95

شیطان یعظ

الشيطان يعظ

اصناف

5

يميل الجو إلى شيء من البرودة ليلا، فيطيب الجلوس في حجرة المعيشة الموصولة بالشرفة. وهي مأهولة بطاقم من الإسفنج المدثر بالقطيفة الزرقاء، يتوسط جوارها الأيسر دولاب من خشب الأرو يقتعد التلفزيون الملون أعلاه ويستقر الراديو أسفله. رجعا منذ قليل من زيارة الأم نظيرة هانم مفعمين بذكريات ابن خلدون فتبدت فتحية منتشية على حين كتم هو انفعالاته المتناقضة المراوحة بين الجميل والمرعب. وفي أثناء تناولهما العشاء مع نظيرة هانم أبدت المرأة جزعها من تأخر حمل كريمتها. تذاكرا ذلك باسمين وقالت فتحية: ماما دقة قديمة.

لكنه في الحقيقة متلهف على الإنجاب تلهف من يروم تحصين ذاته المزعزعة ضد المجهول والخواء، فقال: لها حق أيضا يا عزيزتي ...

فحدجته بنظرة متفحصة، فقال: يوجد الأطباء، لم لا؟

لم تعترض مما قطع بتلهفها أيضا. آنس من ذلك آية على حبها له وزوال الماضي تماما. كما وجد فيها آية على أنوثتها التي يتمنى أن تغمر «الإمام المتصلب» الكامن في أعماقها. لعلها كانت قلقة طوال الوقت ولكنها أحسنت إخفاء قلقها. هي أيضا لها أسرارها الباطنة كما أن له أسراره المرعبة. تمثلت له الظلماء وحركات الشبح اليائس والصرخة المكتومة فارتعد للذكرى.

وسألته وهي تلقي نظرة على الصور العائلية المعلقة: على فكرة أين صورة والدك؟

توجد صورة أمه الشابة، صورة نظيرة هانم، صورة الشيخ سليمان، ولكن أين صورة داود الناطورجي؟ عادت تسأل: سهو أم أنه لا توجد صور له؟

رحب بحديث لن يضطر فيه إلى الكذب فضلا عن فوائده الأخرى التي فطن إليها من اللحظة الأولى، لذلك أجاب: الحق أني لا أحب ذكراه!

فحدجته باهتمام ودهشة قائلة: إنه أبوك! - ولو. - يا للغرابة! - لا غرابة في الدنيا. - إني أتذكره جيدا، كان أشهر شخصية في حي السكاكيني، ظل محترما حتى بعد إحالته إلى المعاش بعد الثورة ، اللواء داود الناطورجي، بيت اللواء، سيارة اللواء، أنت ورثت عنه طوله وروعته، وكنت وحيده، ما زلت أتذكر منظرك وراء نعشه وأنت تجهش في البكاء ...

فقال ببرود: كنت أحبه، حتى موته لم أجد نحوه إلا حبا خالصا. - وماذا حدث بعد ذلك؟ - لقد ماتت أمي وأنا دون العاشرة فلم أعرف بعد ذلك أما أو أبا سواه، وانقض علي موته كالصاعقة، ولما انفض المأتم وآويت إلى الدار الخالية وجدتني لأول مرة وحيدا، لا أم ولا أب، فلم أصدق أنه ذهب حقا إلا في تلك اللحظة، وعند ذاك اجتاحني شعور غريب بالراحة والأمان والحرية، شعور يتناقض تماما مع حزني، ذهلت لذلك ولكني استشعرت بتمهل السرور الخفي المثلج للصدر.

نامعلوم صفحہ