لن يبلغَ المجدَ أقوامٌ، وإن كرمُوا ... حتى يذلوا، وإن عزُّوا لأقوامِ
ويشتموا فترى الألوانَ مسفرةً ... لا صفح ذلٍ ولكنْ صفحَ أحلامِ
حكي عن مصعب بن الزبير أنه لما ولي العراق، نادى مناديه أين عمرو بن جرموز، وهو الذي قتل أباه، فقيل له: أيها الأمير إنه قد باعد في الأرض فقال: أفظن الجاهل أنني أقيده بأبي عبد الله؟ فليظهر آمنًا وليأخذ عطاءه مسلمًا، فعد الناس ذلك من مستحسن الكبر، لبعض الشعراء: [الكامل]
أو كما طنَّ الذباب طردتهُ ... إنَّ الذباب إذن عليَّ كريمُ
ولآخر في معناه: [المتقارب]
فكن كيفَ شئتَ وقل ما تشاءُ ... وارعدْ يمينًا وابرقْ شمالًا
نجَّا لؤمكَ منجا الذباب ... حمته مقاديرهُ أنْ يُنالاَ
آخر في المعنى: [الكامل]
فاذهب فأنتَ طليقُ عرضكَ إنهُ ... عرضٌ غررتَ بهِ وأنتَ ذليلُ
وقال بعض الحكماء: احتمال السفيه أيسر من التحلي بصورته، والإغضاء عن الجاهل خير من مشاكلته، وقال لقيط بن زرارة: [الطويل]
وقلْ لبني سعدٍ فما لي وما لكمُ ... ترقونَ مني ما استطعتم وأعتقُ
أعدكُم أني بأحسن شيمةٍ ... تصيرُ وأني بالفواحش أحدقُ
وإنكَ قدْ ساببتني فقهرتني=هنيئًا مريئًا أنتَ بالفحش أحدقُ فيل للإسكندر: إن فلانًا وفلانًا ينتقصانك، ويسبانك، فلو عاقبتهما فقال: هما بعد العقوبة أعذر في تنقيصي وسبي، فكان ذلك سبب تآلفهما، قال علي ﵇ لعامر بن مرة الزهري: من أحمق الناس؟ قال: منْ ظن أنه أعقلهم، قال: صدقت، فمن أعقلهم؟ قال: منْ لم يتجاوز الصمت في عقوبة.
وقد قال بعض الحكماء: منْ لم يغضب عندما يغضب الجاهل كان ذلك من ذل نفسه وقلة حميته، وإنما المحمود من لا ينفد غضبه، ولا يسترسل معه لأن حد الحلم ضبط [٦٧] النفس عن هيجان الغضب، ولهذا قالت الحكماء: ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن لا يُعرف الجواد إلا في العسرة، ولا الشجاع إلا في الحرب، ولا الحليم إلا في الغضب، لشاعر في المعنى: [البسيط]
منْ يدعي الحلمَ أغضبْهُ لتعرفهُ ... لايعرفُ الحلمُ إلا ساعةَ الغضبِ
وقدْ أنشد النابغة الجعدي بين يدي رسول الله ﷺ: [الطويل]
فلا خيرَ في حلمٍ إذا لم تكنْ لهُ ... بوادرُ تحمي صفوةُ أن يكدَّرَا
ولا خيرَ في جهلٍ إذا لم يكنْ له ... حليمٌ إذا ما أوردَ الأمرَ أصدرَا
ولم يذكر قوله، بل صوته، ومن فقد الغضب من نفسه، فقد فَقَد من فضائلها الشجاعة، والحمية، والغيرة، والألفة، والدفاع، والأخذ بالثأر، والانتصار، وقد قال المنصور: إذا كان الحلم مفسدة كان العفو معجزة، يقال من رد غضبه، فقد هدَّ من أغضه فسبب الغضب هجوم ما تكرهه النفس ممن دونها، وسبب الحزن ما تكرهه ممن فوقها.
فالغضب يتحرك من داخل الجسد إلى خارجه لح والحزن بخلاف ذلك، ولهذا يُقتل الحزن، ولا يقتل الغضب لكمون الحزن وبروز الغضب، وصار الحادث عن الغضب السطوة، والانتقام لبروزه، والحادث عن الحزن السقم، والمرض لكمونه. لابن دريد: [الطويل]
إذا أمِنَ الجهالُ أمركَ مرةً ... فعرضُكَ للجهالِ غنْمٌ منَ الغُنْمِ
فعم عليه الحلمَ والجهلَ، والقهِ ... بمنزلةِ بينَ العداوةِ والسلمِ
إذا أنتَ جازيتَ السفيه، كما جزى ... فأنتَ سفيهٌ مثلهُ غيرُ ذي حلمِ
ولا تغصبَنْ عرضَ الشفيه ودارهُ ... بحلمِ فإن أعيا عليكَ فالصرْمِ
فيرجوكَ تاراتِ ويخشاكَ تارةً ... وتأخذُ فيما بينَ ذلك بالحزمِ
فإن لمْ تجدْ عليه فاستعِنْ ... عليه بجهَّالِ فذاك منَ العزْمِ
في التوراة مكتوب: "يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، فلا أمحقك فيمن أمحق" وقيل: من ذكر قدرة الله عليه لم يستعمل قدرته في ظلم العباد، قال عبد الله بن مسلم بن محارب للرشيد: يا أمير المؤمنين أسألك بالذي أنت بين يديه أذل مني بين يديك، وهو على عقابك أقدرك منك على عقابي، لما عفوتَ عني فتركه وعفى عنه، بعض الأدباء قال: إياك وعزة [٦٨] الغضب، فإلها تق! ى بك إلى ذل العذر، أجمع رجل لعمر بن عبد العزيز كلامًا.
1 / 34