أصلا. ونحن نذكر ما في نفس الأمر سواء جحدته أنت أو اعترفت به، وسواء ذكرته أو أعرضت عنه؛ فإعراض الإنسان عن رؤية الشمس والقمر والكواكب والسماء لا يدفع وجودها، ولا يدفع ثبوت أحد النقيضين، بل بالضرورة [الشمس] إما موجودة، وإما معدومة، فإعراض قلبك ولسانك عن ذكر الله كيف يدفع وجوده ويوجب رفع النقيضين؟ ! فلا بد أن يكون إما موجودًا وإما معدومًا في نفس الأمر. وكذلك من قال: أنا لا أقول: موجود؛ بل أقول: ليس بمعدوم؛ فإنه يقال: سلب أحد النقيضين إثبات للآخر، فأنت غيرت العبارة؛ إذ قول القائل: ليس بمعدوم، يستلزم أن يكون موجودًا، فأما إذا لم يكن معدومًا، إما أن يكون موجودًا، وإما ألا يكون لا موجودًا ولا معدومًا.
وهذا [القسم الثالث] يوجب رفع النقيضين، وهو مما يعلم فساده بالضرورة، فوجب أنه إذا لم يكن معدومًا أن يكون موجودًا.
وإن قال: بل التزم أنه معدوم. قيل له: فمن المعلوم بالمشاهدة والعقل وجود موجودات، ومن المعلوم - أيضًا - أن منها ما هو حادث بعد أن لم يكن، كما نعلم نحن أنا حادثون بعد عدمنا، وأن السحاب حادث، والمطر والنبات حادث، والدواب حادثة، وأمثال ذلك من الآيات التي نبه الله - تعالى - عليها بقوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٤٦] .
وهذه الحوادث المشهودة يمتنع أن تكون واجبة الوجود بذاتها؛ فإن ما وجب وجوده بنفسه امتنع عدمه ووجب قدمه، وهذه كانت معدومة ثم وجدت، فدل وجودها بعد عدمها على أنها يمكن وجودها ويمكن عدمها، فإن كليهما قد تحقق فيها، فعلم بالضرورة اشتمال الوجود على موجود محدث ممكن. فنقول حينئذ: الموجود والمحدث
1 / 27