وكان خريف تلك السنة غزير الأمطار، فترطب من جرائها هواء السواحل، أما الجبل فكانت أوراق أشجاره أخذت بالانتشار وصار برده نافحا، فأسرع أعيان بيروت وبارحوا ربوعهم الصيفية منحدرين إلى السهول يتنسمون هواءها المعتدل ويباشرون أشغالهم المألوفة، فعادت المدينة إلى ما كانت عليه من الحركة قبل فصل الصيف.
وكانت عائلة القنصل «ب» رجعت إلى بيروت فيمن رجع فحلت في دار القنصلية عند رأس المدينة، وهو منزل رحب كثير الثروة تحدق به حديقة غناء ذات زهور وأشجار باسقة.
وكان هذا البيت عادة ذا هدو يرتاح فيه أصحابه إلى السكينة، بيد أنك منذ بضعة أيام كنت ترى فيه حركة غير مألوفة، وما ذاك إلا لإعداد رتبة الزيجة المنوية.
ولا غرو أن الأختين كانتا أول من نشط للعمل وعني بتجهيز لوازم هذه الحفلة، إلا أن «وردة» كانت أقل اهتماما في الأمر من أختها، فلا تزال على طبعها فكهة دعبة لا يكدر صفاء قلبها قلق، كأن الأمر لا يهمها بل يعني غيرها، بينما كانت «سوسنة» تزيد رصانة وتصونا.
هذا ولا يخالجن فكر أحد أن خفة الطباع كانت غالبة على «وردة» تسير إلى الزواج وهي لا تدري بما ستتكلف فيه من العناء، وبالحري إنما كانت أعلم ممن سواها أن تحت الزهر شوكا لا يقوى على ألمه إلا من كان شديد النفس ذا حزم وجد، وعليه فكانت الفتاة كثيرا ما تختلي وحدها في غرفتها؛ لتعد ذاتها لهذا الاقتران، طالبة من الله أن يزين قلبها ما يقتضيه سر الزواج من الصفات والفضائل، ويجعل هذا المشروع ميمون الطالع سعيدا موافقا لإرادته عز وجل.
وكانت أم «وردة» قد استدلت في مدة الشهرين الأخيرين بمجرد النظر إلى ابنتها على ما يخامر قلبها من الأفكار الخطيرة، فانتهزت هذه الفرصة؛ لتمهد لها تلك الطريق الوعرة وترشدها في سواء السبيل.
أما «سوسنة» فكان حدث في نفسها في المدة الأخيرة تغيير يذكر، وذلك أنها كانت في بادئ الأمر تلقت خبر خطبة أختها بفرح عظيم، ولكن لم تمر عليها أيام قلائل حتى غشي قلبها بعض الحزن لم يمكنها أن تستره عن أعين أختها، فلحظت منها ذلك «وردة» وجعلت تسعى في إزالة كربها ببشاشة وجهها وفكاهة طبعها، فلم يجدها فعلها نفعا، ومذ ذاك الحين لم يعد هذان القلبان على ما ألفاه من الوداد والمخالصة.
4
إذا ما أقبل الخريف وضرب في الأرض أطنابه أصاب المرء بقدومه تنعما وراحة لم يعهد بهما في غير هذا الفصل، ولا شك أن في ترطب الهواء بعد لهب الصيف، وفي هبوب النسيم ومنظر الأشجار يعلو أوراقها لون الكمدة والاصفرار متعة وبهجة يحدوان به إلى التفكر والاعتبار، وذلك في ساعات المساء أكثر منه في غيرها من الأوقات لما يكور الله الليل على النهار، فيمد على الطبيعة رداء تلوح من خلاله كسيدة مهيبة جليلة، فتتسع الآفاق بأعين البشر وترتفع أنفسهم إلى الأعالي، فلله تلك الساعات اللذيذة! يقضيها المرء في الفكر وهذيذ القلب ويتقرب إلى خالقه شاكرا له على ما أولاه من النعم السابغة، بيد أن هذه الآونة وشيكة الزوال تمر بسرعة البرق.
فلما كان منتصف تشرين الثاني في مساء نهار صفي الأديم بهي الأنوار عند امتداد الظلام على الأرض وطلوع زواهر النجوم في السماء كانت «وردة» جالسة بقرب أختها «سوسنة» في رواق الدار بإزاء الجنينة وفيها الأزهار تعطر بعرفها الأرجاء، والأشجار موسوقة بأثمارها الشهية، لا يسمع سوى صوت خرير الماء يتحدر من فوارة على شكل غلالة في حوض من رخام بني وسط الدار، وعن بعد صوت موج البحر المتكسر فوق صخور الساحل.
نامعلوم صفحہ