هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون [سورة يونس: 5].

قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا [سورة الكهف: 66].

خلق الإنسان * علمه البيان [سورة الرحمن: 3، 4].

الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم [سورة العلق: 4، 5].

وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب [سورة آل عمران: 7].

بهذه الآيات - وما جرى مجراها - تقررت ولا جرم فريضة التفكير في الإسلام، وتبين منها أن العقل الذي يخاطبه الإسلام هو العقل الذي يعصم الضمير، ويدرك الحقائق، ويميز بين الأمور، ويوازن بين الأضداد، ويتبصر ويتدبر ويحسن الادكار والروية، وأنه هو العقل الذي يقابله الجمود والعنت والضلال، وليس بالعقل الذي قصاراه من الإدراك أنه يقابل الجنون؛ فإن الجنون يسقط التكليف في جميع الأديان والشرائع، وفي كل عرف وسنة، ولكن الجمود والعنت والضلال غير مسقط للتكليف في الإسلام، وليس لأحد أن يعتذر بها كما يعتذر للمجنون بجنونه، فإنها لا تدفع الملامة، ولا تمنع المؤاخذة بالتقصير ...

ويندب الإسلام من يدين به إلى مرتبة في التفكير أعلى من هذه المرتبة التي تدفع عنه الملامة، أو تمنع عنه المؤاخذة، فيستحب له أن يبلغه بحكمته ورشده، ويبدو فضل الحكمة والرشد على مجرد التعقل والفهم من آيات متعددة في الكتاب الكريم يدل عليها قوله تعالى:

ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا [سورة البقرة: 269].

ويدل عليها أن الأنبياء يطلبون الرشد، ويبتغون علما به من عباد الله الصالحين، كما جاء في قصة موسى وأستاذه عليهما السلام.

والذي ينبغي أن نثوب إليه مرة بعد مرة أن التنويه بالعقل على اختلاف خصائصه لم يأت في القرآن عرضا، ولا تردد فيه كثيرا من قبيل التكرار المعاد؛ بل كان هذا التنويه بالعقل نتيجة منتظرة يستلزمها لباب الدين وجوهره، ويترقبها من هذا الدين كل من عرف كنهه وعرف كنه الإنسان في تقديره ...

فالدين الإسلامي دين لا يعرف الكهانة، ولا يتوسط فيه السدنة والأحبار بين المخلوق والخالق، ولا يفرض على الإنسان قربانا يسعى به إلى المحراب بشفاعة من ولي متسلط أو صاحب قداسة مطاعة، فلا ترجمان فيه بين الله وعباده يملك التحريم والتحليل، ويقضي بالحرمان أو بالنجاة، فليس في هذا الدين إذن من أمر يتجه إلى الإنسان من طريق الكهان، ولن يتجه الخطاب إذن إلا إلى عقل الإنسان حرا طليقا من سلطان الهياكل والمحاريب، أو سلطان كهانها المحكمين فيها بأمر الإله المعبود، فيما يدين به أصحاب العبادات الأخرى.

فأينما تولوا فثم وجه الله [سورة البقرة: 115].

لا هيكل في الإسلام، ولا كهانة حيث لا هيكل ... فكل أرض مسجد، وكل من في المسجد واقف بين يدي الله ...

ودين بلا هيكل ولا كهانة لن يتجه فيه الخطاب - بداهة - إلى غير الإنسان العاقل حرا طليقا من كل سلطان يحول بينه وبين الفهم القويم والتفكير السليم ...

كذلك يكون الخطاب في الدين الذي يلزم كل إنسان طائره في عنقه، ويحاسبه بعمله، فلا يؤخذ أحد بعمل غيره:

ولا تزر وازرة وزر أخرى [سورة فاطر: 18].

كل امرئ بما كسب رهين [سورة الطور: 21].

وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى [سورة النجم: 39، 40].

فإذا كان في الأديان دين يجتبي

3

القبيلة بنسبها، أو يجتبي المرء قبل مولده لأنه مولود فيها، أو كان في الأديان دين يحاسبه على خطيئة ليست من عمله، فليس في الإسلام إنسان ينجو بالميلاد، أو يهلك بالميلاد، ولكنه الدين الذي يوكل فيه النجاة والهلاك بسعي الإنسان وعمله، ويتولى فيه الإنسان هدايته بفهمه وعقله، ولا يبطل فيه عمل العقل أن الله بكل شيء محيط، فإن خلق العقل للإنسان لا يسلبه القدرة على التفكير، ولا يسلبه تبعة الضلال والتقصير.

وعلى هذا النحو يتناسق جوهر الإسلام ووصاياه، وتأتي فيه الوصايا المتكررة بالتعقل والتمييز منتظرة مقدرة لا موضع فيها للمصادفة، ولا هي مما يطرد القول فيه متفرقا غير متصل على نسق مرسوم؛ فإنها لوصايا «منطقية» في دين يفرض المنطق السليم على كل مستمع للخطاب قابل للتعليم، وهكذا يكون الدين الذي تصل العبادة فيه بين الإنسان وربه بغير واسطة ولا محاباة، ويحاسب فيه الإنسان بعمله كما يهديه إليه عقله، ويطلب فيه من العقل أن يبلغ وسعه من الحكمة والرشاد ...

الفصل الثاني

الموانع والأعذار

حين يكون العمل بالعقل أمرا من أوامر الخالق يمتنع على المخلوق أن يعطل عقله مرضاة لمخلوق مثله، أو خوفا منه، ولو كان هذا المخلوق جمهرة من الخلق تحيط بالجماعات وتتعاقب مع الأجيال.

والموانع التي تعطل العقل من هذا القبيل كثيرة يستقصيها القرآن الكريم كما استقصى خطاب العقل بجميع وظائفه وملكاته، ولكنها قد تتجمع في ثلاثة موانع كبرى بمثابة الأصول التي تتشعب منها الموانع المختلفة، فمن سلم منها أوشك أن يسلم من كل مانع يحجر على عقله، ويأخذ السبيل على تفكيره، فلا يهتدي إلى رأي سواه ...

أكبر الموانع في سبيل العقل عبادة السلف التي تسمى بالعرف، والاقتداء الأعمى بأصحاب السلطة الدينية، والخوف المهين لأصحاب السلطة الدنيوية.

والإسلام لا يقبل من المسلم أن يلغي عقله ليجري على سنة آبائه وأجداده، ولا يقبل منه أن يلغي عقله خنوعا لمن يسخره باسم الدين في غير ما يرضي العقل والدين، ولا يقبل منه أن يلغي عقله رهبة من بطش الأقوياء، وطغيان الأشداء، ولا يكلفه في أمر من هذه الأمور شططا لا يقدر عليه؛ إذ القرآن الكريم يكرر في غير موضع أن الله لا يكلف نفسا ما لا طاقة لها به، ولا يطلب من خلقه غير ما يستطيعون ...

لا تكلف نفس إلا وسعها [سورة البقرة: 233].

لا نكلف نفسا إلا وسعها [سورة الأنعام: 152، سورة الأعراف: 42].

ولا نكلف نفسا إلا وسعها [سورة المؤمنون: 62].

لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به [سورة البقرة: 286].

وما من أحد يهتدي بعقله لا يسعه أن يرى الصواب، وأن يكف عن الخطأ؛ فإذا قسر على نبذ الصواب واقتراف الخطأ، ففي وسعه أن ينجو بنفسه من القسر حيث كان، وفي وسعه إذا حيل بينه وبين النجاة أن يلقى الضرر الذي يجنيه عليه من يهدر كرامته، ويقتل ضميره؛ فذلك - لا ريب - أهون الضررين في هذه الحال، ولا معنى للدين ولا للخلق إذا جاز للناس أن يخشوا ضررا يصيب أجسامهم، ولا يخشوا ضررا يصيبهم في أرواحهم وضمائرهم، وينزل بحياتهم الباقية إلى ما دون الحياة التي ليس لها بقاء، وليس فيها شرف ولا مروءة. •••

وهذه الموانع كلها - موانع العرف والقدرة العمياء والخوف الذليل - إنما تقوم وتبقى قائمة ما هان على الإنسان أن يعيش بغير عقل يرجع إليه في أكرم مطالبه «الإنسانية»، وهو صلاح ضميره، ولكنها تزول على الأثر يوم يرجع إلى عقله أمام كل عقبة من عقباتها، وقد يشق عليه أن يذلل تلك العقبات أو يناجزها، ولكنه حق العقل عليه، ولا بد من حق تهون من أجله المشقة؛ لأنها أهون من سلب الإنسان فضيلته العليا، وارتكانه إلى حياة لا تعقل، أو حياة تعقل ولكنها تؤثر الحطة على علمها بما هو أرفع منها ...

إن حق العقل في الإسلام يقاس بكل قوة من قوى تلك الموانع التي ترصد له، وتصده عن طريقه، وأولها وأقواها في صدر الإسلام قوة العرف أو عبادة السلف؛ لأن العرف في الجاهلية بلغ مبلغ العبادة في المهابة والرعاية، وتسخير النفوس لحكمه بما يفرضه عليها من العادات، وما هي في الواقع إلا ضرب من العبادات يملك الإنسان في جميع أوقاته وعلاقاته؛ حيث تتراخى عنه أحيانا سطوة العبادات الدينية، ولعل العبادات لم يكن لها من سطوة في عصور الجاهلية وما شابهها إلا لأنها تستمد تلك السطوة من العادات ...

كانت الدعوة الإسلامية تثير أهل الجاهلية، وتحنقهم أشد الحنق على الرسول القائم بها صلوات الله عليه. وأشد ما كان يحنقهم من دعواته أنه يسفه بها أحلام الآباء والأجداد، فقلما كانوا يقولون في مقام الغضب منه والتحريض عليه: إنه يسفه أحلامنا، ويستخف بعقولنا، وإنما كان غضبهم كله منه، وتحريضهم كله عليه إذ يقولون عنه: إنه يسفه أحلام آبائنا، ويستخف بعقول أسلافنا، ويقول عن أصول النسب التي يفخرون بها: إنها كانت على ضلالة، وكانت لا تعقل ما تصنع من أمور الدين ...

والإسلام حين يأبى على الإنسان أن يعنو

1

بعقله كله لهذه السطوة الجائحة إنما يعطي العقل حقه في مقاومتها، ولا يكتفي بأن يفرض عليه واجب المقاومة، وإنما يمده بالحجة التي تعينه عليها؛ حيث لا حجة له بين يديها، فهو يكلفه ويعينه وهو يثيره، ويضع في يده السلاح الذي يشحذه في ثورته، فهو نصير معين يلقي العبء، ويعطي المدد الذي يعينه عليه ...

وحين يقول الإسلام للإنسان: يجب عليك أن تفتح عينك ولا تنقاد لما يوبقك مغمض العينين، فكأنه يقول له: يحق لك أن تنظر في شأنك؛ بل في أكبر شأن من شئون حياتك ، ولا يحق لآبائك أن يجعلوك ضحية مستسلمة للجهالة التي درجوا عليها.

وإن الإسلام ليأبى على المرء أن يحيل أعذاره على آبائه وأجداده، كما يأبى له أن تحال عليه الذنوب والخطايا من أولئك الآباء والأجداد، وإنه لينعي على الذين يستمعون الخطاب أن يعفوا أنفسهم من مؤنة العقل؛ لأنهم ورثوا من آبائهم وأجدادهم عقيدة لا عقل فيها ...

وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [سورة البقرة: 170].

وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [سورة المائدة:104].

وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون [سورة الأعراف: 28].

واتل عليهم نبأ إبراهيم * إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون [سورة الشعراء: 69-74].

إنهم ألفوا آباءهم ضالين * فهم على آثارهم يهرعون [سورة الصافات: 69، 70].

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان [سورة التوبة: 23].

وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون [سورة الزخرف: 23، 24].

ولقد كان هذا حق العقل الذي استمده من الإسلام في مواجهة العرف أو عبادة السلف، وكانت للعرف في صدر الإسلام قوة أكبر من قوة العبادة وقوة الحكومة، ويستوي أن نقول: إن العقل أحق بالاستقلال أمام هاتين القوتين، وأن نقول: إن الاستقلال أمامهما أوجب عليه من الاستقلال أمام العرف أو عبادة السلف.

ولعلنا لا نعدو الصواب إذا عممنا القول على جميع العصور، ولم نقصره على العصر الجاهلي الذي كانت فيه عبادة السلف أظلم للناس من سلطان رجال الدين وسلطان الحاكم بأمره؛ فإن حرية العقيدة قد يرجع الأمر فيها إلى من يتولون أمرها من القائمين عليها في المعابد والمحاريب، أو من القائمين عليها في ولاية الشعائر والحدود.

فهنا مجال الحق الذي يتمسك به العقل حيث تدعو الحاجة إلى ذلك الحق، أو حيث يستوجبه الخطر في أمر الاعتقاد خاصة دون ما عداه من أمور يعمها العرف الشائع، أو تعمها عبادة الأسلاف.

وأيا كان الرأي في تفاوت القوى التي يخنع

2

لها العقل، وتذهله عن حقه في الحرية، أو عن واجبه في التمييز والنهوض بالتبعة؛ فالأمر الذي لا مرية فيه أن التحذير من فساد الكهان والأحبار خليق أن يناسب الخطر الذي يخشى من فسادهم أينما كان، وكثيرا ما يكون ...

وقد بدأ الإسلام بالتحذير الشامل من هذا الفساد؛ فأسقط الكهانة، وأبطل سلطان رجال الدين على الضمائر، ونفى عنهم القدرة على التحريم والتحليل، والإدانة والغفران ...

ثم نبه إلى سيئاتهم وعاقبة الذين استسلموا لخديعتهم، وكثير منهم خادعون ...

اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون [سورة التوبة: 31].

يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم [سورة التوبة: 34].

وحرص القرآن على أن يعم القول من لهم سلطان ديني كالأحبار، ومن ليس لهم هذا السلطان، ولكنهم يستمدون من السمعة الدينية نصيبا من السلطان لا يقل عن نصيب الأحبار.

وهذا على تنبيه القرآن الكريم إلى ما كان من فضل الصالحين من الرهبان والقسيسين على أممهم؛ حيث جاء فيه:

ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون [سورة المائدة: 82].

وما نحسب أن التفرقة بين الفريقين تعسر على عارف ولا جاهل، فما من لبس هناك بين أناس لا يستكبرون، ولا يهيمون بالمال يأكلون أينما وجدوا الحلال والحرام منه، وبين أناس يتصدون للجاه والخيلاء ، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سواء السبيل ... •••

ويكاد الذين كتبوا في تاريخ العقائد يتفقون على تهوين خطر الحكم المستبد على الضمير الإنساني بالقياس إلى خطر العرف، أو خطر الخديعة من رؤساء الأديان؛ لأن الحكم المستبد يتسلط على الضمير من خارجه، ولا يستهويه من باطنه كما يستهويه حب السلف، أو الاسترسال مع القدوة الخادعة من قبل رؤساء الدين؛ فهو مشكلة مكان لا مشكلة عقل أو ضمير، إما أن ينفضه الإنسان عن مكانه، أو يلوذ منه بمكان أمين.

وكثيرا ما يكون الحكم المستبد حافزا للضمير إلى المقاومة، محرضا للعقل على الرفض والإنكار، وأكبر ما يخشى منه أن يؤدي إلى تشبث العناد؛ لأن هذا التشبث خطر على التفكير كخطر الاستهواء والتسليم، ولا يزال الاستبداد على كل حال قهرا للعقل بغير إرادته، يترك له الإرادة طليقة للمقاومة أو الحيلة أو الخضوع، فهو غير الانقياد للضلال إيثارا له، ومحبة للمضللين ...

فمن هنا كان حق العقل في مقاومته - بحكم الإسلام - كحقه في مقاومة سلطان العرف وسلطان الأحبار، ويزيد عليه أنه يلوم المسلم على الخضوع في مكانه إذا كان في وسعه أن يرحل منه إلى مكان بعيد من سلطانه ...

قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها [سورة النساء: 97].

ونحن مع العقل في الإسلام حين نذكر أن الإسلام يأمره باستقلال النظر في مواجهة السلف، ومواجهة الأحبار، ومواجهة الاستبداد، ثم يكون هو الدين الذي امتاز بين الأديان بوصاياه الكثيرة في توقير الآباء، والرجوع إلى أهل الذكر، وتمحيض الطاعة لولاة الأمور ...

فإذا أمر العقلاء فهكذا يؤمرون، وغير ذلك من الأوامر إنما يكون للآلات التي تعمل على وتيرة واحدة في أيدي من يحركونها ويديرونها، أو يكون للخلائق البكماء التي تقاد أو تساق، ولا رأي لها في مقادة أو مساق ...

إنما يكون أمر العقلاء أن يؤمروا بالتمييز بين مختلف الأحوال، فلا يقال لهم: إنكم ترفضون كل الرفض، أو تقبلون كل القبول، ولا فرق عندهم بين مرفوض ومرفوض، ولا بين مقبول ومقبول ...

عليكم أن تبروا بالآباء، ولكن البر معهم غير الضلال معهم على غير بصيرة، والعقلاء هم الذين يعرفون موضع هذا وموضع ذاك ...

وعليكم أن تسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، ولكن أهل الذكر الذين لا ينتفعون بذكرهم لا ترجى منهم التذكرة لغيرهم، ومن لم يكن من أهل الذكر فليس بعسير عليه أن يكون من المميزين بين الصادقين منهم والمنافقين، وبين سيرة الرشد والاستقامة وسيرة الغواية والاعوجاج ...

وعليكم أن تطيعوا ولاة الأمر منكم، ولكن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا خير في فتنة يضرمها العصيان على غير بصيرة، ومن لم تكن له قدرة على الطاعة، ولم يكن في عصيانه أمان من الفتنة الطامة، فله في الهجرة متسع يأوي إليه ما استطاع ...

وقوام الأمر كله، بل قوام جميع الأمور في جميع التكاليف أن النفس تحاسب على ما تستطيع، ولا تؤمر بغير ما تطيق، ومن وراء ذلك تبعة الأمة كلها حين تؤخذ الأمة بوزر الأمة، ولا ينفرد منها كل فرد بمصيره مع مصائر الأمم بحذافيرها، فلا مناص من هذه الوحدة في حساب الأمم، ولا خير للأفراد - مع تطاول الزمن - في عيشة يقف فيها خير الفرد وشره عند بابه، ولا يحسب فيها حساب شركائه في بيئته.

فلا تناقض بين أمر الفرد بالعقل واشتراكه في تبعة الأمر الذي يعم الجميع، ولا يخص أحدا من الآحاد، ولكن الأمم تخاطب بتحكيم العقل، كما يخاطب به أفرادها متفرقين، ولا تحاسب الأمم إلا على سنة الأمم في أطوار الاجتماع ...

وصفوة القول: إن الإسلام لا يعذر العقل الذي ينزل

3

عن حق الإنسان رهبة للقوة أو استسلاما للخديعة، ولا حدود لذلك إلا حدود الطاقة البشرية، ولكنها الطاقة البشرية عامة كما تقوم بها الأمم، ولا ينتهي أمرها بما يكون للفرد من طاقة لا تتعداه.

الفصل الثالث

المنطق

المنطق علم يجمع الأصول والقواعد التي يستعان بها على تصحيح النظر والتمييز، وحكم الإسلام فيه - بهذه المثابة - واضح لا يجوز فيه الخلاف؛ لأن القرآن الكريم صريح في مطالبة الإنسان بالنظر والتمييز، ومحاسبته على تعطيل عقله ، وضلال تفكيره ...

بيد أننا نحتاج إلى التفرقة بين شيئين مختلفين في هذا الموضوع قبل أن نعرض لفتاوى الفقهاء فيه بتحريم أو تحليل؛ وهما: المنطق والجدل أو الخطاب الإقناعي، فإنهما ليختلفان ويتباعدان حتى ينتهي الاختلاف والتباعد بهما إلى الطرفين النقيضين ...

فالمنطق بحث عن الحقيقة من طريق النظر المستقيم، والتمييز الصحيح، والجدل بحث عن الغلبة والإلزام بالحجة، قد يرمي إلى الكسب والدفاع عن مصلحة مطلوبة، وقد يتحرى مجرد المسابقة للفوز على الخصم وإفحامه في مجال المناقضة واللجاج.

وقد ظهر المنطق والجدل بين اليونان الأقدمين، فأكبروا المنطق، ونظروا إلى الجدل نظرة اشتباه وإنكار، وهو الذي سموه - بعد - بالسفسطة، أو ترفقوا فسموه علم البراهين الخطابية

Rhetoric ، وحسبوه صناعة لازمة في معرض الإقناع والتأثير ...

وكان اسم «السفسطة» في نشأته الأولى معظما مبجلا بين الحكماء وتلاميذهم وجمهرة المعنيين بالحكمة والمعرفة، وكان اسم «السوفيست» أعظم شأنا من اسم الفيلسوف؛ لأن السوفيست ينتمي إلى ربة الحكمة «صوفية»؛ فهو الحكيم الذي ألهمته تلك الربة، وفرغ من مؤنة المعرفة.

فلما ظهر الحكيم «فيثاغوراس» استكبر هذه الدعوى وتواضع فسمى نفسه فيلسوفا؛ أي محبا للحكمة يطلبها، ولا يزعم أنه وصل إليها، ثم نجم بعد قرن من عصر فيثاغوراس ناجم من فتنة الحذلقة باسم الحكمة يقودها بروتاغوراس

الأبديري، فراح يتحدى من ينكر عليه العلم أن يسأله فيما يشاء، وهو كفيل بالإجابة عليه بلا وقاء، وعدل عن اسم الفيلسوف الذي يقنع بمحبة الحكمة إلى اسم «السوفيست» مرة أخرى؛ لزعمه أنه ملك الحكمة واستوفاها.

وغلبت كلمة «السفسطة» من هنا على كل من يدعي هذه الدعوى، ويتحذلق هذه الحذلقة، وكثر الاشتغال بالبرهان في المنازعات القضائية والمناقشات السياسية، فانفصلت الصناعتان باتفاق المعلمين والمتعلمين، وصرح أصحاب كل صناعة بما يريدونه من عملهم وتعليمهم، وأصبح من المفهوم المتفاهم عليه أن المنطق بحث عن الحقيقة، وأن الجدل بحث عن المصلحة أو الرغبة المتنازع عليها.

وتصدى لتعليم الجدل أو البراهين الخطابية أناس يقصدهم المتعلمون؛ ليعرفوا كيف ينتصرون على خصومهم في مجال المنازعة والملاحاة، ويضع الآباء أبناءهم في كفالتهم ليدربوهم على صناعة التقاضي والتأثير في سبيل الإقناع بالحجة، أيا كان حظها من الحقيقة ...

ومما يحكى عن أستاذ سفسطائي أنه اتفق مع تلميذ له على أن يخرجه للدفاع في القضاء والمنازعات العامة خلال عامين بأجر متفق عليه، فلما انتهى العامان طلب الأستاذ أجره، وقال التلميذ: بل أناقشك في هذا الأجر؛ هل تستحقه بعملك، أو تطلبه بغير حق؟ فإن أقنعتك بأنك لا تستحقه؛ فلا حق لك فيه باعترافك، وسكوتك حجة على هذا الاعتراف، وإن لم أقنعك فلا حق لك فيه؛ لأنك لم تعلمني كيف أقيم البرهان على دعواي.

وكان جواب الأستاذ - كمثال تلميذه - مثلا للبرهان المطلوب في هذه الصناعة، فقال له: إنني أقبل أن أناقشك، ولكني على غير النتيجة التي خلصت إليها؛ أناقشك في حقي فتعطيه مرة إذا ثبت عليك، وتعطيه مرتين إذا لم أثبته أمامك؛ لأنني علمت تلميذا ما يغلب به أستاذه في صناعة البرهان، مع اتفاقهما أولا على الحق الذي يتنازعانه في النهاية ...

وبلغ من التفاهم على الفصل بين البرهان والحقيقة في صناعة الجدل أنهم أصبحوا يقولون عن الحجة: إنها حجة خطابية؛ أي تقنع ولا يشترط فيها أن تدل على الحقيقة، ويقولون عن السؤال: إنه سؤال خطابي؛ أي لا يراد منه جواب معلوم عن توجيه السؤال، كقول الخطيب للسامعين في معرض الزجر والاستثارة: هل أنتم وطنيون؟ هل أنتم سامعون؟ إلى أمثال هذه الأسئلة التي يسألها المتكلم ليؤثر بها على مستمعيه لا لأنه ينتظر الجواب عليها ...

وصرح أهل هذه الصناعة بأن السؤال الخطابي قد ينقض الحقيقة إذا ورد في صيغة الخطاب دون أن يزيد فيها حرفا أو كلمة، ومن أمثلتهم على ذلك أن مجرما قضي عليه أن يقف في جمع حافل، ويشهد على نفسه بالسرقة؛ فينادي فيهم: أنا مجرم. ويكررها ثلاث مرات.

فلما وقف في الجمع الحافل نادى كما أمروه ولكن بصيغة الخطاب، فطفق يقول كأنه يستفهم ويستنكر: أيها الناس، أنا مجرم؟! أنا مجرم أيها الناس؟! فكان في صيغة السؤال الخطابية إنكار للاعتراف الذي أرادوه عليه، دون أن يزيد حرفا أو كلمة في عبارة الاعتراف ...

هذه الصناعة - صناعة الجدل - ليست في شيء من المنطق القويم المطلوب للبحث عن الحقيقة، ولكنها صناعة يتعلمها طالبها وهو عالم أنه ينشد الغلبة على خصومه في المناقشة بالحق أو بالباطل؛ فإن لم يتعلمها عامدا هذا العمد، فقد ينساق إليها بطبيعة الجدل وشهوة المغالبة، فيؤثر المغالطة على المصارحة، ويصر على المكابرة مجهلة بالحقيقة، أو مكابرة فيها ...

وما من أمة فتح فيها باب الجدل وغلبت فيها شهواته ثم سلمت من جرائرها، سواء كانت هذه الآفة مما ينجم عن تعليم الصناعة، أو كانت مما تخلقه اللجاجة والتمادي في الملاحاة والبغضاء ...

وقد ضرب المثل بالجدل «البيزنطي» في طول اللجاجة وسوء العاقبة، وقلة الجدوى لطلاب الحقيقة والصلاح، ولكن البيزنطيين لم يكونوا بدعا في هذه الآفة، ولم ينفردوا بالجدل على غير طائل كلما فتحت أبوابه على مصطلحات المنطق، أو على غير مصطلح مفهوم غير اللدد والعناد؛ فإن بني إسرائيل قد سبقوا البيزنطيين إلى أمثال هذه المجادلات الخاوية إلا من الباطل والشحناء، وجاء السيد المسيح إليهم فوجد فيهم طائفة الكتبة والفريسيين لا عمل لها غير اختلاق الحيل والشراك؛ لاقتناص الناس بمغالطات الألفاظ وألاعيب الحذلقة والتمويه.

وكان لتلك الآفة صرعاها بين البيزنطيين كما كان لها صرعاها قبلهم بين بني إسرائيل، فكانت آفة الجدل على أبناء القرون الوسطى من المشتغلين بالفلسفة والمنطق، أو بالتفسيرات الدينية والمهاترات المذهبية أشد عليهم من آفة الجهل والجمود على التقاليد ...

ويؤخذ من أخبار الأمم التي امتحنت بالمنازعات الجدلية أن هذه الآفة مرض اجتماعي تتشابه أعراضه في الأمم، ولا تنحصر في اليونان أو بني إسرائيل، فلا يزال الجدل حيث كان مقترنا بأعراضه الوبيلة، وأشهرها وأوبلها ثلاثة؛ وهي: إغراء الناس بالمماحكة بالقشور دون الجوهر واللباب من حقائق الأمور، وإثارة البغضاء والشحناء على غير طائل ولعا بالغلبة والاستعلاء؛ بدعوى العلم والصواب، وإشاعة الخلاف بين الآراء جماعة بعد جماعة إلى غير نهاية يقف عندها ذلك الخلاف. فتنقسم الأمة إلى شيع، وتنقسم الشيعة إلى فرق، وتنقسم الفرقة إلى شعب وفروع حتى لا تبقى فئة واحدة على رأي واحد وإن قلت في العدد، وصغرت في منزلة التفكير.

ولما انتقلت هذه الآفة إلى الأمم الإسلامية فشت فيها هذه الأعراض جميعا، ولمس الخاصة والعامة أضرارها في بيئات العلم والدين، وتشاءم بها المسلمون أشد من تشاؤم اليونان بالسفسطائيين والمسيحيين الأولين بالكتبة والفريسيين؛ لأن مجادلات السفسطة والتأويل نجمت في اليونان وبني إسرائيل من بين أنفسهم، ولم تنتقل إليهم من الأجانب الغرباء عنهم.

أما فتنة الجدل ومصطلحاته الكلامية فقد انتقلت إلى المسلمين من أمم غريبة على أيدي التراجمة الدخلاء، فتسربت إلى الأذهان شبهات كثيرة من أمرها، ووهم بعض الخاصة - فضلا عن العامة - أنها مكيدة مبيتة للأمة الإسلامية تواطأ عليها أعداؤها من خارجها وداخلها، وتداولت الألسنة قصصا عن نقل هذه العلوم الدخيلة تشبه الأساطير ونوادر الرواة والمتخيلين.

ومن أمثلة هذه الشوائع المترددة ما رواه جلال الدين السيوطي عن الشيخ نصر المقدسي من كتابه «الحجة في تارك المحجة»؛ حيث يقول: «إن بني العباس قامت دولتهم على الفرس، وكانت الرياسة فيهم وفي قلوب أكثر الرؤساء منهم الكفر والبغض للعرب ودولة الإسلام، فأحدثوا في الإسلام الحوادث التي تؤذن بهلاك الإسلام، ولولا أن الله تبارك وتعالى وعد نبيه

صلى الله عليه وسلم

أن ملته وأهلها هم الظاهرون ليوم القيامة لأبطلوا الإسلام، ولكنهم قد ثلموه وعوروا أركانه، والله ينجز وعده إن شاء الله ...»

ثم يقول: «فأول الحوادث التي أحدثوها إخراج كتب اليونانية إلى أرض الإسلام، فترجمت بالعربية وشاعت في أيدي المسلمين، وسبب خروجها من أرض الروم إلى بلاد الإسلام يحيى بن خالد بن برمك، وذلك أن كتب اليونانية كانت ببلد الروم، وكان ملك الروم خاف على الروم إن نظروا في كتب اليونانية أن يتركوا دين النصرانية، ويرجعوا إلى دين اليونانية، وتتشتت كلمتهم، وتتفرق جماعتهم، فجمع الكتب في موضع، وبنى عليها بناء مطمئنا بالحجر والجص حتى لا يوصل إليها.

فلما أفضت رياسة بني العباس إلى يحيى بن خالد، وكان زنديقا، بلغه خبر الكتب التي في البناء ببلد الروم، فصانع ملك الروم الذي كان في وقته بالهدايا ولا يلتمس منه حاجة، فلما أكثر عليه جمع الملك بطارقته وقال لهم: إن هذا الرجل خادم العربي أكثر علي من هداياه ولا يطلب مني حاجة، وما أراه إلا يلتمس حاجة، وأخاف أن تكون حاجته تشق علي.

فلما جاءه رسول يحيى قال له: قل لصاحبك: إن كانت له حاجة فليذكرها. فلما أخبر الرسول يحيى رده إليه وقال له: حاجتي الكتب التي تحت البناء يرسلها إلي، أخرج منها بعض ما أحتاج إليه، وأردها إليه. فلما قرأ الرومي كتابه استطار فرحا، وجمع البطارقة والأساقفة والرهبان وقال لهم: قد كنت ذكرت لكم عن خادم العربي أنه لا يخلو عن حاجة، وقد أفصح بحاجته، وهي أخف الحوائج علي، وقد رأيت رأيا فاسمعوه؛ فإن رضيتموه أمضيته، وإن رأيتم خلافه تشاورنا في ذلك حتى تتفق كلمتنا، فقالوا: وما هو؟ قال: حاجته الكتب اليونانية يستخرج منها ما يحب ويردها، فقالوا: فما رأيك؟

قال: قد علمت أنه ما بنى عليها من كان قبلنا إلا أنه خاف إن وقعت في أيدي النصارى وقرءوها كانت سببا لهلاك دينهم، وتبديد جماعتهم، وأنا أرى أن أبعث بها إليه وأسأله ألا يردها؛ يبتلون بها ونسلم نحن من شرها، فإني لا آمن أن يكون بعدي من يجترئ على إخراجها إلى الناس، فيقعوا فيما خيف عليهم، فقالوا: نعم الرأي رأيت أيها الملك؛ فأمضه ...» •••

وهذه قصة تصح في التاريخ أو لا تصح، فلا شبهة على الحالين في سوء الأثر الذي أصيبت به الأمة الإسلامية من آفة الجدل باسم المنطق المزيف، فإنها أشبه شيء بالنقمة التي يصبها العدو على عدوه، أو بالمكيدة التي يدسها عليه؛ ليشغله بالشقاق والشتات عن مهام دنياه، ومطالب دينه.

وهذه المحنة هي التي أرادها من أرادها بالحظر والتحريم من علماء المسلمين، فمنعوا الاشتغال بالجدل سدا للذرائع، واتقاء للفرقة التي تبلبل الأذهان، وتفسد القلوب، وتجر إلى هذه المشكلات أهل الفضول والبطالة، فيوبقون معهم طوائف الأبرياء من أهل الجد والاستقامة الذين لا طاقة لهم بالمنطق ولا بالجدال.

وكان دخول مصطلحات اليونان على أيدي أناس يجهلون العربية، ويعجزون عن فهم ألفاظ القرآن ومعانيه بابا آخر من أبواب الخلط والغلط في تطبيق البرهان والقياس ...

فمن كان من أصحاب المنطق أهلا لفهمه ومعرفة وجوهه لم يكن أهلا لتطبيقها على معاني القرآن وعباراته؛ لجهله بذوق اللغة وأسرار بلاغتها، ومن كان يعرف اللغة لم يكن من ذوي المعرفة بالبرهان والقياس. وشر من هؤلاء من يجهلون اللغة كما يجهلون المنطق، ثم يهرفون بما لا يعرفون في شئون ترتبط بها سلامة المجتمع، وطمأنينة الخواطر، وشر من هؤلاء أجمعين من يعرفون اللغة والمنطق، ويسيئون النية عمدا لإزعاج الخواطر المطمئنة، وتقويض المجتمع السليم ...

وكل ما ورد عن علماء الإسلام الذين حرموا الجدل، فإنما ينصرف إلى منع هذه اللجاجة التي لمسوا شرورها، وتحققوا من جريرتها، ولم يلمسوا معها منفعة تتحقق بالجدل ولا تتحقق بغيره. فما يغير قوما من الأقوام خطب أفدح عليهم من اشتغالهم بالجدل، وتركهم العمل، كما قال الإمام الأوزاعي. وأسلم المواقف عند ذوي البصر بالدين إذا احتدم الخصام، وشاع المراء والاتهام، أن يصاب المرء ولا يصيب، وأن يتجنب الخصومة، أو يتجنب فيها كل قول مريب. وجماع ذلك شعر حسن يتناقلونه عن مصعب بن عبد الله الزبيري، المتوفى قبيل منتصف القرن الثالث، يقول فيه:

أأقعد بعد ما رجفت عظامي

وكان الموت أقرب ما يليني

أخاصم كل معترض خصيم

وأجعل دينه غرضا لديني

فأترك ما علمت لرأي غيري

وليس الرأي كالعلم اليقين

وما أنا والخصومة وهي لبس

تصرف في الشمال وفي اليمين

وقد سنت لنا سنن قوام

يلحن بكل فج أو دجين

وكان الحق ليس به خفاء

أغر كغرة الفلق المبين

وما عوض لنا منهاج «جهم»

بمنهاج ابن آمنة الأمين

فأما ما علمت فقد كفاني

وأما ما جهلت فجنبوني

فلست بمكفر أحدا يصلي

ولم أجرمكم أن تكفروني

وكنا إخوة نرمي جميعا

فنرمي كل مرتاب ظنين

فأوشك أن يخر عماد بيت

وينقطع القرين عن القرين

وعلى كثرة الفقهاء الذين عرضوا لهذا الموضوع لا تجد واحدا منهم قصد بالمنع أو التحريم شيئا غير هذا الجدل العقام الذي يمزق وحدة الجماعة، ويصرف العقل عن الفهم، ويأتي إلى المعنى الواضح فيغمضه، ولا يتفق له يوما أن يأتي إلى الغامض فيجلوه ويقربه لمن خفي عليه. فهم في الواقع إنما ينقذون العقل من ضلالة تغشاه فتحجب عنه الحقيقة، ويعيذونه أن يخبط في النهار المبين خبط عشواء.

1

وأكبر الفقهاء الذين أفاضوا في بحث هذه المسألة ثلاثة من الأئمة المجتهدين؛ هم: الغزالي، وابن تيمية، وجلال الدين السيوطي، وآخرهم جلال الدين يتابع الإمامين السابقين، ويقتدي بهما في علوم الرياضة والفلسفة، ويقول عن نفسه: إنه ليس من أهل هذه العلوم، كما قال في كتابه حسن المحاضرة: «... وأما علم الحساب فهو أعسر شيء علي، وأبعد عن ذهني، وإذا نظرت في مسألة تتعلق به فكأنما جبلا أحمله.»

