واعلم أن أبناء الآخرة قسمان: قسم رضوا بأن يعبدوا الله بالعبادة الظاهرة؛ من الصلاة والصوم، وقراءة القرآن والذكر، والحج والصدقة والعتق، وعيادة المريض وتشييع الجنائز، وأبواب البر الذي هو ظاهر بالأركان، ولم يخلصوا إلى عبادة القلوب من الصدق والإخلاص والحلم والصبر والتوكل، وغير ذلك من الأخلاق المذكورة أولا ؛ فتركوا العيوب الظاهرة، من الزنا والسرقة، وشرب المسكر والكذب، والغيبة والنميمة، والسعي بالفساد الظاهر، فرضوا بهذا من أنفسهم ولم يعظموها عن عيوب الباطن؛ مثل الغل والحسد، والغش وسوء الخلق، والكبر والتيه والصولة، والأخلاق المذكورة أولا.
فقدموا على ربهم مع هذه العيوب غير تائبين منها؛ لأنهم لم ينتبهوا لها فيتوبوا منها، وكانت هذه أخلاق النفس فلم يؤدبوها، فكانوا يصلون ويصومون ويجتهدون في أنواع البر، فإذا جاءت نوائب هذه الأخلاق حسبت أنهم من الجهال النقاد، وإذا جاءت نوبة الغضب حسبت أن ذلك الصالح أحمق ، وإذا جاء موضع الطمع فكذلك، وإذا جاء موضع الذل فكذلك؛ تراه كاد أن يشرك بالله وينخلع عن دينه هربا من الذل لإقامة جاهه وقدره وعزه، يرضي الخلق بسخط الخالق هربا من الذل.
وإذا جاء موضع الرزق وكأنه لم يسمع بوعد الله قط حيث قال.
(وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها)، وتراه مغتما مهتما، محزونا مسلوب الاهتمام لدينه، مشغوف القلب من خوف الرزق.
خاليا عن ذكر الله تعالى، أعمى عن سياقة الله لرزقه إليه كيف يسوق.
صفحہ 100