فقال بوجوم: إنه رد فعل لشدة الحزن؟ - إنه أفظع من ذلك، شعرت لأول مرة بتحرري من قبضة غليظة قاسية، تخيلت هول الكارثة لو أنني استيقظت في اليوم التالي فرأيته واقفا في الصالة يمارس رياضته الصباحية ويحاسبني على تأخيري في الاستيقاظ!
جعلت تتابعه باهتمام وقلق فقال وكأنما يعنيها هي بمغزى حديثه: مع الأيام جعلت أحاسبه على معاملته الصارمة لي فيحتدم الغيظ في قلبي ويشتعل الحنق، ويتولد النفور وينتشر حتى انقلب كراهية سافرة ... - لا أصدق. - فتحية، لقد بلغ بي النفور درجة حملتني على أن أبني لنفسي مدفنا خاصا حتى لا أرقد ذات يوم إلى جانبه!
هتفت: إنه ما لا يتصوره العقل ... - وفاة والدتي في عز شبابها كانت مصيبة لم أعرف أبعادها إلا فيما بعد. - قيل إنه لم يتزوج بعدها إكراما لك ... - وهذه كارثة أخرى، فقد كرس حياته لينشئني على مثال مرسوم بدقة وصرامة، وراح يصبني في قالبه كأنني طينة لا هوية لها مستعينا بعنف لا مثيل له، هكذا تلقيت الدين وشعائره كما تلقيت كل شيء، العجيب أنه لم يقرأ كتابا في حياته، حتى دينه أخذه عن إمام جاهل اكتراه ليعلمه الإسلام ثم نقله إلي نقلا ميكانيكيا فحفظته ومارسته في جو من الفزع ...
تمتمت بحيرة: أبي هو أيضا من علمني ديني ... - كان أبوك من علماء الدين أما أبي فكان جاهلا وإرهابيا! - كنت أراك وأنت تتبعه إلى صلاة الجمعة ... - وحملني أيضا على صلاة الفجر، فكان يغلبني النعاس في الفصل، وحملني على ممارسة الرياضة البدنية كالسباحة والعدو وحمل الأثقال بالعنف نفسه، أما ولعي بالقراءة فلم يخف احتقاره له، ولكن جهله بالكتب منحني فرصة فريدة للسياحة الثقافية بعيدا عن رقابته الصارمة ...
وضحك ضحكة جافة ثم واصل: لم يكن يفوق عنفه إلا تعصبه الأعمى لأفكاره، من هذه الأفكار إيمانه بالمقاومة الطبيعية واحتقاره للدواء، ولما أصابتني نزلة معوية قرر أن يتركني لمقاومتي الذاتية، طالبته المربية بإحضار طبيب فرفض، ومضيت أهزل من الإسهال يوما بعد يوم حتى صرت كالخيال وهو لا يبالي، كان يمكن أن أفقد حياتي وأشفيت على ذلك ولكنه لم يكترث، ولما نجوت بأعجوبة قال لي بفخار: «إنك ابني حقا ولن يهزمك المرض بعد اليوم، لماذا رحلت المرحومة أمك في عز شبابها؟ لأنها كانت ضعيفة فلم ينفعها طب ولا دواء.»
انساقت فتحية إلى ضحك بلا صوت، فابتسم هو أيضا ثم قال: رغم أنفي أجبرني على الالتحاق بالكلية الحربية، لم تجد توسلاتي ولا دموعي، محتجا بأنها كلية الرجال والحكام أيضا، وأنها ستنقذني من داء القراءة الوبيل، ولولا وفاته الفجائية ...
قاطعته قائلة: لقد تساءلنا وقتها عما جعلك تترك الكلية، ولكنك لم تفد شيئا من التحاقك بكلية الحقوق! - كانت أفكاري مختلفة في ذلك الوقت، المهم أنك أنت نفسك تحديت أوامره وأنت لا تدرين!
فتساءلت بدهشة: كيف؟ - رشح لي ذات يوم عروسين هما كريمتا لواء على المعاش من أقرانه تاركا لي حرية اختيار إحداهما، ومعتبرا ذلك من ناحيته تنازلا ديمقراطيا شاذا. وكنت أحبك كما تعلمين فصارحته بذلك معتمدا على صداقته القديمة بالمرحوم والدك ولكنه انفجر غاضبا.
فقطبت أول مرة متسائلة: لماذا؟ - بحجة أنه لا ثقة له في بنات الأرامل.
فقالت باستياء: كان سيئ الظن بالنساء! - وبالرجال والحيوان والنبات والجماد، شد ما انتقد أصدقائي بلا سبب وكأنما يرغب في أن ينشئني بلا صديق سواه، وفضلا عن ذلك كله كان شديد الحرص فعاش في حدود معاشه ولم يمس مليما من دخله الوفير من عماراته، ولعل ذلك ما جعله يتمسك بالبقاء في البيت القديم بابن خلدون متعللا بأنه راسم أن يعودني على الحياة البسيطة، وأعترف بأن ذلك لم يضايقني؛ إذ إنني لم أكن أطيق الحياة بعيدا عنك ...
نامعلوم صفحہ