وإذا أحيل البحث إلى الإمامين الغزالي وابن تيمية، فنحن بين يدي حجتين من حجج المنطق لا يسبقهما فيه سابق من المتقدمين أو المتأخرين، ومناقشتهما للمنطق مناقشة تصحيح وتنقيح، وليست مناقشة هدم للأسس التي يقوم عليها، أو تفنيد للأصول التي يرجع إليها؛ فهما يريدان إثبات الخطأ على من يسيئون تطبيق القياس والبرهان، ولا يريدان محو القياس والبرهان في علم من علوم الدين أو الدنيا التي جاءت من اليونان، أو نشأت بين المسلمين ...

فالغزالي في مفتتح الجزء الأول من كتابه «المستصفى» يذكر من شروط العالم المجتهد غير المقلد أن يحيط بعلم النظر، ويحسن إيراد البرهان وإجراء القياس، وكان ينعى على العلماء أنهم لا يشتغلون بتحصيل هذا العلم، فقال من كلامه على أحاصيل الفلسفة في كتابه المنقذ من الضلال: «إني ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام بعلم الفلسفة، وعلمت يقينا أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم حتى يساوي أعلمهم في أصل العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته، فيطلعه على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائلة، فإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقا.

ولم أر أحدا من علماء الإسلام صرف همته وعنايته إلى ذلك، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم؛ حيث اشتغلوا بالرد عليهم إلا كلمات معقدة مبددة، ظاهرة التناقض والفساد، لا يظن الاغترار بها بغافل عامي فضلا عمن يدعي حقائق العلوم، فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والاطلاع على كنهه رمي في عماية.

2

فشمرت عن ساق الجد في تحصيل ذلك العلم بمجرد المطالعة من غير استعانة بأستاذ ومعلم، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التدريس.»

وبعد دراسة المنطق رأى الغزالي أن خطأ المناطقة إنما يعتريهم من ناحية التطبيق، ولا عيب في أصول النظر على استقامة فهمها، وصدق الرغبة في المعرفة الصحيحة، ومن ذلك قوله في كتاب مقاصد الفلاسفة: «أما المنطقيات فأكثرها على منهج الصواب، والخطأ نادر فيها، وإنما يخالفون أهل الحق فيها بالاصطلاحات والإيرادات دون المعاني والمقاصد.»

ومن كلامه في فاتحة كتاب محك النظر: «إنك إن التمست شرط القياس الصحيح، والحد الصحيح، والتنبيه على منارات الغلط فيها وفقت للجمع بين الأمرين؛ فإنها رباط العلوم كلها.»

ويقول في ختام كتابه الميزان: «لو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث لتنتدب للقلب، وناهيك به نفعا؛ إذ الشكوك هي الموصلة للحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال. نعوذ بالله من ذلك.»

وهو في جميع كتبه يحرم التقليد على من يستطيع الدرس والاهتداء بالتفكير السليم إلى حقائق الدين وسيرته، كما روى عن نفسه مثل لما ينبغي لطالب المعرفة أن يتحراه من البحث عن الحقيقة أينما وجدها، أو قاده السعي إليها، قال في مقدمة المنقذ من الضلال: «ولم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن - وقد أنافت السن على الخمسين - أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأقتحم كل ورطة، وأتفحص عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة؛ لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن

3

ومبتدع، لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهرا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته ، ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلما إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صفوته، ولا متعبدا إلا وأرصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقا متعطلا إلا وأتحسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته.

وقد كان التعطش إلى إدراك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري غريزة وفطرة من الله تعالى.»

فالعقل عند الإمام الغزالي هو العقل في شرعة الإسلام، كلاهما عقل يبتغي الحقيقة حيث كانت، ولا يحجم عن المعرفة حيث أصابها، ولا يقيم فوقه أو بين يديه بابا مغلقا دون قبس من النور يريه ما لم يكن رآه، أو يزيده بصيرة بما رآه.

وإنما تناول بالتحريم عملا ليس من أعمال العقل، ولا هو مما تسيغه العقول الرشيدة، وهو تعريض العامي المقلد للمشكلات التي لا يدركها، ولا يتوفر على درسها وإدراكها، وكل ما يجنيه من يعرضه لها أن يسلبه طمأنينة التقليد، ولا يعوضه منها غير القلق والاضطراب وسوء الطوية، وليس في ابتلاء العامي المقلد بهذه المحنة شيء من العقل، ولا في تجنيبه مضرتها ووبال عقباها مخالفة للعقل، أو حجر عليه.

ويخشى الغزالي فتنة الجدل على الثراثرة المتحذلقين كما يخشاها على العامة المقلدين؛ فهم كالعامة المقلدين أو شر منهم في مصابهم بمضار الجدل، وعجزهم عن الاستفادة من خوض مزالقه وغواياته، قال في الجزء الأول من الإحياء: «وأما المبتدع بعد أن تعلم من الجدل ولو شيئا يسيرا؛ فقلما ينفع معه الكلام؛ فإنك إن أفحمته لم يترك مذهبه، وأحال بالقصور على نفسه، وقدر أن عند غيره جوابا ما هو عاجز عنه، وإنما أنت ملبس عليه بقوة المجادلة.

وأما العامي إذا صرف عن الحق بنوع جدل، فيمكن أن يرد إليه بمثله قبل أن يشتد التعصب للأهواء، فإذا اشتد تعصبهم وقع اليأس منهم ...» •••

وموقف الإمام ابن تيمية من المنطق والجدل شبيه بموقف الإمام الغزالي، ولكنه يرى أن المنطق سليقة في العقل الإنساني يستغني عنه الذكي، ولا ينتفع به البليد إذا جاء على غير سليقة واستعداد. ومن كان هذا رأيه في المنطق فمحال أن يقال عنه: إنه يلغيه ويحرمه؛ لأنه لا يلغي الفطرة، ولا يحرم تركيبا أودعه الله نفوس خلقه.

ومن نظر في كتب ابن تيمية التي ناقض بها أدعياء المنطق وعشاق الجدل علم أنه كان بصدد إنشاء منطق صحيح، وهداية إلى تطبيق أصول المنطق القويم، ولم يكن متصديا لهدم المنطق من أساسه على جميع وجوهه، وفي جميع تطبيقاته؛ فهو يستخدم قضايا المنطق ليبطل دعوى المناطقة الذين يضعون الحدود في غير مواضعها، ويقيسون الأشباه والنقائض بغير قياسها، ويهدرون الحقائق في سبيل المصطلحات والألفاظ بغير دراية لمعناها.

ومن تخطئته لهم في فهم «الحد» نتبين أنه لا يبطل الحد، ولكنه يبطل قول القائلين أن التصور موقوف عليه، وكلامه عن الحد مثل لكلامه في القياس والقضية وسائر المصطلحات المنطقية، وفيه يقول كما لخصه السيوطي من كتاب «نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان»: «قولهم: إن التصور لا ينال إلا بالحد، الكلام عليه من وجوه ...»

الأول:

لا ريب أن النافي عليه الدليل كالمثبت، والقضية سلبية أو إيجابية إذا لم تكن بديهية لا بد لها من دليل. وأما السلب بلا علم فهو قول بلا علم، فقولهم: لا تحصل التصورات إلا بالحد قضية سالبة وليست بديهية. فمن أين لهم ذلك؟ وإذا كان هذا قولا بلا علم، وهو أول ما أسسوه، فكيف يكون القول بلا علم أساسا لميزان العلم، ولما يزعمون أنها آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن أن يزل في فكره ...

الثاني:

أن يقال: الحد يراد به نفس المحدود، وليس مرادهم هنا، ويراد به القول الدال على ماهية المحدود، وهو مرادهم هنا. وهو تفصيل على الاسم بالإجمال، فيقال: إذا كان الحد قول الحاد، فالحاد إما أن يكون عرف المحدود بحد أو بغير حد؛ فإن كان الأول فالكلام في الحد الثاني كالكلام في الأول، وهو مستلزم للدور أو التسلسل، وإن كان الثاني بطل سلبهم، وهو قولهم: إنه لا يعرف إلا بالحد ...

الثالث:

أن الأمم جميعهم من أهل العلوم والمقالات، وأهل الأعمال والصناعات يعرفون الأمور التي يحتاجون إلى معرفتها، ويحققون ما يعانونه من العلوم والأعمال من غير تكلم بحد، ولا نجد أحدا من أئمة العلوم يتكلم بهذه الحدود، لا أئمة الفقه ولا النحو ولا الطب ولا الحساب ولا أهل الصناعات، مع أنهم يتصورون مفردات علمهم، فعلم استغناء التصور عن هذه الحدود ...

الرابع:

إلى الساعة لا يعلم الناس حدا مستقيما على أصلهم، بل أظهر الأشياء - وحده بالحيوان الناطق - فيه الاعتراضات المشهورة، وكذا حد الشمس وأمثاله، حتى إن النحاة لما دخل متأخروهم في الحدود ذكروا للاسم بضعة وعشرين حدا، وكلها معترضة على أصلهم، والأصوليون ذكروا للقياس بضعة وعشرين حدا، وكلها أيضا معترضة.

وعامة الحدود المذكورة في كتب الفلاسفة والأطباء والنحاة وأهل الأصول والكلام معترضة لم يسلم منها إلا القليل. فلو كان تصور الأشياء موقوفا على الحدود لم يكن إلى الساعة قد تصور الناس شيئا من هذه الأمور، والتصديق موقوف على التصور، فإذا لم يحصل تصور لم يحصل تصديق؛ فلا يكون عند بني آدم علم من عامة علومهم. وهذا من أعظم السفسطة ...

الخامس:

أن تصور الحاجة إنما يحصل عندهم بالحد الحقيقي المؤلف من الذاتيات المشتركة والمميزة، وهو المركب من الجنس والفصل. وهذا الحد إما متعذر أو متعسر، كما قد أقروا بذلك، وحينئذ فلا يكون قد تصور حقيقة من الحقائق دائما أو غالبا، وقد تصورت الحقائق فعلم استغناء التصور عن الحد ...

السادس:

أن الحدود عندهم إنما تكون للحقائق المركبة، وهي الأنواع التي لها جنس وفصل، فأما ما لا تركيب فيه، وهو ما لا يدخل مع غيره تحت جنس - كما مثله بعضهم بالعقل - فليس له حد، وقد عرفوه، وهو من التصورات المطلوبة عندهم. فعلم استغناء التصور عن الحد. بل إذا أمكن معرفة هذا بلا حد فمعرفة تلك الأنواع أولى؛ لأنها أقرب إلى الجنس، وأشخاصها مشهورة.

وهم يقولون: إن التصديق لا يتوقف على التصور التام الذي يحصل بالحد الحقيقي؛ بل يكفي فيه أدنى تصور ولو بالخاصة، وتصور العقل من هذا الباب. وهذا اعتراف منهم بأن جنس التصور لا يتوقف على الحد الحقيقي ...

السابع:

أن سامع الحد إن لم يكن عارفا قبل ذلك بمفردات ألفاظه ودلالاتها على معانيها المفردة لم يمكنه فهم الكلام، والعلم بأن اللفظ دال على المعنى الموضوع له مسبوق بتصور المعنى، وإن كان متصورا لمسمى اللفظ ومعناه قبل سماعه امتنع أن يقال: إنما تصوره بسماعه ...

الثامن:

إذا كان الحد قول الحاد، فمعلوم أن تصور المعاني لا يفتقر إلى الألفاظ، فإن المتكلم قد تصور ما يقوله بدون لفظ، والمستمع يمكنه ذلك من غير مخاطب بالكلية، فكيف يقال: لا تتصور المفردات إلا بالحد ...

التاسع:

إن الموجودات المتصورة إما أن يتصورها الإنسان بحواسه الظاهرة كالطعم واللون والريح والأجسام التي تحمل هذه الصفات، أو الباطنة كالجوع والحب والبغض، والفرح والحزن، واللذة والألم، والإرادة والكراهة وأمثال ذلك، وكلها غنية عن الحد ...

العاشر:

أنهم يقولون: للمعترض أن يطعن على الحد بالنقض في الطرد أو في المنع، وبالمعارضة بحد آخر، فإذا كان المستمع للحد يبطله بالنقض تارة، وبالمعارضة تارة أخرى - ومعلوم أن كليهما لا يمكن إلا بعد تصور المحدود - علم أنه يمكن تصور المحدود بدون الحد، وهو المطلوب ...

الحادي عشر:

أنهم معترفون بأن من التصورات ما يكون بديهيا لا يحتاج إلى حد، وحينئذ يقال: كون العلم بديهيا أو نظريا من الأمور النسبية الإضافية، فقد يكون النظري عند رجل بديهيا عند غيره؛ لوصوله إليه بأسبابه من مشاهدة أو تواتر أو قرائن، والناس يتفاوتون في الإدراك تفاوتا لا ينضبط؛ فقد يصير البديهي عند هذا دون ذاك بديهيا كذلك أيضا بمثل الأسباب التي حصلت لهذا، ولا يحتاج إلى حد ...

ثم ينتقل الإمام إلى تعريف الحد فيقول: «المحققون من النظار على أن الحد فائدته التمييز بين المحدود وغيره، فالاسم ليس فائدته تصوير المحدود وتعريف حقيقته، وإنما يدعي هذا أهل المنطق اليونانيون أتباع أرسطو ومن سلك سبيلهم - تقليدا لهم - من الإسلاميين وغيرهم.

فأما جماهير أهل النظر والكلام من المسلمين وغيرهم فعلى خلاف هذا، وإنما أدخل هذا من تكلم في أصول الدين والفقه بعد أبي حامد في أواخر المائة الخامسة، وهم الذين تكلموا في الحدود بطريقة أهل المنطق اليوناني، وأما سائر النظار - من جميع الطوائف الأشعرية والمعتزلة والكرامية والشيعة وغيرهم - فعندهم: إنما يفيد الحد التمييز بين المحدود وغيره، وذلك مشهور في كتب أبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر، وأبي إسحق، وابن فورك، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وإمام الحرمين، والنسفي، وأبي علي، وأبي هاشم، وعبد الجبار، والطوشي، ومحمد بن الهيثم وغيرهم.

ثم إن ما ذكره أهل المنطق من صناعة الحد لا ريب أنهم وضعوها وضعا، وقد كانت الأمم قبلهم تعرف حقائق الأشياء بدون هذا الوضع، وعامة الأمم بعدهم تعرف حقائق الأشياء بدون وضعهم، وهم إذا تدبروا وجدوا أنفسهم يعلمون حقائق الأشياء بدون هذه الصناعة الوضعية ...» •••

فهذا وما جرى مجراه من كلام الإمام ابن تيمية تصحيح للمنطق، وتحرير للعقل من قيود المصطلحات التي تعوقه عن النظر السليم، ولا تطلقه على سوائه، ووجهته أن المنطق مقيد بالعقل، وليس العقل مقيدا بالمنطق كما جعله المقلدون من عباد الألفاظ، وأصحاب اللجاجة بالمصطلحات الموضوعة.

ومن إحاطة هذا الإمام الثبت بفنون البحث أن يستقصيه إثباتا ونفيا في كل باب من أبوابه، وعلى كل منهج من مناهجه، سواء منها ما شاع في عصره، وما ندر في ذلك العصر وشاع في الزمن الأخير حتى حسبه بعضهم من مخترعات العصر الحديث؛ كالاستقراء الذي يشبه الإحصاء، والمقارنة بالأرقام والمقادير.

فمن حججه على أدعياء المنطق وأصحاب الجدل مشاهدات الواقع وإحصاءاته المحسوسة التي أثبتت له قلة جدوى المصطلحات المنطقية في الفهم والتفاهم، والتوفيق بين الآراء وتقريب العقول من الإقناع والاقتناع، قال في كتابه نقض المنطق: «إنك تجدهم أعظم الناس شكا واضطرابا، وأضعف الناس علما ويقينا. وهذا أمر يجدونه في أنفسهم، ويشهده الناس منهم، وشواهد ذلك أعظم من أن تذكر هنا، وإنما فضيلة أحدهم باقتداره على الاعتراض والقدح والجدل.

ومن المعلوم أن الاعتراض والقدح ليس بعلم ولا فيه منفعة، وأحسن أحوال صاحبه أن يكون بمنزلة العامي، وإنما العلم في جواب السؤال؛ ولهذا تجد غالب حججهم تتكفأ؛ إذ كل منهم يقدح في أدلة الآخر، وقد قيل: إن الأشعري - مع أنه من أقربهم إلى السنة والحديث وأعلمهم بذلك - صنف في آخر عمره كتابا في تكافؤ الأدلة، يعني أدلة علم الكلام؛ فإن ذلك هو صناعته التي يحسن الكلام فيها.

وما زال أئمتهم يخبرون بعدم الأدلة والهدى في طريقهم، كما ذكرناه عن أبي حامد وغيره، حتى قال أبو حامد الغزالي: «أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام». وهذا أبو عبد الله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب - باب الحيرة والشك والاضطراب - لكن هو مسرف في هذا الباب، بحيث إنه يتهم في التشكيك دون التحقيق، بخلاف غيره فإنه يحقق شيئا ويثبت على نوع من الحق، لكن بعض الناس قد يثبت على باطل محض؛ بل لا بد فيه من نوع من الحق.

وكان من فضلاء المتأخرين وأبرعهم في الفلسفة والكلام ابن واصل الحموي، كان يقول: أستلقي على قفاي، وأضع الملحفة على نصف وجهي، ثم أذكر المقالات، وحجج هؤلاء وهؤلاء، واعتراض هؤلاء وهؤلاء حتى مطلع الفجر، ولم يترجح عندي شيء؛ ولهذا أنشد الخطابي:

حجج تهافت كالزجاج تخالها

حقا وكل كاسر مكسور

فإذا كانت هذه حال حججهم، فأي لغو باطل وحشو يكون أعظم من هذا؟!»

ثم استطرد من هذا قائلا ما فحواه: إن الخلاف يقل كلما قل المنطق، ويكثر ويشتد كلما كثرت مناقشاته، واشتدت منازعاته. وبالجملة فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة؛ بل المتفلسف أعظم اضطرابا وحيرة في أمره من المتكلم؛ لأن عند المتكلم من الحق الذي تلقاه عن الأنبياء ما ليس عند المتفلسف؛ ولهذا تجد مثل أبي الحسن البصري وأمثاله أثبت من مثل ابن سينا وأمثاله.

وأيضا تجد أهل الفلسفة والكلام أعظم الناس افتراقا واختلافا، مع دعوى كل منهم أن الذي يقوله حق مقطوع به قام عليه البرهان، وأهل السنة والحديث أعظم الناس اتفاقا وائتلافا، وكل من كان من الطوائف إليهم أقرب؛ كان إلى الاتفاق والائتلاف أقرب.

فالمعتزلة أكثر اتفاقا وائتلافا من المتفلسفة؛ إذ للفلاسفة في الإلهيات والمعاد والنبوات؛ بل وفي الطبيعيات والرياضيات وصفات الأفلاك من الأقوال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال. وقد ذكر في جميع مقالات الأوائل؛ مثل أبي الحسن الأشعري في كتاب المقالات، ومثل القاضي أبي بكر في كتاب الدقائق من مقالاتهم ما يذكره الفارابي وابن سينا وأمثالهما أضعافا مضاعفة ...

وأهل الإثبات من المتكلمين، مثل الكلابية والكرامية والأشعرية، أكثر اتفاقا وائتلافا من المعتزلة؛ فإن في المعتزلة من الاختلاف وتكفير بعضهم بعضا حتى ليكفر التلميذ أستاذه من جنس ما بين الخوارج. وقد ذكر من صنف في فضائح المعتزلة من ذلك ما يطول وصفه؛ فلست تجد اتفاقا وائتلافا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث وما يتبع ذلك، ولا تجد افتراقا واختلافا إلا عند من ترك ذلك وقدم غيره عليه ...

وقد سلك ابن تيمية هذا المسلك في مواضع كثيرة من رسائله وكتبه التي أدارها على مناقضة الجدليين والمناطقة المتشبثين بالمصطلحات والتعريفات اللفظية، فلا يسع منصفا أن يظن به أنه يحرم الحجة والبرهان. وهذه حججه وبراهينه تعتمد على الدليل والقرينة والاستقراء والمشاهدة، وكل ما تنتظم به قضايا المنطق ودعاواه.

وغاية ما يقوله المنصف: إن التحريم عنده مقصود به اللغو والجدل والولع بالسفسطة على غير جدوى، وإنه تحكيم للعقل في المنطق إنقاذا له من تحكيم المنطق فيه، ولا يكون المنطق متحكما في العقل صارفا له عن النظر القويم إلا إذا غلبت فيه أشكال اللفظ والصيغة على حقائق المعنى وجواهره. فهو بهذه المثابة ربقة للعقول ينبغي للمفكرين أن يطلقوها من شباكها؛ ليستقيموا بها على سوائها ...

وما كان ابن تيمية بالذي يظن به أن يعادي المنطق لأنه يجهله ويستخف به مداراة لعجزه عنه؛ فإن معرفته به ظاهرة في معارض قوله كأنه من زمرة المتخصصين له، والمتفرغين لدراسته وحذق أساليبه، ومثل هذا لا يتصدى للمنطق إلا أن يكون فيه ما يخشى ضرره على الناس، ولا سيما المشتغلين به من غير أهله ...

ولقد تصدى للمناطقة الجدليين هذان الإمامان الجليلان - أبو حامد الغزالي وابن تيمية - وكلاهما يلقب بحجة الإسلام، ويدل تلقيبه بهذا اللقب على المكانة التي استحقاها بين المسلمين بالقدرة على الاحتجاج وإقامة الدليل؛ فليس من شأن علماء الإسلام ولا من شأن المسلمين الذين يجلونهم، ويقتدون بهم، ويستمعون إليهم، أن تسقط عندهم الحجة، ويبطل بينهم الإقناع، وما خسر من المنطق شيئا من خلصت له الحجة القائمة؛ فإن إقامة الحجة هي المنطق السليم في جوهره الصحيح منطلقا من عوائق الأشكال والعناوين ...

ولا يخفى أن للمسلمين عقيدة واحدة فيما يرجع إلى أوامر القرآن ونواهيه، وإلى الصريح من نصوص التحليل والتحريم فيه. فلا مذاهب هنا ولا شيع ولا تأويلات، ومتى صرح الكتاب المبين بوجوب التعويل على العقل، أو فوض للإنسان حق التعويل على عقله، فليس لمسلم أن ينازع في هذا الحق أو في ذلك الواجب، ولكن الإسلام - كما هو معلوم - قد دانت به شعوب متفرقة الأصول والأجناس واللغات، جاءته بتراث في عاداتها وأفكارها، فسرى هذا الاختلاف إلى تفسيراتها لبعض الآيات، وتأويلاتها لبعض الأقوال والعبارات.

ويجوز أن يقع هذا الاختلاف فيما يتعلق بمواضع النظر، وأساليب الفهم والتفكير، وهكذا خطر لبعض المستشرقين وكتاب الغرب الذين بحثوا في علاقة اختلاف الشعوب باختلاف مذاهب النظر والاجتهاد، فظن بعضهم أن طوائف الشيعة آمنت بالإمام لأنها ورثت تقديس الرؤساء والأحبار، وقيدت من حق العقل في البحث والفهم بمقدار ما أطلقت من سلطان الإمام، ووكلت إليه من حق القيادة والإرشاد ...

وفي هذا الظن من المستشرقين وهم لا شك فيه؛ لأن هذه المسألة بذاتها - مسألة الدراسة العقلية - قد كانت في طليعة المسائل التي اشتغل بها الشيعة الإماميون، ومن أفواه الشيعة الإماميين تلقى أساطين الفلسفة الإسلامية كلامهم في العقل والنفس، وفي مذهب الأفلاطونية الحديثة ومذهب أفلوطين منها على التخصيص.

ويقول الشيخ الرئيس ابن سينا فيما رواه عنه تلميذه الجوزجاني: «كان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويعد من الإسماعيلية، وقد سمعت منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم، وكذلك أخي» ...

والفارابي أستاذ ابن سينا بالاطلاع والقدوة نشأ فيما وراء النهر، ووعى أقوال الشيعة الإمامية في شروط الإمامة، ومزج بينها وبين شروط أفلاطون في كتاب الجمهورية، فجعل الإمام صفوة الخلق في كمال الصفات، واجتماع الفضائل العقلية والنفسية؛ بل فضائل الجسد التي تنزهت عن شوائب الضعف والمرض. وكان إخوان الصفاء يدينون بمذهب في الإمامة كهذا المذهب، ويؤلفون الرسائل مع هذا في المنطق، وفي علوم الرياضة والفلك وما إليها من علومهم العقلية ...

فالدراسات المنطقية - وسائر الدراسات العقلية - كانت من شواغل الشيعة الإماميين، ولم يكن إيمانهم بالإمامة مما يصرف العقل عن التوسع في علم من العلوم، وربما أخذت عليهم طوائف المسلمين إفراطا في هذا الباب، ولم تأخذ عليهم تفريطا فيه يتعمدونه أو يساقون إليه على غير عمد.

وإنما كان الإمام عندهم مرجع المختلفين حين ينقطع بهم القياس، ويئول الرأي إلى هداية المعلم فيما جاوز طاقة المتعلمين، وحجتهم في ذلك أن المعرفة لا تتحقق كلها بالقياس، وأن شيئا وراء القياس ينبغي أن يصار إليه في حال من الأحوال، وهم يلجئون إلى القياس حتى في إثبات هذه الحقيقة، كما يؤخذ من المناقشة المشهورة بين الإمامين جعفر الصادق وأبي حنيفة؛ قال الإمام جعفر: أيهما أكبر يا نعمان؛ القتل أو الزنى؟ قال الإمام أبو حنيفة: القتل، فقال الإمام جعفر: فلم جعل الله في القتل شاهدين، وفي الزنى أربعة؟ أينقاس لك هذا؟ ثم قال: فأيما أكبر؛ البول أو المني؟ قال: البول، قال: فلم أمر الله في البول بالوضوء، وفي المني بالغسل؟ أينقاس لك هذا؟

4

إلى آخر الأمثلة التي ساقها الإمام جعفر ... وهي في الواقع قياس للدلالة على أن القياس لا يغني في جميع الأحوال عن الرجوع إلى الإمام المتبوع، فليس هو إنكارا للقياس، ولكنه إنكار لدعوى من يدعي أن القياس يصلح لكل قضية، ويفض كل خلاف ...

ولسنا نقول: إن الأمثلة قاطعة بالحجة؛ لأن الواقع أن إثبات القتل أيسر من إثبات الزنى، وأن تأويل الاختلاف بين طهارة الوضوء وطهارة الغسل لا يمتنع بالدليل المعقول؛ فإن المسألة هنا ليست مسألة مادة تخرج من الجسم وكفى، ولكنها مسألة الاختلاف بين حالة يضطرب لها الجسم كله، وحالة لا اضطراب فيها، كذلك الاضطراب، وهو اختلاف يكفي لتفسير التطهير في إحداهما بالوضوء، والتطهر في الأخرى بالغسل الذي يعم جميع الأعضاء ...

إلا أن المثل الذي ساقه الإمام كان في بيان لزوم القياس حتى في مناقشة القياس على إطلاقه، ولم يخطئ التوفيق جماعة المستشرقين في شيء كما أخطأهم في ظنهم أن تحكيم العقل محظور على طائفة المسلمين؛ لأنها ترى في الإمامة رأيا يخالف جملة الآراء في هذا الباب.

ولعل الروايات التي يتناقلها المستشرقون أنفسهم عن الإسماعيلية والإمامية والفرق التي يسمونها بالباطنية خليقة أن تكون شاهدا صالحا عندهم؛ لإفراط هذه الطائفة في الاشتغال بالمنطق لو أرادوا أن يصفوها بالإفراط فيه ... أما إنها تنكر المنطق، أو تنكر النظر والقياس، فلا شبهة له مما تناقلوه عنهم من تلك الروايات ...

ولا غرابة - بعد - في قيام فرقة بين المسلمين تخالف سائر الفرق في موضوع العقل والمنطق؛ فإن الديانات لم تخل قط من أمثال هذا الخلاف على وجه من الوجوه، ولكن الواقع المقرر في هذه المسألة بذاتها أن حرية العقل لا يقيدها في الإسلام حكم مأثور على مذهب راجح أو على مذهب مرجوح ...

الفصل الرابع

الفلسفة

فلسفة التاريخ، وفلسفة اللغة، وفلسفة الأخلاق، وفلسفة الرياضة وغيرها من أنواع الفلسفة مصطلحات حديثة يراد بها البحث في النظريات والأفكار التي تقوم عليها تلك العلوم، أو البحث في النظريات والأفكار التي تفسر تلك العلوم، وتبين وجهتها وغايتها، ويراد بهذه الفلسفات - إجمالا - أنها دراسات فكرية فرضية غير الدراسات التي تقررت بالوقائع والتجارب المحسوسة من قبيل علوم الطبيعة وما جرى مجراها ...

إلا أن الفلسفة التي نعنيها هنا أعم من هذه الفلسفات جميعا؛ لأنها قد تشملها من وجهة النظر في الأصول، وتجاوزها إلى البحث فيما وراء الحقائق المحسوسة، مما يسمى أحيانا بالبحث فيما وراء الطبيعة، أو البحث في كنه الوجود كله على التعميم ...

ويلاحظ في التاريخ المتواتر أن هذه الفلسفة العامة - فلسفة ما وراء الطبيعة - شاعت في بعض الأمم القديمة، وقل شيوعها في أمم أخرى ...

ويلاحظ كذلك أن بلاد الدول الكبار لم تكن بيئات صالحة لنشأة هذه الفلسفة ونبوغ فلاسفتها ، وأن الأمر لا يرجع إلى اختلاف درجات الحضارة؛ بل إلى أسباب غير هذا السبب، كما يؤخذ من تواريخ الحضارات الأولى ...

فالهند ومصر وبلاد ما بين النهرين وبلاد الدولة الرومانية كانت على درجة عالية من الحضارة، وعلى حظ وافر من العلوم والصناعات، ولكنها لم تتسع لشيوع الفلسفة، كما اتسعت لها بلاد اليونان في عصر من عصورها قبيل ميلاد المسيح، وهي مع ذلك لم تبلغ من الحضارة والعلم والصناعة مبلغ البلاد التي قامت فيها الدول الكبرى، وقل فيها شيوع الفلسفة ونبوغ الفلاسفة ...

والباحثون الأوروبيون يحبون أن يعللوا ذلك بعلة ترضيهم، وتدل عندهم على امتياز السلالات الأوروبية بين جميع السلالات البشرية ...

يقولون: إن طلب المعرفة لمحض المعرفة مزية من مزايا العقل الأوروبي دون غيره بين عقول الأمم من سائر الأجناس، وإن الأمم من غير الأجناس الأوروبية تطلب العلم لمنفعة، وتهتم بالمعرفة لما تستفيده منها في معاشها، ولا تهتم بها لأنها مطبوعة على التفكير وطلب الحقيقة لذاتها ...

ودلائل العصبية العنصرية هنا ظاهرة تكفي لإخراج هذه العلة من عداد العلل العلمية الخالصة لوجه البحث والمعرفة. وقد حدث للأمم الأوروبية أنها حجرت على الفلسفة حين عرضت لها ظروف اجتماعية أو سياسية كالظروف التي سبقتها في الدول الشرقية ...

فالسبب العنصري هنا قاصر عن تفسير العلة في اختلاف إقبال الأمم على الفلسفة، وإنما ترجع تلك العلة إلى أسباب واحدة بين الشرق والغرب، وبين الماضي والحاضر كلما تشابهت الظروف على تباعد الأزمنة والجهات ...

والغالب أن الدول الكبيرة، وهي الدول التي تقوم عادة على الأنهار الكبيرة، تستقر فيها سلطة دينية متوارثة كالسلطة السياسية، وأن هذه السلطة الدينية تستأثر بمباحث العقيدة ومباحث ما وراء الطبيعة، ولا تسمح لأحد بأن يزاحمها في المعارف التي تتعلق بالأرباب وأسرار الخلق وأصول الحياة، أو أصول الوجود كله على التعميم.

وقد وجدت هذه السلطة الدينية القوية في أوروبا بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر للميلاد، فامتنع ظهور الفلسفة فيها، وساء حظ الفلاسفة بين علمائها ومحتكري العلم من أحبارها وكهانها.

وحدث قبل ميلاد السيد المسيح أن عبادة الإمبراطور تقررت في الدولة الرومانية، وأن الدولة عرفت سلطان الكهانة بين شعوبها؛ فامتنع فيها ظهور الفلسفة ونبوغ الفلاسفة، ولم يكن محصولها منها بأوفر من محصول الفلسفة في دول الحضارات الشرقية، وقامت الدولة الرومانية ثم سقطت وهي عالة على بقايا الفلسفة اليونانية، تأخذ منها ما يحسب من فلسفة السلوك والأخلاق، وتحجم عما عداها من أبواب الفلسفة المعنية بما وراء الطبيعة وما تخوض فيه من المشكلات والأسرار ...

وقد فسر الإسلام هذا الفارق بين الأمم في عنايتها العامة بالفلسفة على طريقته العملية حين قامت فيه الدولة بغير كهانة، فكانت دولة الإسلام أرحب الدول صدرا، وأسمحها فكرا مع الفلسفة على عمومها، والفلسفة اليونانية في جملتها؛ بل كانت الأمة الإسلامية أرحب صدرا، وأسمح فكرا مع الفلسفة اليونانية من بلاد العالم اليوناني الذي نشأت فيه، كما يؤخذ من مصائر الفلاسفة بين أبناء العالم اليوناني ومصائر الفلاسفة المسلمين وغير المسلمين في بلاد الإسلام.

كان «ثالوث» الفلسفة الأكبر يتجمع من سقراط، وأفلاطون تلميذ سقراط، وأرسطو تلميذ أفلاطون، وكان أشهر الفلاسفة بعد هذين فيثاغوراس إمام الحكمة الصوفية، وزينون إمام الفلسفة الرواقية. وكل من هؤلاء الحكماء - المعبرين عن حكمة عصورهم - قد أصيب في زمنه بمصاب لا يدل على قرار أمين ...

فسقراط قضي عليه بالموت، وأفلاطون بيع في سوق العبيد، وأرسطو نجا بنفسه من أثينا خوفا من عاقبة سقراط، بعد أن رماه كاهن من كهانها بالإلحاد، وقيل: إنه ألقى بنفسه في البحر، وزعم بعض مؤرخيه أنه لم يبخع نفسه فرارا من الاضطهاد؛ بل غما من تفسير علة المد والجزر في البحر الذي ألقى بنفسه فيه.

أما فيثاغوراس فقد مات قتيلا بجانب مزرعة فول، وبخع زينون نفسه لأن الآلهة أمرته بذلك، كما قال لبعض تلاميذه، ولا تعلم على التحقيق علاقة مصيره هذا ولا مصير فيثاغوراس بالدعوة الفلسفية، ولكنه - على أي وجه من الوجوه - مصير لا يدل كما أسلفنا على قرار أمين.

ونقارن بين هذه الأحوال التي عرضت لأكبر فلاسفة اليونان وبين أحوال الفلاسفة من المسلمين من المشتغلين بالفلسفة اليونانية، وهي أجنبية في البلاد الإسلامية، فلا نرى أحدا أصيب بمثل هذا المصاب من جراء الفلسفة أو الأفكار الفلسفية، ومن أصيب منهم يوما بمكروه، فإنما كان مصابه من كيد السياسة، ولم يكن من حرج بالفلسفة أو حجر على الأفكار ...

فأشهر الفلاسفة المسلمين في المشرق ابن سينا، الملقب بالشيخ الرئيس، دخل السجن؛ لأنه كان عند أمير همدان فبرم بالمقام عنده، وأراد أن يلحق بأمير أصفهان علاء الدولة ابن كاكويه، فسجنه أمير همدان ليبقيه إلى جواره، ولم يسجنه عقوبة له على رأي من آرائه.

وابن رشد أشهر الفلاسفة المسلمين في المغرب أصابته النكبة؛ لأنه لقب الخليفة المنصور في بعض كتبه بلقب ملك البربر، وكان يصادق أخاه «أبا يحيى» ويرفع الكلفة بينه وبين الخليفة فيناديه «يا أخي» وهو في مجلسه الخاص بين وزرائه وكبرائه.

ويحتاج المؤرخ في كل مصادره فكرية أو دينية - كما قلنا في تاريخ الفيلسوف

1 - إلى البحث عن سببين؛ أحدهما معلن، والآخر مضمر؛ فقليلا ما كان السبب الظاهر هو سبب النكبة الصحيح، وكثيرا ما كان للنكبة غير سببها الظاهر سبب آخر يدور على بواعث شخصية أو سياسية تهم ذوي السلطان. ويسري هذا على الشعراء كما يسري على الفلاسفة، ويسري على الجماعات كما يسري على الآحاد.

