وأما المعنى الثاني: فما أمر الله العباد بعلمه، وحرم عليهم ما هم فيه من جهله؛ من الحلال والحرام، والصلاة والزكاة والصيام، والحج إلى بيته والوقوف بمشاعره العظام، وكل ما جاء به محمد عليه السلام، مما تعبد الله به العباد، وألزمهم فيه الاجتهاد، وهذا فلا يعلم ولا يسمع، إلا بمخبر عن الله مستمع، متكلم بالحق مناد، ولمن خالفه في ذلك معاد(1)، وكذلك وبذلك بعث الله الأنبياء إلى عباده، ليؤدوا إليهم فرائضه وأمره، وينادوهم بذلك فيسمعوا، ويعلموهم إياه فينتصحوا [فينجوا](2)، ولو لم يكلموهم به، ويسمعوهم إياه؛ لم يقفوا على علم ذلك أبدا، ولم يعرفوا حدوده أصلا ، فلم يكن في الفرائض لهم بد من مبلغين، ومرسلين مبشرين ومنذرين، ففعل الله بهم كذلك، وبعث إليهم الرسل بذلك؛ رحمة منه سبحانه لهم، وعائدة منه بفضله عليهم.
وأما المعنى الثالث: فهو ما أدرك وعلم بالتجربة؛ مما لم يكن ليدرك أبدا إلا بها، ولا يصح لطالب إلا منها. من ذلك ما أدركه المتطببون(3) من علم مايضر وما ينفع، وما يهيج وما يقمع، وما يقتل من السموم، وما يردع السم عن السموم، وما يفسد العصب وما يجتلب بأكله العطب، وغير ذلك مما يطول ذكره، ويعظم لو شرحناه أمره، مما لا يدرك أبدا، إلا بالتجربة أولا.
فمن هذه الثلاثة المعاني تصح المعارف كلها للعارفين، ويثبت الفهم للمتفهمين.
وقد يجهل ذلك كله من شاء أن يجهله، كما يعرفه من شاء أن يعرفه، بأهون الأمر، وألطف الخبر.
فأما التجربة فيجهلها من لم يجرب الأشياء.
صفحہ 304