مكة قال فيه: ووبشت قريش أوباشا١ لها. وأتباعا، فقالوا: نقدم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سألنا. فقال رسول الله ﷺ: "ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم" ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى، ثم قال: "حتى توافوني بالصفا" قال: فانطلقا فما شاء أحد منا أن يقتل أحدا إلا قتله، وما أحد منهم يوجه إلينا شيئا، قال فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أبيحت٢ خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، ثم قال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" ٣ ... انتهى. باختصار.
وفي هذا دلالة صريحة على ما ذكرناه من عدم التزام قريش ترك قتال المسلمين يوم فتح مكة، وفي ذلك -أيضا- دلالة على أن ذلك وقع منهم يوم دخل النبي ﷺ مكة، وما كان ذلك منهما بعد تأمين النبي ﷺ وهو بمر الظهران لأنا روينا في مغازي موسى بن عقبة أن أبا سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام قالا للنبي ﷺ بعد أن أسلما بمر الظهران: يا رسول الله ادع الناس إلى الأمان، أرأيت إن اعتركت قريش وكفت أيديها آمنون هم يا رسول الله؟ قال ﷺ: "من كف يده وأغلق داره فهو آمن" قالوا: فابعثنا نؤذن فيهم بذلك، قال ﷺ "انطلقوا فمن دخل دارك يا أبا سفيان، ودارك يا حكيم، وكف يده فهو آمن" قال: ودار أبي سفيان بأعلا مكة ودار حكيم بأسفل مكة.
وروينا في سيرة ابن إسحق "تهذيب ابن هشام"، ورواته عن البكائي عنه أن العباس بن عبد المطلب ﵁ قال للنبي ﷺ بعد إسلام أبي سفيان بمر الظهران: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا، قال ﷺ "نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن" ٤ ... انتهى.
وروينا في هذين الكتابين ما يقتضي أن النبي ﷺ استثنى في تأمينه رجالا ونساء من أهل مكة أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، لجرائم لهم اقتضت ذلك.
ومن الأحاديث الدالة على عدم التزام قريش بمكة ترك قتال المسلمين يوم فتحها، وعلى عدم قبولهم تأمين النبي ﷺ بعد أن بلغهم تأمينه لهم، ما ذكره الفاكهي، لأنه قال: حدثنا محمد بن إدريس بن عمر من كتابه قال: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة، فذكر خبرا طويلا في قصة الفتح، وفيه قال: فقال أبو سفيان: واصباح قريش، فقال العباس ﵁: يا رسول الله، لو أذنت لي
_________
١ وبشت أوباشا: الأوباش: الجموع من قبائل شتى، والتوبيش: الجمع، أي جمعت لها جموعا من أقوام متفرقين في الأنساب والأماكن.
٢ في الصحيح "أبيدت" أي استؤصلت وأهلكت. وخضراؤها: سوادها ومعظمها.
٣ صحيح مسلم "الجهاد: ١٧٨٠".
٤ أخرجه أبو داود "٣٠٢١، ٣٠٢٢".
1 / 50