ولقد نكب بشار ولم ينكب مطيع بن إياس وكلاهما كان يتزندق، ويهرف في أمور الزندقة بما لا يعرف، ولكن بشارا هجا الخليفة، ومطيعا لم يقترف هذه الحماقة؛ فنجا مطيع وهلك بشار، ولم يكن ابن رشد أول شارح لكتب الأقدمين؛ فقد سبقه ابن باجة إلى شرح بعضها وإن لم يتوسع في هذا العمل مثل توسعه، ولكن ابن باجة كان يحسن مصاحبة السلطان، وابن رشد لم يكن يحسن هذه الصناعة، فنكب ابن رشد ولم ينكب ابن باجة، ولم يغن عن الفيلسوف المنكوب أنه شرح الكتب، كما تقدم، بأمر من أبي الخليفة.

واشتغل بالفلسفة اليونانية غير ابن سينا وابن رشد أعلام من هذه الطبقة من طراز الكندي والفارابي والرازي، كما اشتغل بها أناس دون هذه الطبقة في الشهرة والمكانة، فلم يصب أحدهم بسوء من جراء تفكيره، ولم يصدهم أحد عن البحث والكتابة إلا أن تستدرجهم حبالة من حبائل السياسة، فينالهم منها ما ينال سائر ضحاياها، ولو لم يكن أسهم في مذاهب الفلسفة أو الدين ... •••

وربما كمنت السياسة وراء دعوات المتفلسفين كما كانت وراء المصادرة من جانب الدولة وحكامها؛ لأن الزندقة التي كانت تتستر بستار الفلسفة إنما كانت في ناحية من نواحيها ثورة مجوسية ترمي إلى هدم الدولة الإسلامية من أساسها، وإقامة الدولة الفارسية في مكانها.

وتنسب الزندقة في أرجح الأقوال إلى كلمة «زندا» التي كانت تطلق على شرح كتاب «زردشت» وتعليقات الديانة المجوسية، وربما عمد الخلفاء إلى أناس من العلويين فاتهموهم بالزندقة، على خلاف المعقول أو المنتظر من أسرة تقيم حقوقها في الخلافة على وراثة النبي - عليه السلام - والمحافظة على رسالته الدينية، ولكن الشبهة كانت تلحق بهم من الاشتراك في مقاومة الدولة ولو على غير تفاهم بين الفريقين. وكان أعوان الدولة يحشرونهم جميعا في زمرة واحدة لتشويه الحركة العلوية بإلقاء الشبهة عليها من الوجهة الدينية.

أما فيما عدا السياسة وشبهاتها ومكائدها، فلم يصادر أحد من المشتغلين بالفلسفة لأنه يتفلسف، أو يخوض في بحث من البحوث الفكرية على تشعبها، وما لم يكن هذا المتفلسف عدوا مجاهرا بمحاربة الدين والدولة ونشر الفتنة، فلا جناح عليه ولا قدرة لخليفة أو أمير على مصادرته باسم الإسلام.

ويصدق هذا من باب أولى على الفلسفة الإسلامية كما يصدق على الفلسفة الأجنبية، فلم تنقطع بحوث المعتزلة وعلماء الكلام لغير علة من علل السياسة لا تلبث أن تزول بزوال المعتلين بها.

وقد طرق المعتزلة وعلماء الكلام كل باب مغلق من أبواب الأسرار الدينية التي حجرت عليها الكهانات القوية في الديانات الأولى؛ فنظروا في العقيدة الإلهية، وفي أصول الخلق والوجود، وأحكام النبوءات، وعددوا الأقوال والآراء في كل باب من هذه الأبواب على أوسع مدى، وأصرح بيان، ووسعهم الإسلام جميعا وإن ضاق بفريق منهم في بعض الأحيان. •••

ومن البديهي أن أشياع الفرق يخطئون في مناقشاتهم، وأن الأمراء يخطئون في سياستهم، وأن الدين يتبعه المخطئ والمصيب، والخادع والناصح، فليس حكم الإسلام في مباحث الفلسفة برأي هذه الفرقة في تلك، ولا هو بحيلة هذا الأمير أو ذاك فيما يقصدان إليه من مآرب السياسة، وإنما حكم الإسلام هو حكم الكتاب والسنة المتفق عليها.

وليس في الكتاب ولا في السنة كلمة واحدة تحجر على التفكير في شأن من شئون الفلسفة، أو مذهب من مذاهبها ما لم تكن في المذهب الفلسفي موبقة غير مأمونة على الشريعة، أو على سلامة الجماعة، فلا جناح على الفيلسوف أن ينظر فيما شاء، وأن يفصح عن وجهة نظره كما شاء ...

وإذا بدا لنا أن نلتمس مقياس الحرية الفكرية من الواقع الماثل للعيان، أو من الناحية العملية التي تنكشف لنا في حياتنا اليومية؛ فهنالك إلى جانب الكتاب والسنة دليل على حرية الإسلام يتقرر بحكم التاريخ الواقع، ولا يلجئنا إلى تأويل الآيات والأحاديث. وهذا الواقع يقرر لنا دليله من روح الدين التي يوحي بها إلى جملة أتباعه في جملة عصوره.

فلم يكن من روح الإسلام التي أوحى بها إلى جماعاته أن يثير فيهم البغضاء للفكر والمفكرين، وأن يبيح لهم عقوبتهم بالتعذيب والإحراق والحرمان من حقوق الإنسان، ولم يكن هذا الدليل الواقعي من روح الإسلام مقصورا على وطن أو سلالة فيقال: إنه مستمد من تراث ذلك الوطن أو تلك السلالة، ولكنه عم بلاد المسلمين جميعا في عصور كثيرة، فلا يرجع به المؤرخ المنصف إلى وحي غير وحي الكتاب الكريم ...

وتتجلى سعة الدين الإسلامي في موقف الفلاسفة منه، كما تتجلى في موقف الدين من الفلاسفة؛ فإن كبار الفلاسفة المسلمين قد خاضوا غمار الأفكار الأجنبية بين يونانية وهندية وفارسية، وعرضوا لكل مشكلة من مشاكل العقل والإيمان، وتكلموا عن وجود الله ووجود العالم ووجود النفس، وخرجوا من سبحاتهم الطويلة في هذه المعالم والمجاهل فلاسفة مسلمين دون أن يعنتوا أذهانهم في التخريج والتأويل ...

ومنهم من ترجم أرسطو وأفلاطون إلى الإسلام فكرا وتقديرا، فلم يعسر عليه أن يذهب معهما إلى أقصى المدى في رأي العقل دون أن يخرج من حظيرة الدين ... •••

ونحن - فيما نعلم من مذاهب هؤلاء الفلاسفة الكبار - لا نرى فيلسوفا قال في الخلق والخالق ما ينكره المسلم المؤمن بالله والوحي، أو جنح به التعبير الفلسفي إلى قول يأباه السامع الذي تعود التعبير عن مسائل الدين بلغته العربية، وأسلوبه المتعارف بين جمهرة المتدينين ...

وأكبر الفلاسفة المسلمين الذين استوعبوا مسائل الفلسفة فيما وراء الطبيعة هم في الرأي الغالب بين مؤرخي الثقافة الإسلامية: أبو نصر الفارابي، وأبو علي ابن سينا في المشرق، وأبو الوليد بن رشد في المغرب، وكلهم قد اطلع على قسط وافر من فلسفة الحكيمين أفلاطون وأرسطو وطائفة من آراء الحكماء الآخرين، وليس فيهم من ذهب إلى رأي فيما وراء الطبيعة لا يذهب إليه الفيلسوف المسلم إذا تكلم بلغة الفلاسفة ... «والفارابي هو أول الفلاسفة المسلمين الذين تتلمذ لهم ابن سينا نوعا من التلمذة ... فقرأ له وانتفع بما قرأ في فهم مضامين الفلسفة اليونانية، وكان «المعلم الثاني» معلما كاملا له في معضلات الفلسفة الإلهية بجملتها؛ لأنه أضاف مسائل الحكمة الدينية إلى مسائل الحكمة المنطقية، وأدخل مسألة التوفيق بين العقل والوحي في حسابه، وقد كانت من المسائل الحديثة في الإسلام فلم يبل فيها أحد بلاء الفارابي، ولا جاوز أحد فيها مداه الذي انتهى إليه وإن تبعه في هذا المجال كثيرون ... ومن توفيقاته أنه سمى العقل الفعال بالروح الأمين، وسمى العقول بالملائكة، وسمى الأفلاك التي فيها العقول بالملأ الأعلى، وقال: إن صفات الله الأزلية هي المثل الأولى ...» «والذي اتفق عليه جلة الثقات أن فلسفة الفارابي فلسفة إسلامية لا غبار عليها؛ فلم ير فيها جمهرة المسلمين المعنيين بالبحث الفكري حرجا ولا موضع ريبة، ولا نخالها تغضب متدينا بالإسلام أو بغيره من الأديان ...»

فالمعلم الثاني يبرئ المعلم الأول - وهو أرسطو - من إنكار خلق العالم، ويفسر آراءه على وجه يرضاه المؤمنون بالله والنبوات ... «فالله عنده هو «السبب الأول»، والسبب الأول واجب الوجود.»

لأن العقل يستلزم وجوده، ولا يستطيع أن ينفيه بحال؛ فكل شيء له سبب، وكل سبب له سبب متقدم عليه، وهكذا إلى السبب الأول الذي لا يتقدمه سبب من الأسباب، وإلا وقعنا في الدور والتسلسل وهما باطلان ... «وهذا السبب الأول واحد لا يتكرر، بسيط لا يتغير؛ لأنه لو تكرر أو تغير لاختلف ووجب البحث عن سبب لاختلافه، وقد انتهت إليه جميع الأسباب ...» «هذا السبب الأول هو علة وجود كل موجود، ولا يمكن أن يكون العالم هو السبب الأول؛ لأنه متكرر متغير، فلا بد له من سبب متقدم عليه، ومن ثم تنقسم الموجودات إلى قسمين؛ قسم «واجب الوجود» يستلزم العقل وجوده لا محالة، وهذا هو السبب الأول، أو هذا هو الله سبحانه وتعالى، ويوصف بكل صفات الكمال دون أن يقتضي ذلك التعدد؛ لأن نفي النقائص المتعددة لا يقتضي التعدد، بل هو صفة واحدة معناها الكمال ...» «وقسم مفتقر إلى سبب، ووجوده ممكن، ولكنه ينتقل من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل بسبب واجب، فهو مخلوق على هذا الاعتبار.»

قال الفارابي ينفي الظنة عن أرسطو في إنكار القول بخلق العالم: «ومما دعاهم إلى ذلك الظن أيضا ما يذكره في كتاب السماء والعالم، أن الكون ليس له بدء زماني، فيظنون عند ذلك أنه يقول بقدم العالم وليس الأمر كذلك؛ إذ قد تقدم فبين في ذلك الكتاب وغيره من الكتب الطبيعية والإلهية أن الزمان إنما هو عدد حركة الفلك، وعنه يحدث، وما يحدث عن الشيء لا يشتمل ذلك الشيء.

ومعنى قوله أن العالم ليس له بدء زماني أنه لم يتكون أولا فأولا بأجزائه كما يتكون البيت مثلا، أو الحيوان الذي يتكون أولا فأولا بأجزائه، فإن أجزاءه يتقدم بعضها بعضا بالزمان، والزمان حادث عن حركة الفلك، فمحال أن يكون لحدوثه بدء زماني، ويصح بذلك أنه إنما يكون عن إبداع الباري جل جلاله إياه دفعة واحدة بلا زمان، وعن حركته حدث الزمان ...»

وعلى هذا يكون الخلق في رأي المعلم الثاني هو الإخراج من الإمكان إلى الفعل، ويكون الوجود بالفعل مصاحبا للزمان. أما الوجود بالقوة فهو في علم الله الذي لا زمان له ولا مكان؛ لأن الله أبدي لا أول له ولا آخر، وإنما يقترن الزمان بالموجودات المتحركات. وهذا ولا ريب اجتهاد من المعلم الثاني في تفسير كلام المعلم الأول، ولكنه استحسن هذا الاجتهاد؛ لأنه قرأ كتاب «الثيولوجية» أو الربوبية كما سماه، وظنه من تواليف أرسطو، وهو من آراء أفلوطين وتفسير ملك الصوري وإسكندر الأفروديسي.

ولهذا استطرد الفارابي بعد الكلام السابق قائلا: «ومن نظر في أقاويله في الربوبية في الكتاب المعروف بأثولوجية لم يشتبه عليه أمره في إثباته الصانع المبدع لهذا العالم؛ فإن الأمر في تلك الأقاويل أظهر من أن يخفى، وهناك تبين أن الهيولي أبدعها الباري جل ثناؤه لا عن شيء، وأنها تجسمت عن الباري سبحانه ثم ترتبت ...» «وهذا في الحقيقة مستمد من كلام أفلوطين، وتوسع فيه إسكندر الأفروديسي، ثم جاء المعلم الثاني فتوسع في كلام الأفروديسي، وزاد عليه ما يوفق بينه وبين الدين، ولا سيما في مسألة العقول والأفلاك التي هي عند الفارابي من ملائكة الله.

ويؤخذ من شرح الفارابي لبعض كلام زينون الفيلسوف الرواقي، أنه اعتمد عليه أكبر اعتماد في مسألة العقول؛ ولهذا كان مذهب الفارابي جامعا بين مذهب أرسطو عن الحركة، ومذهب أفلوطين عن الصدور، ومذهب أفلاطون عن المثل الأبدية، ومذهب الرواقيين في النفس العاقلة وانبثاثها في الأجسام ... فمنذ الأزل وجدت الأشياء في علم الله، وهذا هو علة وجودها، والله جل وعلا يعقل؛ فالعقل الأول صادر عنه، فائض من وجوده.

وهذا العقل الأول هو الذي يحرك الفلك الأكبر، وتأتي بعده عقول الأفلاك المتوالية إلى العقل العاشر الذي يعقد الصلة بين الموجودات العلوية والموجودات السفلية ...» «فالوجود إذن ثلاث مراتب: أولاها الوجود الإلهي، وثانيتها وجود هذه العقول المتدرجة، وثالثتها وجود العقل الفعال. ومن هنا نفهم كيف تعددت الكثرة عن الواحد الذي لا يتعدد، وكيف جاءت الصلة بين المعاني المجردة والمحسوسات.»

2 «أما ابن سينا فعنده - كما عند أرسطو - أن المادة الأولية والصورة والعدم هي الأصول الثلاثة التي عنها تصدر كل الأجسام الطبيعية، والعالم مخلوق لم يحدث في زمان، يقول ما فحواه: إن هذه الكائنات إما أن تكون ممكنة الوجود جميعا، وإما أن تكون جميعها واجبة الوجود، ومحال أن تكون ممكنة الوجود جميعا؛ لأن الممكن يحتاج إلى علة تخرجه من حيز الإمكان إلى حيز الفعل، ومحال أن تكون واجبة الوجود جميعا؛ لأنها بين متحركة تحتاج إلى محرك، وبين مركبة تحتاج إلى علة لتركيبها، ولا بد أن تسبقها أجزاؤها.

فهي إذن بعض ممكن الوجود، وبعض واجب الوجود، وواجب الوجود هو الذي لا نتصور عدمه؛ لأن عدمه يوقعنا في المحال. ومن المحال أن يكون واجب الوجود مسبوقا؛ لأن الذي يسبقه يكون إذن أولى بالوجود، ومن المحال أن يكون مركبا؛ لأن أجزاء المركب تسبقه وتحتاج إلى فاعل للتركيب والإيجاد، فهو أول، وهو جوهر بسيط منزه عن التركيب ...» «ولم يكن ابن سينا مبدعا في كلامه عن واجب الوجود، أو ممكن الوجود؛ لأن الفارابي قد سبقه إليه، كما سبقه المعتزلة وبعض المتكلمين، ولكن ابن سينا قد أبدع تقسيم الوجود إلى واجب بذاته وممكن بذاته، ولكنه واجب بغيره؛ وبذلك وفق بين القائلين بقدم العالم وخلقه، فإن العالم ممكن بذاته، ولكنه واجب بغيره؛ لأنه كان في علم الله، وما كان في علم الله لا بد أن يكون ...» «وليس العالم حادثا في زمان؛ لأن الزمان وجد مع العالم ... تحرك العالم فوجد الزمان مع هذه الحركة، وإنما كان وجوده لأنه وجد في علم الله، فأخرجه الله من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، والله قديم بالذات، سرمد لا يحيط به وقت ولا محل. فالعالم - كما كان في إرادة الله - قديم، وكما كان بالحركة مسبوق بذات الله، وهو سبق سرمدي لا يحده الزمان. وهنا يقول ابن سينا بالحركة الأولى كما قال أرسطو بها أو بالعلة الأولى.»

3

وقبل الاستطراد إلى تلخيص مذهب ابن رشد، نلم بالمسائل التي ثار عليها الخلاف بين الفلاسفة والفقهاء بعد عصر الفارابي وابن سينا، وكان أكثره خلافا على التعبير دون المعاني الجوهرية، ويدور كله على مسائل أربع؛ هي: قدم العالم، وعلم الله بالجزئيات، وصفات الله، وخلود النفس بعد الموت ... «... وقد كانت لابن رشد آراء في كل مسألة من هذه المسائل ليست مطابقة لما فهمه الأوروبيون في القرون الوسطى، وليست مغايرة لها كل المغايرة، ولكنها آراء كان الفيلسوف حريصا كل الحرص على أن يلتزم بها حدود دينه، ولا يخرج بها عما يجوز للمسلم أن يعتقده وأن يعلمه للمسلمين. وسنرى مبلغ ما أصابه من التوفيق في هذا التوفيق:

يقول ابن رشد عن قدم العالم في كتابه فصل المقال: وأما مسألة قدمه أو حدوثه؛ فإن الاختلاف فيها عندي بين المتكلمين من الأشعرية وبين الحكماء المتقدمين يكاد يكون راجعا للاختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء، وذلك أنهم اتفقوا على أن ها هنا ثلاثة أصناف من الموجودات: طرفان وواسطة بين الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين، واختلفوا في الواسطة.

فأما الطرف الواحد فهو موجود، وجد من شيء غيره وعن شيء؛ أعني عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم عليه ... وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس، مثل تكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك، فهذا الصنف اتفق الجميع من القدماء والأشعريين على تسميتها محدثة ... وأما الطرف المقابل لهذا، فهو موجود لم يكن من شيء ولا عن شيء، ولا تقدمه زمان، وهذا أيضا اتفق الجميع من الفرقتين على تسميته قديما، وهذا الموجود يدرك بالبرهان، وهو الله تبارك وتعالى، وهو فاعل الكل وموجده والحافظ له سبحانه وتعالى قدره.

وأما الصنف من الوجود الذي بين هذين الطرفين فهو موجود لم يكن من شيء، ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شيء، أي عن فاعل، وهذا هو العالم بأسره، والكل منهم متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم ... فإن المتكلمين يسلمون أن الزمان غير متقدم عليه، أو يلزمهم ذلك؛ إذ الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام ...»

4

وأما علم الله بالجزئيات، فابن رشد يقرر فيه أن علم الله يتنزه أن يكون كعلم الإنسان الذي يحدث بعد حدوث المعلوم؛ فإن الله يعلم كل شيء، ولا يتوقف علمه على حدوث جزء بعد جزء من هذه الأشياء ...

وأما مسألة الصفات، فلم تكن موضع بحث عند الفلاسفة الإغريق، ولم يكن لها شأن كبير عند فلاسفة الأوروبيين في القرون الوسطى، ولكنها أثارت الجدل الطويل بين علماء الكلام والمعتزلة والفلاسفة المسلمين، ومثال الجدل فيها أن بعض الفلاسفة يقولون: إن صفات الله هي غير ذاته، وإن الصفات ليست بزائدة على ذات الله؛ لأن ذاته سبحانه وتعالى كاملة لا تتعدد، وغير هؤلاء الفلاسفة يردون عليهم ليوفقوا بين تعدد الصفات ووحدانية الله ... «ولتمحيص القول بخلود النفس عند ابن رشد ينبغي الرجوع إلى مذهب أرسطو في النفس والعقل؛ لأنه إذا صح ما قيل من أن توما الأكويني نصر أرسطو

5

فأصح من ذلك أن ابن رشد حنفه؛ أي جعله مسلما حنيفا، واجتهد في تنقيته من كل ما يخالف العقيدة الإسلامية غاية اجتهاده.

وقد أعان ابن رشد على ذلك أن كلمة الروح عندنا تشمل معنى النفس والعقل معا في معظم معانيها، فالنفس تقرن بالشر والذم في كلامنا، وقلما تقرن الروح بمثل ذلك، فإذا قيل نفس شريرة على العموم، فمن النادر أن يقال ذلك عن الروح وعن الروحاني؛ لأن الروحانيات أشرف وأصفى من ذاك.

وقد تكلم أرسطو عن النفس والعقل في كتاب الأخلاق وفي كتاب النفس، ووضح في كلامه عن العقل أنه ينطبق أيضا على الروح، كما قال في كتاب الأخلاق عن السعادة العليا للإنسان، وهي سعادة التأمل، ثم قال: مثل هذه الحياة ربما كانت أرفع جدا مما يستطيعه الإنسان؛ لأنه لا يحيا هذه الحياة باعتباره إنسانا؛ بل يحياها بمقدار ما فيه من النفحة الإلهية.

والفرق بين هذه النفحة الإلهية وبين تركيبنا الطبيعي كالفرق بين عمل ذلك الجانب الإلهي وعمل الفضائل الأخرى، وإذا كان العقل إلهيا فالحياة على مثاله إلهية بالنسبة إلى المعيشة الإنسانية، وعلينا ألا نتبع أولئك الذين ينصحون لنا ما دمنا بشرا أن نشتغل بهموم البشر، وما دمنا فانين أن نعمل عمل الفانين؛ بل علينا ما استطعنا أن نعمل عمل الخالدين، وأن نحفز كل عرق من عروقنا حتى نسمو إلى مرتبة أرفع ما فينا - وإن قل وصغر - لأقدر وأكمل من كل شيء عداه ...» «أما النفس عند أرسطو فتكاد أن تكون في أكثر مصطلحاته مرادفة للوظيفة الحيوية؛ ولهذا ينسب إلى النبات نفسا نامية، وإلى الحيوان نفسا شهوانية، ويسخر من فيثاغوراس الذي يقول: إن نفس الإنسان قد تنتقل إلى الحيوان، ويرى أن السؤال عن العلاقة بين النفس والجسد كالسؤال عن العلاقة بين الشمعة وصورتها، فلولا صورة الشمعة لكانت شحما ودهنا ولم تكن شمعة، ولولا نفس الإنسان لكان الإنسان لحما وعظاما وعصبا ولم يكن بالإنسان.»

6 «وابن رشد يؤمن ببقاء الروح الإنساني حيث يبقى عالم الروح كله، فليس هو من الفلاسفة الماديين؛ لأن هؤلاء الفلاسفة الماديين لا يؤمنون بروح للإنسان في هذا العالم، أو في عالم آخر، وليس بين الفلاسفة الإلهيين من ينكر بعث الأجساد إنكارا منه لقدرة الله على بعثها، ولكنهم يقولون: إن الأرواح المفارقة أشبه بالعالم الأعلى. ومن آمن بالله، وآمن بقدرة الله، وآمن بالبعث والعالم الأعلى فما هو من الملحدين ...»

7

هذه العجالة السريعة تلخص موقف الفلاسفة من الإسلام، وموقف الإسلام من الفلاسفة، ويبدو من كلا الموقفين أن العقيدة الإسلامية لم تنقبض عن لقاء الثقافات الأجنبية عند التقائها بها في المفاجأة الأولى. وأحرى بهذه العقيدة الشاملة ألا تضيق بثقافة من الثقافات بعد اتصال الأمم، واستفاضة العلاقة بين معارفها وعقولها؛ فلا يزال موقف الإسلام من حكمة الحكماء في العصور الأخيرة كموقفه منها في صدر الدعوة الإسلامية، وبعد أجيال قليلة من شيوع الدعوة بين مختلف الأقوام والشعوب.

وموقفه اليوم - كموقفه بالأمس - أنه لا يضيق بالفلسفة؛ لأنها تفكير في حقائق الأشياء؛ لأن التفكير في السماوات والأرض من فرائضه المتواترة، ولكن المذاهب الفلسفية قد يظهر فيها ما يضيق بالإسلام، ويخالفه حينا بعد حين. ولا تثريب على عقيدة تخالفها بعض العقول؛ لأن العقائد لا تطالب بموافقة كل عقل على سواء أو على انحراف، وحسبها من سماحة أنها لا تصد عقلا عن سواه ...

الفصل الخامس

العلم

العلم الذي أمر به القرآن الكريم هو جملة المعارف التي يدركها الإنسان بالنظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق من شيء ... ويشمل الخلق هنا كل موجود في هذا الكون ذي حياة أو غير ذي حياة ...

أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء [سورة الأعراف: 185].

أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت [سورة الغاشية: 17-20].

إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون [سورة البقرة: 164].

فالعلم في الإسلام يتناول كل موجود، وكل ما يوجد فمن الواجب أن يعلم، فهم علم أعم من العلم الذي يراد لأداء الفرائض والشعائر؛ لأنه عبادة أعم من عبادة الصلاة والصيام؛ إذ كان خير عبادة لله أن يهتدي الإنسان إلى سر الله في خلقه، وأن يعرف حقائق الوجود في نفسه ومن حوله ...

ولهذا قال النبي - عليه السلام - في فضل هذه العبادة: «فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.»

وقال: «إن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء ...»

وقال: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع.»

وذكر له عليه السلام رجلان عابد وعالم، فقال: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم.»

1

وهذا غير الأحاديث النبوية التي وردت في فضل المعرفة والحكمة وفريضة العلم على كل مسلم ومسلمة، مما اجتمعت فيه أوامر الله ونبيه على هذا المعنى المتكرر في مواضع شتى من القرآن الكريم، ومناسبات شتى من الأحاديث النبوية ...

وموقف الإسلام من العلم - أو من العلوم عامة - يتبين من موقف علمائه المجتهدين في كل حقبة من تاريخه، الذي تعاقبت به الأجيال بين القوة والضعف، والتقدم والتأخر، والنشاط والجمود؛ فقد مرت بالأمم الإسلامية عصور متخلفة، جهلت فيها الإسلام نفسه، فجهلت فضل العلم كما جهلت فضل الدين.

ولكن الإسلام لم يخل قط تاريخه بين المشرق والمغرب من أئمة مجتهدين، استمدوا حرية الفكر من ينبوع تلك القوة الحيوية التي لا تستنزفها المحن والطوارق، فحفظوا رسالة هذا الدين - ولا فرق بينها وبين رسالة العلم في مقصد من مقاصده - وأوجبوا على المسلم أن يتعلم حيث وجد العلم، وأن ينظر إلى الحكمة كأنها هي ضالته يعنيه أن يبحث عنها ويجدها، «وأينما وجدها فهو أحق بها»، كما تعلم من رسول الله.

واعتقد الأئمة المجتهدون جميعا أنهم يؤدون أمانة الكتاب في حثهم جماعة المسلمين على طلب المعرفة حيثما وجدوها، فكل معرفة صحيحة فهي معرفة قرآنية إسلامية، على اختلافهم في تفسيرها والنسبة إلى الكتاب الكريم، بين فئة ترى أن المعرفة محتواة فيه إجمالا وتفصيلا، وفئة ترى أن المعرفة مطلب من مطالب المؤمن بالكتاب لا يعوقه عائق منه أن يتحراها ويحققها، ويهتدي بها حيثما أصابها ...

إن موقف الإسلام من العلم - كتابا وسنة - لا يحتاج إلى بيان بعد ما تقدمت الإشارة إليه من تلك الآيات والأحاديث ...

ولكننا نعتقد أن الدين روح ينبث في الأخلاق والتقاليد إلى جانب النصوص والأحكام، ومن هذا الروح يظهر عمل الدين في الواقع، ولا يحسب لدين من الأديان عمل نافع في حياة البشر ما لم يثبت له هذا العمل بين أتباعه، بما يوحيه إليهم من روح يصدرون عنه فيما تعمدوه ولم يتعمدوه من أفعال أو خلائق وآداب.

وروح الإسلام الذي بثه بين أتباعه يتراءى في تاريخه المتشعب الطويل سماحة تعصمهم من تلك النقمة التي انصبت على ألوف من الخلق؛ لاستباحتهم من المعارف والدراسات ما تحرمه عليهم معتقداتهم الدينية، أو كهانهم الذين يستأثرون دونهم بتفسير تلك المعتقدات، وربما كانت سماحة الروح الإسلامي في عصور الجمود والجهالة أدل على فضل الإسلام من سماحة أتباعه في عصور القوة والحضارة؛ لأن الدين الذي يعمل عمله في الأخلاق والآداب وقومه جامدون محجوبون عن العلم أقمن بالهداية من دين يعمل وله سند من القوة والحضارة، ولو كان هذا السند قائما عليه ...

وروح الإسلام في العصور الأخيرة ظاهر في موقف المسلمين من العلوم الحديثة كظهوره في موقف الأئمة المجتهدين، الذين حفزوا قواهم إلى الإقبال على تلك العلوم والتبسط فيها، واعتبار العمل بها أمرا من أوامر القرآن الكريم؛ فإن العلوم العصرية عرفت باسم العلوم الأوروبية يوم كانت أوروبا كلها حربا على العالم الإسلامي تغير على بلاده، وتستذل شعوبه، وتقوض ما قام فيهم من دولة وسلطان، وتعفي على البقية الباقية حيث تخلفت للدولة والسلطان بقية تمانع في التسليم والاستسلام.

فكان خليقا بهذا العداء أن يتمثل في نفوس المسلمين عداء لكل وارد من القارة الباغية، وكل منسوب إلى الأوروبيين المعتدين، ولكن علوم الحضارة الأوروبية لم تجد من المسلمين بعد المقاومة الطبيعية، التي تخلقها المفاجأة أو المصادمة الأولى، إلا كل ترحيب وتقدير، ولعلهم - بعد تلك المصادمة - كانوا بحاجة إلى التحذير من الإفراط، ولم يكونوا يوما بحاجة جدية إلى التحذير من الإعراض والانقباض والتفريط في تحصيل ما استطاعوه من معارف القوم، كأنها ضالة مرتقبة هم أحق بها ممن يعتدي بها عليهم، ويسومهم من أجلها التسليم والاستسلام.

والإفراط إنما يحذر من محاولة التوفيق بين القرآن الكريم وبين تلك العلوم في كل جليل ودقيق مما ثبت ثبوت اليقين، ومما يعرضه أصحابه عرضا يحتمل المراجعة، بل يحتمل النقض والإلغاء ...

فمن الحق أن نعلم أن كتابنا يأمرنا بالبحث والنظر والتعلم والإحاطة بكل معلوم يصدر عن العقول، ولكن ليس من الحق أن نزعم أن كل ما تستنبطه العقول مطابق للكتاب، مندرج في ألفاظه ومعانيه؛ فإن كثيرا من آراء العلماء التي يستنبطونها أول الأمر لا يعدو أن يحسب من النظريات التي يصح منها ما يصح، ويبطل منها ما يبطل، ولا تستغني على الدوام عن التعديل وإعادة النظر من حين إلى حين ...

وقليل من الأمثلة يغني عن الإفاضة في شرح المنهج السديد الذي يتوخى في الرجوع بنظريات العلم الحديث إلى الآيات القرآنية، وأنفع هذه الأمثلة ما يقتبس من أحدث الآراء في التأويل والتوفيق بين النظريات وآيات الكتاب ...

فمن أصحاب التأويل في العصر الحديث من خطر له أن السيارات السبع في المنظومة الشمسية هي المقصودة بالسماوات السبع في القرآن الكريم. وخطأ هذا التأويل ظاهر؛ لأن الفلكيين الذين ذكروا السيارات السبع أدخلوا الكرة الأرضية بينها، ولم يجعلوا الأرض مقابلة للسماء.

وهذا على أن الفلكيين المتأخرين قد كشفوا عن سيارات أخرى لم تكن معروفة للأقدمين، وهي فلك النجيمات وأرانوس ونبتون وبلوطس، وكان الكشف عن هذا السيار متأخرا، فلم يظهر قبل شهر مارس عام 1930، ولا تزال في هذا الفلك الشمسي أجرام سماوية - كالمذنبات والشهب - تدخل في عداد السيارات، ويدور بعضها حول الشمس في مدة أقصر من مدة الدورات التي حسبت لأرانوس ونبتون وبلوطس ...

وقد تنبه لهذا الاعتراض الأستاذ هبة الله الشهرستاني صاحب كتاب الهيئة والإسلام، فبدا له أن السيارات الشمسية مشار إليها في القرآن الكريم بالأحد عشر كوكبا التي ذكرت في سورة يوسف، ولكنه - لمعرفته بعلم الهيئة - يعلم أن السيارات بعد الكشوف الأخيرة عشر وليست بإحدى عشرة: وهي: بلوطس ونبتون وأرانوس وزحل والمشتري والنجيمات والمريخ والأرض والزهرة وعطارد، فقال مستدركا بعد الإشارة إلى النجيمات: «فإن قلت: إن سيارات شمسنا ليست أكثر من تسع، فلماذا تعد إحدى عشرة؟ قلت: لسنا على يقين من هذا التعليق، ولكن التسعة بعد زيادة السيارات المنفلقة إلى النجيمات تكون عشرة لا يضرنا عدم اندراجها الآن في عداد السيارات؛ لأنها كانت في عدادها سابقا، وهو كاف في مقام إذا نظر إلى ما كان لشمسنا من السيارات بقيت أو عدمت، عرفت أو جهلت.»

وكان من المشجعات حقا للفاضل الشهرستاني على اتخاذ هذا الرأي أنه ذهب إليه بعد أن قرأ في تفسير النيسابوري والزمخشري «أن يهوديا سأل النبي الأمي

صلى الله عليه وسلم

عن النجوم التي شاهدها يوسف في المنام، فقال

صلى الله عليه وسلم : «جريان وطارق وذبال وقابس وعمودان وفليق ومصبح وضروح وفرع ووثاب وذو الكتفين.» فأسلم اليهودي.»

2 «وهذه الرواية رواها ابن بابويه الصدوق في الخصال عن جابر بطريقين بينهما اختلاف يسير، ورواها الحافظ القمي عن جابر في تفسير قوله تعالى:

إني رأيت أحد عشر كوكبا

ثم سمى تلك النجوم بتغيير يسير.»

قال الأستاذ الشهرستاني: «إن اختصاص النجوم من بين نجوم السماء لا بد من أن يكون بصفة مختصة بهذا العدد اليسير لا يشترك فيها سائر النجوم ... ويؤيده أيضا انطباق كثير من هذه الأسامي على سيارات شمسنا ... فالجريان أرضنا، وقد ورد إطلاق الجارية على أرضنا في غير هذا الخبر، كما مر تفصيله في المقالة الثالثة عشرة من مسألة تعدد الأرضين ... والطارق الزهرة؛ فإن الطارق كوكب الصبح على ما في القاموس، والعرب لا يقصدون في كوكب الصبح غير الزهرة قديما وحديثا.

والذبال على وزن قطام يطلق في اللغة على النحيف الفاقد للطراوة، وعطارد أيضا كثير الجفاف فاقد الطراوة من شدة قربه من الشمس، والقابس يطلق في اللغة على ما يكتسب الحر الشديد من نار عظيمة، ونجمة فلكان أيضا تكتسب الحرارة الشديدة من نار لا نرى أعظم منها لهبا؛ أعني الشمس، فإن قربها مفرط من فلكان؛ ولذلك سميت نجمة فلكان بهذا الاسم، فإن فلكان، كما مر، اسم جبل يثير النار، ومعربه بركان.

والعمودان يحتمل انطباقه على مريخ؛ فإنه لا ينفك عن قمرين تقوم أشعتهما عليه كالعمودين، والفيلق بمعنى المنفلق ينطبق على السيارة العظيمة التي حسبوا كونها بعد مريخ، وتفسخت إلى قطع صغار دوارة؛ أعني بها نجيمات المشتري، ويؤخذ شرحها من غرة هذه المسألة. والحاصل أنها قابلة للانطباق على سيارات شمسنا على النظام السابق المبدوء من أرضنا، ثم الزهرة، ثم عطارد، ثم فلكان، ثم المريخ ... إلخ ... إلخ.»

ويمضي صاحب كتاب الهيئة على هذا النحو في تأويله للعدد الذي جاء في الآية القرآنية، مما يصح أن يحاط به عند التوسع في التفسير، كما ينبغي في تفصيل الشروح الوافية، ولكنه يذكر على سبيل الرواية ولا يذكر على سبيل الجزم بحكم القرآن في مسألة من المسائل، وبخاصة ما كان منها عرضة للمراجعة والمناقشة وتعدد الآراء، ولا نحرص على روايته إلا لأن الصواب والخطأ في هذه التأويلات يدلان معا على موقف القرآن الكريم في العلم عند المسلمين، فلا حرج عندهم في دراسة النظريات العلمية، ولا مانع في دينهم يمنعهم أن يتقبلوها كأنها مطابقة لآيات التنزيل ... •••

وشبيه بهذا التأويل رجوع بعض المفسرين بالنظرية السديمية إلى آية الدخان في سورة فصلت:

ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها [سورة فصلت: 11، 12].

