فبقيت الأختان هنيهة تسرحان النظر في هذه المناظر، وكلتاهما صامتة لا تبديان حراكا، كأن الاجتماع أضحى لهما عبئا ثقيلا بعد أن كانتا لا تذوقان بغيره لذة، وإذا بمنار رأس بيروت سطع بغتة فرمى بأشعته الذهبية على دار الأختين وأنار وجهيهما، فالتفتت «وردة» إلى شقيقتها فرأت عينيها مغرورقتين بالدموع، فما كان منها إلا أن صرخت: «ما هذا يا «سوسنة»؟ ترى ماذا أصابك؟ إنك لكاسفة البال، يؤلم قلبك البلبال، فما لك تخفين عني سبب حزنك؟ أفتكون سعادتي المأمولة علة لشقائك؟»
فأطرقت «سوسنة» واجمة ثم ألقت بنفسها على صدر أختها وهي تبكي ثم قالت: «يا أختاه، إني سأفقدك عما قليل، وإذا ما تأهلت لا يعود حبك لي كمن ذي قبل، وسوف تبرحين الدار وتصيرين إلى ما شاء الله ... «أوردة» شقيقتي لو أمكنك أن تشعري بما يحسه قلبي من الألم! فإنه حقيقة يتلظى على جمر القتاد، ولا أدري إذا لم يتفطر بعد فراقك.»
قالت هذا وأذرفت الدموع السخينة وعلا صوت بكائها، بينما كانت تحاول أن تخفي عن أختها ما في قلبها من الغيرة والحسد.
أما «وردة» فما لبثت أن تبينت حقيقة الأمر فكان لاكتشافه في قلبها صدى مؤلم رنق عيشها وذهب ببهجته، فلم يعد يمكنها أن توجه نظرها إلى أختها دون أن تلوم ذاتها على سعادتها.
فمر على ذلك بضعة أيام، وكان كلما قرب النهار المعين لحفلة العرس تزيد في قلب «سوسنة» مضض الأوجاع، لم تجد لسترها عن العيون طريقة، فتارة تظهر ما اكتنه الفؤاد بحدة طبعها، وتارة باختلائها عن أهلها، وحينا بتغلب السوداء على خلقها وخلقها حتى شحب لونها وخاف أبواها أن تضنى منها القوى وينالها داء عياء.
لكن الفتاة أحست بعد حين أن العيون شاخصة إليها تستشف ما في جنانها، فتجلدت وتجملت حتى حجبت عن الكل مكنونات ضميرها، فعاد التبسم إلى وجهها وأبدت لمن قاربها أنسا ولطفا كما اعتادت الأمر في السابق، ثم أخذت تجد وتسعى بنشاط جديد لتهيئة لوازم العيد القريب مع ما ترى في قدومه من زوال سعادتها، ومجمل القول: أنه لم يعد أحد في البيت يقف على ما يتنازع قلبها من الخواطر والهواجس، بيد أن «وردة» لم تك لتنخدع بهذه الظواهر فلبثت مرتابة في أمر أختها.
ولما حان اليوم المعهود وواقع كلا الخطيبين على الشروط المألوفة في مثل هذه الظروف، احتفل المسيو «ب» بعقد الخطبة بما أمكنه من الأبهة والاحتفال، فنجز الأمر إذا وقر ل «وردة» أن تكنى باسم بارونة «دي لينس» باقترانها مع خطيبها الشريف.
5
فبانت الأختان في هذا العيد مرتبطتين بروابط المودة والولاء ما أمكنهما، فقضتا مع آل البيت قسما كبيرا من النهار لاستقبال جماهير الحاضرين لتأدية فروض التهاني إلى العائلة، وكانت بطاقات الزيارة والمكاتيب والتلغرافات ترد من كل الأنحاء داعية للقرينين باليمن والرفاء.
ولما كان البارون من أرباب السياسة تواردت عليه هذه الأنباء من كل عواصم أوربة - كفينة وأثينة وغيرهما - تتمنى له الخير والسعادة، وكان الجميع يتيمنون لهذا القران حسن العقبى؛ لما يروه في العرسين من الخواص والسجايا التي لم تكد تجتمع في غيرهما كالغنى والجمال والآداب والدين، وكان الزوار يطنبون في محاسن «وردة»، لا يرون بينها وبين الورد خلافا سوى أنها لا شوك فيها.
نامعلوم صفحہ