فالحكيم هو من ضبط نفسه وأمسك بزمامها، فلا يميل مع شهوته حيث تميل بل يوازن في كل عمل بين لذته العاجلة وألمه الآجل، ولم تكن تعاليم القورينائيين واحدة في اللذة وتقديرها والاستمتاع بها، بل اختلفت أقوالهم في شرح ذلك تبعا لاختلاف رؤسائهم. (1-3) الميغاريون
Megarics
أسس هذه المدرسة إقليدس الميغاري، وقد جمع في فلسفته بين التعاليم السقراطية ومذهب المدرسة الإيلية، فالفضيلة هي المعرفة كما قال سقراط، ولكن أي علم؟ هنا يتأثر الميغاريون برأي بارمنيدس في الوجود المطلق، وفي إنكار الأشياء التي تقع تحت الحس، وفي بطلان الحركة التي نتوهمها في الخارج، فليس ثمت إلا حقيقة واحدة لا تعرف الكثرة ولا الحركة، تلك هي الوجود نفسه، فإن كان سقراط يرى أن معرفة الفضيلة هي كل شيء، وبارمنيدس يرى أن معرفة الوجود هي كل شيء، إذن العلم بحقيقة الوجود والفضيلة شيء واحد عند الميغاريين، والوجود والواحد الذي لا يتعدد والله والفضيلة والخير كلها أسماء مختلفة لمسمى واحد، كما أن التغير والتعدد والكثرة والشر أسماء لمدلول واحد هو نقيض المدلول السابق، الأولى أسماء تطلق على الوجود، والثانية أسماء تطلق على العدم، فالكثرة والشر شيء واحد، وكلاهما وهم ننخدع به وليس له وجود في الواقع، ليس للشر وجود حقيقي، وثمت حقيقة واحدة في العالم الخارجي هي الخير، والفضائل المتنوعة كالإحسان والحكمة والعفة إنما هي أسماء مختلفة لفضيلة واحدة، أعني بها معرفة الوجود.
فإن كان الكلبيون قد التمسوا الفضيلة في الزهد والاستغناء، والقورينائيون في اللذة والاستمتاع، فقد التمسها الميغاريون في حياة التأمل الفلسفي، أي في معرفة حقيقة الوجود.
الفصل العاشر
أفلاطون
أفلاطون.
لم يشهد التاريخ فيلسوفا قبل أفلاطون أنشأ فلسفة جامعة ونظاما شاملا لنواحي الفكر وجوانب الحقيقة؛ إذ كان كل من سبقه ضيق الأفق محدود النظر، إذا تناول بالبحث جانبا فاتته الجوانب الأخرى؛ ولذا لم تعد الفلسفة قبل أفلاطون أن تكون مجموعة من آراء متناثرة ونظريات وملاحظات، لم تتسع بحيث تشمل الكون بأسره، ثم أتى أفلاطون فأجال البصر فيما أنتج الفكر من قبله، وأخذ خير ما عند الفيثاغوريين والإيليين، وأحسن ما أنتجه هرقليطس وسقراط، وهكذا قطف أجمل أزهارهم، ثم نسقها جميعا في طاقة جميلة منسجمة، قدمها للعالم فلسفة جديدة من خلقه وإنشائه، فلم يكن حاصدا لإنتاج غيره وكفى، بل جمع شتى العناصر، وسلط عليها أشعة من ذهنه الجبار فانصهرت كلها في مبدأ جديد أنشأه إنشاء وابتكره ابتكارا، ثم اتخذه نواة يبدأ منها السير وأساسا يقيم عليه البناء.
لا يعرف التاريخ على وجه الدقة متى ولد أفلاطون، ويرجح أن يكون ذلك بين سنتي 429-427ق.م، وهو سليل أسرة أرستقراطية في أثينا قد تحدرت إليه منهم ثروة عريضة أفسحت له من الفراغ ما يتطلبه الاشتغال بالفلسفة.
ولسنا نعلم من أحداث طفولته إلا قليلا، أما شبابه فقد شهد انقلابا خطيرا في أثينا كان له في أفلاطون أثر عميق، فقد نشبت حرب «بيلوبونيسا» بين أثينا وأسبرطة في نحو العصر الذي ولد فيه أفلاطون، ودارت رحاها في أرجاء اليونان جميعا، بل قد جاوزت حدود اليونان حتى شملت الفرس، ولبثت مضطرمة أكثر من ربع قرن، وانتهت بعد أن زعزعت دعائم القوة السياسية في أثينا، ولم يعد يحسب لها حساب أو يخشى لها بأس، واضطربت خلال أعوام الحرب أمورها الداخلية والخارجية، واختل فيها كل شيء، وزاد الطين بلة أن خطت فيها الديمقراطية إلى أبعد حدود التطرف، فأمسك الدهماء بزمام الأمر، ولما أن فسدت أثينا وتضعضت قواها في الحرب القائمة ساء الظن بنظام الحكم الديمقراطي، ولم تكد تضع الحرب أوزارها حتى وثبت الطبقة الأرستقراطية إلى مناصب الحكم، وأصبح الأمر في يد ثلاثين من الجبابرة الطغاة، وبينهم كثير من أقرباء أفلاطون، فأرادوا أن يطهروا البلاد من فوضى الديمقراطية وعبثها، ولكنهم لم يفلحوا فيما قصدوا إليه من إصلاح، فدعاهم الفشل إلى الإمعان في الظلم والقسوة، وضربوا بأيد حديدية على رءوس الشعب، حتى خيم على البلد عهد إرهاب مخيف سادت فيه إراقة الدماء بغير حساب ... عهدان من الفوضى متلاحقان، فلا الديمقراطية استطاعت أن تسلك بالدولة سبيلا سويا، ولا الأرستقراطية أمكنها أن تعيد للبلاد نظامها المفقود، وشهد أفلاطون في أعوام شبابه ذينك العهدين، فنقم على الديمقراطية لفشلها من جهة، ولأرستقراطيته من جهة أخرى، ونفر من الأرستقراطية لهذا الرعب الذي ألقته في النفوس، ولعجزها عن أداء ما أخذت نفسها به، فطرح السياسة جانبا لا يضرب فيها بسهم، واعتزل ينظم الشعر، فأنشأ منه كثيرا من القصائد والقصص، ثم أحرقها كلها حين اتصل بأستاذه سقراط في سن العشرين، وكان يقوم بأمر تربيته معلم أثيني يدعى كرتيلوس
نامعلوم صفحہ