والنظرية السديمية فكرة قال بها سويد نبرج

Swedenborg ، ثم فصلها لابلاس

Laplace ، خلاصتها أن المنظومة الشمسية نشأت من السديم - أي من مادة غازية ملتهبة - بردت وتجمدت وأفلتت من جرمها الكبير أجزاء كثيرة تفرقت، فدارت حول نفسها وحول الجرم الكبير بفعل الجاذبية والحركة المركزية، وأن نشأة النجوم في السماء مماثلة لهذه النشأة، وإن لم تكن من قبيل المنظومات التي تشبه منظوماتنا الشمسية ...

وهذه الفكرة شائعة وليست بقاطعة؛ لأن الغازات المنطلقة لا تكون أشد حرارة من الأجرام المتجمعة؛ إذ هي كلما انطلقت تسربت منها الحرارة في فضاء أوسع من حيز الكرة المتجمعة، وليست حركة الغازات بعد تجمعها موافقة للحركة التي تصورها أصحاب هذه النظرية، فضلا عما ظهر عن حقيقة السحب التي كانت تسمى سديما، ثم تحقق أنها جماعات من النجوم تعد بمئات الملايين.

ولا يستطاع البت بقول جازم في النظرية السديمية قبل البت بقول جازم في أصل الأشعة الكونية، وفي النجوم التي تنفجر لابترادها وتكاثفها وتعاظم الضغط على داخلها، واندفاع باطنها إلى خارجها. فربما كانت السدم من مادة النجوم المتفجرة، أو كانت من تجمع الأشعة الكونية، أو كان الفضاء هو مصدر هذه الحركات في أصولها عند الذين يرون أن الفضاء والأثير شيء واحد.

وأيا كان مقطع القول في هذه الفروض، فلا ينبغي أن نعدو بها فروضا يتعاورها

3

الثبوت والنقض على حسب الكشوف والمشاهدات التي تتيسر أدواتها مع الزمن، ولا تزال اليوم في أوائلها ...

ويتساوى الحكم على الماضي وعلى المستقبل في هذه الفروض التي يتباعد بها الزمن كما يتباعد بها المكان؛ فلا يقين فيها على الحالين، ولا حسم فيها بين رأيين ما اتسعت للخلاف بين فرضين ...

ولا حرج على قائل أن يقول في تقديره، كما قال العالم المجتهد الشيخ طنطاوي جوهري وهو يفسر الآية: «وقد شاهدوا من تلف العوالم اليوم ستين ألف عالم تبرز للوجود من جديد ولا تزال على الحالة السديمية، كما نقلته لك من الكتب الفرنجية في غير هذا المكان، ورأوا أن من تلك العوالم ما هو في أول تكونه، ومنها ما قطع مراحل في تكوينه، ومنها ما قارب التمام، وهي عوالم كعالمنا الشمسي الذي نحن فيه، وستبرز للوجود كما برزت شمسنا وسياراتها وأرضها، وكانت في الأصل دخانا وستستمر في التكوين، ومدتها نوبتان.

ونحن لا نقدر أن نعرف كيف تكون النوبتان، غاية الأمر أن نقول نوبة للبداية ونوبة للنهاية، ويكون هذا القول من الجمل العامة، وفائدته أن التكوين لم يكن في لحظة واحدة ...»

نقول: لا حرج في هذه الفروض والتقديرات على قائل يقول بها، وعليه عهدتها في سبيل البحث عن الحقيقة، ولكن الحرج كل الحرج أن نلزم أحدا بفروض النظرية السديمية كأنها من دعائم الإيمان بآيات التنزيل ... •••

ونكتفي من هذه الأمثلة بمثل آخر له صبغة تاريخية جغرافية جرى فيها التأويل نحو هذا الجري، وإن لم يرتق الأمر فيه إلى منزلة النظم الفلكية أو أصول التكوين؛ كتعداد السيارات أو النظرية السديمية. وذلك تأويل فاضل من معلمي الرياضة لقوله تعالى في سورة الكهف من قصة ذي القرنين:

حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة [سورة الكهف: 86].

فإن المعلم الفاضل يذكر التوندرا

Toundras

ويقول: «إنها مياه موحلة تشغل صيفا الأجزاء السفلى من أحواض الأنهار أوبي

Obi ، وأينسي

Ienissi ، ولينا

Lena

بسيبريا، تستحيل شتاء إلى سهل واسع المدى من الجليد.»

ثم يقول في تفسير الآية: «أي في عين ماؤها موحل، أو به طين أسود، أو به طين كريه الرائحة، وليس يعرف في الأقاليم ما شأن الماء فيها هكذا إلا منطقة التوندرا صيفا، ولا ما شأن الاتساع فيها إلى حد انطباق الأفق على نهايتها حتى يلوح للنظر اختفاء الشمس عندها إلا هي. إذن ما الذي يمنع عن إرادة القرآن لها؟ ...

إذا تقرر الأخذ بذلك كان ذو القرنين يرتاد سيبريا، وكان في الشرق من مجرى لينا الأسفل، وسيتأيد ذلك أيضا مما يأتي في القصص نفسه؛ إذ تقول الجغرافيا الرياضية بطول نهار الصيف في نصف الكرة الشمالي، فيكون زمنه بين 12 ساعة و24 ساعة في العروض المختلفة من خط الاستواء إلى الدائرة القطبية الشمالية، وأطول البقاع نهارا أقربها إلى القطب.

وتقول الجغرافيا الرياضية أيضا: إن النهار يزيد على أربع وعشرين ساعة في الأماكن التي عروضها شمالي الدائرة القطبية الشمالية؛ إذ يكون النهار شهرا واحدا في عرض 23 67°، وشهرين في عرض 51 69°، وثلاثة أشهر في عرض 40 73° درجة، وستة أشهر في القطب، وتقول الجغرافيا السياسية: إن هناك مدنا مأهولة في شمال الدائرة القطبية الشمالية، وفي الشرق من منطقة التوندرا في سيبريا، مثل فركوينسك

Verko Yansk

عرض 68 درجة شمالا، فيكون النهار فيها فوق الشهر.

ومثل أوستيانسك

Ust-Yonsk

عرض 56 70° درجة، فيكون النهار فيها فوق الشهرين، وأقل من الثلاثة، ويقول القرآن الكريم:

حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا

بمعنى بلغ مكانا تشرق الشمس عليه، فوجدها تظهر على قوم ليس لهم من ورائها ليل. والذي يجعلني أفهم احتمال الآية لهذا المعنى ما يأتي من النقط؛ أولا: التعبير بكلمة «وجد» الذي يشعر بما يفيد حكاية الحال، أو وصف ما شاهده في ذلك المكان، ثانيا: أن من معاني دون: وراء وبعد، ثالثا: أن القرآن عبر عن الليل بأنه لباس في قوله تعالى:

وجعلنا الليل لباسا

وعبر عنه بأنه يلتصق بالنهار التصاق الجلد باللحم في قوله تعالى:

وآية لهم الليل نسلخ منه النهار

وعبر عنه بأنه يغطي ويستر ضوء النهار بقوله تعالى:

يغشي الليل النهار ، وبأنه يغطي ويستر ضوء الشمس بقوله تعالى:

والليل إذا يغشاها ، وعبر بأنه يتبع النهار بقوله تعالى:

يطلبه حثيثا ، وبأنه يلتف على النهار بقوله تعالى:

يكور الليل على النهار .

هذه المعاني المجتمعة وجهت نفسي إلى الاعتقاد بإرادة القرآن الكريم لهذه الحقيقة، ولولا العلم لما تجمعت عناصر هذا المعنى، وبالعلم تحققت آيات القرآن العظيم، وبه يتحقق أيضا ما خفي من معانيه ...»

4

ونقول: إن هذا التفسير اجتهاد حسن من المؤلف لا مانع من نظره، والوقوف به دون الجزم باليقين؛ فإنما يتقرر هذا التفسير يقينا إذا عرف ذو القرنين وعرفت رحلاته في هذه الوجهة أو في غيرها. والكاتب الباحث يذكر أن ذا القرنين مختلف فيه بين أن يكون الإسكندر المقدوني، أو ملكا من ملوك حمير.

وعندنا أنه أقرب إلى أن يكون ملكا له سلطان على اليمن وعلى وادي النهرين، فهو من الذوين كملوك اليمن، ومن لابسي التاج ذي القرنين؛ أحدهما إلى الأمام، والآخر إلى الخلف كبعض ملوك العراق الأقدمين، ولكنه فرض قد تنقضه فروض أخرى تأتي بها الكشوف الأثرية مع الزمن، فلا يجوز القطع به وإلزام المسلمين أن يتقبلوه كما يتقبلون حقائق التنزيل.

وإنه لمن أجمل آداب القرآن العلمية أن يذكر المجتهد أمثال هذا التفسير ويتبعه بتفويض العلم إلى الله: «والله أعلم، وفوق كل ذي علم عليم» ... إن القرآن الكريم يقول إن الكتاب لم يفرط في شيء، كما جاء في سورة الأنعام:

وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون [سورة الأنعام: 38].

وأكثر المفسرين على أن الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ كما جاء في تفسير ابن كثير: أي الجميع علمهم عند الله، ولا ينسى واحدا من جميعها من رزقه وتدبيره، سواء كان بريا أو بحريا؛ كقوله:

وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [سورة هود: 6].

ولكن بعض المفسرين - ومنهم الرازي - يفسر الكتاب هنا بالقرآن الكريم. ولا نزاع بين القولين في تأويل المقصود باشتمال الكتاب على كل شيء؛ فإنهم يعنون أنه يهدي الإنسان إلى كل شيء يحتاج إليه في دينه ودنياه، ومنه طلب العلم والقوة والفضيلة، ولا يقول أحد: إن الكتاب يشتمل على كل شيء تفصيلا؛ بل إجمالا في علم الله، لا يعلمه الناس إلا بمقدار. فمن فهم من ذلك الإجمال معنى فهو مسئول عنه لا يسأل عنه أحد غيره إلا بحجته وبرهانه. ويتفق الإجماع الذي لا نزاع فيه على الأمر بالعلم، والمؤاخذة على التفريط فيه.

وأيا كان الوجه في هذه المسألة؛ فالقسطاس المستقيم فيها بين، والاجتهاد فيها ينتهي إلى حد قائم لا شبهة عليه، فإن الإسلام يأبى كل علم يختلط بأسرار الكهانة والكهان، فكل علم يؤمر به المسلم فهو علم صراح بغير حجاب ولا تنجيم، يهتدي إليه كل مأمور بالنظر قادر عليه.

الفصل السادس

الفن الجميل

كثرة الأنصاب والتماثيل في المعابد والبيع ليست بالمقياس الصحيح لنصيب الفنون الجميلة من الدين الذي يدان به في المعبد أو البيعة؛ لأن المعابد الوثنية كانت تتسع للأنصاب والتماثيل، وليست بالنموذج الصالح للأديان في الهداية إلى معاني الجمال والحض على الفنون الجميلة، وهي في جملتها لا تخلو من العبادات البشعة، والشعائر القبيحة، والعقائد التي لا تجتمع والجمال في شعور واحد.

إنما يقاس نصيب الفن الجميل من الدين بنظرة الدين إلى الحياة؛ فلا يقال عن دين إنه يحيي الفنون الجميلة أو يتقبل إحياءها إذا كانت له نظرة زرية إلى الحياة، وكان ينظر إليها كأنها وصمة زرية، وإلى الجسد ومتاعه كأنه رجس مرذول، وانحراف بالإنسان عن عالم الروح والكمال.

ولا يقال عن دين إنه يزدري الفن الجميل إذا كان الجمال من مطالبه، وكانت نعمة الحياة مقبولة في شرعة المتدين به؛ بل واجبة عليه.

والإسلام بين الأديان قد انفرد بقبول نعمة الحياة وتزكيتها، والحض عليها، وحسبانها من نعمة الله التي يحرم على المسلم رفضها، ويؤمر بشكرها، وغيره من الأديان بين اثنتين: فإما السكوت عن التحريم والإيجاب معا، أو التصريح القاطع بالتحريم والتأثيم.

أما الإسلام فإنه يحل الزينة، ويزجر من يحرمها، ويصف الله بالجمال، ويحسب الجمال من آيات قدرته وسوابغ نعمته على عباده.

ففي خلق الأرض زينة، وفي خلق السماء زينة.

إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [سورة الكهف: 7].

ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين [سورة الحجر: 16].

أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها [سورة ق: 6].

ومن خلائق الله جمال يطلبه الإنسان كما يطلب البأس والمنفعة.

ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون [سورة النحل: 6].

وكل من حرم هذه الزينة على الناس فهو آثم لا يقضي في تحريمه بأمر الدين ...

قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [سورة الأعراف: 32].

والزينة والعبادة تتفقان ولا تفترقان؛ بل تجب الزينة في محراب العبادة كأنها قربان إلى الله حيث لا قربان في الإسلام.

يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد [سورة الأعراف: 31].

والسنة النبوية فيما روي عنه عليه السلام وفيما أثر عن حياته مرددة كلها لمعاني الآيات القرآنية في تزكية النعمة، وإباحة الزينة، والنهي عن تحريم الأخذ بنصيب من الحياة الدنيا، والتعبد لله بتعظيم محاسن خلقه، ومحبة آيات الجمال في أرضه وسمائه.

قال عليه السلام: «إن الله جميل يحب الجمال.»

وقال فيما ورد من تفسير قوله تعالى:

يزيد في الخلق ما يشاء [سورة فاطر: 1].

إنه هو الوجه الحسن، والصوت الحسن، والشعر الحسن.

وقال: من له شعر فليكرمه.

وقال: إن الله يحب كل جيد الريح كل جيد الثياب.

وأخبره بعض أصحابه أنه يقوم الليل ويصوم النهار فقال له: «لا تفعل؛ صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقا ...»

وقد تواترت أمثال هذه الأحاديث في الأثر، واختلفت فيها الروايات، ولكنها لم تختلف قط في معناها ومؤداها؛ لأن حياة النبي الكريم كلها مصداق للإيمان بحق الجسد مع حق الروح.

والدين الذي ينظر إلى الحياة والجمال هذه النظرة القويمة السوية لا يسوغ لأحد أن يظن به تحريما لشيء من الفن الجميل، أو نهيا عن شيء يجمل الحياة، ويحسن وقعا في الأبصار والأسماع. وإنما سبقت الظنة إلى هذا الخطأ لتشديد الإسلام في منع عبادة الأوثان، ومنع ما يصنع لعبادتها من التماثيل والأنصاب، ولم ترد في الكتاب كلمة تنهي عن عمل من أعمال الفن الجميل، ولم يثبت عن النبي - عليه السلام - قول قاطع في تحريم صنعة غير ما يصنع للعبادة الوثنية، أو ما تخشى منه النكسة إليها في نفوس أتباعها ومن يفتنون بجهالتها ...

روى الأزرقي في أخبار مكة: «أن النبي - عليه السلام - لما دخل الكعبة بعد فتح مكة قال لشيبة بن عثمان: يا شيبة ... امح كل صورة فيه إلا ما تحت يدي ... قال: فرفع يده عن عيسى بن مريم وأمه ».

وهذه الرواية يقابلها أن النبي - عليه السلام - لم يدخل الكعبة إلا بعد أن أزيلت منها الصور القائمة فيها، أو المنقوشة عليها؛ فإن حقت الرواية وصح أنه - عليه السلام - قد ترك بعض الصور، وأمر بإزالة بعضها، فليس في ذلك تحريم للصور على إطلاقها، وإن حقت الرواية الأخرى وكانت الصور قد أزيلت من الكعبة بأمره - عليه السلام - قبل دخوله إليها، فما فعله صلوات الله عليه، فهو الحكمة التي تفضي بها ضرورة الحيطة في أوائل كل دعوة تخشى فيها النكسة إلى ما سلفها من دعوات محظورة. وما من دعوة في عصرنا هذا تستغني عن مثل هذه الحيطة الواجبة فيما تحذره من نكسات العهود الغابرة.

على أن الخلاف في صور الكعبة ينقطع بما لا شك فيه من آيات القرآن، وذلك فيما ورد من بيان نعمة الله على سليمان - عليه السلام - ولا إنكار عليه؛ بل هو موجب للشكر من القوم جميعا كما جاء في هذه الآيات:

يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور [سورة سبأ: 13].

والقاعدة العامة في الإسلام أنه لا تحريم حيث لا ضرر ولا خشية من الضرر. فأما مع المنفعة المحققة فلا تحريم، ولا جواز للتحريم؛ لأنه فوات للمصلحة، ونهي عن المباح.

وممن تناول البحث في موضوع التصوير من المحدثين صاحب مجلة «الهداية»، الأستاذ عبد العزيز جاويش؛ حيث يقول: «إنه ليس المراد تعميم التحريم في كل زمان أو كل أمة؛ فإنه لا معنى لذلك الحجر متى أمن جانب العبادة والتعظيم اللذين اختص الله بهما. وكيف يحرم التصوير مطلقا مع أنه قد يكون سببا في حفظ حقوق شرعية، كما هو الشأن في صور الغرقى والأموات المجهولين التي تعرضها الحكومة على الملأ حتى يعرفهم ذووهم، فتقوم هناك أحكام المواريث، وأحكام الزوجية، وحلول الديون المعجلة ونحو ذلك.

وقد يكون التصوير سببا في تحذير الأمة من اللصوص المحتالين، والنصابين المستترين عن أعين الحكومة، فتنشر صورهم للملأ حتى يقتفوا أثرهم، ويرشدوا الحكومة إلى معاهدهم. ومن الصور ما تعرف به أسرار حكم الله تعالى في خليقته، كما في صور الحيوانات وأجزائها التي تحتويها كتب التاريخ الطبيعي والتشريح.

كما أنه من ضروب التصوير ما يساعد على علاج المرضى بعلل باطنة، أو المصابين ببنادق الرصاص ونحوها؛ كالتصوير بأشعة رنتجن الشهيرة. ومن القواعد الأصولية الشرعية أن للوسائل أحكام الغايات والمقاصد؛ فإذا كانت الصور تتوقف عليها بعض أحكام شرعية، أو معالجات طبية، أو كشف مسائل علمية كان اتخاذها ولا شك من المرغوب فيه شرعا، وإن كانت لمجرد الزينة واللهو المباح كان اتخاذها مباحا. فأما إذا كانت تتخذ للتعظيم والعبادة والتبرك ونحو ذلك؛ فهي حرام قطعا، معذب صانعها ومعذب متخذها ...»

ولا نعلم أحدا من المسلمين خاصتهم وعامتهم يزوي وجهه أمام تحفة من تحف الفن حيث تؤمن النكسة إلى العبادات الوثنية، وقد كان الشيخ محمد عبده - الإمام المصلح المجتهد - يزور معاهد الفن، ويكتب عنها، ويستحسن حفظ آثارها النادرة، وتحفها النفيسة؛ لأنها من قبيل حفظ العلم، وتصوير خفايا النفس الإنسانية.

ومما كتبه في ذلك فصل من فصول الرحلات بتوقيعه في تلك الرحلات، نشرته مجلة «المنار» عن دور الصور والآثار في جزيرة صقلية، يقول فيه:

ولهؤلاء القوم حرص غريب على حفظ الصور المرسومة على الورق، ويوجد في دار الآثار عند الأمم الكبرى ما لا يوجد عند الأمم الصغرى؛ كالصقليين مثلا، يحققون تاريخ رسمها، واليد التي رسمتها، ولهم تنافس في اقتناء ذلك غريب، حتى إن القطعة الواحدة من رسم روفائيل مثلا ربما تساوي مائتين من الآلاف في بعض المتاحف، ولا يهمك معرفة القيمة بالتحقيق، وإنما المهم هو التنافس في اقتناء الأمم لهذه النقوش، وعد ما أتقن من أفضل ما ترك المتقدم للمتأخر.

وكذلك الحال في التماثيل، وكلما قدم المتروك من ذلك كان أغلى قيمة، وكان القوم عليه أشد حرصا. هل تدري لماذا؟ ... إذا كنت تدري السبب في حفظ سلفك للشعر، وضبطه في دواوينه، والمبالغة في تحريره، خصوصا شعر الجاهلية وما عني الأوائل - رحمهم الله - بجمعه وترتيبه؛ أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المصنوعات من الرسوم والتماثيل، فإن الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع، والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى.

إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشئون المختلفة، ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية، ويصورون الإنسان أو الحيوان في حال الفرح والرضى والطمأنينة والتسليم.

فهذه المعاني المدرجة في هذه الألفاظ متقاربة لا يسهل عليك تمييز بعضها من بعض، ولكنك تنظر في رسوم مختلفة فتجد الفرق ظاهرا باهرا، ويصورونه مثلا في حالة الجزع والفزع والخوف والخشية، والجزع والفزع مختلفان في المعنى، ولم أجمعهما هنا طمعا في جمع عينين في سطر واحد؛ بل لأنهما مختلفان حقيقة.

ولكنك ربما تعتصر ذهنك لتحديد الفرق بينهما وبين الخوف والخشية، ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون الفزع، ومتى يكون الجزع، وما الهيئة التي يكون عليها الشخص في هذه الحال أو تلك. فأما إذا نظرت إلى الرسم وهو ذلك الشعر الساكت، فإنك تجد الحقيقة بارزة لك تتمتع بها نفسك، كما يتلذذ بالنظر فيها حسك إذا نزعت نفسك إلى تحقيق الاستعارة المصرحة في قولك: رأيت أسدا؛ تريد رجلا شجاعا، فانظر إلى صورة أبي الهول بجانب الهرم الكبير تجد الأسد رجلا أو الرجل أسدا.

فحفظ هذه الآثار حفظ للعلم في الحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها. إن كنت فهمت من هذا شيئا فذلك بغيتي، وأما إذا لم تفهم فليس عندي وقت لتفهيمك بأطول من هذا، وعليك بأحد اللغويين أو الرسامين أو الشعراء المفلقين يوضح لك ما غمض عليك إذا كان ذلك من ذرعه ...

ثم يستطرد الأستاذ الإمام إلى الحكم الشرعي في هذه الصور والتماثيل، فيقول:

ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي: ما حكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية، أو أوضاعهم الجسمانية؟ هل هذا حرام أو جائز أو مكروه أو مندوب أو واجب؟ فأقول لك: إن الراسم قد رسم ، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محي من الأذهان.

فإما أن تفهم الحكم من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالا إلى المفتي وهو يجيبك مشافهة. فإذا أوردت عليه حديث: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون»، أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك: إن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببين؛ الأول: اللهو، والثاني: التبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين.

والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمصور في الحالين شاغل عن الله، أو ممثل للإشراك به، فإذا زال هذان العارضان، وقصدت الفائدة؛ كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات، وقد صنع ذلك في حواشي المصاحف وأوائل السور ولم يمنعه أحد من العلماء، مع أن الفائدة في نفس المصاحف موضع النزاع، وأما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر.

على أن شبهة العبادة الوثنية تزول عند النظر إلى فن السماع - أو فن الغناء والموسيقى - لأنه من الفنون التي لا غبار عليها، ولا تحريم لشيء منها إلا ما كان ممتزجا بالخلاعة، أو مثيرا للشهوات؛ فالتحريم هنا لا يخص الفن الجميل، بل يعم الخلاعة والشهوة وكل ما يمتزج بالمحظورات على اختلافها. وقد يحرم اللباس الخليع أو الحديث الخليع فلا يقال: إن هذا التحريم يمنع الكساء، أو يمنع الكلام، ولكنه يمنع ما هو ممنوع، ويبيح ما عداه.

والمسلمون مأمورون بترتيل القرآن لا يرون في قداسته ما ينهاهم أن يقرءوه ويسمعوه مرتلا في المساجد والمحاريب؛ بل يرون في ذلك معوانا على بلاغ أثره، وطمأنينة الإصغاء إليه. وأحرى أن يكون ذلك الشأن ما يطرق الأسماع منغوما من سائر الكلام.

ولو كان في الغناء ما يكره أو يعاب؛ لكان أولى الناس أن يمنعه رجل كعمر بن الخطاب في صرامته وشدته على نفسه وعلى غيره في رعاية أحكام دينه، ولكنه رضي الله عنه كان يبيح الغناء ويدعو إليه ، ومن أخباره في ذلك ما رواه نائل مولى عثمان بن عفان قال: «خرجت مع مولاي عثمان بن عفان في سفرة سافرناها مع عمر في حج أو عمرة، وكان عمر وعثمان وابن عمر أيضا، وكنت وابن عباس وابن الزبير في شبان معنا، ومعنا رباح النهري فقلنا له ذات ليلة:

1

احد لنا، قال: مع عمر؟! قلنا: احد؛ فإن نهاك فانته.

2

فحدا، حتى إذا كان السحر قال له عمر: كف؛ فإن هذه ساعة ذكر.

فلما كانت الليلة الثانية قلنا: يا رباح، انصب لنا نصب العرب، قال: مع عمر؟! فقلنا كما قلنا بالأمس: إن نهاك فانته. فنصب لنا نصب العرب حتى إذا كان السحر قال له عمر ما قاله أمس، فلما كانت الليلة الثالثة قلنا له: يا رباح، غننا غناء القيان، فقال: مع عمر؟! قلنا: إن نهاك فانته. فغنى، فوالله ما تركه أن قال له: كف؛ فإن هذا ينفر القلوب.»

وجاءه قوم فقالوا: إن لنا إماما يصلي بنا العصر ثم يغني بأبيات، فقام معهم إلى منزله، واستنشده تلك الأبيات، فأنشده الأبيات التالية:

وفؤداي كلما نبهته

عاد في اللذات يبغي تعبي

لا أراه الدهر إلا لاهيا

في تماديه فقد برح بي

يا قرين السوء ما هذا الصبا؟

فني العمر كذا في اللعب

وشباب بان مني ومضى

قبل أن أدرك منه أربي

نفس!

3

لا كنت ولا كان الهوى

اتقي المولى وخافي وارهبي

فجعل عمر يقول: نفس لا كنت ولا كان الهوى، وصار يبكي ثم قال: من كان منكم مغنيا؛ فليغن هكذا ...

وروي عنه أنه خرج للحج ومعه خوات بن جبير، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، فسأل القوم خواتا أن يغني من شعر ضرار، فقال عمر: دعوا أبا عبد الله؛ فليغن من بنيات فؤاده، قال خوات: فما زلت أغنيهم حتى كان السحر، فقال عمر: ارفع لسانك يا خوات؛ فقد أسحرنا.

ومن قال: إن ابن الخطاب كان أشد الخلفاء صرامة في النهي عن المحظور لم يبالغ في وصفه، ولم يقل عنه ما يأباه أو يأباه له عارفوه ومحبوه، وها هو ذا يستمع إلى الغناء بالشعر فيستمع إلى فنين من أعم الفنون الجميلة بين الناس، ولا ينكر الغناء لذاته، ولا الشعر لذاته، وإنما ينكرهما إذا اشتملا على لهو «ينفر القلوب» كما قال.

ولعل خاطرا يخطر على البال في أمر الشعر لما ورد عن الشعراء في القرآن الكريم، وأنهم يتبعهم الغاوون، وفي كل واد يهيمون ...

ولكن هذه الصفة إنما قيلت في الرد على المشركين الذين كانوا يقولون عن النبي - عليه السلام - تارة أنه ساحر، وتارة أنه شاعر، ففيها بيان للفرق بين النبوة والشعر، وبين الكلام الذي يهدي إلى الرشد، والكلام الذي تتبعه الغواية، والرجوع إلى الآية يدل على الشعراء المقصودين بتلك الصفة، فلا يوصف بها شاعر مؤمن يعمل الصالحات ...

والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات [سورة الشعراء: 224-227].

وقد حدث عند نزول هذه الآية - كما روى أبو الحسن مولى تميم الداري - أن حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك جاءوا إلى رسول الله وهم يبكون فقالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء ... فتلا النبي

صلى الله عليه وسلم :

إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات .

فليس الشعر منهيا عنه لأنه شعر، ولا لأنه كلام موزون؛ إذ قد يتفق الوزن لبعض آيات الكتاب، كما جاء في تفسير روح المعاني للسيد محمود الألوسي منسوبا إلى بعض المتأولين؛ إذ يقول: إنهم تأولوا عليه ما جاء في القرآن مما يكون موزونا بأدنى تصرف؛ كقوله تعالى:

ولا تقتلوا النفس التي حرم الله [سورة الإسراء: 33].

ويكون بهذا الاعتبار شطرا من الطويل، وكقوله سبحانه:

إن قارون كان من قوم موسى [سورة القصص: 76] ويكون من المديد.

وكقوله عز وجل:

فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم [سورة الأحقاف: 25] ويكون من البسيط.

وقوله تبارك وتعالى:

ألا بعدا لعاد قوم هود [سورة هود: 60] ويكون من الوافر، وقوله جل وعلا:

صلوا عليه وسلموا تسليما [سورة الأحزاب: 56] ويكون من الكامل.

إلى غير ذلك مما استخرجوه من سائر البحور، وقد استخرجوا منه ما يشبه البيت التام كقوله تعالى:

ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين [سورة التوبة: 14].

فليس الوزن الذي يتفق أن يكون في الكلام المرسل منهيا عنه، وليس الشعر منهيا عنه لأنه وزن منظوم، وإنما المنكر في الشعر ما ينكر في كل كلام يجري بالسوء، أو يغرى به ويستدرج النفوس إليه، وما عدا ذلك من الشعر، فقد كان يسمعه النبي - عليه السلام - ويجيز عليه، وكان يحفظه الخلفاء الراشدون وأئمة المسلمين.

وقد نظمت أحكام الفقه الإسلامي في بحور موزونة، كما نظمت متون العلم واللغة في هذه البحور، فلا حرج في هذا الفن الجميل ما لم يكن حرجا يعرض للفنون وغير الفنون ...

ويقاس الحديث من الفنون على الفنون التي أبيحت في صدر الإسلام، فما استحدث من قبيلها بعد ذلك فهو مباح مثلها، وما لم يكن معهودا يومئذ فالمعول فيه على حكم الضرورة والمنفعة، واجتناب الضرر والفتنة، يباح ما تدعو إليه الضرورة ولا ضرر فيه، ويحظر ما يخشى منه الضرر، ولا حاجة إليه، ولا مسوغ لوجوده.

وقد حدث مثلا في عهد النبي - عليه السلام - أنه شهد زفن الحبشة - أي رقصها القومي - وشهدته معه السيدة عائشة - رضي الله عنها - فما كان من قبيل هذه المناظر العامة فلا جناح عليه ... •••

وموضع المراجعة في فن التمثيل الحديث ما ورد في القرآن الكريم من نهيه المرأة أن تتبرج تبرج الجاهلية، وأن تبدي زينتها للغرباء إلا ما ظهر منها. وقد أسهبت كتب التفسير في بيان المقصود بما ظهر من الزينة، ولخصها الإمام النسفي فقال: «إلا ما ظهر منها، أي ما جرت الجبلة والعادة على ظهوره، وهو الوجه والكفان والقدمان، ففي سترها حرج بين، فالمرأة لا تجد بدا من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصا في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها، وخاصة الفقيرات منهن ...»

وفي تفسير الحافظ ابن كثير حديث مرفوع إلى السيدة عائشة - رضي الله عنها - قالت:

إن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي

صلى الله عليه وسلم

وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال: «يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يعلم أن يرى منها إلا هذا.» وأشار إلى وجهه وكفيه ...

والمتفق عليه أن المرأة لا يباح لها أن تبدي زينتها إلا للضرورة مع أمن الضرر والفتنة، فإذا ثبتت ضرورة لظهورها في حالة من الحالات تمتنع فيها الفتنة، ويؤمن فيها الضرر؛ فحكم الشرع في هذه الحالة معلوم لا خلاف عليه.

وليس من الحق أن فن التمثيل يضيق بالمباح المقبول من الشريعة الإسلامية، وأنه لا يحيا ولا يزدهر بغير ترخص فيها وخروج عنها؛ فإن تاريخ التمثيل الحديث يشهد بمخالفة هذا الزعم للحقيقة الواقعة؛ لأن التمثيل قد عاد إلى الحياة ونما وازدهر في القرن السابع عشر، يوم كانت أزياء النساء في أوروبا لا تبدي من المرأة غير الوجه والكفين، وقد تحجب الكفين بالقفاز أو الأكمام الطوال، وكانت ملابس المرأة يومئذ كملابس القرون الوسطى تفيض حول وسطها حتى تستر قوامها، وربما تعذر عندهم في إبان يقظة التمثيل أن تظهر المرأة على المسرح؛ لجهلها بالقراءة وعجزها عن الحفظ والفهم عن الملقن على مقربة منها. وإن لها من مباحات الإسلام رخصة أيسر من هذه الرخصة، ومجالا أرحب من هذا المجال.

وربما ضاقت بالتمثيل عقيدة تعلم أبناءها نبذ الحياة، والحذر من النظر في حكمة التحريم والتحليل ... أما الدين الذين يعلم من يدين به أن يحب الحياة، وأن يحتكم إلى فكره؛ فلا خوف منه على هذا الفن أو على سواه من فنون الحياة والجمال.

الفصل السابع

المعجزة

يروى عن «نابليون بونابرت» أنه سأل العالم الفلكي المشهور «لابلاس»: أين تجد مكان العناية الإلهية في نظام السماوات؟ فأجابه «لابلاس»: لست أدري مكانا لما يسمى العناية الإلهية في ذلك النظام يا صاحب الجلالة.

يريد العالم الفلكي أنه يستطيع أن يفسر دوران الأفلاك بقوانين الحركة وخصائص المادة الطبيعية، ولا حاجة عنده بعد ذلك إلى تفسير.

وغير هذا الجواب كان أحرى برجل في علم «لابلاس»؛ لأن العالم أحرى أن يعرف موضع العجب من هذه المشاهدات المألوفة، فليست ألفته لها مما يصح أن يبطل العجب منها ولو تتابعت أمامه ألوفا من المرات بعد ألوف.

ترى لو كان «لابلاس» في كون آخر، وتحدث إليه أحد الخارجين من كوننا هذا عن دوران الكواكب على هذا النظام، وخصائص المادة على هذه الوتيرة، أتراه كان يتوقع ما يحدثه عنه قبل سماعه، ويرى أنه شيء من قبيل تحصيل الحاصل، وتكرير المعاد مستغن عن الشرح والسؤال؟

ترى لو قيل لذلك العالم الفلكي في أوائل الأزل أن يصور على الخريطة حركة قابلة لتنظيم الفلك في دورانه وجواذبه ودوافعه، أكان يرتجل هذه الصورة ارتجالا، ولا يتردد بينها وبين شتى الفروض والتقديرات؟

إن نظام الفلك مشاهدات متكررة، وليس بالمستلزمات المنطقية لو لم تكن هنالك قدرة تستلزمها وتختارها لتكون على هذا النحو، ولا تكون على سواه.

إن عقولنا تستلزم أن الأصغر والأكبر من الأشياء لا يتساويان، ولكنها لا تستلزم أن تأتي الحركة من الحرارة، أو تأتي الحرارة من الحركة، أو تمضي المتحركات دائرة في بعض الأحوال، وساكنة في غيرها من الأحوال.

هذه مشاهدات وليست بمستلزمات ولا بديهيات، وكل ما يحدث على صورة منها ولا يحدث على صورة أخرى فهو محتاج إلى التفسير، غير مستغن بنفسه عن الفهم والتعليل.

ونحن نضحك من الطفل الذي تسأله: لماذا انكسر الإناء؟ فيقول: لأنه وقع، وتسأله: لماذا ينكسر إذا وقع؟ فيقول: هكذا. ولا يكلف عقله سؤالا بعد هذا الجواب «وهكذا» هو جواب «لابلاس» في محصوله لسؤال نابليون.

هل من الحتم أن ينكسر الإناء إذا وقع؟ وهل من الحتم أن يدور الكوكب إذا تحرك وانجذب؟ وهل من الحتم مرة أخرى إذا دار أن يتركب من دوراته نظام، وأن تنشأ في هذا النظام حياة؟

هكذا، ولا شيء غير هكذا في رأي علامة الفلك الكبير. وعلامة الفلك الكبير ها هنا طفل صغير يستغني عن تفسير كسر الإناء بإعادة كلمة واحدة هي التكسير.

لماذا يدور الفلك هذا الدوران؟ لأنه يدور هذا الدوران، ولا بد أن يدور هذا الدوران، ولا سبب لذلك إلا لأنني رأيته يدور هذا الدوران.

ومن قال هذا فهو هازل يستخف بالأعجوبة التي أمام عينيه لمجرد كونها أمام عينيه، كأنه يريد أن تكون الأعجوبة مما لا يراه ولا يراه إنسان.

وإن أجهل الجهلاء ليتعلم من القرآن الكريم فهما أعمق من فهم «لابلاس»، وموقفا أمام مشاهد الكون أصدق من موقفه المحدود؛ فإنه يتعلم من كتابه أن المعجزة قائمة حواليه حيثما جال بعينيه، ويؤمن ...

إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون [سورة البقرة: 164].

فكل ما نراه ونكرر رؤيته فهو معجزة تدعو إلى العجب ...

ولكنها المعجزة التي يعمل العقل لفهمها، وليست هي المعجزة التي تبطل عمل العقول.

والإسلام دين المعجزات التي يراها العقل حيثما نظر، وليس بدين المعجزات التي تكف العقل عن الرؤية، وتضطره بالإفحام القاهر إلى التسليم.

وعلينا أن ندرك أن المعجزة معجزتان كي نطلب المعجزة التي ينبغي أن تطلب، ونتورع عن طلب المعجزة التي لا تجدي أحدا من العقلاء ...

فالمعجزة التي تتجه إلى العقل موجودة يلتقي بها من يريدها حيثما التفت إليها، ولكنها غير المعجزة التي تقنع من لا يقتنع بتفكيره، ومن لم يقتنع بتفكيره فلن تهديه المعجزة من ضلال.

والإسلام دين متناسق مستجيب للفهم والموازنة بين الأمور، فهو دين المعجزات في كل شيء، ولكنه ليس بدين المعجزة التي تفحم العقل ولا تقنعه؛ لأنه دين العقل، والتفكير فريضة فيه.

ويؤمن المسلم بالنواميس الكونية أشد من إيمان الدعاة إلى تقرير تلك النواميس باسم العلم العصري أو العلوم التجريبية؛ لأنه يؤمن بأن النواميس سنة الله في خلقه.

فلن تجد لسنت الله تبديلا [سورة فاطر: 43].

ولكنه يؤمن كذلك بإمكان المعجزة؛ لأنها ليست بأعجب مما هو حادث مشاهد أمام الأبصار والبصائر، وليست هي بمحتاجة إلى قدرة أعظم من القدرة التي نشهد من بدائعها ما يتكرر أمامنا كل يوم وكل ساعة . وقد تسمى المعجزات في عرف المسلم بخوارق العادات، فلا يجوز لأحد أن ينكرها؛ لأننا تعودنا فيما علمناه في هذا العصر - على الأقل - أمورا كثيرة كانت في تقدير الأقدمين من خوارق العادات، وهي اليوم من الممكنات المتواترة، وما جاز فيما نعلمه يجوز فيما نجهله، وهو أكثر من المعلوم لنا الآن بكثير.

فمما كان من خوارق العادات عند الأقدمين أن تبلغ الحركة ما تبلغه من السرعة في تجاربنا العصرية، وأن يبلغ المكان ما يبلغه من صغر الأمد في كثير من تلك التجارب المحسوسة، فأصبحنا نعد من السرعة المحسوسة ما يزيد على عشرات الملايين من الأميال في الثانية الواحدة، ونحصر من المكان ما يقل عن جزء من مليون من القيراط تعيش فيه الأجسام والخلايا الحية، وتنمو منه جمهرة الخلائق، وربوات الأفلاك والأجرام.

وأصبح القول بأن هذا الحدث يحدث في جزء من ألف جزء من الثانية، وينتشر على آفاق من الفضاء تحسب بألوف الألوف من الأميال في الجهات الأربع. وقد كان هذا مستحيلا في رأي المحدودين من عباد العادات، ومنكري الخوارق فيما تعودوه، وبعضهم معدودون من الفلاسفة المفكرين. وأصح منهم بديهة، وأسلم منهم تقديرا جاهل يؤمن بالمعجزة، ويؤمن معها بخفايا الخلق، وأسرار الحياة، واتساع التقدير والاحتمال لكثير من الغرائب والطوارق والممتنعات في حكم الواقع والعيان.

فإن العقل الإنساني لا يصاب بآفة أضر له من الجمود على صورة واحدة يمتنع عنده كل ما عداها، فإما أن تكون الأشياء عنده كما تعودها وكرر مشاهدتها، وإما أن تحسب عنده في عداد المستحيلات. وأدنى من هذا العقل إلى صحة النظر عقل يتفتح لاحتمال وجود الأشياء على صور شتى لا يحصرها المحسوس والمألوف.

فليس من المستحيل عقلا أن يتم في ثانية ما تعودنا أن يتم في عام، ولا من المستحيل عقلا أن يحدث في قيد الشعرة ما كنا نظن أنه لا يحدث في غير الآفاق الفساح، وكذلك لا يستحيل عقلا أن ينعكس هذا فيتم في الزمن الطويل والأمد الفسيح ما تعودنا أن نراه في الزمن القصير والأمد الصغير.

ومن الأمثلة المقربة لهذا الاحتمال أن ننظر إلى الصور المتحركة كيف ينمو فيها النبات بطيئا في أيام وهو يرتفع أمامنا سريعا في لمحات، وأن ننظر إلى قوائم الفرس كيف يرتفع الحافر من الأرض، فيستغرق من الوقت على اللوحة البيضاء مثل ما يستغرقه العدو إلى نهاية المضمار. وإنما نستفيد من هذا النظر أن يأخذ العقل من الحس المشاهد درسا يتعلم منه أن اختلاف وقوع الحادث الواحد في الزمان والمكان شيء، والقول باستحالة وقوعه في غير هيئة واحدة شيء آخر.

فلا استحالة في خوارق العادات، ومن قال باستحالتها لزمه الإثبات؛ لأنه يدعي الاستحالة عقلا بغير دليل ... «وما من أحد يجرؤ، مثلا، على أن يقول باسم العلم: إن الإلهام بالغيب مستحيل؛ لأنه إذا جزم باستحالته وجب عليه قبل ذلك أن يجزم بأمور كثيرة لا يستطيع عالم أمين أن يقررها معتمدا على حجة أو سند قويم. ويجب على العالم الذي يجزم باستحالة الإلهام بالغيب أن يقرر لنا أنه عرف حقيقة الزمن، وعرف - من ثم - حقيقة المستقبل، ويجب عليه مع ذلك أن يقرر تجريد الكون من عنصر العقل غير عقل الإنسان والحيوان. فما هي حقيقة الزمن؟ هل هو موجود في الماضي والحاضر والمستقبل، أو هو يوجد لحظة واحدة ثم يزول؟ وما هي هذه اللحظة الواحدة؟ وما مدى إحاطتها بالبعيد والقريب من الأمكنة الشاسعة في هذه الأكوان؟ وهل المستقبل موجود الآن أو هو عدم يوجد لحظة بعد لحظة؟ وكيف يوجد العدم بعد أن لم يكن له وجود؟

إن العالم الذي يجزم في قول من هذه الأقوال باسم العلم يدعي على العلم كذبا، وينم عن عقل ضيق لا يصلح للنظر في هذه الآفاق ... وإذا كنا ننفي وجود المستقبل نفيا مقطوعا به مستندا إلى حجة أو بينة، فالغيب غير مستحيل، والعلم به لا يدخل في باب الممنوعات أو غير المعقولات، وإذا كان عنصر العقل في هذه الأكوان أكبر من أن يحصره رأس الإنسان وحده، فانتقال المعرفة منه إلى عقل الإنسان جائز جدا، أو جائز على الأقل كجواز الانتقال بين الأفكار على تباعد الأمكنة والعقول.»

1

وإذا كان العقل الإنساني لا ينفي بالدليل المقنع وجود العقل الأبدي، فليس له أن يجزم باستحالة شيء مما يستطيعه ذلك العقل الأبدي من العلم بالأبد كله، أو من القدرة على الإيحاء به إلى من يشاء، أو من القدرة على خوارق العادات؛ لأن الخوارق بالنسبة إليه كالعادات؛ ولأن التغيير عنده كالإنشاء والإبداع، إذ ليست قدرته على تغيير ما حدث دون قدرته على الخلق لأول مرة في زمن بعيد أو زمن قريب.

والإسلام يضع المعجزة في موضعها من التفكير ومن الاعتقاد، فهي ممكنة لا استحالة فيها على الخالق المبدع لكل شيء، ولكنها لا تهدي من لم تكن له هداية من بصيرته واستقامة تفكيره ...

فمن مرت به آيات الأرض والسماء ولم ينظر إليها، ولم يعرف منها دينا خيرا من دين الوثنية والتعطيل؛ فلن تزيده الآية الخارقة إلا ضلالا على ضلال.

وقد كان جواب النبي - عليه السلام - لمن يطالبونه بالمعجزات كما جاء في القرآن الكريم من سورة الإسراء:

وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا * وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا * قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا * قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا * ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه [سورة الإسراء: 90-97].

وفي سورة الحجر:

ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون [سورة الحجر: 14، 15].

وفي سورة يونس:

ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين [سورة يونس: 20].

وقديما سخر من الآيات من كان يسخر من الحجة البينة كما جاء في قصة موسى - عليه السلام - من سورة الزخرف:

ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فقال إني رسول رب العالمين * فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون [سورة الزخرف: 46، 47].

بل جاء في الأناجيل من سيرة المسيح - عليه السلام - أن الكهنة عجلوا بسعيهم لإهلاك السيد المسيح حين علموا بآياته، وأشفقوا أن تقود الناس إلى الإيمان برسالته، فدعاهم إلى الكيد له ما كان أحرى أن يدعوهم إلى الاستماع له، أو الصبر عليه.

وعقيدة المسلم في الغيب وجملة الغيبيات أنها شيء يعلمه الله ولا يعلمه الإنسان، ولكنها لا تناقض العقل ولا تلغيه؛ فليست هي ضد العقل لو عرفها وانكشف له الغطاء عنها، ولكنها فوق عقل الإنسان؛ لأنه محدود وعالم الغيب مطلق غير محدود.

ومن قال: إنه يرفض الإيمان بغير المحدود فكأنما يقول: إنه يرفض الإيمان بما يستحق الإيمان؛ إذ لا إيمان على الهدى بمعبود ناقص دونه مرتبة الكمال الذي لا تحصره الحدود.

إلا أن الفارق عظيم بين ما هو ضد العقل وما هو فوقه وفوق ما يدرك بالعقول المحدودة؛ فما هو ضد العقل يلغيه ويعطله ويمنعه أن يفكر فيه وفي سواه، وما هو فوق العقل يطلق له المدى إلى غاية ذرعه، ثم يقف حيث ينبغي له الوقوف، وينبغي له الوقوف وهو يفكر ويتدبر؛ إذ كان من العقل أن يفهم ما يدركه وما ليس يدركه إلا بالإيمان.

وحيثما بلغ الإنسان هذا المبلغ فقد انتهى إليه بالعقل والإيمان على وفاق.

الفصل الثامن

أمام الأديان

من العسير على الكثيرين من المتدينين المؤمنين بالأنبياء أن يذكروا أسبابا عقلية لتفضيلهم الدين الذي يعتقدونه على سائر الأديان التي لا يعتقدونها، وغاية ما عندهم من التعليل لهذا التفضيل أن يؤمنوا بهذه العقيدة؛ لأنها عقيدة نبيهم، ولا يؤمنون بالعقائد الأخرى لأنها عقائد أنبياء آخرين لا يؤمنون بهم، ولا يقولون لماذا ينكرونهم بعد إيمانهم بأمثالهم، ولا يستطيعون أن يردوا هذا الإنكار إلى سبب معقول !

وهذا العجز العقلي عن تعليل اختيارهم لبعض الأنبياء دون بعض يكاد أن يكون ضرورة لا محيص عنها يضطر إليها من يؤمن برسالة دون سائر الرسالات، فإن رسالات الأنبياء جميعا لن تخلو من فضائلها ومسوغات الإيمان بها، ولن تنحصر الفضائل ومسوغات الإيمان في رسالة واحدة، مع تقادم الزمن، وتفاوت الأمم والإيمان بوجود الله وهدايته للناس منذ تهيأت عقولهم وضمائرهم لقبول الشرائع والمعتقدات.

فالعجز العقلي عن تعليل الإيمان بالدين ضرورة ملازمة لتفكير المتدين الذي لا يعرف الحق في غير دين واحد، كأنما كان الإله الهادي لعباده في غيبة عنهم قبل أن يتنزل ذلك الدين الوحيد بين ما سلف من الأديان.

والمسلم له عصمة من عقيدته تحميه من ذلك العجز الذي يعيب العقل ويعيب العقيدة معا، فهو دين التفكير أمام الأديان الأخرى؛ حيث يتعسر التفكير في أمثال هذه المواقف بين المتدينين.

لأن المسلم يؤمن بجميع الرسالات التي سلفت قبل محمد - عليه السلام - ولا ينكر منها إلا ما نسخته الشرائع النبوية نفسها لاختلاف مقتضيات الزمن، وما ينكره العقل لما أضافه المتدينون إليه من خرافاتهم، أو من أوشاب العبادات التي اختلطت ببقايا الوثنية والعقائد الجاهلية من جيل إلى جيل.

يدين المسلم برسالة نوح قبل رسالة إبراهيم وبنيه صلوات الله عليهم.

إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم * قال يا قوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون [سورة نوح: 1-3].

ويدين المسلم برسالات إبراهيم والنبيين من بعده كما جاء في آيات متعددة من سور الكتاب الكريم:

قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون [سورة البقرة: 136].

وفي سورة النساء:

إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا [سورة النساء: 163].

وفي سورة يوسف:

واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون [سورة يوسف: 38].

ومع إيمان المسلم برسالات هؤلاء الأنبياء المرسلين يتفتح أمامه باب التفكير والاحتكام إلى العقل، باعتقاده أن الأنبياء والمرسلين يتفاضلون، ويحق له التمييز بين دعواتهم بما لها من حجة، وما فيها من عموم الهداية على تعدد الأمم والأزمنة ...

ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داوود زبورا [سورة الإسراء: 55].

تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات [سورة البقرة: 253].

ويملك المسلم حرية العقل فيما يعلم من الرسالات والدعوات التي لم تذكر بأسمائها في كتابه؛ لأن رسل الله كثيرون:

منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك [سورة غافر: 78].

فالمسلم لا يسعه أن يهمل عقله أمام الأديان والرسالات كافة حين يوفق بين واجب الإيمان بها في أصولها وقواعدها، وواجب الإعراض عما اختلط بها من أوشاب الخرافة أو الضلالة؛ لأن العقل هو مرجعه الأول في التوفيق بين هذين الواجبين، وهو مرجعه الوحيد في تمحيص الرسالات التي لم يقصصها القرآن الكريم عليه، فلا غنى له عن التفكير فيها لفهم الصالح منها وغير الصالح، والتمييز بين ما يجوز رفضه وما لا يجوز، عسى أن يكون من رسالات الهداية الإلهية فلا يستنكره بغير بينة أو على غير هدى.

وقد صدقت أمم ببعض الأنبياء وكذبت بنبوة محمد - عليه السلام - ولا حجة لها تجيب بها من يسألها إلا أن تقول: إننا صدقنا بهؤلاء الأنبياء لأنهم أنبياؤنا، ولم نصدق بمحمد لأنه ليس بنبي عندنا. فهم لا يفرقون بين الأنبياء بقداسة السيرة، ولا بعظمة الأثر، ولا بشيوع الهداية وكثرة المهتدين بها، ولا بفضيلة الهداية في آدابها ومعانيها؛ إذ ما من فارق من هذه الفوارق يعتمدونه في تقديرهم هو خليق أن يسوغ لهم تكذيب محمد - عليه السلام - مع من صدقوهم كما وصفوهم وتحدثوا عنهم في الكتب التي يعولون عليها.

فمما جاء عن نوح - عليه السلام - في الإصحاح التاسع من سفر التكوين أنه «ابتدأ يكون فلاحا، وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجا، فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما، ومشيا إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير فقال: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته.»

وجاء في الإصحاح التاسع عشر من سفر التكوين عن لوط وبنتيه: «فسكن في المغارة هو وابنتاه، وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ، وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض. هلم نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: إني قد اضطجعت البارحة مع أبي، نسقيه خمرا الليلة أيضا، فادخلي اضطجعي معه؛ فنحيي من أبينا نسلا. فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها؛ فحبلت ابنتا لوط من أبيهما، فولدت البكر ابنا، ودعت اسمه موآب، وهو أبو المؤبيين إلى اليوم، والصغيرة أيضا ولدت ابنا، ودعت اسمه بن عمي، وهو أبو بني عمون إلى اليوم.»

وفي الإصحاح الخامس والعشرين من ذلك السفر عن يعقوب وأخيه: «فكبر الغلامان، وكان عيسو إنسانا يعرف الصيد ... إنسان البرية، ويعقوب إنسانا كاملا يسكن الخيام، فأحب إسحاق عيسو؛ لأن في فمه صيدا. وأما رفقة فكانت تحب يعقوب. وطبخ يعقوب طبيخا، فأتى عيسو من الحقل وهو قد أعيا، فقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر لأني قد أعييت - لذلك دعي اسمه أدوم - فقال يعقوب: بعني اليوم بكوريتك، فقال عيسو: أنا ماض إلى الموت، فلماذا لي بكورية؟ قال يعقوب: احلف لي اليوم، فحلف له، فباع بكوريته ليعقوب، فأعطى يعقوب عيسو خبزا وطبيخ عدس، فأكل وشرب، وقام ومضى، واحتقر عيسو البكورية.»

ويجيء بعد ذلك في الإصحاح السابع والعشرين أن إسحاق «لما شاخ وكلت عيناه عن النظر، أنه دعا عيسو ابنه الأكبر، وقال له: يا ابني، إنني قد شخت، ولست أعرف يوم وفاتي، فالآن خذ عدتك - جعبتك وقوسك - واخرج إلى البرية وتصيد لي صيدا، واصنع لي أطعمة كما أحب، وائتني بها لآكل؛ حتى تباركك نفسي قبل أن أموت. وكانت رفقة سامعة إذ تكلم إسحاق مع عيسو ابنه، فذهب عيسو إلى البرية كي يصطاد صيدا ليأتي به.

وأما رفقة فكلمت يعقوب ابنها قائلة: إني قد سمعت أباك يكلم عيسو أخاك قائلا: ائتني بصيد، واصنع لي أطعمة لآكل وأباركك أمام الرب قبل وفاتي. فالآن يا ابني، اسمع لقولي فيما أنا آمرك به: اذهب إلى الغنم، وخذ لي من هناك جديين جيدين من المعزى، واصنعهما أطعمة لأبيك كما يحب، فتحضرها إلى أبيك ليأكل حتى يباركك قبل وفاته، فقال يعقوب لرفقة أمه: هو ذا عيسو أخي رجل أشعر، وأنا رجل أملس؛ ربما يجسني أبي فأكون في عينه كمتهاون، وأجلب على نفسي لعنة لا بركة، فقالت له أمه: لعنتك علي يا ابني، اسمع لقولي فقط، واذهب خذ لي.

فذهب وأخذ وأحضر لأمه، فصنعت أمه أطعمة كما كان أبوه يحب، وأخذت رفقة ثياب عيسو ابنها الأكبر الفاخرة التي كانت عندها في البيت، وألبست يعقوب ابنها الأصغر، وألبست يديه وملاسة عنقه جلود جديي المعز، وأعطت الأطعمة والخبز الذي صنعت في يد يعقوب ابنها، فدخل إلى أبيه وقال: يا أبي، فقال: ها أنا ذا، من أنت يا بني؟ فقال يعقوب لأبيه: أنا عيسو بكرك، قد فعلت كما كلمتني، قم اجلس وكل من صيدي لكي تباركني نفسك، فقال إسحاق لابنه: ما هذا الذي أسرعت لتجد يا بني.

فقال: إن الرب إلهك قد يسر لي، فقال إسحاق ليعقوب: تقدم لأجسك يا ابني، أأنت هو ابني عيسو أم لا؟ فتقدم يعقوب إلى إسحاق أبيه فجسه وقال: الصوت صوت يعقوب، ولكن اليدين يدا عيسو. ولم يعرفه؛ لأن يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه، فباركه وقال: هل أنت هو ابني عيسو؟ فقال: أنا هو، فقال: قدم لي لآكل من صيد ابني حتى تباركك نفسي، فقدم له فأكل، وأحضر له خمرا فشرب ، فقال له إسحاق أبوه: تقدم وقبلني يا ابني.

فتقدم وقبله، فشم رائحة ثيابه وباركه وقال: انظر، رائحة ابني كرائحة حقل قد باركه الرب، فليعطك الله من ندى السماء، ومن دسم الأرض، وكثرة حنطة وخمر؛ ليستعبد لك شعوبا، وتسجد لك قبائل. كن سيدا لإخوتك، ويسجد لك بنو أمك. ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين.

حدث عندما فرغ إسحاق من بركة يعقوب، ويعقوب قد خرج من لدن إسحاق أبيه، أن عيسو أخاه أتى من صيده، فصنع هو أيضا أطعمة، ودخل بها إلى أبيه وقال لأبيه: ليقم أبي ويأكل من صيد ابنه حتى تباركني نفسه، فقال له إسحاق أبوه: من أنت؟ فقال: أنا ابنك بكرك عيسو. فارتعد إسحاق ارتعادا عظيما جدا وقال: فمن هو الذي اصطاد صيدا وأتى به إلي فأكلت من الأكل قبل أن تجيء وباركته؟ نعم ويكون مباركا.

فعندما سمع عيسو كلام أبيه صرخ صرخة عظيمة ومرة جدا، وقال لأبيه: باركني أنا أيضا يا أبي، فقال: قد جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك، فقال: ألا إن اسمه دعي يعقوب؛ فقد تعقبني الآن مرتين؛ أخذ بكورتي وهو الآن قد أخذ بركتي، ثم قال: أما أبقيت لي بركة؟ فأجاب إسحاق وقال لعيسو: إني قد جعلته سيدا لك، ودفعت له جميع إخوتك عبيدا، وعضدته بحنطة وخمر، فماذا أصنع إليك يا ابني؟

فقال عيسو لأبيه: ألك بركة واحدة فقط يا أبي؟ باركني أنا أيضا يا أبي، ورفع عيسو صوته وبكى، فأجاب إسحاق أبوه وقال له: هو ذا بلا دسم الأرض يكون مسكنك، وبلا ندى السماء من فوق، وبسيفك تعيش، ولأخيك تستعبد، ولكن يكون حينما تجمح أنك تكسر نيره من عنقك ...»

ومما يروى عن داود - عليه السلام - في العهد القديم قصص كثيرة، نذكر منها في هذا الصدد قصته مع قائده أوريا وزوجته أثناء القتال، وهي القصة التي جاءت في الإصحاح الحادي عشر من كتاب صمويل الثاني؛ حيث يقول: «وكان عند تمام العام في وقت خروج الملوك أن داود أرسل يوآب وعبيده معه وجميع إسرائيل، فأخرجوا بني عمون وحاصروا ربة.

وأما داود فأقام في أورشليم، وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره، ومشى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحم، وكانت المرأة جميلة المنظر جدا، فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقال واحد: أليست هذه بسبع بنت اليمام امرأة أوريا الحثي؟ فأرسل داود رسلا وأخذها، فدخلت عليه واضطجع معها وهي مطهرة من طمثها، ثم رجعت إلى بيتها.

وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود: إني حبلى، فأرسل داود إلى يوآب يقول: أرسل إلي أوريا الحثي. فأرسل يوآب أوريا إلى داود، فأتى أوريا إليه، فسأل داود عن سلامة يوآب وسلامة الشعب ونجاح الحرب، وقال داود لأوريا: انزل إلى بيتك، واغسل رجليك. فخرج أوريا من بيت الملك، وخرجت وراءه حصة من عند الملك.

ونام أوريا على باب بيت الملك مع جميع عبيد سيده ولم ينزل إلى بيته، فأخبروا داود قائلين: لم ينزل أوريا إلى بيته، فقال داود لأوريا: أما جئت من السفر؟ فلماذا لم تنزل إلى بيتك؟ فقال أوريا لداود: إن التابوت وإسرائيل ويهودا ساكنون في الخيام، وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب، وأضطجع مع امرأتي! وحياتك وحياة نفسك، لا أفعل هذا الأمر، فقال داود لأوريا: أقم هنا اليوم أيضا، وغدا أطلقك.

فأقام أوريا في أورشليم ذلك اليوم وغده، ودعاه داود فأكل أمامه وشرب وأسكره، وخرج عند المساء ليضطجع في مضجعه مع عبيد سيده، وإلى بيته لم ينزل. وفي الصباح، كتب داود مكتوبا إلى يوآب، وأرسله بيد أوريا، وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت.

وكان في محاصرة يوآب المدينة أنه جعل أوريا في الموضع الذي علم أن رجال البأس فيه، فخرج رجال المدينة، وحاربوا يوآب، فسقط بعض الشعب من عبيد داود، ومات أوريا الحثي، فأرسل يوآب وأخبر داود بجميع أمور الحرب، فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات أوريا رجلها ندبت بعلها، ولما قضت المناحة، أرسل داود وضمها إلى بيته، وصارت له امرأة، وولدت له ابنا. وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عين الرب.»

ومن أمثال هذه الروايات عن الأنبياء المذكورين في التوراة قصة هوشع الذي قيل في كتابه: إن «أول ما كلم الرب هوشع، قال الرب لهوشع: اذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى؛ لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الرب. فذهب وأخذ جومر بنت دبلايم، فحبلت وولدت له ابنا، فقال له الرب: ادع اسمه يزرعيل؛ لأنني بعد قليل أعاقب بيت يهوا على دم يزرعيل، وأبيد مملكة بيت إسرائيل، ويكون في ذلك اليوم أني أكسر قوس إسرائيل في وادي يزرعيل. ثم حبلت أيضا وولدت بنتا، فقال له: ادع اسمها لورحامة؛ لأني لا أعود أرحم بيت إسرائيل أيضا، بل أنزعهم نزعا ...»

ثم يتبع هذا الإصحاح إصحاح تال يقول فيه النبي: «وقال الرب لي: اذهب أيضا أحبب امرأة حبيبة صاحب وزانية كمحبة الرب لبني إسرائيل وهم ملتفتون إلى آلهة أخرى، ومحبون لأقراص الزبيب، فاشتريتها لنفسي بخمسة عشر شاقل فضة وبحومر ولثك شعير، وقلت لها: تقعدين أياما كثيرة ولا تزني ولا تكوني لرجل، وأنا كذلك لك؛ لأن بني إسرائيل سيقعدون أياما كثيرة بلا بلد، وبلا رئيس، وبلا زيجة، وبلا تمثال، وبلا أفود وترافيم ...»

هذه الأخبار وما إليها نورد منها ما أوردناه ولا نناقشه أو نتعرض لنفيه وإثباته؛ لأننا لم نكتب هذه الفصول لنخوض في الجدل الديني الذي لا صلة له بما نبينه من فريضة التفكير في الإسلام، ولكننا نورد تلك الأخبار لنستخلص منها منهج الإنسان أمام الأديان كما يتعلمه من الإسلام، ومنهجه أمام الإسلام كما يتعلمه من غيره.

فالذين يقبلون هذه النبوات، ويكذبون برسالة عيسى ومحمد - عليهما السلام - أو الذين يقبلونها جميعا ويكذبون برسالة نبي الإسلام وحدها، لا تقام عندهم حجة النبوة بقداسة السير، ولا بعظمة الأثر، ولا بفضيلة الهداية في آدابها ومعانيها.

أما الإسلام فإنه يعلم المسلم أن يقبل جميع الرسالات، ولا يرفض منها شيئا لغير سبب يفقهه ويقيم الحجة عليه مما ينبغي لصفة النبوة، أو ينبغي لصلاح الرسالة، وإذا فضل الإسلام على سائر الأديان، فهو لا يفضله لأنه دينه وكفى؛ وإنما يفضله لأنه يدعوه في كل عقيدة دينية إلى ما هو خير عنده مما يدعى إليه في الأديان عامة.

فالإله الذي يدين به المسلم رب واحد لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وهو رب العالمين، فتح لهم باب الخلاص بهداية الأنبياء منذ وجدوا، وليس ربا لقبيلة أو عشيرة يكتب لها الخلاص وحدها، وتخص بالحظوة دون ما عداها من عامة بني الإنسان.

والنبوة التي يدين بها المسلم هي نبوة الهداية التي ترشد العقل بالبينة والموعظة الحسنة، ولا تفحمه بالمعجزة المسكتة، أو بالحماية من المجهول.

والإنسان في عقيدة المسلم مخلوق مكلف ينجو بعمله لا بالوساطة التي لا فضل له فيها، ويحمل وزره، ولا يحمل الأوزار من ميراث الآباء الأولين. وكل مفاضلة بين عقيدة وعقيدة عند المسلم فمردها إلى سبب، وسببها قائم على فضيلة يفهمها العقل، ويطمئن إليها الضمير. وقد يختلف فيها الغيب والشهادة، ولكنه اختلاف لا يصدم العقل فيما تقرر لديه، وإنما يفوقه بما يتممه إذا انتهى إلى غاية مداه.

الفصل التاسع

الاجتهاد في الدين

مصادر الشرائع والأحكام في الدين الإسلامي ثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع.

ويقوم الإجماع على اجتهاد أولي الأمر وأهل الذكر بما اشتمل عليه من قياس واستحسان أو مصالح مرسلة؛ أي مصالح لم تتقيد بحكم خاص ينطبق عليها في جميع الأحوال وجميع الأزمنة، ولكنها من العوارض المتغيرة التي ينظر فيها المسلمون إلى مصالحهم بحسب أحوالها وأزمنتها ...

والفهم واجب على المسلم في الأخذ من جميع هذه المصادر والعمل بها، فلا تعارض بين النص والاجتهاد في وجوب الفهم في كل منها؛ لأن المسلم - بعدما تلقاه من الأوامر الإلهية التي توجب عليه التفكير والتدبير والاحتكام إلى العقل والبصيرة - لا يستطيع أن يعتقد أنه مطالب باتباع النص بغير فهم ولا تفرقة بين مواضع الاتباع وأسبابه، ومن قال: إن العمل بالنص يعني العمل بغير فهم، فليس هو من الإسلام في شيء.

والفرائض كلها في الإسلام تتساوى في شرط واحد: وهو الاستطاعة، ومنها التفكير ؛ فلا فرق بين الصلاة والحج والزكاة والتفكير في شرط الاستطاعة، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها:

فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه [سورة البقرة: 173].

والتفكير في أمور الدين أصل من الأصول المقررة. أما التقليد فهو حالة من حالات الضرورة التي تعفي من الاجتهاد بالفهم من يعجز عنه ولا يستطيعه. وقد يكون المستطيعون للاجتهاد أقل عددا من المستطيعين للصلاة، وكذلك المستطيعون للزكاة والحج هم أقل عددا ممن يؤدون صلاتهم أو يقدرون عليها، ولكن الفرق في الاستطاعة لا يجعل العجز عن الفريضة واجبا محتوما يلتزمه العاجز ولا يعمل على الخلاص منه كلما استطاع.

إذ الفرق ظاهر بين الواجب الذي لا يستطاع والحرام المنهي عنه؛ فلا إيجاب للتقليد، ولا تحريم للاجتهاد بالفكر. وشر الناس في الإسلام من يحرم على خلق الله أن يفكروا ويتدبروا بعد أن أمرهم الله بالتفكير والتدبر، وأنبأهم بعاقبة الذين لا يفكرون ولا يتدبرون، ومثله شرا من يحرم الاجتهاد على الناس جميعا؛ لأنه قضى على خلق الله إلى آخر الزمان بالحرمان من نعمة العقل والعلم والصلاح.

ومن أباح لنفسه أن يحرم على الناس نعمة العقل والعلم إلى آخر الزمان، فقد اجتهد برأيه اجتهادا أبعد في الدعوى من كل ما يدعيه المجتهدون على حق أو على باطل؛ فإنه يلغي أوامر الله لعباده؛ حيث يتحرى المجتهدون أن يبتغوا الوسيلة إليها، فهو ينهى الناس برأيه عما أمرهم به الله، واجتهدوا قادرين أو عاجزين أن يطيعوه.

وليس التفكير في الإسلام عوضا من النص أو ما يشبه النص في الأحكام، بل هو فريضة منصوص عليها، مطلوبة لذاتها، ولما يتوقف عليها من فهم الفرائض الأخرى، وكلها محظور على المسلم أن يهمله وهو قادر على النهوض بتكاليفه، غير مضطر إلى تركه، فإن تركه لغير ضرورة فهو مقصر محاسب على التقصير.

وقد وقع الاجتهاد في الإسلام نصا وعرفا وتقليدا - إن صح هذا التعبير - ونعني بالتقليد هنا حسن القدوة بالأولين والتابعين من السلف الصالح. وأول الأولين نبي الإسلام عليه السلام، ثم الخلفاء الراشدون ومن تبعهم في العصور التي اشتدت فيها حاجة المسلمين إلى الاجتهاد؛ فإن البعد عن القدوة المشاهدة من الخلف الصالح أحرى أن يلجئ ولاة الأمور وأهل الذكر بين المسلمين إلى التفكير فيما يصلح لأزمنتهم، ولم يكن معهودا في أزمنة الأولين.

فمن اجتهاد النبي صلوات الله عليه فيما رواه أبو داود، عن عبد الله بن فضالة، عن أبيه، حيث قال: علمني رسول الله

صلى الله عليه وسلم

فكان فيما علمني: «وحافظ على الصلوات الخمس.» فقلت: إن هذه ساعات لي فيها أشغال؛ فمرني بأمر جامع إذا أنا فعلته أجزأ عني، فقال: «حافظ على العصرين.» وما كانت من لغتنا فقلت: وما العصران؟ فقال: «صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة بعد غروبها.»

ومن الاجتهاد النبوي فيما رواه الإمام أحمد، عن عثمان بن أبي العاص، أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله

صلى الله عليه وسلم

فأنزلهم المسجد؛ ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا ألا يحشروا ولا يعشروا ولا يحبوا - أي لا يخرجوا للجهاد، ولا تؤخذ منهم الزكاة، ولا يحبون للصلاة - ولا يستعمل عليهم غيرهم، فقال

صلى الله عليه وسلم : «لكم ألا تحشروا، ولا تعشروا، ولا يستعمل عليكم غيركم. ولا خير في دين لا ركوع فيه.»

ويروي أبو داود عن جابر أنه سمع رسول الله يقول بعد ذلك: «سيصدقون ويجاهدون.»

ومما رواه الإمام أحمد في مسنده، عن نصر بن عاصم، عن رجل منهم، أنه أتى النبي

صلى الله عليه وسلم

فأسلم على أنه لا يصلي إلا صلاتين، فقبل ذلك منه.

وجاء في البخاري أن أم عطية قالت: بايعنا

صلى الله عليه وسلم

فقرأ علينا: «أن لا يشركن بالله شيئا»، ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها فقالت: «أسعدتني فلانة؛ فأريد أن أجزيها.» وجاء في رواية النسائي أنه عليه السلام قال لها: «فاذهبي فأسعديها.» ورجعت فبايعها.

وأشباه هذا من وقائع الاجتهاد النبوي غير قليل، وإنه لاجتهاد رسول الدعوة الإسلامية؛ أحق الناس بتيسير هذه الدعوة، وإنه كذلك لأحقهم بالتشدد فيها حيث يترخص المترخصون.

أما الخلفاء الراشدون فقد اجتهدوا منذ عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق في المصالح المرسلة التي لم يرد فيها نص، ولم تسبق لها سابقة. وأجمل الإمام أحمد ابن إدريس القرافي ما اجتهدوا فيه من قبيل تلك المصالح، فقال في كتابه «شرح تنقيح الفصول»: «ومما يؤكد العمل بالمصالح المرسلة أن الصحابة - رضوان الله عليهم - عملوا أمورا لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد بالاعتبار، نحو كتابة المصحف ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير، وولاية العهد من أبي بكر لعمر - رضي الله عنهما - ولم يتقدم بها أمر ولا نظير، وكذلك ترك الخلافة شورى، وتدوين الدواوين، وعمل السكة للمسلمين، واتخاذ السجن. فعل ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهد الأوقاف التي بإزاء مسجد رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه. فعله عثمان - رضي الله عنه - وتجديد الأذان في الجمعة بالسوق. فعله عثمان - رضي الله عنه - ثم نقله هشام إلى المسجد، وذلك كثير جدا لمطلق المصلحة.»

واجتهد أبو بكر وعمر معا فيما ورد فيه النص لزوال العلة الموجبة، كما فعل في سهم الزكاة للمؤلفة قلوبهم، وكان لهم سهم يأخذونه من رسول الله - صلوات الله عليه - تألفا لقلوبهم أيام ضعف الإسلام وضعف عقيدتهم، ومنهم عباس بن مرداس، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وأبو سفيان بن حرب، وابنه معاوية، فلما ولى الصديق جاءوه يسألونه سهمهم هذا، فكتب لهم بذلك إلى عمر فمزق الكتاب وقال لهم: لا حاجة لنا بكم؛ فقد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم، فإن أسلمتم وإلا فالسيف بيننا وبينكم. فلما رجعوا إلى الصديق يستثيرونه ويسألونه: والله لا ندري أنت الخليفة أو عمر؟ قال: بل هو إن شاء. وأمضى ما فعله عمر كما جاء تفصيله في كتاب الجوهرة على مختصر القدوري.

