قلت: «أرى الأمور صائرة إلى شؤم.» - «إني بريء مما يفعل الناس، فهذان الزوجان يريدان أن يقيسا العواطف وشئون الحياة الجديدة بمقاييس التقاليد القديمة، أو لم تسمع السيد ج. يردد كلمات العشق والغرام والهيام؛ لأنه لا يفقه شيئا من معاني الحب النفسي، الذي يربط قلبين على طول الحياة من أجل ما هو أسمى من جميع ما يتصوره هو والذين في دائرته، إنه ينظر إلى الحب من وراء شهوات الجسد، لا من وراء عواطف النفس، ويفهمه بعقله الغريزي، لا بعقله الوجداني، انظر إليه وإلى زوجه كيف يحكمان علي؛ لأني بعيد عن والدي أو لأنهما بعيدان عني، إنهما يريان في شذوذا عن عادة الشبان المتربين على التقاليد العتيقة، الذين يعيشون في أحضان والديهم، يرتكبون ضروب الخلاعة والموبقات في الخارج، ثم يعودون إلى حمى عائلاتهم يتحصنون وراءه، فلو عاش هذان الشخصان الشريفان في سيرهما على التقاليد الرثة البالية في عصر الموسيقي الخالد شوبرت، فبماذا كانا يحكمان عليه يا ترى؟!» - «وما هي حكاية هذا الموسيقي الذي تخفق لأنغامه العذبة ملايين القلوب؟»
فاستجمع صديقي فكره وقال: «كان شوبرت ابن رئيس مدرسة، فخرجه أبوه في العلوم الابتدائية والثانوية، ثم أرسله إلى الجامعة للتخصص في أحد فروع العلم، ولكن شوبرت الصغير كان يميل إلى الموسيقى ميلا شديدا، وكانت نفسه مملوءة عواطف قوية، فلم يجد لنفسه مهربا من هذا الفن، فتابع في الجامعة دروسه العلمية إكراما لأبيه، وعكف في نفس الوقت على دروسه الموسيقية، ثم عاد إلى أبيه الذي عينه أستاذا في مدرسته، ولم يشأ أن يكترث لميول ابنه الموسيقية، فنشأ عن ذلك أن الدروس التي كان يلقيها الأستاذ شوبرت الصغير كانت تتحول من دروس في العلم إلى دروس في الفن، وصار يلقن تلاميذه مبادئ الموسيقى بدلا من مبادئ العلوم، فاغتاظ أبوه من تصرفه هذا، وطرده من مدرسته وبيته، وخرج شوبرت الصغير إلى ساحة الحياة وحيدا، ليس له من معين إلا فنه، وكان لذلك العهد خامل الذكر، مجهولا بين أهل الفنون، وكان مضطرا إلى تحصيل قوته اليومي، فأخذ في بادئ أمره يشتغل ضاربا على البيانو في بعض الحانات، ومرت به أيام مرة وصعوبات شاقة، وذاق من العذاب ألوانا، ولكنه انتصر أخيرا بمنظوماته الموسيقية التي تحول القلوب الحجرية إلى قلوب من لحم ودم، وأصبح شوبرت الطريد شوبرت المحبوب الخالد، إن في حكاية شوبرت لعظة لقوم يعقلون، ولكن الناس الخاملين تعودوا أن يقيسوا غيرهم بمقياس خمولهم، والنتيجة تكون دائما وأبدا غير ما يتوقعون.»
لما بلغ سليم هذا الحد من الكلام كنا قد بلغنا ساحة المدينة الكبرى وهي محاطة «بالكبريهات»، التي يرقص في كل منها عدد من الراقصات اللواتي اتخذن الخلاعة، لا الرقص فنا، فقال لي سليم: «تعال معي.» فتبعته ودخلنا أحد هذه الكبريهات، فإذا المكان مكتظ بالشبان المجتمعين حول موائد صفت عليها الأقداح والكئوس، وجوه مفعم بالدخان المتصاعد من لفافات التبغ العديدة وهواؤه فاسد سام، فقادني سليم إلى زاوية فيها مائدة غير مشغولة، فجلسنا إليها، وجعلنا نراقب ما يجري، وإذا بشاب قد وقف بين جماعة من رفقائه كانوا جالسين بالقرب منا، وهو يحمل بيده كأسا ملآنة خمرا وصاح برفقائه: «يا رفقاء، اشربوا ولا تحسبوا! فأنتم اليوم مدعوي لأن الحسناء «غاري» ستكون لي الليلة!»
وتأملت الشاب فوجدته مضرج الخدين وعيناه محمرتان من تأثير الخمر والدخان ولباسه يدل على أنه من الذين أحوالهم المادية حسنة وكذلك كان رفقاؤه، ثم رأيته يأخذ ذراع فتاة كانت جالسة إلى جانبه، ويقودها إلى ساحة الرقص التي في وسط المكان ووجهه يطفح حبورا، فلما عاد من الرقص ملأ كأس الفتاة وكأسه، وجلس يشرب ويسقيها، فقلت لسليم: «بئس الشباب شبابا هذا.» فأجابني: «لا يا صديقي، لا تجدف؛ فإن هؤلاء جميعا من القوم المعروفين في المدينة، سل من تشاء يجبك أنهم من أخيار الناس، فلو كنت رفيقا لهؤلاء في مثل هذه الليالي وعشيرا لهم؛ لكانوا هم وعائلاتهم يشهدون لي لنيل رضا السيد ج. وزوجه! هلم نذهب، فلست أطيق ضوضاء الجاز.»
