وأظهر شيء في أسلوب أفلاطون أنه أسلوب خيالي، فهو لا يشرح فكره بوضوح وبطريقة علمية مباشرة، ولكن يشرحه من طريق الاستعارات والأساطير والقصص، وهي طريقة جميلة في كثير من الأحيان ولكنها مربكة، فكثيرا ما يتردد الباحث هل هو يريد المعنى الحقيقي لكلامه، أو هو قد أتى به على طريق الاستعارة، وأنه يرمي إلى معنى آخر، وقد جاء هذا من قبل أنه فيلسوف شاعر، أو فيلسوف وأديب معا، واجتماع الفلسفة والشاعرية خطر؛ لأن غرض الفلسفة فهم الحقيقة وشرحها من الطريق العلمي، وغرض الشاعرية مجرد شعورك بالحقيقة ووصف إحساسك بها بعرض صور واستعارات ومجازات وما إليها، فإذا كان الإنسان فيلسوفا شاعرا فهناك الخوف من أنه لا يعمد إلى الحقيقة الخارجية فيشرحها بل يعمد إلى شعوره بها فيشرحه على الطريقة الشعرية، فكان أفلاطون بديعا في مزج الشعر بالفلسفة فخرج قوله حكيما جميلا، ولكنك لا تدري في كثير من الأحيان أين هو حكيم وأين هو جميل؟ ثم لا تعرف أحكمة هو فتركن إلى ظاهر لفظه، أو خيال وشعر فتحاول أن تتبين ما يرمي إليه.
أفلاطون مع تلاميذه (وهو أولهم من الشمال).
وتستطيع أن تقسم كتبه إلى مجموعات ثلاث، تطابق على وجه التقريب ثلاث المراحل التي انقسمت إليها حياته: أما الأولى فقد كتبها في نحو العهد الذي مات فيهس سقراط وقبل موته بقليل، أي قبل أن يغادر أثينا في رحلاته إلى ميغارا
2
وغيرها، وأوضح خاصة لما كتب في تلك المرحلة الأولى: البساطة والقصر، وهي في مجموعها صدى لفلسفة سقراط؛ إذ لم يكن أفلاطون قد أنشأ بعد لنفسه فلسفة مستقلة، فجاءت مادة الحوار ممثلة لآراء سقراط، وكل فضله ذلك الأسلوب الأدبي الجميل الذي عبر به عن تلك الآراء.
أما المجموعة الثانية من كتب أفلاطون، والتي تقع في المرحلة الوسطى من مراحل حياته، أعني في تلك الفترة التي أنفقها في الانتقال من بلد إلى بلد، فترى فيها إلى جانب آراء سقراط طائفة من آراء المدرسة الإيلية التي أخذها وهو في ميغارا عن صديقه إقليدس الميغاري، وفي هذه المجموعة الثانية كذلك ترى فلسفته الخاصة قد أخذت في التكون، وترى فكرته الأساسية التي يقوم عليها بناؤه الفلسفي - وأعني بها نظرية المثل - قد بدأت في الظهور، ولكنه ظهور غامض يكتنفه بعض التهويش والاضطراب، كأنها لم تكن قد اتضحت بعد في ذهنه وضوحا تاما؛ ولذا تراه في محاوراته فيها يتعثر في التعبير ويغمض في الشرح، لا ينطلق لسانه في سهولة ويسر؛ لأن الأفكار في ذهنه كانت نيئة لم تنضج بعد فلم يقو على تذليلها، بحيث تجري مع قلمه طيعة، وإذن فلن تجد في هذه المجموعة الثانية جمالا في الأسلوب ولا ألوانا من الفن كالفكاهة اللطيفة التي عهدناها في المجموعة الأولى، وكل ما يصادفك هنا مادة متصلة في الحوار كلها أدلة عقلية، وحجج منطقية.
أما المجموعة الثالثة التي أثمرتها مرحلته الثالثة من مراحل حياته التي قضاها في الأكاديمية في أثينا، فهي ناضجة أتم النضوج وفيها ترى أفلاطون قد اكتمل نموه، وسيطر على أفكاره وآرائه فاستطاع أن يجريها في عبارات فنية رائعة سلسة صافية، فعاد الأسلوب في هذه المرحلة إلى صفائه ونقائه الذي لازمه في المرحلة الأولى، فإن كانت المجموعة الأولى تتميز بطابع الجمال الذي في الأسلوب، والثانية بالعمق في التفكير، فقد جمعت الثالثة بين هذين الطابعين، وجاءت فكرا ناضجا في أسلوب جميل.
وقبل أن نبدأ في بسط الفلسفة التي جاءت في تلك المجموعات الثلاث التي ملأها أفلاطون بالحوار، يجمل بنا أن نسارع إلى ذكر أقسامها ليسهل تتبعها على القارئ، فهي تنقسم إلى أربعة أقسام: (1)
نظرية المعرفة التي يكمل بها ما أبداه سقراط من تفنيد مذهب السوفسطائيين. (2)
نظرية المثل التي تبحث في الحقيقة المطلقة. (3)
نامعلوم صفحہ