قلنا في كتاب حقائق الإسلام: «ومن سوء الفهم أن يقال: إن الفاروق خالف النص في هذه القضية، وإنما يقال: إنه اجتهد في فهم النص كما ينبغي، وإنه بحث عن المؤلفة قلوبهم فلم يجدهم؛ لأن تأليف القلوب إنما يكون مع مصلحة للإسلام والمسلمين، فإن لم يكن تأليف لم يكن هناك مؤلفة يستحقون العطاء، ولو أن عيينة والأقرع وأصحابهما سئلوا يومئذ: أهم من المؤلفة قلوبهم يستحقون العطاء لأنهم ضعاف الإيمان لما قبلوا أن يثبتوا في ديوان العطاء.»

وأبين من ذلك في باب الاجتهاد مع وجود النص ما رواه الإمام ابن قيم الجوزية مفصلا في كتابه عن إعلام الموقعين؛ حيث قال عن إسقاط حد السرقة في عام المجاعة: «إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أسقط القطع عن السارق في عام المجاعة.» وبعد أن ذكر الأسناد المتتابعة قال: حدثه عن عمر قال: لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة. قال السعدي: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال: العذق النخلة، وعام سنة المجاعة، فقلت لأحمد: نقول به؟ فقال: إي لعمري، قلت: إن سرق في مجاعة لا تقطعه؟ فقال: لا، إذا حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة.

قال السعدي: وهذا على نحو قضية عمر في غلمان حاطب ... إن غلمة لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتى بهم عمر فأقروا، فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء، فقال له: إن غلمان حاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة، وأقروا على أنفسهم، قال عمر: يا كثير بن الصلت، اذهب فاقطع أيديهم. فلما ولى بهم ردهم عمر، وقال: أما والله لولا أنني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له؛ لقطعت أيديهم. وايم الله، إذ لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك، ثم قال: يا مزني، بكم أريدت ناقتك؟ قال: بأربعمائة، قال عمر: اذهب فأعط ثمانمائة. وذهب أحمد إلى موافقة عمر في الفصلين جميعا.

نقول أيضا: إنه لمن الخطأ أن يقال: إن الفاروق ترك النص أخذا بالرأي. فإنه في الواقع عمل بالنص فلم يقم الحد في غير إثم، ولا إثم مع الاضطرار، ولو أنه فعل غير ما فعل لكان آثما، حاشاه؛ لأن إقامة الحد في غير موضعه منكر كإسقاطه في موضعه. وربما كان إطلاق الآثم أهون شرا من عقاب البريء. ومن كان إماما فلم يدرأ الحدود بالشبهات ، ولم يحسب حساب الضرورة التي يبطل معها الإثم، فهو المجترئ على حدود الله، وحكمه حكم من ترك الحدود بغير برهان.

ومن الفهم المعكوس أن يقال: إن الاجتهاد لازم في عصر الدعوة النبوية والنصوص من الكتاب تتوارد، والسنة من أحاديث النبي حاضرة، وصاحب الدعوة أمام الناس يسألونه ويجيبهم، ثم ينقضي ذلك العهد فيحرم الاجتهاد، وهو الموئل الوحيد بين أيديهم لفهم النصوص وتصحيح العمل بالفرائض والأحكام. فهذا من الفهم المعكوس ولا مراء؛ لأنه يقضي بالاستغناء عن الاجتهاد عند الحاجة إليه، والفهم الصحيح في هذه المسألة الجليلة أن ما صنعه النبي - عليه السلام - وتابعه فيه الراشدون من خلفائه وأصحابه وجب على المسلمين أن يصنعوا مثله، ولهم قدوة من أولى الناس أن يقتدوا بسيرته وعمله.

وشبيه بهذا في الفهم المعكوس أن يقال: إن الاجتهاد يصح حين تصح الذمم، وتطهر الضمائر، وتسلم العقائد، ويكثر الصالحون، ولكنه يبطل ولا يصح إذا عم الفساد، وزاغت الضمائر، وضعف اليقين بالأعمال والنيات، فالواقع أن عهد الفساد عهد تكثر فيه الشبهات التي ينبغي للحاكم أن يدرأها عند إقامة الحدود، وتكثر فيه الضرورات التي يجب عليه أن يقدرها بأقدارها عند توقيع العقاب.

وولي الأمر هو المسئول المحاسب على إقامة الحد في موضعه، ودرء الشبهات في مواضعها، وهو المسئول المحاسب على تقدير الضرورات فيما يجريه من عقاب، أو يسقطه من جزاء، وعليه أمانة هذا الواجب الذي يتساوى فيه وضع الجزاء في موضع الإعفاء، ووضع العفو في وضع الجزاء، فإن لم يكن بالحاكم ثقة أن يجري الأمور في مجراها، ولم يكن بالناس ثقة أن تصح فيهم الذمم، وتسلم الضمائر، فمن لغو القول أن يطول الجدل فيمن يقيم الأحكام، وفيما يقام.

ويتبين من تاريخ العالم الإسلامي في جملته أنه على ما اعتراه من أدوار التأخير والجمود لم يستمع طويلا لآراء القائلين بمنع الاجتهاد في أية صورة من صوره، فإذا غلب التقليد في بلد من بلاده لم يخل سائر البلدان من أئمة يقولون بالاجتهاد، ويعملون به في كل باب من أبوابه، وهي كثيرة تدل كثرتها على كثرة البحث فيها، وكثرة العاملين بها.

فمن أبواب الاجتهاد: القياس، وهو أن يرى المجتهد رأيا فيما لم يرد فيه نص من الكتاب والحديث قياسا على ما ورد من النصوص؛ للمشابهة في العلة والمقصد.

ومن أبوابه: الاستحسان، وهو المفاضلة بين حكمين مستندين إلى النصوص ترجيحا لأحد الحكمين على الآخر؛ لأن الراجح منهما أوفى بالقصد، وأقرب إلى السبب المشروط في إجرائه.

ومنها: المصالح المرسلة، وهي المصالح التي لم تتقيد بنص ولم يسبق لها نظير، ولكنها عمل تتحقق به مصلحة الأمة في حالة من الحالات، فيتصرف فيها الإمام المسئول بما يوافق تلك المصلحة، ويمنع الضرر من فواتها.

ومهما يكن من قول بمنع الاجتهاد، فمن الحق أن نعلم أن عمل السياسة فيه كان أقوى وأفعل من عمل الدين وبواعث العقيدة أو الشريعة. وهذه مسألة لها خطرها في هذا البحث عن فريضة التفكير في الإسلام، فهي حقيقة أن نرجع بها إلى أصولها، وأن نذهب بها إلى غاياتها التي تتكشف من حوادثها وأزماتها.

فلم يتردد في العالم الإسلامي قول القائلين بمنع الاجتهاد كما تردد في عصر الدعوة الفاطمية، التي تعرف أحيانا باسم الدعوة الباطنية، أو الدعوة الإسماعيلية، وينسب إليها الإيمان بالإمام المستور، والمبايعة له جهرا وسرا إذا اقتضت «التقية» إخفاء أمره إلى حين.

وخلاصة المذاهب الإمامية أن هذا العالم لا يخلو من إمام يقوم بالهداية، ويعلم من أسرار الدين ما لا يعلمه أحد من خاصة العلماء، أو من عامة المقلدين؛ لأن هؤلاء جميعا إنما يعلمون ما ظهر من نصوص الكتاب، ولا علم لهم بما بطن منه، وهو عندهم معنى الحديث الذي يقول: «إن القرآن نزل على سبعة أحرف.» فلا يهتدي إليها على حقائقها غير الإمام الذي اختصه الله بأمانة الإلهام.

وقد نشأ مذهب «الظاهرية» ليقاوم هذه الباطنية، وينكر الحاجة إلى إمام مستتر يعلم الناس ما ليس في وسعهم أن يتعلموه من ظاهر الآيات والأحاديث.

ونشأ مذهب الظاهرية في المشرق، فقام به في بغداد داود بن سليمان الظاهري (201-270ه)، ولكنه لم يبلغ من القوة والشيوع مبلغه في المغرب على يد الإمام علي بن أحمد بن سعيد، المشهور باسم ابن حزم الظاهري (384-456ه)؛ إذ كانت الدعوة الفاطمية - أو الإمامية الإسماعيلية - على أقواها وأشيعها في بلاد المغرب من إفريقيا الشمالية، وكان ابن حزم أمويا شديد التعصب للدولة الأموية، شديد الإنكار على من يقاومونها من العلويين أو الفاطميين، حتى قال بعضهم عنه: إنه «ناصب»، أي ممن يعادون شيعة آل البيت ويناصبونهم العداء.

قال ابن حزم في كتاب الفصل: «واعلموا أن دين الله ظاهر لا باطن فيه، وجهر لا سر تحته، كله برهان لا مشاحة فيه، واتهموا كل من يدعو إلى أن يتبع بلا برهان، وكل من ادعى للديانة سرا وباطنا، فهي دعاوى ومخارق، واعلموا أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم

لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ابنة أو عم أو ابن عم أو صاحب على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر أو الأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده عليه السلام سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه. ولو كتمهم شيئا لما بلغ كما أمر، ومن قال هذا فهو كافر؛ فإياكم وكل قول لم يبن سبيله، ولا وضح دليله، ولا تعوجوا عما مضى عليه نبيكم

صلى الله عليه وسلم

وأصحابه - رضي الله عنهم.»

وكان من المسائل التي لهج ابن حزم بتقريرها: مسألة الوراثة في الإمامة، فقال في كتاب الفصل أيضا: «لا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه لا يجوز التوارث فيها، ولا في أنها لا تجوز لمن لم يبلغ، حاشا الروافض؛ فإنهم أجازوا كلا الأمرين، ولا خلاف بين أحد في أنها لا تجوز لامرأة.»

ولكن ابن حزم لا ينكر ولاية العهد ولو كانت في مرض الموت «كما فعل رسول الله

صلى الله عليه وسلم

بأبي بكر، وكما فعل أبو بكر بعمر، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز، قال: وهذا الوجه هو الذي نختاره ونكره غيره؛ لما فيه من اتصال الإمام ، وانتظام أمر الإسلام وأهله، ورفع ما يتخوف من الاختلاف والشغب مما يتوقع في غيره من بقاء الأمة فوضى.»

وقد اختار ابن حزم لتعزيز هذا الرأي - أي جواز المبايعة بولاية العهد حتى في مرض الموت - خليفة أمويا لا يختلف المسلمون من أهل السنة أو من الشيعة في صلاحه وتوقيره، وهو عمر بن عبد العزيز الذي قال فيه الشريف الرضي:

يا ابن عبد العزيز لو بكت الع

ين فتى من أمية لبكيتك

غير أني أقول إنك قد طب

ت وإن لم يطب ولم يزك بيتك

ومما يدل على أن الظاهرية قامت على أساسها أصلا لإدحاض الدعوة الباطنية، أن ابن حزم لا يبطل الاجتهاد؛ بل يوجبه على جميع المسلمين، وإنما ينكر أن يختص بالاجتهاد إمام واحد يفتي بعلم ينفرد به، ولا ينكشف للمسلمين عامة من نصوص الآيات والأحاديث؛ فهو يقول في الجزء الأول من المحلى: «لا يحل لأحد أن يقلد أحدا لا حيا ولا ميتا، وكل أحد له الاجتهاد حسب طاقته، فمن سأل عن دينه فإنما يريد معرفة ما ألزمه الله - عز وجل - في هذا الدين. ففرض عليه إن كان أجهل أهل البرية أن يسأل عن أعلم أهل موضعه.

إلى أن يقول: «ومن ادعى وجوب تقليد العامي للمفتي فقد ادعى الباطل، وقال قولا لم يأت به قط قرآن ولا سنة، ولا إجماع ولا قياس، وما كان هكذا فهو باطل؛ لأنه قول بلا دليل.»

وعلى هذا يكون ابن حزم متوسعا في تحكيم العقل غير متحرج منه إلا أن يختص به أحد دون جمهرة المسلمين، وهو لا يبطل التصرف في فهم ألفاظ النص كل الإبطال، بل يجيز العدول عن ظاهر اللفظ إذا اتضح بالدليل العقلي الذي لا يرد أنه مستحيل لا يجوز أن يكون هو المقصود بالأمر الإلهي.

وفي ذلك يقول من الجزء الثاني من كتاب الفصل: «إن كلام الله تعالى واجب أن يحمل على ظاهره، ولا يحال عن ظاهره البتة، إلا أن يأتي نص أو إجماع أو ضرورة حس على أن شيئا منه ليس على ظاهره، وأنه قد نقل عن ظاهره إلى معنى آخر. فالانقياد واجب علينا لما أوجبه ذلك النص أو الإجماع أو الضرورة؛ لأن كلام الله تعالى وأخباره لا تختلف، والإجماع لا يأتي إلا بحق، والله تعالى لا يقول إلا الحق، وكل ما أبطله برهان ضروري فليس بحق.»

ورأي ابن حزم هذا فيما يجيز العدول عن ظاهر اللفظ إلى معنى غير الظاهر قريب جدا من مذهب القائلين بالرأي، ولكنه يخالفهم في القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، وهو - مع هذه المخالفة - لا يحجر على الاجتهاد، ولا يمنع المسلمين عامة أن يرجعوا إلى عقولهم في أمور الدين، بل يفرض الرجوع إلى العقل على العالم والجاهل الذي يستطيع أن يجد من يسأله ويتعلم منه.

وغاية ما يخشى من نتائج المذهب الظاهري لو دام وتقرر في بلاد المسلمين، أنه يصد فريقا من العلماء القادرين على الاجتهاد النافع عن الاضطلاع بأمانة القيادة الفكرية، وإن كان لا يصدهم عن تعليم الناس ما علموه، والمشورة على ولاة الأمر بما يحسن أو لا يحسن في مواطن التشريع، وعليهم بعض العنت في تدبير المصالح المرسلة بما تقتضيه من موافقة للضرورات.

ولعل هذا المذهب الظاهري أهم المذاهب التي ابتعثتها دواعي السياسة في المغرب، وقد شاع حينا، ثم ضعف وأخذ في الزوال شيئا فشيئا بزوال الحافز الحثيث إلى المضي في نشره والتنبيه إليه.

أما في المشرق، فقد أغنى عن الدعوة الحثيثة إلى نشر المذهب الظاهري أن الخلفاء والأمراء كانوا يبنون المدارس، ويجرون فيها الجراية على طائفة من علماء المذاهب الأربعة، لا يشترك فيها غيرهم من أصحاب الاجتهاد، وفيهم من كان في طبقة الأئمة الأربعة في العلم والصلاح، وكان له أتباع يأتمون به ربما قاربوا في عددهم أتباع الأئمة أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد، ولكن مذاهبهم لا تدرس في المعاهد التي تفرض لها الجراية من خزائن الدولة، وهبات الخلفاء والأمراء. •••

وانتهى الأمر في أوائل القرن السابع بأمر الخليفة المستعصم علماء الفقه في المدرسة المستنصرية أن يقصروا دروسهم على أقوال الأئمة من قبلهم، ولا يدرسوا كتابا من كتبهم لتلاميذهم ، فدعاهم الوزير وأبلغهم أمر الخليفة، فقال جمال الدين الجوزي أستاذ المذهب الحنبلي: إنه على هذا الرأي، وقال الشرمساحي أستاذ المذهب المالكي: إنه يرتب النقط في مسائل الخلاف، وليس لأصحابه تعليقة؛ أي شروح مدونة، وقال شهاب الدين الزنجاني أستاذ المذهب الشافعي، وعبد الرحمن اللمغاني أستاذ المذهب الحنفي: إن المشايخ كانوا رجالا ونحن رجال.

فلما رفع الوزير إجابتهم إلى الخليفة دعاهم إليه، وأعاد إليهم أمره فأطاعوه، وجرى مثل ذلك في المدارس الكبرى، فتضاءل شأن القائلين بآرائهم في مسائل الفقه والأصول، وكثر الإقبال على دروس المذاهب التي يتعلمها الطلاب في معاهد الدولة، ومنهم يختار القضاة والمعلمون وخطباء المساجد وعمال الدواوين ...

جاء في شرح جمع الجوامع أن الشيخ أبا زرعة سأل أستاذه البلقيني عن الشيخ تقي الدين السبكي: كيف يقلد وقد استكمل آلة الاجتهاد؟!

قال الشيخ: فسكت عني، ثم قلت: ما عندي أن الامتناع عن ذلك إلا للوظائف التي تجري على فقهاء المذاهب الأربعة، وأن من خرج على ذلك واجتهد لم ينله شيء، وحرم ولاية القضاء، وامتنع الناس عن استفتائه، ونسب إلى البدعة. فتبسم ووافقني على ذلك.

كان هذا في القرن السابع للهجرة وما بعده بقليل، ثم رانت على العالم الإسلامي غاشية الجمود والضعف، فانقطع الناس عن العلم اجتهادا وتقليدا، وتواكلوا في كل شيء من جلائل الأمور وصغائرها، وقل الاعتماد على النفس، وقل من يثق بنفسه أو يستحق الثقة من غيره، وندر من يتقدم لادعاء الاجتهاد، ومن يصغي إليه لو ادعاه، وجرت أحوال الحياة جميعا على الاتباع والانقياد، ولم يبال الناس ما خالف الولاة وما وافقوا من سنن الدين أو سنن العرف المأثور.

وطالت هذه الفترة نحو أربعة قرون، تتابعت فيها الضربات والقوارع على الأمم الإسلامية حتى تيقظت فيها بعد السبات الطويل بقايا الحياة، التي كمنت في سرائرها من وحي عقيدتها، فنبغ في كل أمة منها رهط من القادة الغيورين، يجاهدون ويجتهدون ويعودون بها كما بدأ الإسلام إلى حظيرة الدين، وتعلم المسلمون من عهود الخمول والنكسة دروسا كالتي تعلموها من عهود العزة والتقدم، فحواها من طرفيها المتناقضين أن العجز عن الاجتهاد والعجز عن الحياة مقترنان، وأن المسلمين يحتفظون بمكانهم بين أمم العالم ما احتفظوا بفريضة التفكير.

الفصل العاشر

التصوف

قبل تمييز الخاصة التي انفرد بها التصوف الإسلامي نسأل عن الخاصة المميزة للتصوف عامة؛ ما هي؟

فالتصوف في أمم الغرب المسيحية يشتق من الخفاء أو السر، ويطلقون عليه اسم «مستسزم»

Mysticism ، أي «السرية» أو المعاني الخفية، فخاصته المميزة له عندهم هي البحث في البواطن، والتعمق في الأسرار المغيبة وراء الظواهر.

واسم التصوف العربي مختلف في اشتقاقه وسبب إطلاقه، فالقول الشائع أنه مأخوذ من الصوف، وأن المتصوف هو الذي يتخشن؛ يتزيا بزي النساك المتعبدين، وخاصته المميزة له على هذا المعنى أنه زهد وتقشف وابتعاد عن الترف والمتعة.

ويقول بعضهم: إن الصوفي منسوب إلى صوفة، كما جاء في أساس البلاغة للزمخشري وغيره: «وكان آل صوفة يجيزون الحاج من عرفات، أي يفيضون بهم، ويقال لهم: آل صوفنا وآل صفوان، وكانوا يخدمون الكعبة ويتنسكون، ولعل الصوفية نسبوا إليهم تشبيها بهم في النسك والتعبد.» ومما رواه ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس: «إنما سمي الغوث بن مرصوفة؛ لأنه ما كان يعيش لأمه ولد، فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة، ولتجعلنه ربيط الكعبة، ففعلت، فقيل له صوفة ولولده من بعده.»

وإذا صح هذا التخريج فالصوفي اسم منقول على سبيل التشبيه لا يدل على الخاصة المميزة للصوفية بعد الإسلام إلا من قبيل المماثلة في الخدمة الدينية العامة.

وآخرون من المحدثين يرجحون أن الكلمة مستعارة من اليونانية بمعنى الحكمة الإلهية، وهي مركبة في تلك اللغة من كلمتين؛ هما: «ثيو» أي الإله، و«سوفي» أي الحكمة. ومعنى التصوف إذن مقابل لمعنى الحكمة العقلية، وهي الفلسفة؛ لأن الصوفي يطلب الحكمة من طريق الدين، وربما كانت المقاربة في اللفظ أقوى سند يعتمد عليه القائلون إلى استعارته من اللغة اليونانية.

ويرجح الكثيرون أن التصوف منسوب إلى أهل الصفة الذين كانوا على عهد الرسول، ويحب الصوفيون أنفسهم أن يشتقوا الكلمة من الصفاء، كما جاء في كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف: «إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها، ونقاء آثارها، وقال بشر بن الحارث: الصوفي من صفا قلبه لله.» ونظم أبو الفتح البستي هذا المعنى شعرا فقال:

ولست أنحل هذا الاسم غير فتى

صافى فصوفي حتى سمي الصوفي

والذين آثروا هذا التخريج لكلمة الصوفية لا يقصدون تحقيق التاريخ ولا اللغة، ولكنهم يستخدمون الجناس لاستخراج المعنى البعيد من اللفظ القريب كعادة الصوفية في تحميل الكلمات ما يريدونه من الإشارات، فهو من ثم أقرب الأسماء إلى اختيارهم وإيثارهم، ولعله أدلها على الخاصة المميزة لهم بين الخواص المتعددة التي عسى أن تصدق عليهم.

فالتعمق في طلب الأسرار صفة مشتركة بين الصوفية وفلاسفة التفكير الذين يغوصون على الحقائق البعيدة، وعلماء النفس الذين ينقبون عن ودائع الوعي الباطن، وغرائب السريرة الإنسانية.

ولبس الصوف إن دل على التخشن والزهد في الدنيا لم يكن خاصة مميزة للصوفية؛ لأن أناسا من أقطاب الصوفية أخذوا نصيبهم من الدنيا وافيا، وفهموا أن الزاهد من لا تملكه الدنيا وإن ملكها، أو كما قال مسروق: «الزاهد من لا يملكه مع الله سبب.» ولا ضير عليه أن يملك الأسباب.

والاشتغال بالحكمة الدينية عمل يعمله حكماء الصوفية، وهم طائفة من أهل التصوف مع طوائفهم الكثيرة التي تسلك مسلكهم، ولا تحسب من حكمائهم؛ بل ربما وجد من علمائهم من يكتب في المعاملات، وقد ذكرهم الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي فقال في كتاب «التعرف» بعد تسمية بعضهم: «هؤلاء هم الأعلام المذكورون المشهورون المشهود لهم بالفضل، الذين جمعوا علوم المواريث إلى علوم الاكتساب. سمعوا الحديث، وجمعوا الفقه والكلام واللغة وعلم القرآن، تشهد بذلك كتبهم ومصنفاتهم، ولم نذكر المتأخرين وأهل العصر وإن لم يكونوا بدون من ذكرنا علما؛ لأن الشهود يغني عن الخبر عنهم.»

فالصوفية قد يخلعون الصوف، وقد يعيشون بين الناس ولا ينقطعون للخدمة الدينية، وقد يكتبون في الحكمة الإلهية، أو يكتبون في المعاملات والمكاسب، أو لا يشتغلون بالكتابة، ولكنهم إذا غربت عنهم صفة واحدة - هي صفاء القلب لله - لم يحسبوا من الصوفية ، ولم يسلكوا أنفسهم في عداد أهل التصوف بسمة أخرى من سماتهم المشهورة.

إن المزية الصوفية الخاصة هي مزية الإيمان بالله على الحب لا على الطمع في الثواب، أو على الخوف من الحساب والعقاب، ومثلهم في ذلك مثل الفرد المثالي في بيئته الاجتماعية؛ فإن الناس عامة يقنعون بواجبهم الاجتماعي الذي لا يجاوز الحذر من مخالفة القانون، والأمل في خيرات المجتمع، ولكن الفرد المثالي يخدم البيئة الاجتماعية بباعث من الغيرة التي لا تنظر إلى الجزاء؛ بل تعمل وتثابر على عملها مع سوء الجزاء، أو مع اليقين من العقاب.

وكذلك الصلة بين الصوفي وربه إنما هي صلة قائمة على المحبة لا على مجرد الطاعة لأوامره، والخوف من نواهيه؛ فإن المحب يعطي من عنده فوق ما يؤمر به، ولا ينتظر الطلب ليستجيب إليه، وكلهم يقول مع رابعة العدوية: «اللهم إن كنت تعلم أنني أعبدك طمعا في جنتك؛ فاحرمني نعيم جنتك، وإن كنت تعلم أنني أعبدك رهبة من نارك؛ فعذبني بنارك.»

وكل من نظم منهم شعرا عبر بكلمة الحب عن هذه الصلة الإلهية، كما قال ابن عربي:

أدين بدين الحب أنى توجهت

ركائبه فالحب ديني وإيماني

أو كما قال ذو النون:

وأقضي وما ماتت إليك صبابتي

ولا قضيت من صدق حبك أوطاري

أو كما قال اليافعي:

فلو شاهدت ذاك الجمال عيوننا

سكرنا وغبنا عن جميع العوالم

وملنا نشاوى من شراب محبة

وباح بمكنون الهوى كل كاتم

وهذا «السكر» هو الذي يسمونه بخمر المحبة التي خلقت قبل أن يخلق الكرم كما قال عمر بن الفارض:

شربنا على ذكر الحبيب مدامة

سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم

صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا

ونور ولا نار وروح ولا جسم

ويرون أن المحبة لا توليهم حق الجزاء؛ لأنهم لا يلهمون المحبة إلا بنعمة من الله وفضل منه يستوجب المزيد من المحبة، وفي ذلك تقول رابعة العدوية:

أحبك حبين: حب الهوى

وحبا لأنك أهل لذاكا

فأما الذي هو حب الهوى

فشغلي بذكرك عمن سواكا

وأما الذي أنت أهل له

فكشفك للحجب حتى أراكا

وما الحمد في ذا وفي ذاك لي

ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

ولسنا نعرف لغة وسعت من شعر الحب الإلهي ما وسعته اللغة العربية كثرة وتعددا في الأساليب، فإذا أضيفت إليها لغات الأمم الإسلامية؛ كالفارسية والتركية والأردية ولغات أهل الملايا، رجح ديوان هذا الشعر على المنظوم منه في جميع لغات العالم بلا استثناء الأناشيد الدينية التي ترتل في المعابد.

وقد اشتهرت الهند قديما بكثرة قصائدها وأناشيدها، ولكنها لم تستغن بعد دخول الإسلام إليها عن توفير ذخيرتها من تلك القصائد والأناشيد بترجمة الشعر الإسلامي واقتباسه في دعواتها وصلواتها، فترجم تاجور قصائد أستاذه «أكبر»، وترجم السردار جو كندراسنج

Singh

دعوات الأنصاري عبد الله إلى اللغة الإنجليزية.

وقال المهاتما غاندي في مقدمة الترجمة: «إن المترجم جدير بالتهنئة؛ لأنه يسر لنا أن نقرأ أقوال الصوفي عبد الله الأنصاري باللغة الإنجليزية. ولقد أعطى الإسلام العالم نخبة من الصوفيين لا يقلون عند الهنديين والمسيحيين، وإنه ليحسن في هذا الوقت الذي يعرض لنا الجحود في صورة الدين أن نذكر أنفسنا بخير ما أخرجته العقول المتدينة بجميع الأديان، وخير ما قالته، وألا نظل كتلك الضفدعة التي تظن في بئرها أن الكون كله ينتهي عند جدرانها. فلا يخطرن لنا أن ديانتنا وحدها هي التي تحتوي الحقيقة كلها، وأن ما عداها زيف وباطل ...»

وينبغي أن يكون شيوع التصوف بهذه الكثرة في بلاد الإسلام، فلا يستغرب ذلك كما يستغرب في البلاد التي تدين بأديان تتوسط فيها الكهانة ومراسم المعابد بين المرء ومعبوده؛ لأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يسمح باستقلال الصلة بين المخلوق والخالق، ويستطيع العابد فيه أن يتوجه إلى الله بضميره فردا بغير وساطة من سادن، ولا شعائر في محراب.

ومتى تفتح للمسلم طريق الاتصال بالله على شريعة الحب واستقلال الضمير، فليس في دينه ما يحجبه عن طلب الحكمة الإلهية من هذا الطريق، ولا من التعمق في استطلاع الحقائق وكشف الأسرار في الكون، وفيما بين سماء الله وأرضه من العجائب والخفايا، كما تعلم من آيات كتابه، ومن وصايا نبيه، ومن فريضة التفكير على التعميم.

وينبغي لسبب آخر أن يكون الصوفية من المسلمين بهذه الكثرة في بلاد الإسلام كافة؛ لأن الإسلام يرفض الرهبانية والانقطاع عن الدنيا، فلا ملاذ فيه للفرد إذا نبا به مجتمعه، وأنكر على قومه ما يخالف طريقته في العقيدة إلا أن يلجأ إلى ضميره، ويتخذ لنفسه مذهبه الذي يحاسب عليه نفسه، ولا يحاسب عليه سواه بين يدي الله.

فإذا فرقنا بين الصوفية والانقطاع عن الدنيا، فالديانات الأخرى قد أخرجت من الرهبان والنساك المنقطعين أكثر ممن أخرجهم الإسلام بغير مراء، إلا أن الأمر يختلف عند الكلام عن الصوفية الإسلامية؛ فإن عدد الصوفيين ذوي الآراء والأقوال بين المسلمين أكثر من أمثالهم في جميع الديانات الأخرى، وإذا جمعت أقوال المتصوفة في الإسلام ملأت الأسفار الكبار، وطرقت كل باب من أبواب الحكمة الإلهية عرفه المتدينون.

ويتسع التصوف الإسلامي بأنواعه كما يتسع بعدد المتصوفين، فإن الصوفية - كما هو واضح - أنواع ومذاهب، وكل نوع من أنواعها، وكل مذهب من مذاهبها قد كان له أئمة وأشياع بين الأمم الإسلامية. وتلك مسألة مفهومة بالبداهة؛ فقد دان بالإسلام أناس من الهنود والفرس والطورانيين والحاميين، كما دان به العرب وإخوانهم من الساميين، ولكل أمة مزاجها، ولكل مزاج أثره في الوجهة الصوفية؛ فلا عجب أن يتسع الإسلام لكل نوع من أنواع الحكمة الصوفية عرفه المتدينون.

فالصوفية من حيث الموضوع نوعان عظيمان: نوع العقل والمعرفة، ونوع القلب والرياضة، والصوفية من حيث موقعها من الدنيا كذلك نوعان: نوع يتخطاها وينبذها، ونوع يمشي فيها ويصل منها إلى الله، ويتأدى من الخلق إلى الخالق جل وعلا. وكل هذه المذاهب عرف في الإسلام على أوفاه.

فمن الصوفية العقليين طلاب المعرفة من يحسب في عداد الفلاسفة الأفذاذ، ولا نعرف في عقول الفلاسفة عقلا يفوق عقل الغزالي في قوة التفكير، ولا نعرف موضوعا من موضوعات الحكمة الإلهية لم يلتفت إليه محيي الدين بن عربي، وقد قيل: إن ذا النون المصري كان في طبقة جابر بن حيان في علوم الكيمياء، وإنه كان من الباحثين في طلاسم الآثار الفرعونية.

وهؤلاء الصوفيون العقليون يذهبون بالعقل إلى غاية حدوده، ولا يتهيبون الشكوك والاعتراضات، بل يقولون بلسان الغزالي: إن الشك أول مراتب اليقين، ولكنهم متى بلغوا بالعقل غايته ملكتهم نشوة الوجدان، فأسلموا أمرهم كله إلى الإيمان. وليس اشتغالهم بالعقل مانعا لهم أن يشتغلوا بالرياضة النفسية، وإنما يشتهرون بأفكارهم؛ لأنها الصلة بينهم وبين تلاميذهم ومريديهم وقرائهم، وتغلب شهرتهم بالفكر على شهرتهم بالرياضة.

أما الصوفيون القلبيون فهم يلتمسون المعرفة المباشرة برياضة النفس على قمع الشهوات، وعندهم أن شهوات الإنسان هي الحائل بينه وبين النور؛ فإذا ملك زمامها وأفلت من قيودها تكشف له النور، ووصل إلى مرتبة العارفين، وأغناه صفاء النفس عن دراسة الدارسين، وبحوث الباحثين.

والصوفية من حيث علاقتها بالدنيا نوعان كما تقدم: نوع يرفضها؛ لأنها وهم وغشاوة مزيفة كالطلاء الذي يوضع على المعدن الخسيس ليخيل إلى الأنظار أنه معدن نفيس، ونوع آخر يخوض غمار الدنيا ليبتليها، ويمتحن نفسه بتجاربها وغواياتها، وعنده أنها جميلة لأنها من خلق الله، وكل ما يخلقه الله جميل.

وهذا النوع من الصوفية أقرب أنواعها إلى الإسلام، وليس على المسلم حرج أن يرى للدنيا ظاهرا خداعا، وباطنا صادقا أجمل من ظاهرها؛ فإن قصة الخضر مع موسى - عليهما السلام - تدور كلها على التفرقة بين الظواهر والبواطن في الأحكام والنيات.

إلا أن الصوفي المسلم يقاوم مطامع الدنيا لأنها تحجبه عن حقائقها العليا. ويضربون المثل لذلك بالغزال الظمآن في الصحراء؛ فلا حرج عليه أن يطلب الري من الماء، ولكنه إذا غفل عن نفسه لم يسلم من خداع السراب، فانقاد إلى الهلاك؛ فإذا أصابه الظمأ فليعلم موارد الماء، وليكن على حذر من موارد السراب، وليفرق كما يقولون بين سراب لا شراب فيه، وبين شراب لا سراب حوله. وتلك هي الرياضة التي تستفاد من قمع الشهوات.

وكثيرا ما يبحث الأوروبيون في التصوف ويقصدون به الكلام على أشخاص المتصوفين الذين ظهروا في البلاد الإسلامية، وقليلا ما يبحثون في هذا التصوف ويقصدون به مذاهب التصوف التي يسمح بها الإسلام.

فالدين الإسلامي قد انتشر في أقطار شاسعة كانت فيها من قبله عبادات وثنية وغير وثنية، وقد تسرب بعضها إلى أبناء تلك الأقطار، واختلط بعضها بالعقائد الإسلامية من طريق الوراثة والاستمرار، ولم يسلم التصوف من تلك الأخلاط، فاقترن في أقوال أناس من المنتسبين إلى الإسلام بما يجوز وما لا يجوز.

وعلى الجملة يمكن أن يقال: إن الإسلام ينكر من تلك المذاهب مذهبين منتشرين في الصوفية على عمومها؛ ينكر مذهب الحلول، كما ينكر المذهب القائل بوحدة الوجود، فلا يقر الإسلام مذهبا يقول بحلول الله في جسد إنسان، ولا يقر مذهب القائلين بفناء الذات الإنسانية في الذات الإلهية، وإذا تحدث المتصوف المسلم عن الفناء فسره بفناء الشهوات، أو فناء الأنانية وحلول محبة الله محلها من القلوب والأرواح.

ولا يقر الإسلام مذهبا يقول بوحدة الوجود، أو يقول بأن الله هو مجموعة هذه الموجودات، وأن الكون كله بسمائه وأرضه ومخلوقاته العلوية والسفلية هو الله. وإذا أجاز المتصوف المسلم معنى من معاني الوحدة الوجودية، فهي عنده وحدة الفضائل الإلهية ووحدة التوحيد.

وقد يوفق المسلم الصوفي بين الظاهر والباطن فيقول: إن الشريعة من غير الحقيقة رياء وكذب، وإن الحقيقة من غير الشريعة إباحة وفسوق، وقد يوفق بين الأمور الدنيوية والأمور الأخروية بمذهب جميل معتدل بين الطرفين، فليس الزاهد من لا يملك شيئا؛ بل الزاهد عنده من لا يملكه شيء، فهو مالك للدنيا غير مملوك لها بحال.

وظل المتصوفة والمنتسبون إلى الطرق الصوفية من المتأخرين يبرءون من القول بالحلول، ووحدة الوجود، وإسقاط التكليف، ويعتزلون من يقول بها على وجوهها المنقولة من الديانات الوثنية. ولوحظ ذلك في القانون الذي استشير فيه شيوخهم، وصدر في الديار المصرية بلائحة الطرق الصوفية (سنة 1320 هجرية/1903 ميلادية)، وتقرر المادة الثانية من بابه الخامس: «إن كل من يقول بالحلول أو الاتحاد أو سقوط التكليف يطرد من الطرق الصوفية كافة.»

وهذا الفارق الفاصل بين الصوفية الإسلامية والصوفية الدخيلة هو الذي أوهم فريقا من المستشرقين أن التصوف كله مستعار من الهند وفارس، أو من الأفلاطونية الحديثة، وهو قول يصدق على مذهب الحلول ومذهب وحدة الوجود، ولكنه لا يصدق على مذاهب الصوفية التي تقوم على الحب الإلهي، والكشف عن الحقائق من وراء الظواهر؛ فهذه الصوفية أصيلة في الإسلام، يتعلمها المسلم من كتابه، ويصل إليها ولو لم يتصل قط بفلسفة البراهمة أو فلسفة أفلوطين؛ لأن أشواق الروح الإنسانية قسط مشترك بين بني آدم لا تنفرد به أمة من الأمم، ولم تستوعبها عقيدة واحدة كل الاستيعاب دون سائر العقائد الدينية.

