قلب العراق رحلات وتاريخ
قلب العراق رحلات وتاريخ
اصناف
سألت مدير سجون بغداد رأيه في المسألة فقال: إن المطبوعين على الإجرام قليلون، وإن العدد الأكبر من المجرمين يصلحهم العقاب المقرون بالحسنى، إذن، يجب أن نحسن بيئة السجن - يجب أن نحسنها حقيقة ومعنى، فيخرج منها السجين سليما في صحته وفي أخلاقه. والسيد حسام الدين وجيب، المدير الحازم يحسن وضع الشيء في موضعه، وقلما يفرط في القسوة أو في اللين.
قال أحد الحضور معقبا على كلام المدير: إن للدين أثرا يذكر في التوبة، وإن المجرمين من سواد الناس شديدو التدين. لا ريب في الشطر الأول من هذه الكلمة، وقد يصح الشطر الثاني.
استقبلنا المدير في مكتبه إلى جانب السجن، الذي قد ينقل في المستقبل إلى خارج المدينة، فهو اليوم قبالة دار الكتب العامة، في ما كان أمس قريبا من بوابة المعظم؛ أي من السور، وسيصبح غدا في قلب المدينة المسرعة في نموها شمالا وجنوبا.
وكان أول ما قاله المدير بعد السلام - ولا عجب إذا ما افتخر - إن كل أثاث المكتب، من السجادة إلى المنضدة، هو صنع نزلاء السجن، فشاركناه في الافتخار أنا والرفيقان الكريمان، النائبان المحترمان فخر الدين آل جميل وعلي الإمام، ومشينا بعد ذلك جميعا، يتقدمنا المدير الذي تفضل فكان الدليل.
في ظلال النخيل إصلاحية الأحداث، وفيها من الأولاد الذين تراوح سنهم بين الإحدى عشرة والثامنة عشرة سنة، نحو خمسين، منهم عشرة جرمهم القتل.
سئل أحدهم عن ذنبه فأجاب فورا: قتلت ابن جارنا في عركة، وآخر قتل دفاعا عن عرض أخته، والثالث قتل بدون تعمد - بقضاء وقدر. أما أكثر الذنوب فهي التي تتعلق بالسرقات وبما ينجم في «العركات» من الخلل بالأمن العام، ولهؤلاء الأولاد معلم يعلمهم العلوم الأولية، والرياضة البدنية، فيضحي أكثرهم، بعد العقاب، أحسن صحة، وأسلم خلقا، وأنبه عقلا مما كانوا قبله.
ثم زرنا المستشفى، قسم الرجال منه، وهو وقسم النساء بإدارة الدكتور شريف عسيران، ذلك الرائد للشفاء والعافية في الكاظمين، والعامل في سبيل الصحة العامة والنظافة عشر سنوات. وكفى بمستشفى السجن أن يكون مديره الدكتور شريف ليكون في الأقل مثال النظام القائم بحسن الخدمة، وخير المعالجة، للجميع على السواء.
ولكني استنكرت في أسرة المرضى اللحف الخشنة القاتمة اللون ، كفى بهؤلاء المساكين ظلمات السجن والمرض والشقاوة ، وخليق بمديرية السجون أن تجعل اللحف بيضاء أو زاهية الألوان، فترتاح إليها عيون المرضى ويسري من الارتياح إلى نفوسهم شيء من الانتعاش. وهب أن فيهم المجرم المدمن الإجرام أو الشرير المطبوع على الشر، فالقسوة في العقاب تعود، بعد عودته إلى الصحة والعافية.
أما السجناء في دور الصناعات فليس في حالهم ما يبعث على الشكوى إلا إذا كان الحديد - سلاسل منه ثقيلة - في أرجلهم، وها هنا مجال للحسنى، فإن السجناء في المصانع أكثرهم من أصحاب الذنوب الصغيرة، وهم منها في زورة السجن الأولى. فهم إذن يستحقون الرحمة، ولا أظن أن القيد الخفيف أو عدم القيد يغريهم بالفرار، أو يحرم مخزن السجن شيئا من الإنتاج أو من جودة العمل.
رأينا هؤلاء السجناء في مصنع السجاد، وفي وجوه أكثرهم ملامح القناعة والوداعة، وفي أرجلهم أثقال الحديد، ينسجون أنواعا من السجاد الإيراني، التبريزي والشيرازي والكاشاني، بمشارفة معلم عراقي تعلم صناعة النسج في إيران، ويجيدون عملهم إجادة تدعو للإعجاب.
نامعلوم صفحہ