فصاحت السيدة ج. وزوجها والشاب ميخائيل بصوت واحد: «آه! مطلبا أعلى؟!» وبعد أن تبادلوا فيما بينهم نظرات تدل على الاستغراب، قالت السيدة بلهجة فاترة: «أمن أجل مطلب أعلى عدتم؟!» - «نعم يا سيدتي من أجل مطلب أعلى.»
وعاد الثلاثة إلى تبادل نظرات تنم عن الاستخفاف، فندمت على صراحتي، وعقدت النية على أن أعود أدراجي في الحال، وزاد في مللي ذلك الجمود القسري الذي ألقى على الاجتماع ظلا من البلادة ثقيلا، فاستسنحت الفرصة، وتركت القوم في لهوهم الممل، ورجعت من حيث أتيت، فلما أمسيت في غرفتي، واستلقيت على سريري، عادت الخواطر تزدحم في مخيلتي، وفكرت مليا في أحاديثي مع صديقي سليم وفي الآمال التي عقدناها معا على نشوء روح جديدة في الأمة تجدد حياتها، وتقوي حيويتها، وتنصرها على عوامل الخمول والجمود، وفيما أنا كذلك إذا بي أسمع ذلك الصوت النسائي الفاتر مقتربا متكررا: «أمن أجل مطلب أعلى عدتم؟!»
فصممت أذني لكيلا أسمع، ولكن الكلمات ارتسمت أحرفا بارزة أمام عيني، فأطبقتهما، وبعد عراك داخلي عنيف استولى علي الوسن، ولم أعد أعي شيئا.
وعندما استيقظت في صباح اليوم التالي شعرت بصداع شديد لما ساورني من الأحلام المقلقة أثناء هجوعي، ولكني ذكرت سليما فجزعت عليه، ورغبت في أن أعرف حاله، فنهضت وتحممت بالماء البارد، على جاري عادتي، وروقت ضيقة النفس بكوبة شاي، وأسرعت بالذهاب إلى منزل صديقي، وكانت الساعة نحو الثامنة، فوجدته جالسا إلى طاولته الصغيرة، وأمامه وريقات يكتب عليها، ولاحظت أنه في هذه المرة أكثر سكونا وأشد نحولا من ذي قبل، فحييته واقتربت منه، ووضعت يدي على كتفه، فلم تقع إلا على عظام، فوجف قلبي، والتفت إلى البيانو، فوجدت الأوراق كما كانت منذ يومين، فقلت: «هل تكتب رسائل الآن؟» - «لا.» - «ماذا تكتب إذن ؟»
فقال: «لا أدري ماذا تسمي هذا النوع من الكتابة؟»
وأشار إلى وريقتين أمامه، فتناولتهما، فإذا عليهما شعر منثور هذا نصه:
إذا انبثق الفجر وبزغت الغزالة
وفتحت عينيك للنور
ورأيت الأزهار تنشق عنها أكمامها
وتنشر في الفضاء عبق أريجها
نامعلوم صفحہ