الممكن لابد له من موجد قديم واجب بنفسه، فإنه يمتنع وجود المحدث بنفسه، كما يمتنع أن يخلق الإنسان نفسه، وهذا من أظهر المعارف الضرورية؛ فإن الإنسان بعد قوته ووجوده لا يقدر أن يزيد في ذاته عضوًا، ولا قدرًا، فلا يقصر الطويل ولا يطول القصير، ولايجعل رأسه أكبر مما هو ولا أصغر، وكذلك أبواه لا يقدران على شيء من ذلك.
ومن المعلوم بالضرورة أن الحادث بعد عدمه لابد له من محدث، وهذه قضية ضرورية معلومة بالفطرة، حتى للصبيان؛ فإن الصبي لو ضربه ضارب وهو غافل لا يبصره لقال: من ضربني؟ فلو قيل له: لم يضربك أحد، لم يقبل عقله أن تكون الضربة حدثت من غير محدث، بل يعلم أنه لابد للحادث من محدث. فإذا قيل: فلان ضربك، بكي حتى يضرب ضاربه، فكان في فطرته الإقرار بالصانع وبالشرع الذي مبناه على العدل ولهذا قال تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور: ٣٥] .
وفي الصحيحين: عن جبير بن مطعم؛ أنه لما قدم في فداء أسارى بدر قال: وجدت النبي ﷺ يقرأ في المغرب بالطور. قال: فلما سمعت هذه الآية: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ أحسست بفؤادي قد انصدع.
وذلك أن هذا تقسيم حاصر ذكره الله بصيغة استفهام الإنكار، ليبين أن هذه المقدمات معلومة بالضرورة لا يمكن جحدها، يقول: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾ أي: من غير خالق خلقهم، أم هم خلقوا أنفسهم؟ ! وهم يعلمون أن كلا النقيضين باطل، فتعين أن لهم خالقًا خلقهم ﷾.
وهنا طرق كثيرة مثل أن يقال: الوجود إما قديم وإما محدث، والمحدث لابد له من قديم، والموجود إما واجب وإما ممكن، والممكن لابد له من واجب ونحو ذلك. وعلى كل تقدير، فقد لزم أن الوجود فيه موجود قديم واجب بنفسه، وموجود ممكن محدث كائن بعد أن لم يكن. وهذان قد اشتركا في مسمى الوجود، وهو لا يعقل موجود في الشاهد إلا جسمًا، فلزمه ما ألزمه لغيره من التشبيه والتجسيم الذي ادعاه.
فعلم أن من نفي شيئًا من صفات الله بمثل هذه الطريقة، فإن نفيه باطل، ولو لم يرد الشرع بإثبات ذلك، ولا دل - أيضًا - عليه العقل. فكيف ينفي بمثل ذلك ما دل الشرع والعقل
1 / 28