والصوفية العربية مازجت صوفية الهند القديمة وصوفية الأفلوطينيين بالإسكندرية، ولكنها أضافت إليها كما أخذت منها، ولا حاجة بنا إلى تعقب التواريخ والأسانيد لتقرير هذه الحقيقة البينة، فإن عناصر الصوفية الإسلامية مبثوثة في آيات القرآن الكريم، محيطة بالأصول التي تفرعت عليها صوفية البوذية والأفلوطينية.

والمسلم يقرأ في كتابه أن:

ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فيقرأ خلاصة العلم الذي يعلمه دارس اللاهوت في كتب القديس توما حيث يقول: إن الله مباين للحوادث، وإنه يعلم بالتنزيه والإبعاد عن مشابهتها، أو يعلم بما ليس هو، ولا يعلم بما هو عليه في ذاته أو صفاته، أيا كان المصدر الأول الذي استقى منه القديس توما أصول هذه العقيدة.

ويقرأ المسلم في كتابه:

ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين [سورة الذاريات: 50].

فيعلم ما يعلمه تلاميذ المتصوفة البوذيين حين يؤمنون أن ملابسة العالم تكدر سعادة الروح، وأن الفرار منه أو الفرار إلى الله هو باب النجاة.

ويقرأ المسلم في كتابه:

الله نور السماوات والأرض [سورة النور: 35].

ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله [سورة البقرة: 115].

ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [سورة ق: 16].

فلا يزيد المتصوفة إلا التفسير حين يقولون: إن الوجود الحقيقي هو وجود الله، وإنه أقرب إلى الإنسان من نفسه؛ لأنه قائم في كل مكان يصل له كل كائن:

وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [سورة الإسراء: 44].

والله يخلق ويأمر، فهو فعال مريد، وليست إرادته مانعة من الخلق، كما يرى الفلاسفة؛ إذ يقولون: إن الإرادة القديمة لا ينشأ منها اختيار حديث، أو مخلوق حادث:

ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين [سورة الأعراف: 54].

ومما يعلمه المسلم من كتابه أن عقل الإنسان لا يدرك من الله إلا ما يلهمه إياه؛ لأنه تعالى:

يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء [سورة البقرة: 255].

ومنه يعلم الخلاف ما بين عالم الظاهر وعالم الباطن، أو عالم الحقيقة وعالم الشريعة؛ لأنه يقرأ مثلا واضحا لهذا الخلاف فيما كان من الخضر وموسى - عليهما السلام - من خلاف:

فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما * قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا * قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا * أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما * وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا [سورة الكهف: 65-82].

وهذه آيات بينات يقرؤها جميع المسلمين في كتابهم الذي لا يختص به فريق منهم دون فريق، وبينهم - ولا شك - أناس مطبوعون على التصوف، واستخراج الأسرار الخفية والمعاني الروحانية من طوايا الكلمات، فإذا عمد هؤلاء إلى تفسير تلك الآيات وما في معانيها، فليس أيسر عليهم من الوصول إلى لباب التصوف الذي شغلت به خواطر الحكماء في جميع الأحوال.

1

وإذا آمن الصوفي المسلم بالكشف عن الحقائق من وراء الظواهر، فهو لا ينتهي من التفرقة بينهما إلى إسقاط الشريعة، أو إسقاط ما تأمره به من التكليف، أو إباحة ما تحظره من المحرمات؛ لأن الحقيقة عنده لا تنقض الشريعة؛ بل تتممها وتكشف ما استتر من حكمتها، وتظهر ما خفي من أسباب ظواهرها كما فعل الخضر في كل قضية خفيت على صاحبه، فكشف له من حقيقتها عن حكم الشريعة فيها.

وقد كان أقطاب الصوفية يقيمون الفرائض ويصلون ويصومون، ويحجون إلى البيت، ويعطون الصدقات، وتحدث رجل أمام أبي القاسم الجنيد بحديث المعرفة فقال: إن أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقوى إلى الله، فقال الجنيد: إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهذه عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالا ممن يقول هذا. وإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله، وإليه رجعوا فيها. ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها، وإنه لأوكد في معرفتي، وأقوى في حالي.

2

قال صاحب كتاب «التعرف لمذهب أهل التصوف»: «وأجمعوا على تعجيل الصلوات، وهو الأفضل عندهم مع التيقن بالوقت، ويرون تعجيل أداء جميع المفترضات عند وجوبها، لا يرون التقصير والتأخير والتفريط فيها إلا لعذر، ويرون تقصير الصلاة في السفر، ومن أدمن السفر منهم ولم يكن له مقر أتم الصلاة، ورأوا الفطر في السفر جائزا ويصومون، واستطاعة الحج عندهم الإمكان من أي وجه كان، ولا يشترطون الزاد والراحلة فقط، قال ابن عطاء: الاستطاعة اثنان : حال ومال؛ فمن لم يكن له حال يقله فمال يبلغه. وأجمعوا على إباحة المكاسب من الحرف والتجارات والحرث وغير ذلك مما أباحته الشريعة.»

وليس من الإنصاف أن تحمل على التصوف أوزار الأدعياء واللصقاء الذين يندسون في صفوفه نفاقا واحتيالا، أو جهلا وفضولا؛ فإنه ما من نحلة في القديم والحديث سلمت من أوزار اللصقاء الذين ينتمون إليها من غير أهلها، ولكن التصوف على حقيقته الكاملة هو حرية الضمير في الإيمان بالله على الحب والمعرفة، وبلوغ هذه المرتبة هو فضيلة الإسلام الذي أطلق ضمير الفرد من عقال السيطرة الروحية، ويسر له أن يلوذ بسريرته هذا الملاذ الأمين الذي لا يداخله فيه حسيب أو رقيب غير حسيبه ورقيبه بين يدي الله.

ولا غني عن مثل هذا الملاذ في زمن من الأزمنة، ولا في جماعة من الجماعات، ولا سيما الأزمنة التي تبتلى فيها الضمائر الصوفية بالقلق بين الجماعات المضللة عن سوائها، جهلا بحقيقة الدين، أو جمودا على المألوف من بقايا الأقدمين؛ ففي مثل هذه الأزمنة لا يستغني ضمير الإنسان عن ملاذ يعتصم به، ويأوى إليه بين جماعته، وهو عامل فيها، حريص على هدايتها، غير معتزل لشئونها.

ولا حاجة بالمسلم في أمثال هذه الأحوال إلى ابتداع شيء في أصول دينه، فإن أصول دينه الأولى قائمة على حرية الضمير تنهاه أن يستسلم لما يأباه رغبة، أو رهبة، أو مجاراة لعرف الأكثرين، إذا كان الأكثرون لا يعلمون.

وإن أناسا من أبناء العصر الحاضر يحسبون أن الصوفية بقضها وقضيضها تراث قديم مهجور، ولكنهم يعلمون كل يوم - وسيعلمون غدا - أن الإنسان لن يستغني في حياته يوما واحدا عن الصوفية في ناحية من نواحيها؛ لأن رياضة النفس ضرورة لازمة كرياضة الجسد، وأكبر ما يلقاه الناس في العصر الحاضر فإنما هو إفلات زمام الإنسان العصري من يديه، ولا غنى له يوما عن ذلك الزمام، ولا غنى له في سياسة جسده عن بعض الحرمان باختياره، وعن بعض الشدة برضاه. وأحرى أن يكون ذلك شأنه في سياسة النفوس.

والمجتمع الإسلامي أحق المجتمعات بالتصوف ، وأولاه بحرية الضمير التي يسمو إليها الإنسان كلما آثر لنفسه الإيمان بالله على الحب والمعرفة، ولم يقنع بحظ الثواب والعقاب؛ لأن الإسلام يأبى له الرهبانية التي اعتصم بها أناس في العصر القديم، ولا يرضى له بعض المذاهب «الوجودية» في عصر الحاضر.

وقديما كان صاحب الضمير اليقظان يتبرم بمجتمعه فيهجره إلى صومعة الدين، وحديثا تبرم بعض الناس في المغرب بمجتمعاتهم، فاعتصموا بها بمذاهب الوجودية التي يلجأ إليها الفرد كلما اشتد عليه طغيان العرف الاجتماعي، منطلقا من قيوده تارة إلى الإباحة، وتارة إلى عزلة الوجدان، ولكن الإسلام يفتح لضمير الفرد مسلكا واسعا غير الرهبانية وغير الوجودية بما فيها من خير وشر، ويقيم له صومعته في أعماق نفسه ولا حدود لها غير حدود الكون بما وسع من سماوات وأرضين ...

لا جرم وسعت سماحة الإسلام عقائد المتصوفة وهم في رحابه الفسيحة لا يفارقونها، ولا يعتزلون دنياهم حيثما أتوا إليها، ونشأ في عصور الإسلام جمهرة من أقطاب الصوفية المتفكرين والمتريضين لا تضارعها جمهرة من أبناء النحل العالمية في وفرة عددها، ولا في ذخائر حكمتها ...

وعلى كثرة الضحايا من المتصوفة في العالم العربي، لم يذهب أحد منهم ضحية لمذهبه قط بغير استثناء القضيتين المشهورتين اللتين قضي فيهما بالموت على الحلاج والسهروردي، ولم يكن لهما ثالث في مئات السنين منذ نشأ التصوف في الإسلام إلى هذه الأيام. ولعل هاتين القضيتين ما كانتا لتشتهرا هذه الشهرة لولا الغرابة والندرة فيما هو من قبيلهما، ولو صح أن الحلاج والسهروردي من ضحايا الصوفية، وهما في الواقع ضحية الفتنة وضحية السياسة، وعليهما إصر كبير فيما جناه كل منهما على نفسه، بعد اليأس من توبته، واللجاجة في دعواه ...

وعلى الباحث عن العلة الصحيحة في مصير الرجلين أن يذكر أن إحدى القضيتين حدثت في إبان فتنة القرامطة، وأن الأخرى حدثت في إبان الحروب الصليبية، وأن الحلاج والسهروردي قد اختلطا بمعارك السياسة من قريب، واتخذا فيها الأحزاب والأعداء، واقتحما مواقع الشبهة ومواضع الريبة غير متحرجين ولا متراجعين بعد طول الإغضاء عنهما، وتمهيد معاذير التوبة لهما. ولم يتهم أحد بمثل ما اتهما به ولقي من قومه مثل هذه المداراة، ومثل هذا السماح ...

ولا نزيد في قضية الحلاج على رواية أخباره فيما يمس قضيته، ورواية كلامه كما جاء في كتبه وقصائده ...

قال الحافظ أبو بكر أحمد علي الخطيب في تاريخ بغداد: «كان جده مجوسيا اسمه محمى من أهل بيضاء فارس. نشأ الحسين بواسط، وقيل بتستر، وقدم بغداد فخالط الصوفية وصحب من مشيختهم الجنيد بن محمد، وأبا الحسين النوري، وعمرا المكي. والصوفية مختلفون فيه، فأكثرهم نفى الحلاج أن يكون منهم، وأبى أن يعد فيهم، وقبله من متقدميهم أبو العباس بن عطاء البغدادي، ومحمد بن خفيف الشيرازي، وإبراهيم بن محمد النصراباذي النيسابوري، وصححوا له حاله، ودونوا له كلامه، حتى قال ابن خفيف: الحسين بن منصور عالم رباني. ومن نفاه عن الصوفية نسبه إلى الشعبذة في فعله، وإلى الزندقة في عقله. وله إلى الآن أصحاب ينسبون إليه، ويغلون فيه. وكان للحلاج حسن عبارة، وحلاوة منطق، وشعر على طريقة التصوف ...»

ثم روى الخطيب بعض ما اشتهر عنه من أخبار السحر، ومنها أنه يخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمد يده إلى الهواء فيعيدها مملوءة دراهم عليها مكتوب: «قل هو الله أحد»، ويسميها دراهم القدرة، ويخبر الناس بما أكلوه، وما صنعوا في بيوتهم، ويتكلم بما في ضمائرهم.

وروى في أخبار متكررة من قبيلها، أنه بعث رجلا من خاصة أصحابه وأمره أن يذهب إلى بلد من البلاد بالجبل، وأن يظهر لهم العبادة والصلاح والزهد، فإذا رآهم قد أقبلوا عليه وأحبوه واعتقدوه أظهر لهم أنه قد عمي، ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد تكسح، فإذا سعوا في مداواته قال لهم: يا جماعة الخير، إنه لا ينفعني شيء مما تفعلون، ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد رأى رسول الله

صلى الله عليه وسلم

في المنام وهو يقول له: إن شفاءك لا يكون إلا على يد القطب. وأقبل الحلاج حتى دخل البلد، فأظهر الرجل شفاءه على يديه، وخرج منه الحلاج ووراءه أبناء البلد من الكبراء والعامة يتوسلون إليه أن يقيم بينهم وله منهم ما يشاء ...

ونقل المؤرخون له، ومنهم الخطيب وابن الأثير وابن كثير، أن الوزير حامدا رأى كتابا يسقط فيه الحج، ويبدل بمناسكه مناسك من عنده تتخذ في البيوت، وسأله القاضي أبو عمر: من أين لك هذا؟ قال: من كتاب الإخلاص للحسن البصري. وكان القاضي قد قرأ الكتاب وليس فيه شيء مما قال.

ونسب إليه، وتناقله المؤرخون، أنه كان يسمع القرآن ويقول: يمكنني أن أؤلف مثل هذا. وشوهد وهو يخط في صفحات بين يديه سورا يعارض بها القرآن.

ولحقت به شبهات في مسلكه مع أهل بيته، حدثت عنها امرأة ابنه سليمان فقالت: كنت ليلة نائمة في السطح وابنة الحلاج معي في دار السلطان وهو معنا، فلما كان في الليل وقد غشيني، فانتبهت مذعورة منكرة لما كان منه، فقال: إنما جئتك لأوقظك للصلاة. ولما أصبحنا نزلت إلى الدار ومعي بنته، ونزل هو، فلما صار على الدرجة بحيث يرانا ونراه قالت بنته: اسجدي له! فقلت لها: أويسجد أحد لغير الله؟ وسمع كلامي لها فقال: نعم، إله في السماء وإله في الأرض، قالت: ودعاني إليه، وأدخل يده في كمه وأخرجها مملوءة مسكا، فدفعه إلي، وفعل هذا مرات، ثم قال: اجعلي هذا في طيبك ...

وسبب القبض عليه أن الوزير حامد بن العباس انتهى إليه أن الحلاج قدموه على جماعة من الحشم والحجاب في دار السلطان، وعلى غلمان نصر القشوري الحاجب، وانتشر أصحابه وتفرقوا في النواحي، وعرضت علة للمقتدر بالله في جوفه وقف الحاجب نصر على خبرها، فوصف له الحلاج، واستأذنه في إدخاله إليه، فأذن له، ووضع يده على الموضع الذي كانت العلة فيه وقرأ عليه، فاتفق أن زالت العلة، ولحق والدة المقتدر بالله مثل تلك العلة فشفاها، وشاع عنه أنه أحيا ببغاء لولي العهد بعد موتها، وقام للحلاج بذلك سوق في الدار، وعند والدة المقتدر والخدم والحاشية ...

أما ما أخذ عليه من كلامه، فمنه قوله في كتاب طاسين الأزل: إنه هو الحق ، وقوله في أبيات :

يا سر سر يدق حتى

يخفى على وهم كل حي

وظاهرا باطنا تجلى

لكل شيء بكل شي

إن اعتذاري إليك جهل

وعظم شك وفرط عي

يا جملة الكل لست غيري

فما اعتذاري إذن إلي

وقوله:

سبحان من أظهرنا ناسوته

سر سنى لاهوته الثاقب

ثم بدا في خلقه ظاهرا

في صورة الآكل والشارب

حتى لقد عاينه خلقه

كلحظة الحاجب بالحاجب

وكانت حركة الحلاج بين أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع للهجرة، وهي فترة وافقت أيام فتنة القرامطة وثورة الزنج وشغب الحنابلة، وله بينهم أشياع وأتباع متفرقون في الأمصار، فاتجهت إليه التهم مرة بعد مرة، وتحرج القضاة والفقهاء من إدانته حتى تقوم الحجة القاطعة عليه، وحوكم بعد سنوات من الإغضاء والمطاولة، فشهد عليه القضاة بما يستوجب عقاب المفسدين في الأرض، وكان منهم نحو ثمانين في ساحة القصاص، فسئلوا مرة أخرى قبل إجراء القصاص عليه، فأعادوا شهادتهم بصوت جهير على مسمع من الناس ...

ونحن في هذا الكتاب لا ندرس قضية الحلاج، ولا نمحص ما قاله ولا ما قيل عنه، فيجوز أنه مشعوذ طامع في الملك توسل بالاستهواء إلى جمع الجموع، وتأليب الأنصار، ثم نشرهم في أطراف البلاد، وعند مقامات التدبير والتصريف؛ كقصر الخلافة، ودواوين الوزارة، توطئة للوثبة عند سنوح فرصتها ...

ويجوز أنه من زمرة «الملامتية» الذين يتعرضون للشبهات، ويستدعونها عمدا وقصدا؛ للتكفير عن خطاياهم، وإبراء أنفسهم من مظنة النسك؛ طلبا لثناء الناس عليهم ...

ويجوز أنه رجل مفترى عليه لعلة خفية أزعجت ولاة الأمر، فأثبتوا عليه بالتلفيق والإكراه جريمة لم يقترفها ...

فكل وجه من هذه الوجوه ينفي عن الإسلام دعوى المدعين أنه يضيق صدرا بالفكر الصوفي والمعاني الروحية، فإذا عن لأمير أو وزير من ولاة الأمر أن ينكب إنسانا من خصومه لاختلاف في الرأي والطريقة، لم يكن له مناص من اتهامه بالتهمة التي تستحق العقاب في كل شريعة دينية أو دنيوية، وأكبرها تهمة الفتنة والإفساد في الأرض، أو الإخلال بالسلم والخروج على دستور الجماعة ...

وقضية شهاب الدين السهروردي نسخة موجزة من قضية حسين بن منصور الحلاج، سواء فيما وقع منه فعلا، وفيما كان مظنونا أن يقع منه، أو مظنونا أن يقع من أمثاله في نزعاته وأحواله ... •••

عاش السهروردي في عصر الحروب الصليبية، وفي أخطر ميادينها، وهو مدينة حلب عاصمة الملك الظاهر بن الملك صلاح الدين. واشتهر السهروردي كما اشتهر الحلاج بأعمال الخوارق والأعاجيب التي يحسبها بعضهم من السحر، ويحسبها الآخرون من الكرامات ...

جاء في النجوم الزاهرة أنه «كان يعاني علوم الأوائل والمنطق والسيمياء وأبواب النيرنجيات ...»

وجاء في طبقات الأطباء أنه كان مفرط الذكاء، فصيح العبارة، وكان علمه أكثر من عقله، ثم جاء فيه: «يقال: إنه يعرف علم السيمياء.»

وروى ابن خلكان في وفيات الأعيان منقولا عن بعض فقهاء العجم: «إنه كان في صحبته وقد خرجوا من دمشق، قال: فلما وصلنا إلى القابون - القرية التي على باب دمشق في طريق من يتوجه إلى حلب - لقينا قطيع غنم مع تركماني، فقلنا للشيخ: يا مولانا، نريد من هذه الغنم رأسا نأكله، فقال: معي عشرة دراهم، خذوها واشتروا بها رأس غنم. وكان هناك تركماني فاشترينا منه رأسا بها ومشينا قليلا، فلحقنا رفيق لنا وقال: ردوا هذه الرأس؛ خذوا أصغر منها، فإن هذا ما عرف بيعكم؛ يساوي هذه الرأس أكثر من ذلك. وتقاولنا نحن وإياه، فلما عرف الشيخ ذلك قال لنا: خذوا الرأس وامشوا وأنا أقف معه وأرضيه. فتقدمنا نحن وبقي الشيخ يتحدث معه ويطيب قلبه، فلما أبعدنا قليلا تركه وتبعنا، وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به وهو لا يلتفت إليه، فلما لم يكلمه لحقه بغيظ وجذب يده اليسرى وقال: أين تروح وتخليني؟ وإذا بيد الشيخ قد انخلعت من عند كتفه وبقيت في يد التركماني ودمها يجري، فبهت التركماني وتحير في أمره، فرمى اليد وخاف، فرجع الشيخ وأخذ تلك اليد بيده اليمنى ولحقنا، وبقي التركماني راجعا وهو يلتفت إليه حتى غاب عنه، فلما وصل الشيخ إلينا رأينا في يده اليمنى منديلا لا غير.»

وكان للسهروردي طموح كطموح الحلاج إلى السيادة والعظمة أفصح عنه لبعض صحبه، ومنهم الشيخ سيف الدين الآمدي الذي قال فيما حدث عنه: «اجتمعت بالسهروردي في حلب فقال لي: لا بد أن أملك الأرض، فقلت له: من أين لك هذا؟ قال: رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر، فقلت: لعل هذا يكون اشتهارا للعلم وما يناسب هذا، فرأيته لا يرجع عما وقع في نفسه، ورأيته كثير العلم قليل العقل.»

ونسب إليه فيما نسب من التهم التي أدين بها أنه كان يدعي النبوة، ولكنها تهم لم تتحقق أنباؤها؛ لأن الروايات التي وصلت إلينا من سيرته في أواخر أيامه ملتبسة متضاربة، حتى لقد رويت عن موته ثلاث روايات؛ تقول إحداها: إنه مات صبرا باختياره، وتقول رواية أخرى: إنه مات خنقا، وتقول غيرها: إنه مات مقتولا بالسيف بعد صلبه. ولا تتفق الروايات على مشهد قتله، مع ما قيل من التشهير به قبل دفنه ...

غير أن القصة المتواترة أن الفقهاء رفعوا أمره إلى صلاح الدين، وأبلغوه خوفهم منه على عقيدة ابنه الملك الظافر، وعلى سياسة ملكه، فانتهى الأمر إلى دعوته للمناظرة بحضرة الملك، فكان مما قاله في تلك المناظرة: إن إرسال نبي بعد محمد - عليه السلام - غير مستحيل ...

وإذا تعسر جمع أخبار القصة بما بدا واستتر منها، فليس من العسير أن نعلم ما يجنيه على نفسه شاب كثير الفطنة، قليل الحكمة، ذرب اللسان، مصطنع الشعوذة والاستهواء، ويخيل إليه أنه موعود بملك الدنيا، وأن دعوى النبوة مفتوحة لمن يتهيأ لها بمعرفته وفصاحته وقدرته على الإقناع بالبرهان أو بالكرامة. •••

وليس مما يخطر على البال ولا مما كتبه المؤرخون أو أشاروا إليه بهذا الصدد: أن الفكرة الصوفية كانت ذريعة من ذرائع المحاكمة والقصاص، وليس من أدب الصوفية أن يتعرض طالب الحقيقة لشبهة من الشبهات بين العامة يتذرع بها من يشاء إلى اتهامه وإثبات التهمة عليه ...

والقضيتان - بعد - قد اشتهرتا هذه الشهرة بين المعنيين بالإسلاميات؛ لأنهما نادرتان في تواريخ أمم الإسلام، فإن لم تكن هذه الندرة قاطعة بانفرادهما، فهي مثال للحوادث التي ينساق فيها بعض الدعاة إلى مزالق الخطر، ولا شأن فيها لحرية التفكير، ولكنها مآزق السياسة في أوقات الحرج والريبة يرتطم بها من يتصدى لها، ويتورط فيها، وقلما يسلم من بعض وزرها وإن تراءى لقوم أنه ضحية لأوزارها ... •••

إن الإسلام قد وضع التصوف موضعه الذي يصلح به، ويصلح من يريده، فليس هو بواجب، وليس هو بممنوع، ولكنه ملكة نفسية موجودة في بعض الطبائع لازمة لمن وجدت في طبائعهم، وألزم ما تكون لهم حين تفترق مقاييس الأخلاق ومعايير القيم الروحية بينهم وبين مجتمعاتهم، فإن الفرد إذا افترق ما بينه وبين مجتمعه من هذه القيم تجنبه بالرهبانية - ولا رهبانية في الإسلام - أو صاغ فضائله على وفاق ضميره وهو مقيم في مجتمعه لا حسيب عليه بينه وبين ربه. وتلك هي شريعة الإسلام الذي لا سلطان فيه لمخلوق على مخلوق في طاعة الله ...

ومهما تكن للنفس الإنسانية من ملكة خلقية أو روحية، فتلك أمانة لا تفريط فيها، ولا خير في المجتمع الذي يفرط فيها ويسلمها للضياع. وقد يجوز إحياء الملكة الصوفية على ملكات أخرى، كما يجوز التخصص في كل قدرة على غيرها من عوامل القدرة في الطبائع والعقول، ولكنها لازمة التخصص التي لا فكاك منها، فإما التخصص والاحتفاظ، وإما الإهمال والانقطاع ...

وليس في التخصص - كما قلنا في كتاب الفلسفة القرآنية - إيجاب شيء واستنكار شيء، وإنما هو سبيل التعميم والاستفادة من كل ملكة في الذهن والذوق والروح. ولا يوجب الإسلام التنسك على جميع المسلمين؛ لأن أناسا منهم تخصصوا له وفضلوه على مطالب الروح أو مطالب الجسد الأخرى، ولكنه يجيزه بالقدر الذي بيناه، وهو القدر الذي لا غنى عنه في تدبير حياة الإنسان ...

فالملكات الإنسانية أكثر وأكبر من أن ينالها إنسان واحد، ولكنها ينبغي أن تنال، فكيف يمكن أن تنال؟

إنها لا تنال إلا بالتخصص والتوزيع، ولا يتأتى هذا التخصص أو هذا التوزيع إذا سوينا بينها جميعا في التحصيل، وألزمنا كل أحد أن تكون له أقساط منها جميعا على حد سواء ...

ولا نقصر القول هنا على الملكات العقلية أو الروحية التي لا يسهل إحصاؤها ولا تحصيلها، ولكن نعم به هذه الملكات، ومعها ملكات الحس والجسد، وهي محدودة متقاربة في جميع الناس ...

فهذه الملكات الجسدية - فضلا عن الملكات العقلية والروحية - قابلة للنمو والمضاعفة إلى الحد الذي لا يخطر لنا على بال ولا نصدقه إلا إذا شهدناه ...

وقد رأينا ورأى معنا ألوف من الناس رجلا أكتع يستخدم أصابع قدمه في أشياء يعجز الكثيرون عن صنعها بأصابع اليدين؛ يكتب بها، ويشعل عيدان الثقاب، ويصنع بها القهوة، ويصبها في الأقداح ويشربها، ويديرها على الحاضرين، ويسلك الخيط في سم الإبرة، ويخيط الثوب الممزق، ويوشك أن يصنع بالقدم كل ما يصنع باليمين أو باليسار ...

ورأينا ورأى معنا ألوف من الناس لاعبي البليارد في المسابقات العامة يتسلمون العصا، ثم لا يتركونها إلا بعد مائة وخمسين إصابة أو تزيد - ولعلهم لا يتركونها إلا من تعب، أو مجاملة للاعبين الآخرين - وهم يوجهون بها الأكر

3

إلى حيث يريدون، ويرسلونها بين خطوط مرسومة، لا تدخل الأكر في بعضها، ولا تحسب اللعبة إذا لم تدخل في بعضها الآخر، بحيث لو قال لك قائل: إن هؤلاء اللاعبين يجرون الأكر بسلك خفي؛ لجاز لك أن تصدق ما يقول ...

ورأينا من يقذف بالحربة على مسافات فتقع حيث شاء، ورأينا من ينظر في آثار الأقدام فيخرج منها أثرا واحدا بين عشرات، ولو تعدد وضعه بين المئات، ورأينا من يرمي بالأنشوطة في الحبل الطويل فيطوق بها عنق الإنسان أو الحيوان على مسافة أمتار ...

هذه هي الملكات الجسدية المحدودة، وهذه هي آماد الكمال الذي تبلغ إليه بالتخصص والمرانة والتوزيع، فما القول إذا حكمنا على الناس جميعا أن يكسبوا أعضاءهم ملكة من هذه الملكات؟ إننا نخطئ بهذا أيما خطأ، ونعطلهم به عن العمل المفيد، ولكننا نخطئ كذلك إذا حجرنا على إنسان لأنه أتقن ملكة من هذه الملكات الجسدية، ولو جار في نفسه على ملكات أخرى يتقنها الآخرون ...

فإذا كنا قد جاوزنا بالقوى الجسدية حدودها المعهودة بالمرانة والتخصيص، فما الظن بالقوى الروحية أو العقلية وهي لا تتقارب في الناس هذا التقارب، ولا تقف عند هذه الحدود؟!

وإذا كان طالب القوة الروحية يؤثرها على جسده، فلماذا نلومه وننحى

4

عليه، ونحن لا ننحي على اللاعب إذا آثر المهارة في اللعب على المهارة في فنون العقل، أو على الكمال في مطالب الروح؟

إذا لمنا من يجوز على جسده لأنه يضر الناس إذا اقتدوا به أجمعين، فمن واجبنا أن نلوم كل ذي ملكة، وكل ذي فن، وكل ذي رأي من الآراء؛ فما من واحد بين هؤلاء إلا وهو يضر الناس إذا اقتدوا به أجمعين.

ومما لا جدال فيه أن نوازع الجسد تحجب الفكر عن بعض الحقائق الاجتماعية، فضلا عن الحقائق الكونية المصفاة، ومما لا جدال فيه أن شواغل العيش وهموم الأسرة عائق عن بعض مطالب الإصلاح في الحياة اليومية، فضلا عن الحياة الإنسانية الباقية على مر الدهور، ومما لا جدال فيه أن طالب القوة الروحية كطالب القوة البدنية؛ له حق كحق المصارع والملاكم وحامل الأثقال في استكمال ما يشاء من ملكات الإنسان، ولسنا على حق إذا أخذنا عليه أنه جار على جسده أو لذات عيشه؛ لأننا لا نلوم المصارع إذا نقصت فيه ملكة الفن، أو ملكة العلم، أو ملكة الروح. ولو أصبح كل الناس مصارعين لفسد كل الناس، ولكن لا بد من المصارعة مع هذا، ولا بد من المتفرغين لها إذا أردنا البقاء ...

ولو أصبح الناس كلهم متصوفين معرضين عن شواغل الدنيا لفسدت الدنيا، وبطل معنى الحياة ومعنى الزهد في الحياة، ولكن لا بد من هذه النزعة في بعض النفوس، وإلا قصرنا عن الشأو الأعلى في مطالب الروح، وفقدنا ثمرة التخصص، أو ثمرة القصد الحيوي الذي ينظم لنا ثروة الروح، وثروة العقول، وثروة الأبدان.

والقصد الحيوي مكفول بشريعة القرآن في كل مطلب من هذه المطالب الروحية، فهي مباحة لمن يطيقها، وهي لا تفرض على جميع المسلمين، ولا بد من هذه الإباحة، ولا بد من هذا الإعفاء؛ فإنهما يجريان بالقدر الذي يفيد ويمنع الضرر في كلتا الحالتين ...

الفصل الحادي عشر

المذاهب الاجتماعية والفكرية

إذا اتسعت الديانة لقبول المذاهب الاجتماعية والفكرية فهي إحدى ديانتين تختلفان، ويبلغ الاختلاف بينهما حد التناقض في هذه الوجهة ...

فهي إما ديانة تنفض يدها من أعمال الدنيا، وتتجرد بضمائر أتباعها للمطالب الروحية أو المطالب الأخروية غير الدنيوية.

أو هي ديانة تنظر إلى الدنيا، وتقيم قواعد الإصلاح الاجتماعي على أسس واسعة النطاق، ثم توجب على الناس أن يتخيروا الأوقات لتطبيقها على حسب دواعيها، ومطالب البيئات التي تتجدد فيها ...

والمقرر في المقابلة بين الديانات أن المجتمع الإنساني يتطلب نصيبه من الديانة، وإن لم تشتمل على نصوص تتعرض للسياسة الاجتماعية؛ لأن الديانات جماعية وفردية، بل هي ألزم للجماعة وأولى بالقيام بين ظهرانيها؛ لأن ضمائر الأفراد لا تنعزل بأعمالها عن شركائها في الحياة الاجتماعية، وعلى ما فيها من الصلاح والفساد تنتظم تلك الحياة، أو ينتقض فيها النظام ...

وقد كانت البرهمية ديانة «غير دنيوية»؛ لأنها تقوم في جوهرها على سوء العقيدة في الدنيا، والإيمان ببطلانها، وغلبة الوهم على مظاهرها وخفاياها، ولكنها تعرضت للمجتمع فقسمته إلى طبقات، وميزت كل طبقة منها بمزيتها في الحكم والمعيشة، وداخلت الناس في المساكن والمطاعم فلا تفارقهم في عمل يعملونه، أو حركة يتحركونها ...

والمسيحية لم تتعرض للتشريع ولا للسياسة الاجتماعية؛ لأنها نشأت في بيئة ترجع بشرائعها المدنية إلى الدولة الرومانية التي قيل عنها: إنها أم الشرائع في الزمن القديم، وترجع بشرائعها الدينية إلى الهيكل اليهودي الذي يطلق اسم الشريعة على الدين كله؛ لأن الاعتقاد عنده قائم كله على التشريع، ومع هذا ظهرت في ظلال المسيحية دعوى الملوك الذين أقاموا حكمهم على الحق الإلهي، وظهرت فيها مراسم للسلطة الدينية أعم وأقوى من سلطة الدين في غيرها ...

فالديانات في الواقع العملي سواء في آثارها الاجتماعية، وإن لم تكن سواء في نصوصها التي تعرض لمسائل الاجتماع، وكثيرا ما اصطدمت الديانات «غير الدنيوية» بالمذاهب الدنيوية على غير تفرقة بينهما؛ لأنها من أساسها تجعل الحياة الروحية مناقضة للحياة الدنيوية كيفما كانت، وعلى أية سنة تسير ...

والإسلام لم يتجنب مسائل الاجتماع؛ لأن اجتنابها ليس من طبيعة الدين، ولكنه عني بهذه المسائل كما ينبغي أن تدركها عقيدة الإنسان في الجماعة البشرية، ووكل إلى عقيدته أن توفق بينها وبين الصلاح الاجتماعي كما يقتضيه زمانه، وتستوحيه الجماعة كلها من ضروراتها، ومن قواعد دينها. ولا فارق في النهاية بين المصلحة كما تهتدي إليها الجماعة، والمصلحة كما يوجبها الدين ...

والمذاهب الاجتماعية شيء واقع معروف المبادئ والغايات في العصر الحاضر، فعلاقة الإسلام بها كذلك شيء واقعي لا حاجة به إلى الخوض في النظريات والفروض الذهنية؛ لأن مواضع الوئام أو النزاع بين جميع هذه المذاهب وبين نصوص الدين الإسلامي مسطورة معلومة لمن يريدها، وقد كشفت عنها تجارب العمل كما كشفت عنها بحوث الباحثين ...

هذه المذاهب الاجتماعية ومعها المذاهب الفكرية كثيرة تتفرع على أصولها الكبرى، ولكننا إذا عددنا منها هذه الأصول أغنانا البحث فيها عن البحث في فروعها، وبخاصة حين يدور البحث على القواعد الكبرى في الإسلام، والقواعد الكبرى في أمهات مذاهب الاجتماع والفكر في هذه الآونة ...

إن أصول المذاهب الاجتماعية قد تتلاقى في هذه الآونة إلى أصول ثلاثة تحيط بها في جملة مناحيها؛ وهي: الديمقراطية، والاشتراكية، والعالمية ...

أما مذاهب الفكر فأكثرها ذكرا في العصر الحاضر مذهب التطور، ومذهب الوجودية أو مذاهبها المتعددة بمقاصدها وإن اتحدت بعنوانها ...

فما الذي يمنع المسلم أن يعمل للديمقراطية، أو يعمل للاشتراكية، أو يعمل للوحدة العالمية؟

وما الذي يمنع المسلم من أحكام دينه أن يقبل مذهب التطور، أو يقبل الوجودية في صورتها المثلى؟

إن المسلم أحق بالديمقراطية من أتباعها المحدثين والأقدمين؛ لأنه - منذ أربعة عشر قرنا - يدين بمبادئ الديمقراطية الأولى التي لا يصدق اسم الديمقراطية على نظام من النظم بغيرها، وهي: التبعة الفردية، والحكم بالشورى، والمساواة بين الحقوق، والمحاسبة بالقانون ...

كل امرئ بما كسب رهين [سورة الطور: 21].

وأمرهم شورى بينهم [سورة الشورى: 38].

إنما المؤمنون إخوة [سورة الحجرات: 10].

يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم [سورة الحجرات: 13].

وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [سورة الإسراء: 15].

وإن من أمة إلا خلا فيها نذير [سورة فاطر: 24].

