روى جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين، عن أبيه الحسين: أن رجلا من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام قام إليه، يقال له: همام، وكان عابدا مجتهدا، فقال: يا أمير المؤمنين، صف لي المتقين كأني أنظر إليهم، فتثاقل عن جوابه، وقال له: يا همام، اتق الله وأحسن فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فقال همام:يا أمير المؤمنين، سألتك بالذي أكرمك بما خصك به، وفضلك بما آتاك وأعطاك لما وصفتهم لي، فقام عليه السلام على راحلته: فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: أما بعد: فإن الله خلق الخلق وكان غنيا عن طاعتهم، لا تضره معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه، وقسم بينهم معايشهم، ووضعهم من الدنيا مواضعهم، فالمتقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، خضعوا لله بالطاعة فغضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي(1) نزلت في الرخاء، رضوا عن الله بالقضاء ، فلولا الآجال التي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب، وخوفا من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم، وصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها متكئون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون، قلوبهم محزونة، وشرورهم(2) مأمونة، وحوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، (ومؤنتهم) في الإسلام عظيمة، صبروا أياما قصارا أعقبتهم راحة طويلة، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وطلبتهم فأعجزوها، اما الليل فصافون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن، يرتلونه ترتيلا، يحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا وتطلعت أنفسهم إليها شوقا، فظنوها نصب أعينهم، أما الليل فجاثون على ركبهم، يحمدون جبارا عظيما، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وأبصارهم، فاقشعرت جلودهم، ووجلت قلوبهم، وظنوا أن صهيل جهنم وزفيرها وشهيقها في أصول آذانهم، مفترشين جباههم وأكفهم وأطراف أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى الله سبحانه في فكاك رقابهم، وأما النهار، فحكماء علماء بررة أتقياء، قد براهم الخوف بري القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرض، يقول: قد خولطوا، وقد خالط القوم أمر عظيم، إذا هم ذكروا عظمة الله، وشدة سلطانه، مع ما يخالطهم من ذكر الموت وأهوال القيامة، فطاشت له حلومهم، وذهلت عنهم عقولهم، فإذا استفاقوا من ذلك، بادروا إلى الله بالأعمال الزاكية، لا يرضون لله بالقليل، ولا يستكثرون الجزيل، فهم لأنفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون، إن زكي أحدهم خاف مما يقولون، وقال: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم بنفسي مني، اللهم، لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيرا مما يظنون، واغفر لي مالا يعلمون، فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين، وحزما في لين، وأيمانا في يقين، وحرصا على علم، وفهما في فقه، وكيسا في رفق، وشفقة في يقظة، وقصدا في الغنى، وخشوعا في العبادة، وتجملا في الفاقة(1)، وصبرا في الشدة، ورحمة للمجهود، وإعطاء في رفق(2)، ورفقا في كسب، وطلبا في الحلال، ونشاطا في الهدى، وتحرجا من طمع، وبرا للعامة، واعتصاما عند الشهوة، لا يعنى بها من جهله، ولا يدع المحاسبة، يعمل الأعمال الصالحة، وهو على وجل، يمسي وهمه الشكر، ويصبح وشغله الذكر، ويبيت حذرا، ويصبح فرحا.
فلما انتهى إلى آخر كلامه عليه السلام شهق همام شهقة كانت فيها نفسه، فقال أمير المؤمنين: هكذا العظة البليغة في أهلها(3).
صفحہ 48