Cratylus
كان يشايع هرقليطس في فلسفته، فلقنها تلميذه من غير شك، ولبث مع معلمه هذا حتى اتصل بسقراط، فأصبح صديقا له وتلميذا مخلصا أمينا، لازمه في الأعوام الثمانية الأخيرة من حياته، فكانت لتعاليمه وأسلوبه في الحياة أكبر الأثر في أفلاطون، وصار معينه الذي يستقي منه التفكير، ولم يزل أفلاطون معجبا بأستاذه أشد إعجاب، حتى إنه في أخريات أيامه كتب عن سقراط في حواره، فقدم عنه للعالم صورا قوية خالدة.
مات سقراط فطوى أفلاطون المرحلة الأولى من مراحل حياته، وهي التي قضاها في أثينا تلميذا، وبدأ مرحلة ثانية ملأها بالرحلة والسفر، فرحل إلى ميغارا حيث التقى بصديقه وزميله إقليدس الميغاري، وهو يؤسس مدرسته التي قامت على أساس يجمع بين الفلسفة السقراطية وفلسفة المدرسة الإيلية، ولا بد أن يكون أفلاطون قد درس عن صديقه فلسفة بارمنيدس دراسة دقيقة، ثم ترك ميغارا وقصد إلى قورينا فمصر فإيطاليا وصقلية حيث اتصل في إيطاليا بالفيثاغوريين وأخذ عنهم ما كانوا يذيعون من تعاليم، أما في صقلية فقد التحق ببلاط الملك ديونيسيوس
Dionysius
الكبير ملك سرقوسا، وكان طاغية يحكم بلده حكم ظلم وإرهاب، فلم يكد يقف على تعاليم أفلاطون الأخلاقية، ومناقشاته الفلسفية التي كان يذيعها في صحبه حتى ثارت منه ثائرة الغضب، ومثل به أشنع تمثيل، فعرضه في سوق الرقيق لكي يباع علنا بطريقة المزاد، وأوشك أفلاطون أن يقع في الرق لولا أن افتداه رجل من رجال المدرسة القورينائية يدعى أنيسريس
Anniceris ، وعاد إلى أثينا بعد سنوات عشر أنفقها في الأسفار.
وقد بدأ بهذه العودة إلى أثينا المرحلة الثالثة والأخيرة من حياته، لزم فيها أثينا لم يغادرها قط، اللهم إلا رحلتين قصيرتين اضطر إليهما اضطرارا سنحدثك عنهما بعد حين، وفي هذه المرحلة الثالثة كان أفلاطون معلما وفيلسوفا، خصص نفسه للتفكير والتعليم، وانتحى مكانا هادئا بعيدا عن جلبة المدينة وضجيجها، هو أحد الملاعب الأثينية، يقع قريبا من المدينة في شمالها الغربي، وكان يسمى باسم أحد الأبطال القدماء هو أكاديمس، فأطلق على الملعب اسم أكاديمي أو أكاديمية،
1
وهنا ألقى الفيلسوف عصاه، والتف حوله طائفة من التلاميذ أخذ يعلمهم الحكمة، وظل بقية حياته - وهو ما يقرب من أربعين عاما - يشتغل بالفلسفة والتعليم، وكتابة آياته الفنية الرائعة، وقد سلك في حياته أسلوبا يناقض طريقة أستاذه سقراط، فهما يتفقان في نقطة واحدة هي التعليم بالمجان، ثم يفترقان بعد ذلك في كل طرائق العيش، فبينما كان سقراط يجول في الطرقات والأزقة يلتمس فيها الحكمة، ويناقش في ساحة السوق وأمام الحوانيت كل من أراد مناقشته، كائنا من كان، كان أفلاطون يلتزم مكانا معينا منعزلا هادئا، لا يحاور إلا من جاء يسعى إليه من تلاميذه المخلصين، ولعل ذلك كان خيرا لتقدم الفلسفة تقدما فسيحا، وهل تظن أن فلسفة عميقة شاملة منظمة كانت تستطيع بذورها أن تنبت في مثل هذه الحياة التي اتبعها سقراط، لا يدور فيها الحوار حول فكرة معينة، بل تتشعب أطرافه، وتبعثر وحدته الأسئلة العرضية؟ كلا بل لا بد للفلسفة إذا أرادت أن تنشئ نظاما تشتمل دائرته على أطراف العالم، من دراسة عميقة متصلة تجري في هدوء ساكن منعزل كالتي ظفر بها أفلاطون بين جدران مدرسته، والتي خلد إليها أربعين عاما كاملة، تخللتها رحلتان قصيرتان إلى صقلية، حين أرسل في دعوته ديونيسيوس الصغير، الذي تقلد منصب الحكم في سرقوسا بعد موت أبيه، دعاه لكي يطبق على دولته ما كان يحلم به من نظام الدولة المثلى، وأول شرط لتلك الدولة هو أن توضع مقاليد الحكم في أيدي الفلاسفة، فهم وحدهم قادرون بحكمتهم أن يسيروا بالدولة في صراط مستقيم لا عوج فيه ولا اضطراب، ولا خير في دولة لا يكون حاكمها فيلسوفا، فأراد هذا الملك الناشئ أن يحقق لأفلاطون هذا الشرط فيأخذ عنه الفلسفة، ليضيف إلى شخصيته الحاكمة شخصية الفيلسوف، فقبل أفلاطون تلك الدعوة مغتبطا بما أتيح له من فرصة نادرة، يستطيع فيها أن يطبق نظريته تطبيقا عمليا، وهو ما لم يكن يستطيعه في بلاد اليونان نفسها، ولكن ذلك الملك الشاب لم يلبث أن ضاق ذرعا بالفيلسوف وتعاليمه، وكاد يبطش به لولا أنه أسرع بالعودة إلى أثينا، ولم يمض على ذلك أعوام قلائل حتى عاد فدعاه مرة ثانية، وقبل أفلاطون الدعوة كذلك؛ لأنه راغب أشد الرغبة في تحقيق رأيه في الدولة، ولكن هذه الرحلة لم تكن بأحسن حالا من سابقتها، فقد سئم ديونيسيوس الصغير دراسة الفلسفة، وفسد ما بينه وبين أفلاطون، وهم بأن يناله بالتعذيب، لولا أن جماعة ممن ينتسبون إلى المدرسة الفيثاغورية مهدوا له سبيل الفرار فعاد إلى أثينا، وكان قد بلغ عامه السبعين، ولبث في أثينا يدبر شئون الأكاديمية، ولا يحاول أن يتصل بالسياسة العملية مطلقا حتى وافاه الموت وعمره قد نيف بسنتين على الثمانين.
أما كتب أفلاطون فقد صاغها في أسلوب الحوار، واتخذ من سقراط بطلا للكثير الغالب من تلك المناقشات المكتوبة، فيجري على لسانه ما يريد أن يقوله هو من فلسفة مضافة إلى فلسفة سقراط نفسه، وبذلك امتزجت آراء سقراط بآراء أفلاطون؛ حتى لا تستطيع أن تميز بينهما في كثير من المواضع، ولم يكن أفلاطون في كتابته فيلسوفا فقط بل كان كذلك أديبا فنانا، فحواره مملوء حياة بما أودع من خيال حسن وفكاهة لطيفة، وقص حوادث وإدخال أشخاص ذوي شخصيات مختلفة يمثلون أدوارهم تمثيلا دقيقا.
نامعلوم صفحہ