ومتى آمن المسلم بهذه المبادئ فهو صاحب الحق في اختيار ما يرتضيه من نظم الديمقراطية؛ بل فرض عليه واجب الدين - مع واجب المصلحة - أن يطلب الحكم على نظام من النظم التي تتوافر لها هذه المبادئ الأولى ... •••

وليس في عقيدة المسلم ما يصده عن مذهب من مذاهب الاشتراكية الصالحة؛ لأنه ينكر احتكار الثروة في طبقة واحدة، وينكر احتكار التجارة في الأسواق عامة، ويفرض على المجتمع كفالة أبنائه من العجزة والضعاف والمحرومين، ويجعل حق الفرد رهينا بمصلحة الجماعة. ومن سمحت عقيدته بهذه المبادئ لم تحرم عليه أن يأخذ من الاشتراكية ما أباحته له قبل أن توجد الاشتراكية والاشتراكيون ...

ينهى الإسلام عن حصر المال في طبقة دون سائر الطبقات:

كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم [سورة الحشر: 7].

ويمنع كنز الذهب والفضة:

والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم [سورة التوبة: 34].

وفي الحديث الشريف: «من احتكر طعاما أربعين يوما يريد به الغلاء؛ فقد برئ من الله، وبرئ الله منه.»

ويحرم الإسلام أكل الأموال بالباطل من طريق التجارة بالديون:

يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون [سورة آل عمران: 130].

وقد ظهر في الإسلام فقهاء اشتراكيون يستندون في آرائهم إلى السنن الإسلامية، ولا يعرفون سندا غيرها لما يدعون إليه، ومنهم فقهاء المذهب الظاهري، الذين يحرمون تأجير الأرض بغير عمل إلا أن تكون أرض بناء، وأن يكون الأجر لما عليها من بناء، وأشهر هؤلاء الفقهاء الاشتراكيين الفيلسوف ابن حزم الظاهري، الذي يقول في كتابه المحلى: «إن زرع الأرض لا يحل إلا على أحد ثلاثة أوجه: إما أن يزرعها المرء بآلته وأعوانه وبذره وحيوانه، وإما أن يبيح لغيره زرعها، ولا يأخذ منها شيئا.

فإن اشتركا في الآلة والحيوان والأعوان دون أن يأخذ منه للأرض كراء فحسن، وإما أن يعطي أرضه لمن يزرعها ببذره وحيوانه وأعوانه وآلته بجزء، ويكون لصاحب الأرض مما يخرج الله تعالى مسمى؛ إما النصف، وإما الثلث أو الربع، أو نحو ذلك أكثر أو أقل، ولا يشترط على صاحب الأرض شيء من كل ذلك، ويكون الباقي للزارع، قل ما أصاب أو كثر، فإن لم يصب شيئا؛ فلا شيء له ولا شيء عليه. فهذه الوجوه جائزة، فمن أبى فليمسك أرضه.»

ورأي ابن حزم هذا مذهب يستند فيه الفقيه الفيلسوف إلى حجة من الدين تجوز عنده على ما فصله في كتابه، فإن لم تكن قاطعة عند غيره، فالدين الذي يستنبط أمثال ابن حزم من أحكامه ذلك الرأي لا يقال عنه: إنه يصد المؤمنين به عن الاشتراكية على طريقتها الوسطى بين الطرفين، وليس فيها ما هو أوسط وأعدل ممن يمنع احتكار الثروة، ويجعل للمحرومين حصة معلومة من الثروة العامة. وهو مذهب الإجماع في شريعة الإسلام، وعليه تقوم إحدى فرائضه الخمس؛ وهي الزكاة. •••

وإنه لمما يناسب رسالة الدين أن يستوعب مذاهب الاجتماع، ولا يستوعبه مذهب منها؛ لأن هذه المذاهب الاجتماعية تأتي وتذهب، ويعتريها التعديل والتبديل جيلا بعد جيل، ولا يعقل أن يتغير يقين الإيمان بحقيقة الوجود كلما تغيرت خطة من خطط العمل في المصالح الاجتماعية، مهما يبلغ من صوابها عند العمل بها وإجرائها في مجراها الموقوت ...

ومما يساق من أمثلة هذا أن ناقدي الإسلام من الغربيين أخذوا عليه أنه يعوق أعمال المصارف والشركات، ومرافق التثمير والتعمير، بما حرمه من الربا في تثمير القروض، وليس هذا النقد بصحيح؛ لأن الإسلام لم يحرك قط عملا من أعمال التثمير يخلو من الإضرار بمن يحتاجون إلى القروض، ويبرأ من أكل أموال الناس بالباطل في غير عمل مباح، ولكن هذا النقد على أية حال ينقضي بصوابه وخطئه، ولا تنقضي رسالة الدين على إطلاقها.

وإنما يقيس مصالح الأديان حقا من يقيسها على اتساع وامتداد، وينظر إلى الغد كما ينظر إلى اليوم، فلا يقضي بحكم من الأحكام فيها كأنه ختام العصور والمصالح جمعاء، فهذا عصر الثروات الكبرى في أيدي أصحاب الأموال يوشك أن ينقضي، ويلحقه عصر ينادي فيه الاقتصاديون بملك الأمة لموارد الثروات، ويقول فيه آخرون بمنع حيازة الأموال العامة، فضلا عن فوائدها على قدر من الأقدار كائنا ما كان ...

وقد استوعب الإسلام مذاهب الاقتصاد في عصر المصارف والشركات وقروضها وفوائدها دون أن يعوق مصلحة من مصالحها البريئة في العرف المشروع، وتمضي هذه المذاهب كما مضى غيرها، فلا يئوده بعدها أن يستوعب مذاهب الثروة في أيدي الجميع، ولا مذاهب الثروة في أيدي الآحاد، لا يمنع منها إلا ما يمنعه أولا وآخرا من ضرر أو ضرار ... •••

وإذا كان دين المسلم لا يمنعه أن يتخذ من مذاهب الديمقراطية والاشتراكية ما يرى صلاحه، فالوحدة العالمية أمل من آماله، وغاية من غايات الخلق في اعتقاده، وليس مبلغ الأمر فيها أنها رأي لا يمنعه مانع من دينه ...

فالخالق - جل جلاله - قد خلق الشعوب والقبائل لتتعارف وتصطلح على العرف الحسن، والمعرفة الرشيدة، فتجمعها أسرة واحدة لا تفاضل بين أبنائها بغير التقوى:

يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم [سورة الحجرات: 13].

ولا يسهل الإيمان بالوحدة العالمية على امرئ يؤمن بأن الله يصطفي سلالة من البشر دون سائر السلالات لغير فضيلة تحسب لها في ميزاتها غير انتسابها إلى أرومة معلومة ...

ولا يسهل الإيمان بهذه الوحدة العالمية على امرئ يؤمن بأن النجاة في ماضي العصور ومقبلها قسمة موقوفة على شرط لم يكمل في غير زمن محدود لأناس محدودين ...

ولكن المسلم الذي يؤمن برب العالمين، ويعلم أن النجاة قسمة لكل من سمع دعوة الهداية فاستجاب لها من الأولين والآخرين، يبسط رواق الأخوة الإنسانية على الغابرين والحاضرين، ولا يطرد من حظيرة الرضوان إنسانا اتقى الله على هدي دين من الأديان ...

إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [سورة البقرة: 62].

وينبسط رواق الأخوة الإنسانية على جميع الأجناس والأقوام كما ينبسط على جميع الملل والديانات، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى، كما جاء في أحاديث النبي العربي القرشي إلى قومه، وإلى صحبه وآله، وليس بين الأخوين من هذه الأسرة العظيمة رجحان لغير ذي عمل راجح في ميزان الخير والصلاح ... •••

وفي عقيدة المسلم عون له على النظر في المذاهب الفكرية الحديثة - وهو مذهب التطور - فربما أعانه دينه على قبول مبادئه، دون أن يقيده بقبول نتائجه التي تصح عند أناس، ولا تصح عند آخرين ...

وليس في مذهب التطور مبدأ أهم من تنازع البقاء وبقاء الأصلح، وليس النظر في هذين المبدأين محظورا على من يقرأ في كتابه أن صلاح الدين والدنيا لا يتفق لناس عفوا، وأن الفساد لا يدفع عن الناس بغير دافع، وأن الإيمان يحمي صاحبه، ويحميه صاحبه، فلا إيمان لمن لا ينصر الله وينصره الله.

ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين [سورة البقرة: 251].

لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز [سورة الحج: 40].

وأول ما يعتقده المسلم في مسألة الخلق أن الله خلق الإنسان من سلالة من طين، وأنبته من الأرض نباتا، وأنشأه مع سائر أبناء نوعه أطوارا، كما جاء في آيات متواردة من التنزيل:

ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين [سورة المؤمنون: 12-14].

ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [سورةالسجدة: 6-9].

ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا [سورة نوح: 13، 14].

فإذا آمن المسلم بنشأة الإنسان من سلالة من طين، وأنه نبت من الأرض نباتا، ثم اتصل خلقه أطوارا، فلا جناح عليه أن يتقبل ما يثبته العلم الصادق من نشأة تلك السلالة بين مادة الأرض من طين وماء، وبين هذا الخلق السوي القويم، أيا كان معنى السلالة في الخبر الثابت، غير مسئول أن يأخذ معناها مأخذ الإيمان باليقين ...

ويكاد مذهب التطور أن ينوب عن المذاهب الفكرية في التمثيل لاستعداد المسلم للنظر في تلك المذاهب على عمومها؛ إذ هو مذهب واحد يتغلغل في كل جانب من جوانب العلم، ويجري تطبيقه على كل شعبة من شعب الحياة الإنسانية فيما يعرض لها من الغير

1

والأطوار، فإذا تمهدت له مسالك التفكير أمام العقل لم يكد يعرض للعقل عائق دون مذهب آخر ينطوي فيه أو ينطبق عليه ... •••

والوجودية مذهب آخر من المذاهب الفكرية يشبه التطور في هذا العموم الشائع بين الآراء والتطبيقات، فإن الوجودية في حقيقتها وجوديات كثيرة تتشعب في كل ناحية من نواحي النظر والاعتقاد، ولا تلتقي في غير قاعدة واحدة، هي الاعتزاز بحق الفرد في الوجود؛ لأنه عند الوجوديين هو الكيان الثابت الذي تصدق عليه صفة الوجود الصحيح؛ إذ لا وجود في غير الذهن للأنواع والأجناس والفصائل والأقسام، ولكنها كلها أفراد متفرقة هي الموجودة بذواتها دون ما يطلق عليها من الأسماء و«الماهيات» في اصطلاح المنطقيين ...

وليس على الفكر حرج أن يدحض زعم الزاعمين بوجود الفرد وبطلان وجود النوع في الحس والعيان، فهذا كله لا طائل تحته في النتيجة التي يخرج بها الوجوديون من تلك المقدمة، وإنما نتيجتها أن الفرد مسئول، وأنه صاحب الحق الواجب على قدر هذه المسئولية، وأنه خليق ألا يدين لسلطان غير سلطان الضمير؛ لأنه يحاسب على أعماله ونياته، ولا يغني عنه أمر الجماعة ولا أمر ذوي السلطان، وذلك هو حق العقل في الإسلام؛ بل هو فيه واجب العقل لا يغنيه أن يعتذر منه بطاعة السلف، أو طاعة الجماعة، أو طاعة الرؤساء والأحبار. وقد وصل العقل الإنساني إلى هذا الحق، وهذا الواجب بفضل العقيدة الإسلامية قبل أن يصل إليه من طريق الجدل العقام في التفرقة بين وجود الذوات ووجود الماهيات. •••

ولا بد - في عصور الثقافة خاصة - من كلمة سواء بين الدين وهذه المذاهب الفكرية. فما هي رسالة الدين، وما هي رسالة المذاهب؟ مهما يكن من رأي في هاتين الرسالتين ففي وسعنا أن نقول: إن الدين ينبغي أن يطلق للمذاهب الفكرية مجالها في المسائل المتجددة، وإن المذاهب الفكرية ينبغي أن ترعى للدين حرمته في المسائل الباقية. إن المذاهب تذهب والدين باق، وليس بالمتدين ذلك الذي يحمل عقيدته ليطرحها عند أول مذهب يروقه ويوائم خواطره في مشكلات يومه ...

وباستقراء الواقع فيما مضى وما حضر، نتبين أن الإسلام قد قال هذه الكلمة السواء في عهود كثيرة، وأنه كان في تلك العهود مذهبا فكريا وزيادة؛ لأنه لم يقرر أصلا من أصوله يحجر على العقل في تفكيره، ولأن الجانب الذي وكله إلى الإيمان من روح الإنسان هو الجانب الذي لا يستطيع الفكر أن يقول كلمة أولى بالاتباع من كلمة الدين.

الفصل الثاني عشر

العرف والعادات

دخلت في الإسلام عند ظهوره أمم شتى من أبناء الحضارة والبداوة تأصلت لهم عادات عريقة، وآداب موروثة، وتباعدت المسافة بين تلك الأمم في عاداتها وآدابها كما تباعدت في مواقعها وتخومها، ومنها خلفاء الفرس والبابليين والفينيقيين والكنعانيين والفراعنة والبربر، وقبائل البادية أو البوادي المتلاحقة بين وادي النهرين ووادي النيل ...

عالم شاسع تعددت فيه الأزياء والمراسم والمواسم والأطعمة والأشربة والآداب والمصطلحات، كما تعددت اليوم في القارة الواسعة بين شعوبها التي تنتمي إلى مختلف العناصر والأقوام، فتعود المسلمون من اللحظة الأولى أن يوسعوا أكناف الإسلام لكل ما في هذا العالم الشاسع من عرف وعادة، ومن شعائر ومراسم، وأصبح العالم الإسلامي مرادفا عندهم للعالم الإنساني عند النظر إلى اختلاف الظواهر والأشكال.

وأعفتهم هذه النظرة السمحة من جمود التقاليد التي تنعزل بأصحابها عن العالم الإنساني أحيانا، كلما أقام الدين وأتباعه زمنا طويلا في معزل عن الناس، فلم يتحرج المسلمون من تلك الظواهر والأشكال في غير شيء واحد، وهو المساس بالعقائد والعبادات. وكل ما زاوله الناس بعيدا من الهيكل والمذبح فهو حل مباح لا يسألون عنه، ولا يبالون أن ينزعوا فيه منزع الأمم التي احتوتها الرقعة الإسلامية من تخوم الصين إلى شواطئ المغرب الأقصى ...

احتفل المسلمون بالنيروز، ولبسوا الطيلسان، وأكلوا في الأديرة وعلى موائد الدهاقين ، وركبوا البراذين والفيلة ، وتعاملوا بالدراهم والدنانير، وسكنوا البيوت من بناء القبط والروم، وعاشوا بدين واحد في أزياء لا عداد لها، فحققوا بذلك أن الإسلام دين العالمين ...

ولازمتهم هذه السماحة في العرف صدرا من الدعوة ومن الدولة الإسلامية الأولى، فلم يعرفوا في هذه الفترة مشكلة دينية تحتاج إلى حل ديني في شئون المعيشة من مأكل وملبس، أو مسلك شائع في معاملات الناس، ولم تظهر هذه المشكلات إلا مع ظهور الخوف على كيان الأمة الإسلامية؛ خوف الفتنة من الداخل، وخوف السيطرة من الأعداء ...

وتحرج المسلمون حين شعروا بالحرج فيما بينهم وفيما يهددهم من غلبة أعدائهم، وشعروا بهذا الحرج من الدخيل الذي يتوارى بين ظهرانيهم قبل أن يشعروا به من الدخيل الذي يغير عليهم، ويخضعهم بالقوة والمكيدة ...

أخذوا ينكرون العادات والمراسم التي لا غبار عليها في مظاهرها حين علموا أن الدخيل في ملتهم يتستر من ورائها لترويج العقيدة التي تلازمها، والتمهيد للدولة التي تقوم عليها. ومن هنا تلفتوا على حذر إلى كل ظاهرة مجوسية أو بيزنطية تستأنف ظهورها في البيئة الإسلامية، وكاد السؤال عن الحلال والحرام يسبق كل حركة غريبة - مريبة - ترتبط بمراسم الأمم المغلوبة في الزمن القديم قبل دخولها في الإسلام. وإلى هذا الحذر يرجع الشك في المراسم الأعجمية حيث كانت بين المسلمين أو غير المسلمين.

ثم اشتد هذا الإنكار للغريب من الظواهر والعادات بعد زوال الدولة، وخضوع الأمم الإسلامية للدولة المغيرة عليها، وكاد هذا الحذر أن يغلب جهود المصلحين الذين التمسوا القوة من حيث أدركها أعداء الإسلام، فحفزوا أقوامهم إلى التشبه بأولئك الأعداء فيما أجادوه من أسلحة العلوم والصناعات ...

تحرج المسلمون من الظواهر والأشكال الأجنبية في هذا الدور تحرجا لم يتعودوه فيما سلف من تاريخهم في أيام القوة، أو في أيام الفتنة والحذر؛ لأنهم شعروا بهذا الحرج في عصر الهزيمة والخضوع، وهما أدعى إلى الشك والنفور من فتنة الدخيل والحذر من صاحب الكيد المغلوب ...

ولم يكن ذلك التحرج شرا كله، وإن كان فيه شر كبير لم ينج المسلمون من عقابيله إلا بشق النفس، ولم يكد بعضهم يصدقون بالنجاة حتى الآن ...

بعض ذلك التحرج صادر من حصانة الإسلام، وهي سجية يستمدها المسلم من استقلاله بضميره، ومن شمول عقيدته التي لا تفصل الدين من الدنيا، ولا تجعله في الدين تبعا، فهو أحرى ألا يكون تبعا في الدولة ولا في الدنيا ...

وربما هان على صاحب الدين الذي يفصل العقيدة عن عمل المعيشة أن يخضع لمن يخالفونه في الدين والجنس واللغة؛ لأنه يتعزى عن ذلك باحتقار الدنيا، والفرار بروحه منها إلى الحياة الأخرى، ولكن عقيدة المسلم تأبى له هذا العزاء، وتلقي في روعه أن الله محاسبه على تفريطه في مكانته ومناعة حوزته، مذ كان التمكين في الأرض علامة على صدق الإيمان، وصدق العمل به في شئون الحياة وشئون المعايش على السواء.

ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون [سورة الأعراف: 10].

وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا [سورة النور: 55].

ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين [سورة القصص: 5].

فإذا حاقت الهزيمة بالمسلم، وضاعت منه الدولة، واستبيحت عليه حوزته علم أنه قد خسر دنياه ودينه، ولم يبق له من عزاء يطمئن إليه غير الأمل في الخلاص من هذه المهانة، والحذر من الاستغراق فيها، والسكون إليها، وداخله النفور في الغالب، وتباعد عنه وعن عاداته وأحواله بشعوره وتفكيره، فتحرز من محاكاته فيها بدلا من اللهج بها، والولع بمشابهتها كما يحدث من الأمم المغلوبة التي استذلتها الهزيمة، وطمست معالم استقلالها، فراحت تستعير العزة المموهة من محاكاة الظواهر والأشكال قناعة بها عن العزة الصادقة التي تنال بالمقاومة، وإحياء المعالم الدارسة

1 ...

ولعل فيلسوف التاريخ الإسلامي - ابن خلدون - كان أول من نبه المسلمين إلى هذه الخلة في المغلوبين، وعدها من تمام التسليم بالغلبة والهزيمة، فوقر في الأذهان أن محاكاة الغالب في ظواهره وأشكاله أول عوارض الفناء والتسليم بالسيادة على غير أمل في الخلاص ...

فمن حصانة العقيدة الإسلامية استمد المسلم شعور التحرج من العادات الأجنبية، فكان هذا التحرج خيرا بمقدار ما فيه من القضاء على بواعث المحاكاة التي تؤذن بالفناء والتسليم بالسيادة ...

ولكن هذه الحصانة السليمة الكفيلة بالسلامة لمن يعتصمون بها على فهم ودراية لم تلبث أن امتزجت بعوارض الجمود والخمول، فأصابها ما يصيب الفضائل جميعا من المسخ والتشويه كلما خارت العزائم، وسقطت الهمم، ورانت

2

الحيرة على العقول، فتحرج المسلمون الذين أصيبوا بهذه المحنة من محاكاة الغالبين في أسباب القوة واليسر، كما تحرجوا من محاكاتهم فيما يهدد كيان الأمة بالزوال، ويؤذن بمحو المعالم القومية على تتابع الأيام والأحداث ...

واستبد العجز بالنفوس، فخيل إليها أنها تركت باختيارها ما تركته في الواقع عجزا عن المحاكاة، وجهلا بأسبابها، ولا سيما حين تكون هذه الأسباب مما يسوق العجزة المتواكلين قهرا إلى السعي والتوافد على تحصيل العلوم والصناعات.

في هذه الفترة كثر التساؤل عن أمور لم تكن موضوع سؤال في صدر الإسلام، وليست هي موضع سؤال في هذه الأيام، وسمع الاستفتاء بعد الاستفتاء في الكبريت؛ هل يجوز قدحه؟ وعن غاز الاستصباح؛ هل تجوز الإضاءة به في المساجد؟ وعن التليفون؛ هل يجوز وضعه في المعاهد الدينية؟ وعن الجغرافيا وعلوم الطبيعة؛ هل يجوز تعليمها للتلاميذ؟ ولاح لهؤلاء المتحرجين كأنهم يعيشون في هذا العالم في سجن مغلق يخشون أن يمدوا أصبعا إلى شيء فيه؛ فينطلق منه شيطان متربص أو مارد محبوس ...

ولم تدم هذه الغاشية إلا ريثما تجددت الثقة في النفوس، وثبتت الأقدام على منهج الإصلاح، فخفت وطأة الحرج الذي استمده المسلمون من حصانة دينهم، وأيقنوا أن طرق التقدم وطرق العلم الحديث لا تفترقان، وأن المسلم أولى من غير المسلم بكل علم من علوم المعرفة؛ لأنه مأمور بالبحث عن أسرار الخلق، مطالب بالفهم والتفكير.

وتخلفت مع الجهل والخمول رواسب من الجمود تخلق الإحراج في غير حرج، وتضر كثيرا حيث تدعو الحاجة إلى السير الحثيث في طريق الإصلاح، وتفيد أحيانا كلما اضطرت المتعجلين إلى بعض الروية والأناة قبل الهجوم على كل شيء جديد لغير نفع فيه إلا أنه يخالف القديم ...

وأغلب الظن أن رواسب الجمود كانت تزول أسرع مما زالت لو لم يكن فيها مآرب ولبانات لفئة من الحاكمين ترتهن منافعهم ببقائها، وتتعرض مواردهم للنقص والزوال بما يطرأ على الحالة الراهنة من تبديل أو تحويل.

وقد كانت الآستانة والقاهرة قبلة طلاب الإصلاح في أرجاء العالم الإسلامي؛ لأن الأولى كانت في مستهل نهضات الإصلاح مقر الخلافة الإسلامية، والثانية عاصمة الثقافة الدينية منذ عدة قرون، ولم تخل حركة من حركات التقدم في كلتيهما من بواطن خفية غير الظواهر التي يثار من حولها الشقاق بين دعاة الإصلاح، وجماعة الحكام المشايعين للقديم، ومن هؤلاء أصاب أولئك الدعاة أشد ما أصابهم من العنت والتشهير، وبما كان لهم من الجاه والسطوة اقتدروا على تسخير الأعوان لاستثارة الدهماء على الأئمة والقادة المصلحين، وأحاطوهم بالتهم والأباطيل، وأيسرها وأسرعها تفشيا بين الجهلاء تهمة الكفر، وتهمة التواطؤ مع الأعداء على إفساد الدين ...

ففي البلاد العثمانية الخاضعة للآستانة سبق الشعب رؤساءه إلى مجاراة الحضارة، ومسايرة العرف العصري في شئون المعيشة التي لا مساس لها بالعقيدة، ولكن الدولة العثمانية تعرضت لثورة من أخطر ثوراتها حين أمر السلطان بتغيير ملابس الجنود «الإنكشارية»، وتنظيم كتائبهم على النسق العصري في الجيوش الحديثة؛ لأن قادة هذه الفرق - ومن ورائهم بعض أعضاء البيت المالك المنافسين للسلطان - آثروا بقاء القديم على قدمه، وأوجسوا من تبديل الملابس والأنظمة في الكتائب الحديثة أن يتبعه فض كتائب الإنكشارية، وتزويد السلطان بقوة من منشآته تناصره فيما أراد من تعديل نظام الوراثة ...

وفي مصر كان الخلاف على أشده بين الخديو وحواشيه، وبين أئمة الإصلاح - وعلى رأسهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية - وكان باطن الخلاف حول الرقابة على أموال الأوقاف، ووظائف التدريس بالجامع الأزهر، وبرامج التعليم فيه، وظاهره على سفاسف لا تعني الخديو وحواشيه في كثير ولا قليل، ولكنها ذريعة يستخدمونها في إثارة الغبار حول موضوع الخلاف الأصيل، واتهام المصلحين بسوء النية، وفساد الطوية، والافتيات على ولي الأمر وأعوانه المخلصين ...

وأشهر ما اشتهر من هذه المعارك الصاخبة حول السفاسف معركة الفتوى التي عرفت بفتوى الترنسفال، وخلاصتها الوجيزة أن رجلا من الترنسفال سأل مفتي الديار المصرية عن بعض عادات اللباس والطعام في أفريقيا الجنوبية، وعن جواز الصلاة خلف الإمام مع اختلاف المذاهب؟ فأفتاه الشيخ رحمه الله بجوار لبس القلنسوة، وجواز طعام أهل الكتاب؛ لأنه حلال بنص القرآن الكريم:

وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [سورة المائدة: 5]، وأن الإمام المسلم تجوز إمامته ولا وجه للاعتراض على الصلاة خلفه وإن اختلفت المذاهب؛ لأن تخصيص مسجد بأتباع كل مذهب يفرق جماعة المسلمين، ولا يستند إلى أصل من القرآن والحديث أو سير الأولين ...

ويخرج بنا من غرض هذه الرسالة أن نلم، ولو مع الإيجاز، بنبذة من الآراء الفقهية التي تداولها الكتاب نقدا وردا وتشهيرا وتبريرا بعد صدور الفتوى الترنسفالية؛ إذ ليس من غرضنا هنا أن نخوض في الجدل الفقهي وما نحا نحوه من جدل المذاهب، وما بنا من حاجة إلى ذلك؛ لأن القضية لم تكن من قضايا الفقه، ولا كان الغلاة في حملتها ممن ينكرون لبس القلنسوة، أو الأكل على الموائد الأوروبية، أو الصلاة خلف الأئمة الأحناف وفيهم الشافعيون والمالكيون، كما يتفق أيام الجمع في الصلوات الجامعة مع حاشية الأمير.

وقد بدأ الإنذار بالحملة قبل ورود الأسئلة وكتابة الأجوبة في فتوى الترنسفال، وعلى ذلك وصل الخبر إلى دار الخلافة يومئذ فيما رفعه إليها صاحب صحيفة الراوي اليومية، وهو من أعوانها وعيونها على خديو مصر في ذلك الحين، وقد أشار إلى الفتوى وغيرها من معارك السياسة الخفية في ثياب الغيرة الدينية فقال:

وكان يظن - أي الخديو - أن مجرد ظهور الفتوى كاف في إسقاط نفوذ المفتي الديني، أو التوصل إلى عزله، فظهر له خلاف ذلك ... وأن النتيجة من كل ما تقدم أن سمو الخديو يريد أن يجعل لنفسه سلطة دينية آلتها الأزهر، وماليتها الأوقاف. وقد حدث بهذا كثيرين، وقال: إن أوروبا تهاب البابا والسلطان لأجل السلطة الدينية، وهذه سهلة علينا، وإنه ما دام الشيخ محمد عبده مفتيا للديار المصرية، وعضوا في الأزهر ، وفي مجلس الأوقاف الأعلى، وفي شورى القوانين، فلن يتم له في ذلك عمل ... فالمفتي هو العقبة في طريق هذه السلطة، وحزبه كبير جدا.

3

وهذه المعارك المصطنعة هي التي أوقعت في أذهان المعقبين على أحداث العالم الإسلامي أن المسلم يتحرج من غير حرج، ويغلو في الجمود على القديم لغير سبب، ويخلط بين موروثات العرف وسنن العقيدة وآدابها المستفادة من أوامرها ووصاياها.

وكل هذا وهم ينفيه أن المسلم قد تعلم من كتابه النعي على الجامدين الذين يستعبدون عقولهم لعادات أسلافهم، ويقتدون بهم؛ لأنهم وجدوهم عليها وإن كانوا لا يعقلون، ثم جاءت سيرة المسلمين الأولين الذين تفرقوا في أنحاء الأرض على خير ما تكون السماحة، فعاشروا أبناء الأمم من الروم والفرس والترك والديلم والبربر دون أن يتحرجوا بنمط من أنماط المعيشة، ولا بأسلوب من أساليب العرف ما لم يكن فيه مساس بالعقيدة والعبادة ...

فليس من روح الإسلام أن يجمد المؤمن على عادة موروثة لأنها عادة موروثة، وليس من روحه أن يرفض عادة جديدة لأنها عادة جديدة، ولكنه يعتصم من روح الإسلام بحصانة تعيذه من سحر الغلبة، فلا تهوله بروعتها، ولا تجنح به إلى الفناء في غمارها، والاستسلام لقيادتها. وتلك مفخرة للإسلام تتمناها الأمم، ولا تزهد فيها، وما كان لأمة أن تزهد في حصانة تقيم الحواجز بينها وبين عدوها، ولا تحجزها عمن يسالمها ولو كان غريبا عنها.

وسبيل المسلم فيما آثره مع الخلق من سلوك وعادة أن يأخذ بالعفو، ويأمر بالعرف، ويعرض عن الجاهلين.

خاتمة

كتبنا هذه الفصول عسى أن يكون فيها جواب هاد لأناس من الناشئين يتساءلون: هل يتفق الفكر والدين؟ وهل يستطيع الإنسان العصري أن يقيم عقيدته الإسلامية على أساس من التفكير؟

ونرجو أن تكون هذه الفصول تعزيزا للجواب بكلمة «نعم» على كل من هذين السؤالين، نعم يتفق الفكر والدين، ونعم يدين المفكر بالإسلام وله سند من الفكر، وسند من الإيمان.

ولكننا نكتب هذه الخاتمة ونود أن نضيف بها سؤالا آخر يتمم هذين السؤالين، نود أن نسأل: هل يؤمن عقل الإنسان بالدين في هذا العصر ؟ ويرى فيه دينا أحق بالإيمان به من الإسلام؟

أما أن يؤمن الإنسان بالدين في أعماق وجدانه بمعرفة الفكر، فذلك بحث طويل لا يستقصى في سطور ولا صفحات، ولكنه - مع خلوص النية - يتضح جليا مبينا من حقيقة واحدة، وهي أن الإنسان جزء من هذا الوجود غير المحدود، لا بد له من صلة عميقة تربطه به أبعد غورا من هذه الصلات الحسية التي تحصرها العلوم المتغيرة مع العصور والسنين ...

فكيف تكون هذه الصلة؟ إن فكر الإنسان محدود ينقطع دون النهاية من هذا الوجود الذي ليست له حدود، فهل تنقطع صلته بالوجود كله عند انقطاع فكره؟ أو يعلم حدود نهايته، ويعلم علما يقينا أن الصلة وراء ذلك لن تكون إلا بالإيمان.

لا بد أن يؤمن؛ لأنه ذهب بالفكر إلى نهايته ولم يبلغ النهاية، ولا بد - بعد طريق الفكر- من طريق يهتدي إليه الفكر، ولكنه لا يستقصيه ...

وإذا آمن المفكر بهذا، فأي دين يختاره للجماعة الإنسانية أفضل من دين الإسلام؟

إن الإسلام دين موجود، فالذي يشير على المسلم بدين غيره يريد منه أن يتركه ليدين بعقيدة أرفع منه في درجات الاعتقاد، وأوفى منه بمطالب الجماعة ومطالب الآحاد، وهذا ما يعتقده المسلم، فما الذي يعتقده خيرا منه إذا نظر في الإسلام وفي سائر الأديان؟

يعتقد المسلم في الإله أنه رب العالمين، ليس كمثله شيء وهو بكل شيء محيط، لا يحابي ذرية دون ذرية، ولا يختص بالنجاة فريقا دون فريق، ولا يميز أحدا على أحد بغير العمل والتقوى ...

ويعتقد المسلم في النبي أنه رسول هداية، يعلم ما علمه الله، ولا يعلم الغيب إلا بإذن الله، يخاطب العقول ولا يقسرها على التصديق بالخوارق والأعاجيب، ولا يملك لأحد نفعا ولا ضرا إلا ما يكسبه لنفسه من خير، وما يجنيه عليها من خسار ...

ويعتقد المسلم في الأنبياء كافة أنهم رسل الله بالهداية، يصدقهم جميعا حين يصدق برسالة نبيه، ويصلي عليهم جميعا حين يصلي عليه، يبشرون وينذرون؛ فلا يهلك أحد من خلائق الله بغير نذير، ولا تفوته النجاة لأنه سبق في الزمان أو تأخر فيه بغير حيلة له في السبق أو التأخير ...

ويعتقد المسلم في الإنسان أنه مخلوق مسئول عن عمله وعن نيته، إن عمل صالحا فلنفسه، وإن أساء فعليها، يؤاخذه الله بذنبه، ولا يؤاخذه بذنب لم يقترفه، وينجيه بتوبته، ولا ينجيه بكفارة لم ينهض بثوابها ...

ويعتقد المسلم في بني الإنسان عامة أنهم أسرة واحدة من ذكر وأنثى، أكرمهم عند الله أتقاهم، وأتقاهم لله أنفعهم لعباده، يتكاثرون بالأنساب، ويتعارفون بالأعمال والأسباب، فإذا نصبت لهم موازين الحساب فلا أنساب بينهم يومئذ ولا هم يتساءلون.

ويعتقد المسلم في الدين أنه عهد بين المرء وخالقه، أينما كان فثم وجه الله، محرابه حيث أقام الصلاة بين الأرض والسماء، وضميره حرم لا يباح إلا بما يشاء.

فإذا آمن المسلم بغير هذه العقيدة فما له من عقيدة خير منها فيما يعتقده إنسان في الله، أو في أنبياء الله، أو في خلق الله، أو في مشيئة الله.

وإذا قيل له: لا تعتقد بالإسلام فقد قيل له: لا تعتقد بشيء ولا تؤمن بإله...

ويحق للمسلم على الحالين أن يعلم أن التفكير يوجب الإسلام، وأن الإسلام يوجب التفكير ...

ذلك منحى من مناحي العقل الواسعة ينحرف عنه ذو العقل الذي انتهى من بحوثه وتقديراته إلى نبذ الأديان، وإنكار المعتقدات، وهي نهاية تعاب بقسطاس الفكر نفسه؛ لأنها سوء تفكير، ولا ينحصر عيبها في سوء التقدير للضرورات التي استقام عليها بناء الجماعة الإنسانية منذ وجدت في التاريخ وقبل التاريخ ...

يعاب على هذا التفكير القاصر أنه انتهى إلى غير شيء ... انتهى إلى العدم، وليس ما وراء الفكر عدما؛ بل هو وجود مطلق أزلي أبدي محيط بجميع الموجودات، ومنها الفكر والمفكرون، لا يدركه الفكر بداهة، ولكن ليدركه الإيمان، لا ليبقى منقطعا عن العقل والوجدان والشعور ...

وإذا قلنا: إن هذا الفكر القاصر يعاب كذلك لأنه سوء تقدير لضرورات الجماعة الإنسانية، فليس هذا بالعيب الهين عند من يتأمل ويريد أن يتأمل ...

إن حاجة النفوس إلى العقيدة في الجماعة الإنسانية برهان وأي برهان ...

برهان من الواقع، لكن كبرهان الحنان الأبوي على مصلحة النوع في البقاء؛ أيقدح في حنان الآباء أنهم ينظرون إلى الأبناء بعين النوع كله، ولا ينظرون إليه نظرة الغريب المجرد من هذا الحنان؟

برهان الجماعة حق في العقل، وحق في الواقع، وعلى الإنسان الأمين لعقله ولنوعه أن يفطن لهذا الحق، ويبحث عنه بحث المسئول لا بحث السائل الطارئ على القضية من بعيد ...

وعلى الإنسان الأمين لعقله ولنوعه أن يرعى حرمة القداسة في جماعته كما يرعاها في ضميره، فمن سلامة الضمير أن تكون سلامة الجماعة مما يتوخاه، ومما يصونه ويحميه ...

وفي العالم اليوم جماعة إنسانية تعد بمئات الملايين ...

أربعمائة مليون مسلم يعيشون بعقيدة قويمة، ويعتصمون منها بحصانة قوية ...

هذا هو الإسلام

1 ...

بنية حية تذود عن عقيدتها فتذود عن كيانها أو تموت ...

صانها الإسلام في وجوه أعدائها، فلتصنه في وجوه أعدائه، وأوجب ما يوجب عليها هذه الصيانة أنها تطلق للضمير آفاقه وأعماقه، وتحمي للجماعة ديارها وقرارها، وأنها لب ووجدان وتفكير وإيمان، فإن يكن للجماعة الإسلامية دين، ولا بد من دين؛ فلا بديل لها من دين يهديها إلى الفكر، ويهديها الفكر إليه ...

نامعلوم صفحہ