فرافقت سليما إلى منزله حيث ودعته وعدت إلى غرفتي، فكتبت مذكراتي اليومية، وجلست أفكر فيما صار إليه صديقي من الضنى والنحول وما يكابده من الألم النفسي، ثم اضطجعت في سريري، ونمت بعد هواجس جمة، وكنت في اليوم التالي مدعوا لحضور حفلة في بعض الأندية الاجتماعية، فزرت سليما أولا، فألفيته أسوأ حالا مما كان بالأمس، ولكنه كان هذه المرة جالسا إلى البيانو مكبا على عمله الموسيقي، فحادثته قليلا وخليته وذهبت لحضور الاجتماع.
وكان النادي حافلا بالعائلات، وأكثر المجتمعين من الشبان والفتيات، وكانت هؤلاء مقرطات مسورات يرفلن بحللهن المتنوعة الأزياء، ولكن كان في وجوههن وعيونهن جمود غير طبيعي، جمود صيرهن شبيهات بالتماثيل الرخامية الباردة، الخالية من دلائل الحياة، وأكثرهن من اللائي ارتوت مفاصلهن، وامتلأت أذرعهن وسوقهن، واسترخت جسومهن وترهلت حتى انعدمت فيهن دلائل النشاط ورشاقة الحركة ولطافة الجلسة، أما الشبان «أبناء العائلات» فأكثرهم ممن نال حظا وافرا من السمن والبدانة وبطء الحركة وبلادة الفهم، وكانوا مقسمين إلى جماعات، يتهامس أفرادها كثيرا، وهم يحدجون الفتيات الفاترات العيون بأنظارهم المتقدة، وما لبثت أن تبينت بينهم ذلك الشاب الذي كان بالأمس يشرب نخب الراقصة الحسناء «غاري» في كبريه ... وهو في ثياب المساء، وألحاظه متجهة نحو إحدى الفتيات اللواتي عليهن مسحة من الجمال، وكانت هذه جالسة في حلقة من أترابها تشعر بنظراته وتتكلف التيه والدلال.
وما كدت أفرغ من تبين وجوه الجماعة والاطلاع على أحوالهم، حتى رأيت السيد ج. وزوجه داخلين، ورأيت أحد الشبان يسرع إلى ملاقاتهما، وكان هذا الشاب في العقد الثالث من العمر، بدينا، بطينا، متداخل الخلق، لا تقل قامته عن قامة السيد ج. طولا، ووقعت عين السيد ج. علي، فلم يبق لي من محيد عن السلام، فأقبلت عليه وصافحته وامرأته، وعرفاني بالشاب الذي لاقاهما وهو يدعى السيد ميخائيل، ثم جلسنا معا، فأخذ الشاب في محادثتي فقال: «لقد سبق لي أن سمعت باسمكم، وإذا لم تخني الذاكرة كنتم قادمين من أميركا.» - «نعم.» - «ماذا كنتم تعملون في أميركا؟» ثم أردف: «ليس من شأني أن أوجه إليكم مثل هذا السؤال، ولكن اسمحوا لي بذلك؛ فإني أسألكم كما أسأل صديقا لي.»
فقلت في نفسي: «إن الرجل يوليني نعمة زائدة.» وكدت أجيبه بما تستحقه الوقاحة الظاهرة في سؤاله، ولكني كظمت غيظي مراعاة للموقف وأجبته: «كنت أبحث عن الألماس!» - «وهل وجدتم كثيرا منه؟» - «كثيرا!» - «وماذا فعلتم به؟» - «أخزنه لحين الحاجة.» - «ولماذا لا تبيعونه؟» - «لأني انتظر ارتفاع ثمنه.» - «أتعجب كثيرا من أمركم! فلماذا عدتم إلى هذه الديار؟» - «إن في ذلك لسرا!» - «لا بد أن يكون الأمر كذلك؛ إذ لا أجد مسوغا لرجوعكم، وماذا تتعاطون هنا؟» - «أثقب اللؤلؤ وأجمع الفراش؟»
على أثر هذا الجواب رأيت وجه الرجل يحمر ثم يمتقع، وأخذ يجيل عينيه محملقا كالحائر، وظهر أنه ابتدأ يدرك عبثي به، والظاهر أن السيدة ج. أدركت هي أيضا معنى أجوبتي، فتدخلت في الحديث وخاطبتني: «ولكن الحقيقة يا سيد أ. أن المرء ليحار في أمر وجودكم هنا، فلقد سئلت وسألت أنا بدوري عن سبب ذلك، ولكن الحقيقة ظلت مجهولة، فهلا صدقتني وأطلعتني على ما حدا بك إلى ترك تلك الأمصار الغنية الواسعة، والتخلي عن كل ما فيها من أسباب الراحة والسرور والعودة إلى هذه البلاد المسكينة؟»
فوجدت في هذا السؤال سذاجة وبلادة يقف المرء أمامها حائرا مبهوتا، ولكني تذكرت أن المرأة التي تكلمني هي إحدى بنات قومي، فكان ذلك كافيا لحملي على احترامها، فتغلبت على سأمي من هذا الحديث الذي يمس كرامة الإنسان في حريته الشخصية وحياته النفسية ومبادئه الفكرية، وأجبت السيدة بصراحة: «إن هذه البلاد المسكينة هي بلادي، وإن لي فيها مطلبا أعلى قد عدت لتحقيقه.»
نامعلوم صفحہ